الشّاعرُ والحمامةُ

clip_image001_d8359.jpg

بسم الله، الذي خلق الإنسان، علمه البيان، والصلاة والسلام على رسوله محمد، أكرم الخلق جنانا، وأفصح العرب لسانا، وأبلغهم بيانا، القائل: إن من البيان لسحرا، وإن من الشعر لحُكما. (وفي رواية: لحكمة).

اعذروني أيها السادة إن كان قلمي كليلا، وكلمي قليلا، فقد تعْقِدُ المواقفُ الألسنة، وتلقي على القلب اليقظان سِنَة، وتجعلُ سحبانَ وائل، من شيعة باقل. وقديما قال أبو حيان: "إن الكلام على الكلام صعب"، إلا أن ذلك لم يمنعه من بسط القول فيما يحرك قريحة العقل، ويلطّف شغاف القلب، فليشفع لي ذلك في أن أغرف بعضا مما جادت به دلاؤكم، أو أتوسمّ بعضاً مما أيقظت به العقولَ والقلوبَ أنداؤكم، وأنا أستحضر قول أبي الطيب:

له أيادٍ إليّ سابقةٌ أعدّ منها ولا أعددها

 لقد أظلتنا الحمامة البيضاء، تطوان، بأجنحتها الوارفة البهاء، فاتحة لنا طريق الارتقاء إلى ملكوت الشعر في الأفق الأعلى، للاقتباس مما من النور تجلى، ولنتحرر من أوهاق الضلالة وأثقال الظلمة، ونَعرُجَ إلى مملكة العشق والحكمة، فما من سبيل هو أهدى إلى الحقّ من الشعر إذا هو عرف طريقه، ثم استقام على الطريقة. وقد ألّفتْ بيننا هذه الحمامة البيضاء، وأظلتنا بسربالها القشيب، وهي تذكرنا بما قاله شيخنا حبيب:

إن يختلف نسبٌ يؤلّفْ بيننا أدبٌ أقمناه مقام الوالد

وقد أخذت بأيدينا إلى عوالم القصيدة المغربية، بما تتضمن من طريف وتليد، وما تتطلع إليه من تجدّد وتجديد، متوسلة إلى ذلك كله بما استمعنا إليه منكم، من رائق القول السديد، وباسق النقد الحصيف الرشيد. وما يجمع الحمامةَ والقصيدةَ أكثرُ من سبب، وأوسعُ من نسب. فقد كانت الحمامة، في كل الحضارات والأمكنة، وعبر الحقب والأزمنة، رمزا للمحبة والسلام، والأمن والسكينة والمودة والوئام، منذ نوح عليه السلام، حيث بشّر الحمامُ أصحاب السفينة ببلوغ برّ الأمان، إلى حادث غار ثور الذي كانت فيه الحمامة رمزا للسكينة، وانجلاء الحزن عن سيد الأنام، كما ذكر ذلك القرآن الكريم: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ). وفي الأساطير الغربية أن أفروديت، ربَّةَ الجمال، وُلدت في عربة حُملت من طيور الحمام. كما يُعرف في الأساطير أنَّ بناتِ أفروديت، الشقيقاتِ السبعَ في السماء، هُنّ سِرْبٌ من الحمائم. وكذلك كان الشأن عند حضارة آسيا الوسطى، وعند الهنود، حيث ترسم الحمامة وهي تحمل في منقارها غصن زيتون، دلالة على السلام. وقد جعل شكسبير في بعض مسرحياته (هنري السادس)، جبريل عليه السلام يأتي النبي محمدا عليه السلام، على شكل حمام، واستمرت رمزية الحمامة حاضرة حتى الفنون المعاصرة، من الواقعية إلى السوريالية، ومن أشهر اللوحات لوحة بيكاسو (الحمامة)، حيث تظهر الحمامة وفي منقارها غصن زيتون، ويعلوه قُرص نوراني، وتحت أقدامها الرقيقة تتكسر أسلحة الدمار، ولذلك اتخذها المؤتمر العالمي الذي عقد عام 1962 في موسكو، لرفض التسلح، ونصرة السلام، شعارا له. وقد قال بيكاسو بأن والده، هو من علمه رسم الحمام، وفسر هذا المنحى عنده بقوله:" أنا مع الحياة ضد الموت، ومع السلام ضد الحروب." ومما يميز لوحات الفنان العالمي، ابن تطوان البار، أحمد بنيسف هو الحمامةُ التي هي ذات حضور متجدد عنده.

إنني، ختاما، أجدني مدينا لكل الذين شاركوا في هذه الندوة العلمية، ببحوثهم وشهاداتهم، ممن جاءوا من المغرب، وممن وفدوا إلينا، مشكورين، من خارج المغرب. من الجزائر التي شهدتْ في مرحلة ما طفولتي الشعرية، في وهران، ثم في قسنطينة بعد ذلك، يوم استوى العود، ونهض البناء، وقد قلت يوما:

لجسورٍ مُعلّقةٍ تتزيّنُ منها قسنطينةٌ،

ألقُ الشّعْرِ، والرّميِ، والأملِ المتدفّقِ،

مثل انهمار الرّعودِ

ولسريانةٍ ظلّها المتمدّدُ، من نبضات الشهيدِ

إلى نبض آخر طفلٍ شريدِ.

 وكذلك الذين شاركونا من مصر، التي وقفتُ عند نهرها العظيم يوما، قائلا:

تفدي عذارى النيل حسنَكِ طاهرا وأنا فديت على جداه النيلا

ما كنت أحسبني سأسقى عنده قبْل الرحيل شرابيَ المعسولا

 أقف، في آخر هذا الحديث، محييا كل من حضروا هذا اللقاء العلمي الفذ، من الجمهور الكريم، وأشكر أساتذتي وشيوخي الذين طوقوني بأكاليل العلم والشعر في سنوات الطلب، ثم جاءوا ليطوقوني بشهادتهم في شعرٍ، إن هو إلا بعضٌ من غرسهم الطيب والجميل. ولزملائي الشعراءِ والنقادِ ما هم له أهل من الثناء، والمودة والوفاء، فإن اللسان، مثلُ السنان، يُفَلّ إذا عظم المطلوب، وقلّ المساعد. ولطلبتي وتلاميذي الذين نرى فيهم امتداد آثارنا من الشكر الجميل، والثناء الجزيل، ما تبيضُّ منه صفحة الدهر، فقد علمنا أستاذنا المتنبي أن نقول:

وما قلت من شعر تكاد بيوته إذا كُتبت يبيضُّ من نورها الحبرُ

 وأما هذا الصرح العلمي، ومَن وراءَهُ، من السيد العميد المحترم، الدكتور محمد سعد الزموري، ومن الأساتذة الكرام أعضاء اللجنة المنظمة، وكلِّ مساعديهم، فأنا أعلم أن جهدهم كان موصولا بالليل والنهار، ابتغاء مرضاة الله، ثم خدمةِ العلم والأدب، من أجل أن تنجز هذه الندوة المباركة على أحسن وجه وأكمله. فلهم مني الشكر الذي ينقطع دونه اللسان، ومن الله الجزاء الأوفى الذي لا ينقطع أبدا.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بمناسبة التكريم الذي أقامته للشاعر كلية الآداب والعلوم الإنسانية،

جامعة عبد المالك السعدي،

بتطوان، في 24 25 ماي 2016

 كتبت القصيدة بوجدة: الخميس 6 رجب 1437 14 أبريل 2016

وسوم: العدد 674