حُرِمْتُ حنانَ والدتي صغيرا=ولمْ أبْرَحْ أَحِنُّ لها كبيرا
أجلْ قد نِلتُ من ربِّي الكثيرا=ولكن دونها عشتُ الفقيرا
فما أشقى الحياةَ بغيرِ أُمٍّ=تُحيلُ عسيرَ ما نلقى يسيرا!
حنانُ الأمّهاتِ لنا حياةُ=ولولاهنَّ ما طابتْ حياةُ
فما من بعدِ فضلِ اللهِ فضلٌ=سوى ما قدَّمَتهُ الأمّهـاتُ
كأنَّ بهـنَّ للأرواحِ روحاً=وحسْبُكَ أنَّهُـنَّ الوالِداتُ
بهنَّ اللهُ قدْ عَمَرَ الوجودا=فكنَّ أحبَّ ما أوْلاهُ جودا
برحمتِهِنَّ رحمَتُهُ تجلَّتْ=وحسبُ الأُمِّ أنْ فُطِرَتْ وَلودا
أليسَ الخلْقُ من إنجابٍ أُمٍّ=ففضلُ الأمِّ ما عرفَ الحدودا!
ثواني عمرِها تزدادُ حُزْنا=إذا عشنا لثانيتيـْنِ حُزنا
وبالدّعواتِ خالصةً تراها=تسوِّرُنا إذا ما نحنُ غِبنا
ومن فرحٍ تكادُ تطيرُ بِشْراً=إذا ما نحنُ بعدَ البُعدِ عُدْنا
تساوى الأُمَّهاتُ بتضحياتِ=بها تحيا جميعُ الكائناتِ
سلامةُ ما يلِدْنَ تظلُّ أغلى=وأعظمَ من أحبِّ الأمنياتِ
فجلَّ اللهُ مبدِعُ كلِّ أُمٍ=بها أبدى لنا حُسنَ الحياةِ
وقلبُ الأُمِّ ما ذاقَ السُّرورا=إذا الأطفالُ لمْ تَعِشِ السُّرورا
وتحسَبُ كُلَّ ما تعُطي قليلاً=وتلقى نزرَ ما تُعطى كثيرا
فمنْ عاشَ الحياةَ يَبَـرُّ أُمَّاً=سيلقى بِرَّهُ أبداً يسيرا
رضا الأبويْنِ في مرضاةِ ربٍّ=أرادَ لنا به عِزَّ الحياةِ
أمَا التّكريمُ منه لأمُّهاتٍ=يُذكِّرُنا بحقِّ الأُمّهاتِ!
عسانا أنْ نَرُدَّ لهُـنَّ حقَاً=يكون لنا السّبيلَ إلى النَّجاةِ
فهَاجَرُ كَمْ سَعَتْ في القفرِ لهفَى!=تُؤمِّلُ أن ترى في القفرِ ماءَ
تلوبُ عليهِ ترجو رِيَّ طفلٍ=وعادتْ لا ترى إلاّ الدُّعاءَ
فأجرى اللهُ زمزمَ سلسبيلاً=يظلُّ كرامةً يجري رُخاءَ
وسعيُ الأمِّ هاجَرَ صارَ رُكناً=لحجٍّ ما لمدّتهِ انقضاءُ
كما هيَ قد سَعَتْ يسعى حجيجٌ=وعُمَّارٌ من الأبعادِ جاؤوا
وكرَّمهـا الإلهُ غداةَ أمسى=لكلِّ المؤمنينَ بهـا اقتداءُ
لعِفَّةِ أُمِّهِ في المهـدِ عيسى=بأمرِ اللهِ في أدبٍ تكلَّمْ
فأَبْطَلَ فِريةً، وغَدَتْ يقيناً=براءةُ أُمِّهِ العذراءِ مريمْ
وحينَ رضيعُ ماشِطةٍ تكلَّمْ=غدَتْ في الخُلْدِ ماشِطةٌ تَنَعَّمْ
وأَكْرَمَ ربُّ موسى أُمَّ موسى=ونَجَّاهُ من القتلِ المُحَتَّـمْ
فأُودِعَ في هياجِ الموجِ طفلاً=بأمرٍ كانَ للرحمنِ مُبرَمْ
وطمْأَنَ قلبَها الـمُلتـاعَ ربٌّ=بها وبطفلِها أوْلى، وأرحمْ
ولمْ يكُ أهلُ موسى في ثراءٍ=إذا ما بيعَ من أهليهِ يُشرى
فرُدَّ لأُمِّهِ ردًّا عزيزاً=وأُسكِنَ في حِمى فرعونَ قصرا
وحرَّمَ كلَّ مُرضِعةٍ عليهِ=لِيُنْبِتَهُ حليبُ الأُمِّ حُرَّا
وأرملةُ "الذَّبيحِ" أعفُّ أنثى=قضتْ من دونِ أن ترعى اليتيما
وصارَ يتيمُها خيرَ البرايا=بأخلاقٍ بها يبقى العظيما
وأرسلَهُ الإلهُ بخيرِ دينٍ=فكانَ بكلِّ من خُلقوا رحيما
أما ولدتهُ أمنةٌ يتيماً=ونجّى اللهُ والدَهُ الذَّبيحـا
وسلَّمهُ بأمرِ اللهِ رأيٌ=أتى ممَّن لهُم كانَ النّصوحا
فيا بُشرى لمن هم والداهُ=ليصبحَ هديُهُ للروحِ روحا
وأعلامُ الزَّمانِ وعالِموهُ=وما هم شيَّدوه وعلَّموهُ
نَمَتْهُـمْ أمَّهـاتٌ صالِحاتٌ=فخُلِّدَ كُلُّ ما قد أبدعوهُ
فأعلـوْا مجدَ أُمَّتِهـمْ بجِدٍّ=وللأجيالِ ما قد خلَّفوهُ
ولولا الأُمُّ لمْ نعرِفْ كِراماً=ولا مستبصِراً نفَعَ الأناما
ولم يخلُدْ بتقواهُ تقيٌّ=على الإيمانِ والـخُلُـقِ استقامـا
على ما كانَ منهُ نَمَتْهُ أُمٌّ=فكانَ بما تَعَلَّمَهُ إماما
ولولا الأُمُّ لمْ نَظفَرْ بـحُـرٍّ=تَمَلَّكَ قلبَهُ حُبُّ الشَّهادَهْ
مضى طوعاً إليها مُطمئنَّاً=ولمْ يَخشَ العدوَّ، ولا عِتَادَهْ
أذلَّ عدوَّهُ، وأعزَّ أُمَّاً=بحُبِّ المجدِ قدْ عَمَرَتْ فؤادَهْ
وما أبهى شروقَ الشَّمسِ أُمَّاً=تُصحِّي كلَّ ذي أملٍ وهِمَّهْ
فتصحو حينَ تُشرِقُ كائناتٌ=بها حسنُ العوالِمِ ما أتَّمهْ!
فأحسبُ صحوها تحنانَ أُمٍّ=نَمَتْ أبناءها فَغَدَوْا أئمَّهْ
وكمْ أحيا الأمومَةَ في الطّيورِ=تَهُـبُّ لِرِزقِها قبلَ الهجيرِ
حواصِلُها تخبِّئ ما جَنَتْهُ=لتُخرِجَهُ غذاءً للصّغيرِ
أليسَتْ هذهِ الأطيارُ أُمَّاً=أبانَتْ رحَـمَـةَ المولى القديرِ؟
وفي عُمقِ البِحارِ وفي البراري=عجائبُ من صنوفِ الأُمَّهاتِ
يوحِدُهنَّ إيثارٌ وعطفٌ=وإنْ نَلْقَ اختلافاً في الصِّفاتِ
ولولا أنهـنَّ يَلِدْنَ طوعاً=لما كُنَّا نَعِمنا في الحياةِ
وما أحلى الزُّهورَ تفوحُ عِطراً=فيُبهِـجُ أنفُساً، ويطيبُ نشْرا!
أليسَ العِطرُ يولدُ من زهورٍ=ألستَ ترى بهِ للأُمِّ سرَّا؟
فلولا أنَّ هذا الزَّهرَ أّمٌّ=لما كُنَّا شممنا الدَّهرَ عِطرا!
وفي الأشجارِ ألـمَـحُ قلبَ أُمٍّ=تجودُ كما تعوّدَ أن يجودا
على الأيّامِ يُعطي دونَ مَنٍّ=وليسَ يَمَلُّ إنْ نطلُبْ مزيدا
وخيرُ الجودِ جودٌ لا يُبالي=بما يلقاهُ مدحاً أو جحودا
فجلَّتْ حِكمَةُ المولى تعالى =وفِطرَتُهُ بخلقِ الأُمَّهـاتِ
ويا بُشرى لمَنْ رُزِقوا فؤاداً=يرى ما في الأمومةِ من عِظاتِ!
إذَنْ لَغَدَتْ عوالِمُنا جناناً=ونحنُ بِهِـنَّ أرقى الكائناتِ
يريني حُبُّ أمِّي ما لأمِّي=ورحمتِهـا برحمةِ كلِّ أُمِّ
أُصوِّرها كما أهوى، ولكنْ=على فقدي لهـا يزدادُ غمِّي
ويُرجِعني حنيني كي أراها=بما أهواهُ في صحوي وحُلمي
ويا لَحنانِ زوجٍ شاركتني=هموماً صِرنَ بعضَ الذّكرياتِ
فألقى في مودَّتِها عزائي=وأنسى في أمومَتِها شكاتي
وأُبصِرُ حولَنا سِرباً جميلاً=نعيشُ بقربِهِ صفوَ الحياةِ
وتَرفُدُهُ حفيداتي بِدَلٍّ=يزيدُ نعيمَ أُلفتِنا حُبورا
فَنَحسَبُ بيتَنا أمسى جِناناً=يموجُ بهـنَّ وِلداناً وحورا
وأحسَبُ أنَّ رَحْبَ الكون مُلكي=وعُسرَ العيشِ نحياهُ سرورا
فأَذكُرُ فضلَ أُمٍّ أنجَبَتني=لأُنجِبَ من بِهِمْ تحلو حياتي
فلولا فضلُ أُمِّي لمْ تَجِدني=أباً يحيا بأسمى العاطِفاتِ!
فأشكُرُ من حباني منهُ أُمَّاً=أراها في بَنِيَّ وفي بناتي!
بناتي أربعٌ وبِهِنَّ أرجو=من الرَّحمنِ يومَ الدِّينِ عفوا
فهُـنَّ اليومَ أحنى أُمَّهاتٍ=فَهِمْـنَ الدِّيْنَ تضحِيةً وتقوى
وأحسَبُ كلَّ واحِدةٍ شفيعاً=بها أسررتُ للرحمنِ نجوى!
فيالله كمْ أحيا سعيداً=لأنَّ اللهَ أكرمني بهنَّه
وأحسبُ أنّني كرَّمتُ أُمِّي=إذا حُبَّاً بهـا أَكرمتُهنَّهْ
وأحسبُ أنَّ أُمِّي كرَّمتني=ببسمتِهـا لإكرامي لهُنَّهْ
رضعتُ حليبَ والدتي فكانتْ=مزاياها الحبيبَةُ لي مزيَّهْ
وما لأبي وجَدِّي من سجايا=تراها صِرنَ لي أبداً سَجِيَّهْ
وها أنا في بنِيَّ أرى امتدادي=فجلَّتْ فِطرَةُ المولى السّنيَّهْ
حنانُ الأُمِّ يصنَعُ معجزاتٍ=وغيرُ حنانِهـا هيهـاتَ يُجدي!
رحيمُ الَخلْقِ أودَعَ فيهِ سِرًّا=بِهِ نُهدى إليهِ وفيهِ نَهدي
فما غيرُ الأمومةِ من سبيلٍ=لنيلِ مكارمٍ وبناءِ مجدِ
قَضَتْ أُمِّي ولكِنّي أراها=بكلِّ أُمومةٍ فأذوبُ شوْقا
وأحسبُهـا أمامي وهيَ تحنو=عليِّ بلمسةٍ فأُميلُ عُنقا
أحاوِلُ أن أُقبِّلهـا ولكنْ=أُحِسُّ بمقلتي بالدمعِ غرقى
أرى أمِّي البعيدَةَ في وجودي=وفي إبداعِ من يُعطي، ويبني
وفي قلبي أراها كُلَّ آنٍ=وعنها كلُّ ما في الكونِ يُنبي
فلولا أنَّها سكَنَتْ بعيني=لما شاهَدتُ يوماً أيَّ حسنِ
فيا منْ شئتَ أنْ أحيا يتيماً=أَنِلْ أُمّي برحمتِكَ النّعيما
فرحلتُها إليكَ دليلُ حُبٍّ=وإنْ يكُ بُعدُها عنِّي أليما
فعوِضها بقربٍ منكَ ربِّي=وحسبي أنْ دعوتُ بك الكريما
مقامُ الأُمِّ عندَ اللهِ يسمو=فلا يُدنيهِ مهمـا رقَّ نظمُ
فيا سِرَّ الأمومةِ ألفَ عُذرٍ=إذا ما كانَ قصَّرَ عنكَ فَهمُ
أليسَ رضا المهيمـنِ في رِضاها=أما حسبي إذا ما قلتُ "أُمُّ"