السّعي حَبوا

( مختارات من البواكير، من "الحزن يزهر مرتين" و "البريد يصل غدا"، الصادرين على التوالي 1974 1975)

(قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا)

 سورة الكهف:109

لا تكُن آمرا وقلْبي يُلبّي

إنّ يبع الأشْعار ليس بكسبي

وأنا لستُ بحْتُريّ زماني

وأنا لستُ الشّاعر المُتنَبّي

أنا من دوحة الشعور ويحيى

طائر أخضر الخطى بين جَنبي

لا تقلْ لي: منْ أنت؟ منْ أيّ دربِ؟

فعلى أحْرفي سيظْهر قلْبي

                                                           ح.الأمراني

الدخول إلى أزمنة الحزن

(1)

أن أغرق في قلب العالم

وأغوص بأعماقه

أن أجمع حبّة رمل من وطني

وأحمّلها ريح التجوال

معناه:

أن أزرع في بلد التَّسآلْ

شجرةْ

تعطي... تعطي... تعطي...

وتغيرُ أعمارَ الأجيالْ.

                                          ***

أن أغرس في كبدي السكّين

أن أفتح في جسدي جرحا

وأذرّ على جرحي ملحا

معناه:

أن أهمس في سمع الغيمةِ: يا غيمة

سيري، وليسّاقط ماؤك أنّى كانْ

فخراجك سوف يَعود إليّ.

فخراجك سوف يعود إليّ.

                             ***

أن أهرب من مملكة الصمت

وأدقّ على أبواب الموت

معناه:

أن أذبح أسراب العتمةْ

وخفافيش الظُّلْمةْ

وأعيد النَّسْرَ إلى القمَّةْ

(2)

أنت، أنت

أنت يا أعذب صوت

آه أنت

أنت يا أقدس صمت

آه أنت

في تضاريس يديك

ألمح العامل والفلَّاح والفأس وجمع الفقراء

وبحيرات العصافير، وخيط الكبرياء

حين ألقاكِ إلهُ الكون في دربي الجليديّ المؤصّل

صغتُ من جفنيك دنيا لم يلامسها رفاقي الشعراء

آه يا مفتاح دنيا الشعراء.

         (3)

حيرانٌ بعدك يا نبض الصحراء

يا خيمتنا المنصوبة للفقراء

يا قافلة العشاق المهزومين

المصلوبين على أعمدة البغضاء

يا بئرا حفرت بأظافرنا الحمْراء

الشمسُ تُروّي أضلاعك، والأيّام

سترشّ مراياها المعطاء بأعتابك.

                                                            ماي 1972

أزِفَ الرّحيل

إلى الذين عصفت بهم الأقدار،

وطوّحت بهم ريح الهجرة إلى المنفى الجديد.

ماتت على أهدابه السلوى ، وجفّ البلسمُ

وهوت على أعتاب مهزلة الحياة الأنجمُ

وتراجع الإشراقُ، واكتنف المجاهلَ طلسمُ

ماذا سيحمل في الحقائب غيرَ ذكرى تؤلمُ

وحقيقة سوداء..تحملها الجوانح والدمُ

أزف الرحيلُ...على الملامح حسرة لا تكتمُ

الأمّ  يا للأمّ  تمسح بالجبين وتلثمُ

وأخٌ غريرٌ ليس يدرك ما الرحيل فيبسمُ

وصبية ترجو الهديّة: (دمية تتكلّمُ)

وتُلوّ حُ الأيدي ... وينسدل الستار المظلمُ

هذا الربيعُ ، فكيف ولّى الطائر المترنّمُ؟

لا نبتةٌ بين الروابي، بالمحبّة تحْلمُ

لا نسمةٌ مشتاقةٌ... لا جدولٌ مستسلمُ

ربّاه، ماذا  تحملُ الأيّامُ؟ سرّ مبهمُ!

لوحة على جدار برلين

(إلى كيفارا الإنسان)

ذكراك، إرنستو، تطلّ على القبورْ

فتحيل موتاها إلى متمرّدينْ

وتهزّ أعماق الوجودْ

                   ***

ذكراك حين تلوحُ في ليلٍ عميقْ

تنعى النجومْ

آثام هذا العالم المنهارِ

ينعب في دياجي الفكر بومْ

ويصيح كلّ مقيّدٍ: يا...يا رفيقْ

                         ***

ذكراك إرنستو تشلّ يد الطغاة

ويتمتم الجلاد: هل أنجو بنفسي؟ والصغارْ

يتمثلون حقيقة الثورة.

1972

حطام الأزمنة

     (مخاض هذه القصيدة كان في زنزانة، في يناير1972، في اعتقال لبعض أعضاء جماعة التبليغ.

 ميلادها كان خارج الزنزانة، في 3/4/72)

من دجى زنزانتي السوداء حبّرتُ رسالة

لك يا أمّي، رسالة

ملئت من وهج المستقبل السابح في شريان أحبابي

ومن بسمة طفلٍ يتحدّى

سوف يأتي ويداه

تحملان الأمل الخلاّق للجيل المدمّى

في زمان الرعب واللاثقة المحشوّ بغضا

فوق أرض المبصر الأعمى/ المرابي

يولد الطفل الذي كنا انتظرناه طويلا

حاملا من رحم الظلمة في يسراه مصباح علاء

وبيمناه كتابٌ يزرع الكون ضياءْ

ويشقّ الأرضَ، يستولدها البيدرَ

والشمسَ وقرصَ الكبرياءْ

يتجلى في عيون الفقراءِ

الزارعين الحُبّ في كلّ طريق.

-  لن يطول الانتظار

-  لن يطول الانتظار

وحكى جدّي عن البلبل والوردة:

كانا عاشقين..

وتقضّى زمنٌ...وامتدّت يدُ الحارس للوردة تغتال بقايا عمرها:

"إنّ الأميرة

تعشق الورد الجميلْ

وأنا الخادم، إذ تطلب مولاتيَ شيئا، يستحيلْ

أن أقولْ:

-  آه يا سيّدتي معذرةً...كفّي قصيرة"

كانت الوردة تفنى في يد الجاني وتذبل..

أظلم الكون بعين البلبل العاشق:

لا شدو إلى أن ترجع الوردة هيفاء نضيرة

ثم ولّى قلق النبض حزينا..

                         ***

دربنا - نعلمُ - أشواكٌ ونارُ

بيننا، حقّا، وبين الضفّة الأخرى بحارُ

غير أنّا إن توقّفنا هلكنا.

مرّوا ....

من غير ما ميعادْ

الناس مرّوا من هنا

من غير ما ميعادْ

...وقوافل التجار مرّت من هنا

وقوافل الأحرار مرّت من هنا

وقوافل العبدان مرت من هنا

الناس مرّوا من هنا

مرّوا وما عادوا

لم يسألوا، لم يطلبوا مني الرحيل

وبقيت وحدي هاهنا

وحدي أسائل : من أنا؟

ماذا أنا؟

عمري مضى ،

وأنا أنقّب عن هويّتيَ التي ضاعت مع الميلاد.

6/5/1973

يوميّات مُهاجر في زمن الرّعب والنبوءة

"لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَّاتَّبَعُوكَ وَلَٰكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ"

                                                       سورة التوبة 42

ما أطيب العيش لو أنّ الفتى حجرٌ

تنبو الحوادث عنه وهْو ملموم

تميم بن أبيّ بن مقبل

تأتي عليّ لحظات أتمنّى فيها أن أكون صخرةً أو شجرةً.. ولكن الله تعالى سوّاني بشراً، ورزقني حرّية الاختيار، فاخترت أن أكون مسلماً، فالحمد لله على ذلك.

                                                                                                    المغني الكندي داود وارنزبي علي

عيون

عيون، عيون، عيون

ولا شيء غير العيون..

أحاول أن أقتل اللغة المخطئة

بفكر البلاد..عيون

أحاول ذبح الدياجير في مقل مطفأة

بطول البلاد، وعرض البلاد، عيون

أبيع الجرائد ليلا، عيون

أبيع الجرائد ظهراً ، عيون

أحدّق في صفحات كتابي، عيون

أفكّر في حجز تذكرة بقطار الضياع..عيون

زهور الحدائق تذوي..عيون

بخور المجامر تهوي..عيون

ترى أين أمضي

وبعضي يراقبُ بعضي؟

ومن خلف ثوبي أطلّت عليّ عيون

عيون، عيون، عيون

ولا شيء غير العيون

مدينة الألم

يا أيّها المسافر الغريب

أمامك المدينة اللعوب

حذار أن تغريكَ الأنوارْ

حذار أن تدخلها

فإنها لا تقبل الغريب ليلتين

لا تمنح الغريب وجبتين

حذار أن تقربها

فليس تعطي الحبّ مرَّتين

لكنها تمنحك الأحزان مرّتين

صديقيَ المسافرَ الجبّارْ

لا تنفض الغبارْ

وتابع السير إلى مدينة الألم

مدينة الأمل

ألملم من عتبات الوجود

بقايا الجراح

وأنثرها حبّةً حبّةً

وأزرعها في حنايا البطاح

لعلّيَ أنهض ذات صباح

فأحصدها في زمان الحصادِ

ثورةً بالبهاء تجدّد نبض بلادي

زمن الحبّ

زمنُ الحبّ بناء متهدّمْ

لا يرمّمْ

زمن الحبّ سرابٌ قد تلفّعْ

بالأكاذيب،

وأرض غاب ضوء الشمس عنها، فهْي بلقعْ

زمنُ الحبّ بأرضي باع حُلْمه

وتقهقرْ

زمنُ الحبّ بهذي الأرض غيمه

ليس تمطرْ

زمن الحبّ استحالا

في بلادي ألماً، جرحاً، ومالا

نحو غابات الجنون

وتهادى

نحو دنيا الرفض جبّاراً فعادا

ليس يرضيه السكون

         انتفاضة الحجر

[1]. نشرت القصيدة أول مرة في مجلة أقلام عام 1972، وواضح أنها كتبت قبل انتفاضة الحجارة بزمن طويل.

وسوم: العدد 746