كتاب الكتب

{1}

طوّفتُ في الطّرقات كالمخْبولِ

وطرقتُ من بلواي كلَّ سبيلِ

مما يراه من الورى هذا الورى

من بطشة عظُمت ومن تنكيل

قابيلُ هذا العصرِ لم يذرفْ أسى

ندماً على ما كان من هابيل

قابيل ! أشفقت الحجارة والثرى

أو ما ترقُّ لظلّك المقتول ؟

إن كان لم يحجزك عن ذَنْبٍ دمٌ

فغداً تنوء بحُلْمكَ المطلولِ

{2}

طوَّفتُ في أدغال هذا العالم الأرضيِّ تصويباً وتصعيداً

بلوتُ النَّاسَ، كان الناسُ- إلا المتقين- كأنهم حجرٌ

كان عيون ميدوزا اللَّعينة

ألقت بسطوتها على أهل المدينة

{3}

طوَّفت في أقطار هذا العالم المحزون ملتمساً  يدا

تهدي إلى سُبُل السَّلام، تردّ غائلة العدى

غنَّيت شيرازيَّةً حملتْ إلى باريس طيب الشَّرقِ

لكني رأيت الشاعر الغربيَّ ينهل من لمى شيرازَ،

يسأل حافظا : يا حافظ القرآن، إنّي العاشقُ الضلّيلُ،

بيّنْ لي الطَّريق إلى كتاب الكتْب ِ،

إني ظامئ للنورِ،

فامتلأت عروقي من جرار النورِ

كان (جهانُ) في (أكَرا) يغني

وهْو يرهن مجده لغزالةٍ  نجديّة الأنفاسِ،

إذ طرقت، وصوت الناي يشجيها، مفازات الرَّدى :

"دنيا إذا ما أضحكت في يومها أبكت غدا "

{4}

طوّفتُ في ظلمات هذا العالم السفليّ

محمولاً على أنات أمتي الطَّعينة

ودمي على كفّي/

وأشواقي على باب المدينة

مصلوبة صبراً، وآمالي ثخينة

وبحثتُ عن قلبٍ يواسيني

فكنتِ القلب، والقيثار، والظلل الأمينة

يا واحة المستضعفين، ويا شفاء الروح ،

يا أبهى الحروف الطالعات من الجراح

لترفع الصّرح المضمَّخ باليقين ممرَّدا

{5}

بيني وبينك أبحر قد سُعّرتْ

وتنائفٌ مهجورةٌ

وزنازنٌ معمورةٌ

وبنادقٌ مشهورةٌ

وأسنَّةٌ مرفوعةٌ

ومشانق منصوبةٌ

وخنادق مصفوفةٌ

لكن ريحَ أحبَّتي كقميص يوسفَ لا تقوم له الجبالْ

فلربما أضحى يوحّد بيننا

رغم الأسنَّة والخنادق والحدودْ

حزن قد ابيضَّت له العينانِ

لكنْ طلعُه طلع نضيدْ

ولربما ألقى علينا ظلَّه عزمُ الرجالْ

ولربما أضحى يوحّدنا دم ُالشهداءِ نضَّاحاً

ووعدٌ مقبلٌ لجراح شعْب ٍساهرة

لكنّ أعظم ما يؤلف بيننا حُبُّ الإلهْ

منْ وحده تعنو لعزَّته الجباهْ

وتذلُّ أعناق الطغاة

يا ليْلُ

إيَّاه نعبد لا سواهُ

ونستعين به إذا جلبتْ علينا الخيْلُ

{6}

جأرتْ من القتل البلادُ:

-         "من القتيلُ ؟"

-          "أخي !"

أصاب القلبَ سهمٌ ثم سهمٌ …

أيُّ جرح شام قلبي غائره ؟

جأرت من القتل البلادْ

والنار تجأر والرمادْ

والسَّيف يجأر والنجادْ

والماء والدَّم والمدادْ

تمشي القبور إليك، والشهداء عادوا

يتضوَّرون أسى، ويشجيهم ضنى

شعب بأجمعه يبادُ

طفل يُذبَّح في الفطام

ومعمَّر أصداء هام

يلقى المنيَّة تحت ضربة معولٍ عطشانَ

يشرب ربّه العطشانُ من نهر الجنون

هي آلة الفتك الرَّهيب تدك أضلاع الوطنْ

حاذر، لعلَّك بعد حين جثَّةٌ

تُركتْ على ظهر الطَّريق، فلا صلاة ولا كفنْ

حاذرْ.. فمعطفك القديمُ،  ونعلك المرتوق خبَّأ قاتلا

تخفي ملامحه كؤوس الحقد، لا كر السنينْ

حاذرْ.. فظلُّك أنت قاتلك الخؤونْ

حاذرْ، فكل حقيبة تحت الغبارِ،

وكلُّ مصباح قديمٍ، أو وريقة جلُّنارْ

يسعى ليسرق منك عمرك فاحترس !

يا أيها الموعود في ليل الجريمة بالنَّهار ْ

{7}

يا أيها الشيخ الحكيم

هوِّن عليك، ولا تخض بحر السياسةِ،

هؤلاء الخارجون على النظامْ

أفتى بقتلهم "الإمامْ"

فيم احتجاجُك َ؟

حسبنا نسباً إلى الإسلام أنا نغلق الحانات في رمضان،

ثم نضيف بضع دقائقٍ أخرى ..

من المذياع للذكر الحكيم

{8}

يا أيها الجيلُ الذي سيجيء من آمالنا الخرساءِ

يا بشرى تخبِّئُّها عن الجند الجوانح والجفونْ

سيعلمونك آية الحقد البغيضِ،

سيدفعونك لاغتيال النور، باسم النورِ،

يا جيلا سيعبر فوق آهات الضحايا ،

لا تمدّ يديك نحو أخيك َ،

لا ترفع بوجه الجار سكِّيناً

ولو منحوك ما منحوك َ

واثبتْ فوق أرضك، واتَّخذْ درعاً كتابَ الله

وامنح حُبَّك المستضعفينْ

{9}

ضاقتْ علينا الأرض يا ليلى وأنكرنا الزمانُ

وحاصرت دمَنا الظنونُ

من ليس يُقتل سوف يأسره الجنونُ

ضاقت علينا الأرض.. أطفأت المصابيحَ المنونُ

والناس في أمر مريجْ

فمن الذي سيجيرنا غير الذي أغنى وأقنى

والذي خضعت لعزته الجباه؟

ومن الذي يجري السحاب، وينزل السلوى سواه؟

مُدِّي عراجين اليقينِ، وأوقدي مصباح قلبي، واصحبيني

نلتمسْ نوراً من الرحمنِ

كوني صاحباً في الغار، إن أزف الخروجْ

{10}

القلب يهتف بي : تعالْ

والعقل يهتف بي : رويدك، إن هذا الماء آلْ

والنفس بينهما سراجٌ في مهبّ الريح

أومضَ ساعة ثم استقال

-أتحبّ وجهاً أنت لم تره ؟

-أقول : الغيب أبهى !

إن وعد الله حق، فاطمئني

لست ألتمس المحال

جاشت إليّ النفس أول مرةٍ

حتى إذا لمع النداء :" استفت قلبكَ"

زال شكي، واستقرَّت، ثم ألقت نحو شاطئك الحبالْ

{11}

يا واسع الصدر احتضني نجمة ً

ضلّت مجرّتُها، ومالت للزوال

وانفخ بهذا الطين من روح الجلالة والجمال

{12}

قلتِ : احتضني شاعرة

أو ما علمت بأنني، وأنا بظهر الغيب،

كنتُ حضنت أحرفك التي

سجدت لعرش الله خاشعةً:

                  ألا اللهم إن العيش عيش الآخرة

إني فديتك شاعرة

سجداتها رفعت إلى الرحمنِ

                  شكوى أمّة متناحرة

فتضوعتْ منها محاريب الشهادة والمدى

واستوسق الأمر الأشمُّ

وأورق الحجر الأصمُّ

وفاضت الأنهارُ طيباً في القلوبِ

فكيف قلبي لا يضوع،

ولا يبث إلى الوجود سرائره ؟

فلتنطلق أحلامنا الحجرية الخرساءُ

ولينهرْ جدارُ الصمتِ

ولتُنْشَر أمانينا الدفينة

وليرسلِ الودقُ المخبأ في الجفون مواطره

وليرتفع صوت المآذن شامخا

ولتنهض الأرض التي روَّت أضالعَها  شرايينُ الأحبةِ ..

ظبيةً تعطو إلى الشجر المبارك والهدى

ولنتل، في شغف، كتابَ الكتْب فهو المبتدا :

(لاهمّ إن العيش عيش الآخرة)

{13}

يا مالك الملك العظيم، افتح علينا حكمتكْ

وانشر علينا، يا مهيمن، رحمتكْ

واسلكْ بنا في هذه الدنيا سبيل المتقين

واجعل لنا نور الشهادة زينة في العالمين

{14}

إنْ ظلّ قابيلٌ يحدّ سلاحه

هتف الصدى عبر المدى المأهولِ

كل الدروب أمامنا مسدودة        

وخلاصنا في محكم التنْزيلِ

وجدة : 30 رمضان 1418ه / 29 يناير 1998

كتاب الأسْحار

-   ورّطنا الربيع في خضرته الفيحاءِ

-   بل ورّطني اسمكِ، فكاد يرتمي في الحمأ المسنون ثوبي

آه كم ورّطني من قبلُ في النور ِ

فكلّ نجمةٍ ساجدةٍ تسألني عنكِ

وكلّ كرمة سبيئةٍ

تعصر خمرها على ذكرك في الأعضاء ِ

والسحابُ، مركوماً،

يمدّ كفه، غامرة، إلى عروق اليمّ

والنهر يصبّ عطره الميمون فوق ضفتيكِ

ولهيبُ الشك مهمازٌ يخضّ الصافناتِ

وجوادُ العشق يعدو جامحاً

للنور أو للظلمة الدكناءِ

لا أملكُ من عنانه شيئا

ولا أملكُ من أمريَ شيئا، غيرَ ما ملّكني مولاي،

فالقلوب بين أصبعيه .

ذهبَ العمرُ سدىً

وا حسرتاه، ذهبَ العمرُ سدىً

إن كان لم يتركْ له من حاجةٍ قيسٌ

فما قضّيتُ، رغم رحلة العمر الطويل،

يا رفيق رحلتي، من وطرٍ،

والناس يحسدونني، ويحسبون أنني منعّمُ

وأنّ كل نجمةٍ شاردةٍ

تأوي إلى دفاتري

وأن كل كلْمة آبدةٍ

تعدو إلى مشاعري

ورّطني اسمكِ،

فكيف أتقي عاصفة الجنونِ؟

كيف أحتمي من قبضة الأوهامِ،

أو من لفحة الهجير سدّ طُرُقاتي؟

فأنا موزّع ما بين آمالي التي قد نفرتْ،

كظبيةٍ ربداء، لا تشبه ظئر مالكٍ،

وبين آمالي التي تسكنني،

والأفق يدعوني إلى مملكة الطيبِ

فتلقي الروح للأفق شراعاً ضلّ، آه،

باسم من ألقى على القلب ظلال اليسر،

والطينُ يشد قَدَماً غُلّتْ بما تكسبُ،

والأسحار –نهرُ الطيب والغفرانِ-

تدعونا إلى حضرتها الفيحاءِ،

أدخلْنا، بفضل منك،

يا بارئنا العظيم،

يا حبيبنا،

يا منقذ الهلكى،

ويا مُنَجِّي المستضعفين من لظى فرعون ذي الأوتادِ،

أدخلنا –بفضل منك- نحن الفقراءَ،

خيمة المستغفرين، وملكوتك العظيم .

وجدة :/1997

كتب الموج

يا محبوبي

أعلنتَ عليَّ الحبَّ

وأرسلتَ على كثبان الثلج الرابض في روحي

                                نسر اللهب الجبّارِ

طوّقتَ بنار الكلمات العُلويّة مملكتي

                     حتى انبجستْ في صحرائك أنهاري

هاك مفاتح حصني

فارفع ألوية الظَّفَرِ،

اجعلني زينةَ عرشِك،

ومداداً في كلماتك،

شمعة محرابك،

       صدِّيقك إنْ كنا في الغارٍ

فأنا لست نبيّا يقوى – إن غُلّقت الأبوابُ –

                                       على دفع الإعصارِ

وأنا لستُ وليّاً

                            يدفع بالأوراد هواك وبالأذكارِ

فادع الله حبيبي

ليجمّلني بلباس التقوى

                                 ويعين القلب على الإبحارِ

وأنا لستُ المتنبي، يا محبوبي

لستُ جلالَ الدين، ولا طاغورَ،  ولا إلوارْ

كي أُلبسَ ثوبَ الحكمة

                ما يطرقُ صدري من أشعارْ

لكني عبدٌ أنعم مولاي عليَّ

وطوَّقني مِنَناً لا يحصيها العدُّ

                 وتعجز عن ضم خباياها الأسفارْ

وتضيق، تضيق عن الشكر الأعمارْ

مولانا  بوّأ قلبيْنا ملكوت النُّورِ

                         وفردوسَ العشْقِ المدرارْ

وأفاض علينا من كأسٍ

          لم يعرف سكرتها الخيّامُ

                    ولا ذاق رحيقَ مباهجها العطَّارْ

فلماذا بالله عليك تخلّفني في منفاي وحيدا ..

أتلهّى كالمجنون بفكِّ عُرى الصَّمت المرتابِ..

وأشربُ ماءَ البحر ِ..

       إذا داهمني الظمأ الغلابُ..

                      وأستودع سفْر الموج الثرثارْ

                                 ما ضم القلب من الأسرارْ ؟!

                        أبوظبي: رمضان 1416ه / فبراير 1996

كتاب اللّيل

أطاعنُ خيلا

وأهتفُ : ليلى !

فيعجب مني الأصَيْحَابُ  ..

يزجرني الأقربونْ :

أأصبحت، ويحك، من بعد شيبك مجنونَ ليلى ؟

يقولون : ليلاك ماء وطينْ

وليست كياناً من النّور قد أخطأته المنونْ

وليستْ سحاباً يرابط بعضاً من الوقتِ

             ثمّ إذا الليلُ أغفى

         تَسَاقطَ عشباً.. وشمساً.. وظلا ..

لقد تهتَ جهلا

كأنّ الحجاز ارتقى نحو نجدٍ

كأن (مُعافى) يطاول (رضوى)

كأن الثُّريا تغادرُ أرض الشآم

إلى أرض بلقيس خاشعة ً،

                        لتلاقي سهيلا

يقولونَ: ما كنتَ للرُّشد أهلا

فليلاكَ ليست شهابا تجلّى

ولا هي أهدتك أمناً

ولا عصمتكَ من العادياتِ

ولا منحتْكَ بقلْبِ المعاركِ درعاً ونصلا

ولا هي أدّتك معنى وشكلا

ولا هي صانتْك بعضا وكلا

يقولون : ليلاكَ ماءٌ وطينْ

وما علموا أن ليلى من الليلِ

                    والليل بسملة العارجينْ

إلى سدرة المنتهى

وناشئةُ الليل مصباحُ أهلِ النُّهى

وتسبيحةُ الراغبين

           إلى الله، والزمن المشتهى

وأرجوحةُ القانتينْ

وليلى من الّليلِ،

    والليل سرٌّ حوَتْهُ الصدور

            وأدّت مشارقَهُ أضلعُ العاشقينْ

وليلى نداءٌ من الغيبِ قال ليَ اقرأ :

(سبحان الذي أسرى بعبده ليلا)

فيا من ركبتَ السبيلا

ويا من رضِيت العذاب الجميل النَّبيلا

قُمِ اللّيل إلا قليلا

وسبّحْهُ ليلا طويلا

فإنَّ وراءك يوماً ثقيلا

وسوم: العدد 731