التصرفات النبوية الإرشادية : سمات ونماذج
مقتطفات من كتاب “الدين و السياسة تمييز لا فصل” للدكتور سعد الدين العثماني
الحلقة الخامسة
تزداد الحاجة في دراسة السيرة النبوية الشريفة إلى تطوير مناهج التعامل معها لتجاوز أنواع الخلل المنهجي والمعرفي الشائعة-مع الأسف الشديد-في صفوف جماهير من المسلمين في تلقي السنة وفهمها. والحديث الشريف يحدد المجالات الكبرى لهذه الاختلالات، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم ) :يحمل هذا العلم من كل خلف عدولة، ينفون عنه تحريف الغالين، واِنتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين ).
فحاملو العلم الذي أتى به الوحي يقومون بالذود عن الوسطية والاعتدال، ويحفظون حالة التوازن بين الإفراط والتفريط .
بعيداً عن ثلاثة مخاطر هي :
1- الغلو الناتج عن تحريف النصوص عن معناها الصحيح.
2- إشاعة الباطل بانتحال واختلاق ما ليس من الدين.
3-التنصل من مقتضيات الشريعة بالتأويل المتعسف.
أما أسباب هذه المخاطرة في فهم النصوص النبوية فهي كثيرة، منها:
- فصل الحديث النبوي عن أصله الأول الذي هو القرآن الكريم، وفهمه بعيداً عنه.
- عدم فهم النصوص في إطار المبادئ العامة للشريعة ومقاصدها الكلية.
- عدم استحضار المعطيات العلمية التي راكمها البحث العلمي الموضعي وأحياناً مناقضتها.
- عدم التمييز بين المقامات التي صدر عنها التصرف النبوي، وغيرها.
ويعتبر هذا السبب الأخير من المواضيع التي قلت فيها الدراسات العلمية المتخصصة، فلم يهتم بما يكفي بتنوع التصرفات النبوية وسمات وخصائص أنواعها،
وتأثير ذلك على فقه السنة والحديث. وقد اخترنا أن نتحدث هنا عن نوع واحد من تلك التصرفات، وهو التصرف النبوي الإرشادي، الذي بقي الاهتمام بقواعده ونماذجه محدود جداً على الرغم من إشارة العلماء السابقين إليه.
أولاً : عطاءات العلماء في تمييز مقامات التصرف النبوي :
لقد اهتم الكثير من العلماء عبر القرون، وخصوصاً منهم الأصوليون، وأبدعوا في تصنيف التصرفات النبوية بحسب دلالتها التشريعية انطلاقاً من التمييز بين المقامات التي تصدر عنها، وطوروا ذلك التصنيف بشكل كبير، ووضعوا له القواعد والضوابط. وقد أوضحت في دراسة سابقة كيف ان هذه المسيرة التاريخية تتميز بالثراء المنهجي والمعرفي لدى علماء الحديث والأصول، و دراستها تفيد في تسليط الضوء على الخطوات التي تراكمت تدريجياً لتصل إلى النضج الذي وصلت إليه في القرن السابع الهجري وما بعده. ومن تلك الجهود استفاد مجددو الفكر الديني في العصر الحاضر .
ويعتبر ابن قتيبة (ت 276) في كتابه (تأويل مختلف الحديث ) ممن بدأ مسيرة التصنيف المنهجي للتصرفات النبوية .
وتبعه القاضي عياض ( ت 544) في كتابه (الشفا بتعريف حقوق المصطفى ).
والفقيه الأصولي شهاب الدين القرافي ( ت 728) الذي توسع فيها في كتابه الفروق ، وميز بين تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم بالفتوى (التبليغ )، وبين تصرفه بالإمامة ، وكتب في ذلك كتاباً قيماً هو (الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام ) ..فقد دشن مرحلة جديدة في التعامل مع التصرفات النبوية .
ثم أتى الإمام محمد الطاهر بن عاشور صاحب (مقاصد الشريعة الإسلامية ) ليطور من تقسيم التصرفات النبوية ويضيف إضافات جادة في هذا الموضوع ، وركز على (المقام ) الذي سيق فيه النص ..وذكر حديث تحريق بيوت من يتخلف عن صلاة الجماعة ورأى أنه جاء في مقام التهويل والمبالغة والتوبيخ في تأديب المسلمين فقط .
وعدد ابن عاشور من أحوال الرسول التي يصدر عنها مثل : (التشريع ، والفتوى، والقضاء، والإمارة، والهدى، والصلح، والإشارة على المستشير، والنصيحة،
وهذا التمييز بين تصرفات الرسول موجود عند الفقهاء الكبار : حيث يرى الإمام مالك أن التسعير يرتبط باجتهاد الإمام ، وكذلك حديث (من قتل قتيلاً فله سلبه) فيرى أنها مصلحة مؤقتة، لم يفعلها النبي إلا في غزوة حنين .
التصرف النبوي الإرشادي :
الإرشاد لغة : هو الدلالة على أفضل الأمور .
وهو في استعمال الفقهاء : يعني الدلالة على الخير والمصلحة، سواء أكانت دنيوية أم أخروية .
ويتحدث الأصوليون عن أمر إرشاد ، أو نهي إرشاد ، فالمندوب مطلوب لمنافع الآخرة والدنيا .. ويسميه الإمام الجصاص (الأحوط ) .
ويضرب الفقهاء مثالاً على ذلك (كتابة الدين ) : حيث اختلفت آراؤهم حوله فمنهم من رأى أنه فرض كفاية مثل صلاة الجنائز، وبعضهم رأى أنه فرض على الكاتب في وقت فراغه، وقال البعض أن الأمر للندب ، وبعضهم قال بأنه منسوخ ، وقد رجح أبو بكر بن العربي ( ت 544) أن الأمر للإرشاد والنصح ، فلا يكتب الكاتب حتى يأخذ حقه .
ويرى ذلك الإمام أن الشهود في البيع ليس واجباً ، وإنما هو إرشاد للتوثيق والمصلحة.
أمر الإرشاد في تصنيفات الأصوليين :
يرى الأصوليون أن فعل الأمر له دلالات عديدة منها : الوجوب، والندب، والإرشاد، والإباحة، والتقريع، والتعجيز، والوعيد، والتهديد، والمسألة، والطلب .
وذكر الإمام الجصاص في هذا السياق أن قوله تعالى: ( وأشهدوا إذا تبايعتم) أن فعل الأمر ( أشهدوا ) يفيد الإرشاد إلى الأحوط لنا .
ويرى الإمام الرازي في (المحصول) أن الأمر في قوله تعالى : فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً ) هو للندب .
تقسيم النهي النبوي إلى حظر وإرشاد :
لقد قسم الإمام ابن عبد البرّ النمري ( ت 463ه ) النهي النبوي إلى :
أ- نهي تحريم : مثل النهي عن نكاح الشغار، ونكاح المرأة على عمتها وخالتها.
ب- نهي على جهة الأدب والإرشاد : مثل : المشي في نعل واحدة، وأن يقرن بين تمرتين في الأكل، ويفرق أحياناً بين ما هو إرشاد من السنة، وما هو من باب الديانة، مثل نهي النبي عن (الغيلة ) فهذا من باب الأدب والرفق، والإحسان إلى أمته، وليس من باب الديانة .
سمات التصرفات الإرشادية :
1- إنها مطلوبة لمصالح الدنيا لا لمصالح الآخرة .
2- أنه لا قربة فيها ولا ثواب .
3- أنه لا حرج في عدم الامتثال لها .
4- إن التصرفات النبوية بالإرشاد لا تسمى سنة بمعنى أنها واجبة الاتباع بل هي من باب الأدب والندب والنصيحة والإرشاد .
والأمثلة على تلك التصرفات كثيرة لا يمكن عدّها مثل: إطفاء المصابيح عند النوم، ووضع خمار على الطعام، وإغلاق الباب عند النوم، وكراهية أن يسمي ولده رباحاً أو يساراً أو أفلح أو نافع، وتأتي قصة شفاعة النبي عند بريرة في هذا السياق ..فهذه الإرشادات للندب، وليس للحظر .. والله أعلم .
وسوم: العدد 757