سمعتُ وقرأتُ ما وَردَ في الصحيحين من قصة جريج العابد " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نَادَتِ امْرَأَةٌ ابْنَهَا وَهُوَ فِي صَوْمَعَةٍ، قَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، قَالَ: اللَّهُمَّ أُمِّي وَصَلاَتِي، قَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، قَالَ: اللَّهُمَّ أُمِّي وَصَلاَتِي، قَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، قَالَ: اللَّهُمَّ أُمِّي وَصَلاَتِي، قَالَتْ: اللَّهُمَّ لاَ يَمُوتُ جُرَيْجٌ حَتَّى يَنْظُرَ فِي وُجُوهِ المَيَامِيسِ، وَكَانَتْ تَأْوِي إِلَى صَوْمَعَتِهِ رَاعِيَةٌ تَرْعَى الغَنَمَ، فَوَلَدَتْ، فَقِيلَ لَهَا: مِمَّنْ هَذَا الوَلَدُ؟ قَالَتْ: مِنْ جُرَيْجٍ، نَزَلَ مِنْ صَوْمَعَتِهِ، قَالَ جُرَيْجٌ: أَيْنَ هَذِهِ الَّتِي تَزْعُمُ أَنَّ وَلَدَهَا لِي؟ قَالَ: يَا بَابُوسُ، مَنْ أَبُوكَ؟ قَالَ: رَاعِي الغَنَمِ " فكانت هذه القصيدة :
جُرَيْجٌ عُدَّ مِنْ أَتقى التُّقاةِ = وأَمْضى عُمْرَهُ في الصَّالِحاتِ
وجاءتْ أُمُّهُ كَيْما تَراهُ = تُناديهِ بِصَوْتِ الحانِياتِ
تَقولُ جريجُ يا وَلدي أَتَيْتُ = إِلَيْكَ إِلَيْكَ يا حُلْوَ السِّماتِ
جُرَيْجُ جُرَيْجُ يا وَلدي أَجِبْني = فأَنْتَ ضياءُ عَيْني بَلْ حَياتي
فَتاهَ جُرَيْجُ في شَدٍّ وَجَذْبٍ = أَأُمِّي يا إلهي أَمْ صَلاتي ؟
فلمْ يعبأْ جُرَيْجُ بِصَوْتِ أُمٍّ =تَجاهَلَها وأَمْعَنَ في الصَّلاةِ
وقالِ بِنَفْسِهِ إِنْ كانَ أَوْلى= فأَوْلى لي صَلاتي مِنْ صِلاتي
فَعادَتْ أُمُّهُ تَبْكي وَتَشْكو = وَنارُ الحُزْنِ تَغْلي في الحشاةِ
على الخدَّينِ سيلٌ مِنْ دموعٍ = وَيَنْفُثُ صَّدْرُها حَرَّ الأَهاتِ
أَأَغْذوهُ بِنَبْضِ القَلْبِ مِنِّي = وَيَجْفوني بِلا أَدْنى التْفاتِ
وَأَزْرَعُ في حدائِقِهِ دُعائي = أُطَوِّقُهُ بِأَغلى الأُمْنِياتِ
فقامَتْ تَشْتَكي وَتَقُولُ رَبِّي = إِلَيْكَ اللهُ أَرْفَعُها شَكاتي
إلى الرحمنِ دعْوى مِنْ فؤادي = على منْ كانَ مائي بل فُراتي
أَلا فاجْعَلْ جُرَيْجًا ليْسَ يهنا = يُذَلُّ يُهانُ مِنْ قبلِ المماتِ
فَجاءَتْهُ الغوايةُ مِنْ بعيدٍ = تميسُ بِغُنْجِ أَحْلى الفاتِناتِ
فأَبْعَدها وَصّدَّ الوَجْهَ عَنْها = وَسَدَّ البابَ في وَجْهِ الفتاةِ
فجاءَتْ راعيًا يَرْعى شِياهًا = غَوَتْهُ فَمِنْهُ جاءَ ابنُ الزُّناةِ
فَأَنْكَرَ قومُها ما كانَ مِنْها = وَكيْفَ وَلَسْتِ في المتزوِّجاتِ؟
فَقُولي مَنْ أَبوهُ وَإِنْ أَبَيْتِ = سَتَلْقينَ العقابَ مِنَ القُضاةِ
بَكَتْ كيْدًا وقالتْ ذا جُريجٌ = أَبوهُ وَإِنَّني في الصَّادقاتِ
أَتيتُ إِليْهِ أَسْأَلُهُ لِديني = فَأَغْواني وَجَرَّعَني أَذاتي
فقالوا ذا جُريجُ أَبوهُ حقًّا ؟= لَبِئْسَ الفعلُ مِنْ نَذْلٍ وعاتِ
وجاءَ القوْمُ مِنْ حَدَبٍ وَصَوْبٍ = بأَصواتٍ تُهَدِّدُ غاضباتِ
تقولُ الويلُ لِلباغي جُرَيْجٍ = أَيُبْدي الزُّهْدَ وهوَ مِنَ الغُواةِ ؟
يُطيعُ اللهَ جَهْرًا ثمَّ يَعْصي = وَيَرْتَكِبُ المعاصي الموبِقاتِ
أَتُوهِمُنا جُريجُ بِتَرْكِ دُنيا ؟= خَسِئْتَ وَخِبْتَ يا أَرْدى العُصاةِ
فلا واللهِ لا نُبْقيكَ حيًّا = ولا نُبْقي لِصوْمَعَةِ الجُناةِ
فأَهْوُوا يَضْربوهُ بِأُمِّ رأْسٍ = على الجنْبَيْنِ مِنْ كُلِّ الجِهاتِ
فقالَ أْتُوا بهذا الطِّفْلِ حَتَّى = نُكلِّمَهُ لِنعْلَمَ بِالوُشاةِ
أَلا فأْتوا بهِ يا قومُ إِنِّي = بِإِذْنِ اللهِ يَكْشِفُها عِداتي
وَقالَ أْتُوا بهِ كَيْ تَسْمَعُوهُ = ويَشْهَدَ مَنْ أَتى بِالفاحِشاتِ
عَجيبٌ يا جريْجُ فأَنتَ تَهْذي = أَمِ منْ مَسِّ الجنونِ أتاكَ آتِ؟
صغيرٌ عُمْرُهُ لَمْ يَعْدُ يوْمًا = وَهَلْ يَدري صَغيرٌ بالُّلغاتِ ؟
وَجيءَ بهِ فقالَ لهُ جُرَيْجٌ = سأَلْتُكَ بِالحُقوقِ الواجباتِ
وَمَنْ أَبْراكَ مِنْ ماءٍ وَطينِ = وَتَغْدو نُطْفَةً وإِلى حَياةِ
ألا يا طِفْلُ أَنْتَ حديثُ عَهْدٍ =بِدُنيانا وَلودِ التُّرَّهاتِ
أَبوكَ جُرَيْجُ أَمْ مَنْ ذا أَجِبْني؟ = أَجابَ الطِّفْلُ لسْتَ مِنَ الجُناةِ
فَاُمِّي هذهِ وأَبي دَعِيٌّ = أَبي الرَّاعي بِهاتيكَ الفَلاةِ
فَضَجَّ القَوْمُ في لَوْمٍ وَعتْبٍ = على أَنْ أَسْرَعُوا في الشَّائِعاتِ
وَصاحَ جُريجُ يا أمِّاهُ عَفْوًا = أَأَسْهو عَنْ حُقوقِ الوالداتِ
فما قدْ نالَ مِنِّي كانَ ذَنْبي = وَذاكَ جَزاءُ عَقِّ الأُمَّهاتِ
فَقِصَّتُهُ جريجٌ لَيْسَ تُنْسى = على مَرِّ العُصورِ الخالياتِ
سَتَبْقى في جَبينِ العاقِّ وَصْمًا = وقيْدًا عَنْ بلوغِ المكْرُماتِ