صلاة في الحمراء
كان يوم جمعة30/12/1416 – 17/5/1996، يوماً مشمساً جميلاً, وكنت قد أخذت في ليلته حظاً طيباً من النوم، يتيح لي أن أزور الحمراء وأنا هادئ مستريح يقظ الوجدان، ذلك أني اعتدت على أن تكون زيارتي لمكان تعلقته، زيارة أناة وتأمل وتذكر أن أؤديها بكل حواسي، خلافاً لمن يفعل ذلك وكأنه يمارس عملاً ميكانيكياً آلياً، يريد أن يضيف من خلاله إلى سجل زياراته السابقة رقماً جديداً.
خرجت من الفندق الذي قضيت فيه الليل في وسط غرناطة إلى حمرائها الشهيرة، واشتريت تذكرة دخول، فلما هممت بالدخول منعني الحارس، ثم تبين لي أن زوار الحمراء يدخلونها أفواجاً، بين الفوج والفوج الآخر زمن محسوب، لأن عددهم كبير، ووجودهم جميعاً دفعة واحدة في الحمراء يضر بها بسبب التدافع الذي يؤذي الأرض والآثار، وبسبب الأنفاس الكثيرة التي تؤذي النقوش والألوان، ما إلى ذلك من مخاوف يعرفها المشرفون على حراسة الحمراء وصيانتها أكثر منا. تبين لي أن بيني وبين ميعاد دخولي ساعتين أو أكثر، فقررت أن أنفق هذا الوقت في باحة الانتظار مع سواي من المنتظرين، وكانوا كثيرين، ومن بلدان مختلفة، وجلست أقرأ وأدون بعض الملاحظات، وأمشي حيناً وأجلس حيناً، وأدافع الملل بطريقة أو أخرى.
وخلال هذا الانتظار لاحظت أن رحلة مدرسية تقودها راهبة عجوز، قد مل أعضاؤها من الانتظار، فأخذوا – بنين وبنات – يمارسون ألعاباً ومسابقات مختلفة مسلية، ثم لم يلبثوا أن شكلوا دائرة وبدؤوا بالدبكة، ومع أن ثقافتي الغنية في الدبكة وما إليها ثقافة هزيلة، أحسست أن الدبكة هي دبكتنا المعهودة بالتمام والكمال، وخيّل إلي أنها من بقايا المسلمين الذين أجبروا على التنصر، توارثها الأحفاد عن الأجداد، وزاد في إحساسي هذا ما سمعته من أناشيد كانت تؤدى مع الدبكة، أما الكلمات فما فهمت لها معنى، وأما الألحان فقد أحسست أنها ألحاننا العربية والإيماء والزي والحركة من حيث يعلم الناس أو لا يعلمون، قلت في نفسي إذا كانت الدبكة دبكتنا، والألحان ألحاننا، ألا يمكن أن يكون جد هذا الفتى الذي يحمل اسم خوسيه مثلاً هوأحمد، وجد هذه الفتاة التي تحمل اسم ليزا مثلاً هي عائشة؟ وخطر لي أن أتوجه بهذا السؤال إلى الراهبة العجوز أو سواها لكني لم أفعل لجهلي بالإسبانية، ولأني -لو عرفتها وسألت فعلاً- سوف أقابل بنظرات تشي باتهامي بعقلي، وعلى كل حال انفضّت الدبكة حين دعينا إلى الدخول إلى قصر الحمراء مع الفوج الذي جاء وقته فدخلت مع الداخلين.
ومع أنني زرت الحمراء مرات كثيرة مصراً على الاستمرار في عادتي، لم أكن عجلاً قط، بل كنت أتأنى وأتأمل وأحدق وأتذكر، وأحرص ألا يفوتني شيء، كنت كمن يريد أن يفوز بأكبر غنيمة من المتعة العينية والنفسية والفكرية خلال التجوال، كنت كالظامئ الذي يريد أن يعتصر كأس الماء البارد حتى آخر قطرة. وقد أعانني على ذلك أنني كنت وحدي فلا صديق يحثني على الإسراع لأنه قضى نهمته من المكان فملّ، ولا مجموعة مرتبطة بجدول ونظام ومواعيد تقول لي: لقد أخّرت سواك، وأنا امرؤ أحب الخلوة بين الحين والآخر، سواء للقراءة أو الكتابة أو الرياضية أو المراجعة أو الاستكشاف وأجد فيها فائدة جمة، بل فوائد.
انتهيت من مباني الحمراء، أو ما بقي من مبانيها، ثم اتجهت صوب حدائقها الجميلة الشهيرة، المعروفة باسم ((جنة العريف)) وقضيت فيها وقتاً شائقاً بديعاً في ضحى شائق بديع، أنظر في الماء وأسمع خريره، وأتملى من نوافيره الجميلة، وبحيراته الصغيرة الأنيقة، وسواقيه الصاعدة الهابطة، وأشم الفل والياسمين، وأتأمل في الزهور العجيبة المتنوعة التي لا أعرف أسماء أكثرها، وأحدق ولا أشبع من التحديق في الحدائق المنسقة الجميلة، وأشكالها الهندسية الرائعة، وأرفع نظري وأخفضه في أشجار السرو العالية التي تشكل ممراً متعرجاً جميلاً في بعض الأحيان، وتشكل سوراً جميلاً في بعض الأحيان الأخرى. أنظر وعيناي نهمتان جوابتان تطالبانني بالمزيد، وهما تقولان لي وأنا أصدق ما تقولان: إن جنة العريف، جنة دنيوية حقيقية، جنة يتعانق فيها اللون والماء والظل والنور والخضرة والتنسيق والأزهار والأشجار والنسيم المفعم بالروائح الطيبة، مع ممرات وردهات أنيقة بسيطة صنعها الإنسان من الخشب والجص والأقواس والزخرفة، إنها جنة حقيقية، جميلة جداً، بل آية من الجمال. ولعلك ترى في سواها من القصور والحدائق ما هو أكثر تنظيماً وبذخاً، لكنك تشعر معها أنها أقرب إليك وأنها تبادلك شوقاً بشوق، ومودة بمودة، وأنها تتيح لك – على كثرة زوارها وتنوعهم فرصة الخلوة المحببة على مقعد منفرد أو تحت ظلال في منطقة منعزلة، لتخلو بنفسك، وتتمتع بهذا الجمال الأخاذ.
نظرت في الساعة فوجدت أن وقت صلاة الجمعة قد حل، ولما كنت مسافراً، فقد عزمت على أداء صلاتي الظهر والعصر قصراً وجمعاً، فانتحيت مكاناً هادئاً يختبئ تحت ظلال ممتدة شكلتها أشجار السرو، وتحريت القبلة وأخذت أصلي.
الطريف أن الرحلة المدرسية التي كانت تقودها الراهبة العجوز مرت بالمخبأ الذي كنت فيه فرآني أحدهم أو إحداهن، ونظر إلي وهو يعجب مما أنا فيه، ولعله يقول في نفسه: ماذا يفعل هذا الكهل العربي الأسمر؟ المهم أنه وشى بي إلى الآخرين والأخريات، فإذا بي أجد نفسي أثناء صلاتي وقد صرت منظراً غريباً يقترب منه عدد فينظر ويستغرب أو يضحك، ويعود إلى مجموعته ليأتي عدد آخر وهكذ، ولا تزال صورة بعض الفتيات الصغيرات اللواتي يلبسن زياً موحداً، ولعلهن في المرحلة الابتدائية، ينظرن إلي ويتغامزن ويتقافزن ثم يعدن إلى الراهبة العجوز التي كانت حريصة جداً عليهن، تعنى بهن وتشفق عليهن وتعيدهن إلى الترتيب الذي بدأت به معهن بصبر ومودة، وكأنها تعبر في ذلك عن أمومتها المفقودة. وربما سألنها عما كنت أفعل، وربما أجابت إجابة صحيحة أو خاطئة.
تمنيت يومها لو كنت أعرف اللغة الإسبانية لأشرح لهن في دقائق معنى الصلاة، ثم أدلف من الصلاة إلى عرض حقيقة الإسلام الكبرى وهي التوحيد، وأقول لهن إن المسيحي الذي يعتنق الإسلام لا يخسر عيسى u بل يكسب إلى جانبه محمدا ًr، وأخبرهن ماذا يقول القرآن الكريم عن المسيح u وأمه الطاهرة البتول، لأزيل ما علق بأذهانهن الطرية الساذجة من أخطاء مقصودة أو غير مقصودة بحق الإسلام.
وانفض الجميع وعدت إلى وحدتي أو خلوتي، وأدركني حزن عميق إذ تذكرت كيف ساد الإسلام في هذه الربوع قروناً طويلة، ثم باد، ثم بدأ الفرح يحل مكان الحزن، والأمل يحل مكان الحسرة حين تذكرت البشائر الجميلة الواعدة لعودة الإسلام إلى الأندلس بل إلى إسبانيا كلها، من خلال مهتدين جدد، ومساجد تبنى، ومراكز تنشأ، ومخيمات تقام، وكيف تنشر. إنها فرصتنا الذهبية لإعادة الإسلام إلى هذه الديار، وبأسلوب سلمي، يعتمد على الكلمة الطيبة والنية الصادقة والقدوة الحسنة قبل كل شيء.
المسجد المحزون
لشوقي قصيدة رائعة قالها يوم زار سورية، واحتفى به أهلها احتفاء يليق به، خاصة أن شهرته يومها كانت قد ملأت الآفاق، مطلعها:
قم ناج جلق وانشد رسم من بانوا مشت على الرسم أحداث وأزمان
وقد وصف فيها دمشق وصفاً بديعاً، وصور غوطتها الخضراء، وبردى الذي يصفق لزوارها، وتذكر كيف كانت العاصمة الثانية للإسلام، وتذكر كيف جعلها بنو أمية منطلقاً للفتوحات التي شرقت وغربت مقرونة بالظفر والعدل، وبلغ التوفيق عند الشاعر الكبير ذروته حين قال في المسجد الأموي الذي يعد من أعظم مساجد الإسلام:
مررت بالمسـجد المـحزون أسأله
هل في المصلى أو بالمحراب مروان
تغير المسجد المحزون واختلفت
على المنابر أحرار وعبدان
فلا الأذان أذان في منارته
إذا تعالى ولا الآذان آذان
وهي أبيات غالية عالية، معنى وصورة وموسيقى ولغة، وأجمل ما فيها أنها تضعك أمام التناقض الحاد بين أمس رائع غالب وحاضر يائس مغلوب، وأنها جعلت من المسجد العريق رمزاً لهذا التناقض، فبالأمس كان الخليفة في دمشق السيد المطاع والفاتح المظفر، وكان المسجد العريق موئلاً للعلم والشموخ، وكان الأذان يعلو فيه ليعلن هوية الأمة إعلاناً يقترن بالغلبة والعزة، أما اليوم فدمشق في أسر الغاصب الفرنسي، وأما بنو أمية فخبر في زوايا الكتب والنسيان، وأما الأذان، فإنه يعلو مختلفاً عما كان عليه بالأمس، الأذان غير الأذان، والآذان غير الآذان، والخطباء غير الخطباء. هل لي أن أقول: إن هذه الأبيات الثلاثة تعدل قصيدة كاملة؟
لقد صدقت أبيات شوقي على مسجد دمشق، لكنها أكثر صدقاً على المسجد الأموي العظيم في قرطبة، فمأساة المسجد القرطبي أكبر وأحزانه أشد والمصير الذي انتهى إليه أفجع. وإذن فلا غرابة أن أسميه ((المسجد المحزون)) تقليداً لشوقي.
بدأ أمر المسجد في قرطبة مع الأمير الأموي الداهية الشجاع المرزأ عبد الرحمن الداخل، الذي فر من سيوف بني العباس في مغامرة طويلة ملأى بالصبر والحذر والشجاعة، حتى وصل الأندلس فقاتل فيها حتى خلصت له، وأعاد الدولة الأموية فيها غالبة ظافرة، ووطد قواعدها وأرسى نظمها وأحكم بنيانها، حتى فرض الإعجاب به حتى على خصومه ومنهم أبو جعفر المنصور الذي لقبه من فرط إعجابه به ((صقر قريش)).
أصبح مسجد قرطبة رمز الدولة الأموية في الأندلس، تتم فيه البيعة، وتعقد الألوية، وتقام الصلوات، وتلقى الخطب، وتستقبل الوفود، وتنشد الأشعار، وتعلو فيه أصوات المؤذنين والمدرسين والقارئين. واتسع المسجد مع الزمن مادة، معنى بالتوسع العمراني حتى صار من أعاجيب الأبنية ولا يزال، ومعنى بالعبادة والعلم والدعوة حتى صار جامعة حقيقية لها فضلها المقرر حتى على أوربا.
ومرت الأيام وسرى الوهن في المسلمين، اعتراهم الترف وضعف الدين، وانقسم الناس، فكان لا بد أن يدفعوا الثمن خاصة حين سقطت الخلافة الأموية، وقامت ممالك كثيرة عليها أمراء قادرون أو عاجزون وذلك في الفترة الحزينة التي سماها التاريخ ((ملوك الطوائف)) وكبرت المصيبة حين فشت العداوات بين هذه الممالك، وصارت أفدح حين كان بعضها يستعين على بعضها الآخر بالعدو الإسباني الذي راح يلتهم البلاد قطعة قطعة، فسقطت قرطبة وهي جوهرة الدولة الإسلامية في الأندلس وحاضرتها الكبرى فيما سقط، والأمر لله من قبل ومن بعد.
ومع السقوط بدأت مأساة مسجدها المحزون، سكت الخطيب وغاب الأذان وانفض المصلون، ثم ازدادت الأمور سوءاً حين حوّلت بعض أبهاء المسجد المحزون إلى كنيسة ومصليات، شوهت جلاله الديني وجماله المعماري، وتبدو هذه الكنيسة والمصليات التابعة لها نشازاً في هذا الصرح المتفرد المتميز، تقتحم العين وتؤذي الوجدان.
تتجول في المسجد فيأخذك الشعور بالجلال والهيبة خلافاً للحمراء التي يأخذك فيها الشعور بالجمال والمتعة، لا تزال جدرانه قوية، وسقوفه متينة، وأعمدته صامدة، وتنتقل من بهو إلى آخر، وتمر بعمود إثر عمود، وتخلو إلى نفسك فتكاد تسمع صوت قارئ أو مصل أو مدرس، وتكاد تلمس عبرة مذنب تائب ونجوى زاهد تقي.
صعدت إلى مئذنة المسجد، ووقفت في أعلاها قرب ناقوس كبير، أنظر إلى قرطبة من ارتفاع يتيح لي الرؤية المتسعة في يوم مشمس. وكنت أمعن النظر في الأحياء المجاورة للمسجد، وهي بطريقة بنائها وأزقتها وأفنية بيوتها وما في هذه الأفنية من عرائس ومتسلقات وشجيرات وزهور، تشعرك أنها هي هي كما كانت أيام المسلمين خلافاً للأحياء الجديدة التي تبنى وفق الأسلوب الأوربي الشائع. تذكرت كم مر بهذه الأزقة من مسلمين، وكم تليت في بيوتها من آيات، وكم صلى المصلون، وصام الصائمون، فأدركتني حسرة لا حد لها، وتنامى في شعور طاغ بالأحزان، ثم وقع في خاطري أن هذه المئذنة العزيزة قد اشتاقت إلى الأذان الذي لم تسمعه منذ قرون، فحققت لها رغبتها فأذنت وفي عيني دموع حرّى.
استوقفني في المسجد أن جهة القبلة لم يمسسها أحد قط، النقوش كما هي، والمحراب كما هو، واستوقفني أن الزوار يتأملون فيه كثيراً ففعلت مثلهم. حينها استولى علي شعور غريب، وتداعت إلى خيالي صور كثيرة، خطيب ذو بيان وفصاحة، وعالم فحل متمكن، وقارئ ذو صوت رخيم، ووفود تأتي خاضعة أو طائعة أو طامعة، وخليفة غالب منتصر. أعلام الإسلام عالية، وجيوشه ظافرة، ومجده باذخ، وسفراؤه موضع الإكبار والإجلال.
صحوت من هذه السنة العجلى لأجد نفسي أمام الحقائق العارية الحزينة، ونظرت فإذا بسلسلة وضعت أمام المحراب حتى لا يقترب منه الزائرون وهم من شتى البلدان والأديان، كنت يومها ألبس الثوب العربي الأبيض خلافاً لعادتي في السفر لأن قرطبة حارة في الصيف، فكان منظري غريباً، ثم ازدادت غرابته حين اقتربت من السلسلة فأخذت أؤذن، وحين غضب الحارس الإسباني الذي يحمي المحراب انتصرت لي – لتكتمل المفارقة – شابة إسبانية متكشفة، وقالت للحارس كما فهمت فيما بعد: نحن بلد حر فدعه يغنّي كما يشاء. تنامت فيّ أشواق التاريخ والحزن والذكرى فوجدتني أتخطى السلسلة وأنا مسلوب الإدارة، وكأن أحداً يأمرني فاستجيب له، ثم أقف في المحراب أصلي على أرضه الرخامية العارية ركعتين، أحيي فيها المسجد، وأنا فرح إلى درجة الحزن، وحزين إلى درجة الفرح، وفيّ عواطف متآلفة ومتضادة.
أخذ الزائرون بمنظري، ثوباً وقياماً وركوعاً وسجوداً، فأخذوا يسارعون بالتقاط الصور التذكارية، ولعلهم ينظرون إليها فيما بعد، ويعرضونها على ذويهم قائلين: انظروا إلى ما كان يفعله هذا المجنون.
حينما خلوت إلى نفسي بعد حين، عجبت لما فعلت، بل سررت به، فربما لم يشهد المحراب أحداً سجد فيه منذ زمن طويل.
لعينيك يارندة
عدت من المغرب إلى إسبانيا على ظهر ((العبارة)) التي تنقل الناس بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط عن طريق قاطعة المضيق المائي الذي تطل عليه من جهة المغرب طنجة وسبتة، ومن جهة إسبانيا الجزيرة الخضراء وجبل طارق.
كان ذلك في عام 1402 هـ / 1982م وكان الوقت صيفاً، وكان معي أسرتي وسيارة استأجرناها في رحلتنا تلك. وما إن خرجت بسيارتي وأسرتي من العبارة حتى اندفعت في السير على الطريق الجميل الذي يحاذي الساحل الإسباني الجنوبي المعروف باسم ((ساحل الشمس)) ووجهتي إلى ((مالقة))، وكان الوقت في أول المساء وكنت متعباً بعض الشيء لكن فيَّ فضلة من نشاط تعين على قيادة السيارة.
ظللت في الطريق حتى فاجأتني لوحة تشير إلى طريق فرعي يقود إلى مدينة رندة.
وجدتني فجأة أدخل في الطريق الفرعي وأجعل وجهتي رندة لا مالقة، لقد اتحذت قراري دون تفكير فقد فرض عليَّ نفسه فرضاً، وكان لأبي البقاء الرندي أثره في هذا الفرض حيث استيقظت فيّ قصيدته الشهيرة:
فلا يغر بطيب العيش إنسان
لكل شيء إذا ما تم نقصان
ومع أبي البقاء الرندي كان صوت محمد أسد ((ليوبولد فايس)) قبل إسلامه، صاحب السيرة الذاتية الرائعة ((الطريق إلى الإسلام)) يشجعني على المضي إلى رندة، ذلك أني زرته في بيته في طنجة فقال لي فيما قال: حين تعود إلى الأندلس احرص على زيارة رندة فإنها بلد رائع. وهكذا وجدت نفسي أحث السير إلى رندة بشوق جارف هو مزيج من الدين والأدب والتاريخ والسياحة.
بعد أن توغلت في الطريق بدأت تظهر لي المتاعب، فالطريق الذي تركته كان طريقاً واسعاً مزدوجاً سهلياً مضاء يعج بالحياة من قرى ومدن ومقاه ومطاعم ومحطات بنزين وفنادق واستراحات، أما الطريق الذي دخلته فقد كان خطاً واحداً وكان جبلياً مظلماً وعراً ضيقاً أما الحياة فيه فأخذت تقل كلما مضيت فيه حتى وجدت نفسي بعد حين أسير الوحشة والوحدة من جانب، والتعب الذي أخذ يزداد من جانب آخر.
وزاد من حدة المشكلة أن الشهر العربي كان في آخره، فاختفى القمر تماماً فإذا بالظلمة تتضاعف وتتكاثف، وازددت مع الظلمة تعباً، ومع الوحدة وحشة، وكأن الطريق أراد مشاكستي فازداد ضيقاً وتلوياً وانحداراً وصعوداً بحيث كنت ألتقط أنفاسي فرحاً بتجاوز هاوية كنت على حافتها أسير، لأجد نفسي إزاء هاوية أخرى تطل على واد سحيق، وليس للطريق سور وليست عليه إشارات ضوئية على الأرض ((عيون القطط)) لأضبط بها ومنها المسير.
على كل حال اعتصمت بالصبر أولاً وبالدعاء ثانياً، وعزمت على أن أبيت في أول فندق أو استراحة أمر بها، ولنترك أمر رندة إلى الصباح. وهنا جاءت المشاكسة الجديدة فقد ندرت القرى في هذا الطريق الموحش المهجور، وفي كل قرية أمر بها أبحث عن مكان للمبيت فا أجد شاغراً. عندها لم أجد إلا متابعة السفر إلى بلد أبي البقاء، والصبر على وعثاء الطريق الذي وصفته ومغالبة التعب الذي أخذ يزداد والنعاس الذي أخذت وطأته تشتد شيئاً فشيئاً.
وأعان الله فوصلت رندة في ساعة متأخرة من الليل ففرحت بذلك رغم التعب والسهر، وقلت لنفسي: لابد أني واجد مأوى في رندة فهي مدينة تعد كبيرة بالقياس إلى ما مررت به في الطريق إليها، وهنا أطلت علي مشاكسة جديدة إذ لم أجد في أي فندق مكاناً للنوم قط بدءاً بفندق جميل ذي خمسة نجوم، وانتهاء بأحقر فندق بنجمة واحدة أو بدون نجمة.
وتأخر الليل ولم يبق في الشوارع إلا السكارى والمتسكعون وأنا وسيارتي المستأجرة الصابرة، أدور فيها في مدينة لا أعرفها قط أبحث فيها عن مأوى بدون جدوى، وأنا وراء المقود وأم معاذ إلى جواري تراقب عيني خشية نوم لا قبل لي به قد يسبب كارثة لا قدر الله, وأولادي نائمون، وقد سكن فيّ حبي لرندة ونسيت أبا البقاء ونصيحة محمد أسد والموشح الأندلسي الشهير ((جادك الغيث)) الذي كنت أدندن به بين الحين والآخر، وصار أملي الأكبر أن أعثر على مكان أمين للنوم أياً كان مستواه.
العرب تقول في أمثالها ((اليأس إحدى الراحتين)) وهو مثل بديع، فالمرء يرتاح إن حقق هدفه، ويرتاح أيضاً إن يئس منه وأسقطه من حسابه. وقد عزمت على الانتفاع من هذا المثل الواقعي البديع، فما دمت عاجزاً عن النوم المريح في مأوى فلأنم في السيارة. استرحت كثيراً حين وصلت إلى هذا القرار فتجولت قليلاً حتى وجدت مخفراً للشرطة فوقفت بالسيارة أمامه وأطفأت المحرك وأغلقت النوافذ، ثم قلت للعائلة التي كانت تراقب معاناة عميدها: على كل منا أن ينام حيث هو، ونمنا فعلاً في السيارة محشورين كأننا في علبة سردين، وأنا أسأل الله عز وجل أن يكون اختياري لمخفر الشرطة صواباً يحقق الأمن المطلوب مخافة أن أقع في المحذور المضاد ويكون ((حاميها حراميها)) كما يقولون.
وأدركتنا رحمة الله عز وجل من جهتين، الأولى أن المكان كان آمناً بحق، والثانية أننا استطعنا النوم ونحن ستة في سيارة صغيرة. المهم أننا استطعنا أن نغفو سويعات بفضل الله عز وجل، ثم بفضل الإجهاد الذي جعلنا نغرق في نوم عميق، ثم بفضل مخفر الشرطة.
حيث صحونا كنا لا نزال بحاجة إلى مزيد من النوم لكن الشمس حرقتنا ذلك ومعها الجلبة التي أخذت تنتشر مع حركة الأحياء، على كل حال استعدنا قدراً لا بأس به من النشاط، فتحركنا حتى وجدنا جدولاً صغيراً في ظاهر رندة فتوضأنا وتنشطنا وصلينا مسترشدين ببوصلة كانت معنا، وأصبنا شيئاً من الطعام، وبعد ذلك استيقظ فينا حبنا لرندة، وقصيدة أبي البقاء، ونصيحة محمد أسد، والذكريات والرغبات التي هي – كما أسلفت – خليط من الدين والأدب والتاريخ والسياحة، وبدأ الموشح الأندلسي الشهير ((جادك الغيث)) يداعبنا ونداعبه.
وأخذت أتجول في المدينة مستعيناً بكتابين حرصت على اصطحابهما هما ((رحلة الأندلس)) للدكتور حسين مؤنس و ((الآثار الأندلسية الباقية في إسبانيا والبرتغال)) للأستاذ محمد عبد الله عنان.
وحقاً كانت المدينة جميلة وإن تكن صغيرة، فهي ذات موقع رائع، تقع على جبل منيف، وتطل على وديان سحيقة، ويجتازها نهر ((وادي لبين)) ولا تزال في دورها لمسة ظاهرة من فن البناء العربي القديم من صحون وأروقة وأعمدة وزخارف وأقواس وأزقة ضيقة، وفيها لصغرها وبعدها وارتفاعها هدوء يوحي بالسكينة ويجعلك قريباً من الأشياء ويحدث بينك وبينها ألفة ومودة، ووجدت أن الشاعر الأندلسي إبراهيم الحجاري حين وضعها بأنها بلد تعمم السحاب وتوشح بالأنهار العذاب لم يكن مبالغاً في شيء، وأن قول ابن بطوطة عنها بعد زيارته إياها بأنها من أمنع معاقل المسلمين وأجملها وصفاً، قول صائب ودقيق.
واستطعت من خلال معرفتي بكلمات قليلة من الإسبانية، ومعرفة من سألت من الإسبان بكلمات قليلة من الإنجليزية، ومن خلال الكتابين اللذين كانا رفيقي رحلتي حيث تجولت في إسبانيا عامة والأندلس خاصة أن أكون فكرة كاملة عن المدينة وأن أزور ما بقي فيها من آثار المسلمين.
مررت بأطلال العقبة الأندلسية التي تقع في طرف المدينة، وبكنيسة رندة الكبرى التي احتلت مكان جامعها القديم، والقنطرة العربية التي يمر من تحتها نهر رندة وهي لا تزال بحالة جيدة جداً، وبأطلال دارسة لحمامات عربية قديمة، وبمنارة صغيرة على الطراز المغربي تقع بين بيتين ريفيين متواضعين يبدو أنها كانت منارة مسجد صغير ذهب فيما ذهب وبقيت هي تبحث عنه، وبقصر الأمير أبي مالك وهو أثر CASA Del Giganteأندلسي مغربي جميل ما يزال في حالة جيدة وهو يعرف باسم ((منزل Mondragonخيجانتي )) وهو اسم الأسرة التي تملكه، وبمنزل آخر فخم قوي يسمى ((منزل يقع في طرفCasa Del Rey Moroمندراجون)) ويسمى أيضاً ((منزل الملك العربي
المدينة ووراءه سلم حجري سحيق وطويل يتكون من 365 درجة وينتهي من أسفله بنهر صغير، وبمنزل آخر يسمى ((منزل سالبتيرا)) وهو قريب من المنزل السابق وعلى مقربة من النهر، وأخيراً بباب المقابر
على طرف المدينة الجنوبي الشرقي، حيث كان السابقون من((Puerta de Almocobar))
أهل رندة يقيمون بانتظار اللاحقين، ليتجاوروا معاً حتى النشور.
* * *
بعد هذا التجوال غادرت رندة سالكاً الطريق الذي قطعته في الليلة السابقة، كان الجو بديعاً والشمس ساطعة وكنت نشيطاً مسروراً، لكن المفاجأة أني وجدت الطريق أخطر مما كنت أتوقع، لقد سقط النور عليه فكشف مخاطره، طريق ضيق وعر ملتو يطل على مهاوٍ ووديان سحيقة جداً ولا توجد –حيث تدعو الحاجة- حواجز تفصل بين طرف الطريق وحافة الوادي التي تسقط كأنها جدار عمودي، إنني أقطعه الآن في النهار وفي النشاط معاً ومع ذلك فأنا حذر خائف، إذن كيف كان الحال ليلاً؟ على كل حال إنه ستر الله تعالى وعونه.
ولما وصلت الطريق الساحلي العريض المزدوج العاج بالحياة حمدت الله عز وجل ومضيت وأنا أدعو لأبي البقاء ولمحمد أسد، وأضحك على نفسي لقيامي برحلة متعبة غير مدروسة، ثم أضحك سعيداً وأنا أقول لرندة ((لعينيك يا رندة)) ولما كان حديث العيون حديثاً محبباً إلى النفس رأيتني أقفز إلى أبي الطيب المتنبي شاعر العربية الأكبر وأنا أقول لرندة ولغيرها
وللحب ما لم يبق منه وما بقي
ولكن من يبصر عيونك يعشق
لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي
وما كنت ممن يدخل العشق قلبه
صخور وعزائم
حين كنت طالباً في الجامعة قرأت فيما قرأت عن الأندلس أن المسلمين فتحوها فتحاً ميسراً وبسطوا رواق الإسلام عليها في وقت قصير، تساعدهم همة إيمانية عالية من جانبهم، وضعف وعجز وتفرق من جانب خصومهم. وقرأت يومها أن فئة قليلة جداً من الإسبان استعصت على المسلمين وأنها فرَّت في أقاصي الشمال الإسباني إلى بقعة جبلية نائية وعرة، الأمر الذي حدا بالمسلمين أن يهملوها احتقاراً لها وازدراء، لكن هذه الفئة ثبتت وقويت على مر الأيام وكانت نواة الدولة الإسبانية المسيحية التي أخذت تقوى مع الزمن ويشتد عودها حتى استطاعت أن تسترد إسبانيا من المسلمين قطعة قطعة، وكان آخر هذه القطع غرناطة التي أسلمها أبو عبد الله الصغير للملكين الإسبانيين فرديناند وإيزابيلا في يوم كئيب حزين هو الثامن من شهر ربيع الأول عام 798هـ - الثاني من شهر يناير عام 1492م.
وظلت هذه المعلومة موضع دهشة واستغراب في خلدي حتى نامت دهراً طويلاً، ثم استيقظت لما اتصلت أسبابي بإسبانيا ورحلت إليها مرات فعدت إلى هذه المعلومة أو عادت إلي وتمنيت لو أستطيع زيارة مسرح تلك الحادثة التاريخية الغريبة، وشاء الله عز وجل أن ييسر لي أمر الوصول إلى هذا المسرح برفقة الأسرة أصيل يوم الاثنين 4/11/1402 – 23/8/1982، بعد أن قطعت إليها الطريق من مدريد باتجاه الشمال حتى وصلت البحر ومن هناك قصدت مدينة أوﭬـييدو وهي مدينة كبيرة خضراء جداً، ومنها قصدت مدينة الريونداس وهي جميلة صغيرة أنيقة أقرب إلى القرية منها إلى المدينة، ومنها قصدت مدينة صغيرة جميلة أخرى ذات عبق تاريخي هي كانجاس دي أونيس، حتى إذا اجتزتها وجدت وهي منطقة جبليةCovadongaنفسي في مسرح الحادثة التاريخية الغريبة التي تسمى كوﭬـادنجا
صخرية وعرة جداً، ما يكاد المرء يراها بواديها الضيق وجبالها الشاهقة حتى يقدر أنها أفضل مكان للحروب الفردية أو حروب العصابات، وبالتالي أفضل مكان للحادثة التاريخية الغريبة.
ولما رأيت كوﭬـادنجا بدا لي أنها ليست قرية فضلاً عن أن تكون مدينة، وأنها مجرد بقعة سياحية لهواة الترحال والتاريخ لا هواة الاستجمام والراحة، وفيها عدد قليل من البيوت وعشرات من رجال الشرطة وعدد أقل من الرهبان وأبنية قليلة متناثرة، وبضع مقاه يستريح فيها الزوار، وفيها – وهذا هو وفي هذه الصخرة توجد المغارةAusebaالمهم – الصخرة الهائلة الوعرة الأثرية التي تسمى أوسيبا
وبين الاثنين واد سحيقGinesالتاريخية التي سنصعد إليها بعد قليل، ويقابل هذه الصخرة جبل خنيس
يقال إنه الوادي الذي قدم منه المسلمون يلاحقون الفئة النصرانية المتمردة التي لجأت إلى الغار حيث حاصرها المسلمون ثم تركوها.
كان زعيم هذه الفئة واحداً من أشراف النصارى وشجعانهم واسمه ﭘـلايو أو ﭘـلاجيوس، وتسمية الرواية الإسلامية بلاي، وكان باسلاً شجاعاً رفض أن يستسلم للفاتحين وظل يتراجع أمام مطارتهم حتى لجأ إلى المغارة هو ومن بقي معه فوجدها ملجأ أميناً وملاذاً، وكان عدد أنصاره بضع مئات، وقد رابط المسلمون في الوادي السحيق قبالة المغارة والصخرة وحاصروا ﭘـلايو ومن معه من الإسبان الذين أخذوا يتساقطون بفعل الجوع والبرد والمرض حتى لم يبق منهم إلا أربعون شخصاً على ما تقوله الرواية الإسلامية، ثلاثون رجلاً وعشر نساء. وأخيراً ترك المسلمون هؤلاء المحاصرين وشأنهم لشعورهم بزهوة الانتصار وبأنهم وصلوا آخر الدنيا في شبه الجزيرة الإيبرية، ولمللهم من الحصار، ولاحتقارهم للفئة المحاصرة التي توهموا أنها لن تشكل أي خطر قادم، وليتهم لم يفعلوا.
ويبدو أن هذه الحكاية التاريخية التي جرت عند صخرة بلاي كما يسميها العرب وصخرة أوسيبا كما يسميها الإسبان قد جرت فصولها عام 98 هـ - 718 م كما يفهم من المصادر العربية أو في عام 133 هـ - 750 م أو 751 م كما يفهم من المصادر الإسبانية.
على كل حال صدق على تلك الحكاية القول العربي البليغ ((ومعظم النار من مستصغر الشرر)) ذلك أن هذا ((الجيب)) الصغير المهمل ظل ينمو حتى طرد المسلمين بعد ثمانية قرون من إسبانيا كلها، وما أصدق ما قاله في هذا المجال المؤرخ الشهير الأستاذ محمد عبد الله عنان ((وعلى أي حال فإن موقعة كوﭬـادنجا، مهما كان القول في شأنها، قد أسفرت عن أعظم النتائج. ذلك أن هذه الشراذم القليلة من النصارى استطاعت في ظروف أعوام قلائل، أن تغدو قوة يحسب لها حسابها، واستطاع ﭘـلايو بعد أن أمن مطاردة المسلمين، أن ينظم إمارته الصغيرة، التي استحالت غير بعيد إلى مملكة إسبانية نصرانية، لبثت تنمو وتقوى تباعاً، واستطاعت بعد صراع طويل الأمد، أن تقضي على الدولة الإسلامية في الأندلس)).
وقد احتلت حكاية كوﭬـادنجا مكانة مهمة في التاريخ الإسباني حيث اعتبرها الإسبان بداية لما يسمونه حركة إعادة الفتح ((الريكونكيستا)) أي استرداد الأرض الإسبانية من العرب. وثمة أسطورة دينية جعلت للمغارة قداسة خاصة تنامت مع الزمن مؤداها أن قائد الحامية المسلمة وتسمية المراجع الإسبانية ((ألكاما)) ولعله تحريف لـ ((علقمة)) حاول اقتحامها فتصدى له بلاي وهزمه بمعجزة دينية.
ومات بلاي بعد أن أسس إمارة صغيرة تحولت مع الزمن إلى مملكة في عهد أميرها ألفونسو الأول الذي استطاع أن يستولي على ليون ويتخذ لقب الملك ويتسع بحدود مملكته ومساحتها.
وصلت المغارة بواسطة سلم طويل صاعد يبدأ من الوادي السحيق وينتهي بها، وإلى يساره شلال ماء صغير له صوت جميل، حتى إذا دخلت المغارة وجدتها طويلة عريضة واسعة، ولكن خيل إلي أن يد الإنسان تدخلت فيها، ذلك أن فيها من الاستواء ما لا يكون في أمثالها من المغارات المتروكة كما خلقها الله عز وجل.
Capilla de la virgen في مدخل المغارة كنيسة صغيرة تسمى ((مصلى عذراء كوﭬـادنجا
وفيه هيكل صغير يقام فيه القداس كل يوم أحد حيث يمتلئ المكان بالمؤمنين ((De covadonga
الإسبان، وفي أحد جانبي المغارة ثقب كبير وضع فيه تابوت من الرخام يزعمون أن فيه رفات ﭘـلايو، وعليه نقش يشير إلى أنه توفي في عام 737م. وفي حكاية كوﭬـادنجا تختلط الأساطير وهي الأكثر، بالحقائق التاريخية، وهي الأقل، ويلعب الخيال العامي الشعبي دوره في الزيادة والمبالغة، ويزيد المتدينون السذج منهم والدهاة في الأمر ويكثرون. لذلك صارت كوﭬـادنجا بمرور الزمن وتنامي الأساطير مزاراً دينياً يرمز إلى انتصار المسيحية على الإسلام، وذكرى قومية ترمز إلى غلبة الإسبان على العرب. لذلك ترى هناك من يقول لك إن العرب المسلمين هاجموا النصارى من هنا وكادوا يقضون عليهم لولا أن العذراء ظهرت ورمت عليهم الصخور فقتلتهم، وأن عدد قتلى العرب المسلمين كانوا بالآلاف، وترى هناك أيضاً من يقول لك إن لهذا المكان أسراراً خاصة في شفاء المرضى وقضاء الحوائج، لذلك يحج إليه المتدينون من إسبانيا وغيرها ومنهم من يمشي على رجليه ومنهم من يزحف زحفاً ومنهم من يصل إلى هيكل الكنيسة الصغيرة ملوثاً بالتراب والطين إمعاناً في إظهار الذلة والمسكنة والتوسل إلى العذراء لتقضي له حوائجه.
وفي موعد من العام يستعيد المكان صورة الموقعة كما يتخيلها الناس هناك، حيث يقام حفل يأتي فيه أناس بالملابس العربية على أنهم الفاتحون المسلمون، وآخرون بالملابس الإسبانية في عهد الموقعة على أنهم فئة ﭘـلايو التي يطاردها المسلمون، ويقع بين الفريقين الاشتباك الذي ينتهي بهزيمة المسلمين وارتدادهم على أعقابهم وبظفر النصارى الذين يحققون الفوز بمباركة العذراء ومساعدتها، وينتهي الحفل بالأناشيد التي تعبر عن النصر والتي يتداخل فيها الشعوران الديني المسيحي والقومي الإسباني في تناغم وتلاحم.
أياً كان الأمر فإن كوﭬـادنجا تستحق عناء الرحلة، فهي منطقة جميلة، وأجمل منها المدن والقرى والجبال والوديان التي تقطعها في طريقك إليها وجمالها جمال بديع فيه تجدد وتنوع وغرابة. ثم إنها مسرح موقعة تاريخية مهمة جداً وإذا كانت هذه المعركة صغيرة من حيث عدد المقاتلين فإن نتائجها البعيدة كانت جليلة جداً. ثم إن فيها عبرة بالغة جداً لخطورة الاستهانة بما ينمو ويستفحل.
على أن أكثر ما شدني في الأمر هو العزيمة الجبارة الهائلة التي أوصلت الفاتح العربي المسلم إلى تلك المناطق الوعرة الباردة النائية الشاهقة الملأى بالغابات والأدغال بوسائل بدائية متواضعة ومنحته القدرة على أن يبسط رواق الإسلام عليها ثم يتطلع إلى ما وراءها فيزحف إلى فرنسا ليبقى بينه وبين باريس مائة كيلو متر فقط ويكاد يحقق الظفر لولا غلبة المطامع التي حولت الظفر إلى هزيمة في المعركة الشهيرة التي عرفت باسم ((بلاط الشهداء)) كما تسميها الرواية الإسلامية و ((بواتيه)) كما تسميها الرواية المسيحية والتي كان يقودها شارل مارتل من الفرنجة وعبد الرحمن الغافقي من المسلمين والتي سقط فيها الغافقي شهيداً وهو يقود جنده ممتطياً صهوة جواده ليموت ميتة تليق بأمثاله من الفرسان. هذه العزيمة الجبارة تذكر المرء بما يروى عن الفاتح العظيم موسى بن نصير، من أنه عزم على فتح القسطنطينية من الشمال بعد أن استحال على المسلمين فتحها من الجنوب، فأراد أن يلتف من إسبانيا إلى فرنسا ثم إيطاليا ثم يخر على المدينة المنيعة من الشمال كما يخر الصقر من عليائه فيبسط عليها رواق الإسلام كما بسطه على تلك الديار الواسعة التي قطعها في طريقه إليها.
ويحسن هنا أن نذكر أن ثمة أسطورة تقول إن المسلمين عقب معركة بلاط الشهداء وجدوا صخرة عليها نقش يقول: ارجعوا يا أبناء إسماعيل فهنا آخر مدى لكم، فعرفوا أنهم بلغوا غاية ما يستطيعون ولم يحاولوا بعد ذلك التقدم في تلك الجهات استجابة للأسطورة المزعومة.
وإذا كنا قد أشدنا بالعزيمة الجبارة التي امتلكها الفاتح العربي المسلم فإن الإنصاف يقتضينا أن نشيد أيضاً بالعزيمة الجبارة التي امتلكها المقاتل الإسباني المسيحي الذي ثبت وقاوم وصابر والذي توالت منه أجيال بعد أجيال فيها الولاء للمسيحية والعزم على طرد العرب والمسلمين من إسبانيا، وأول من يشار إليه بالبنان في هذه الأجيال ﭘـلايو والفئة التي كانت معه، إنها فئة تبعث على الاحترام وتنتزع الإعجاب فقد مثلت الصمود والبطولة والعناء واحتمال المطاردة والتشبث بالأمل رغم كل دواعي اليأس المحدقة بها من كل مكان، فكانت نموذجاً رائعاً للدين والوطنية أورث الأبناء جيلاً بعد جيل عزيمة الآباء وأملهم حتى استطاعوا أن يصلوا إلى هدفهم في ((تحرير)) إسبانيا كلها من المسلمين بعد ثمانية قرون وإعادتها إلى هويتها ((الدينية)) و((القومية)) التي منحوها ولاءهم وثباتهم وشجاعتهم وإصرارهم.
وإننا إذ نشيد بما صنعه الإسبان ها هنا وما امتلكوه من عزيمة علينا أن نستوعب الدرس ونربي الأبناء والأحفاد على ضرورة الإصرار على تحقيق أمان لم نستطع نحن تحقيقها في جيلنا لظروف متنوعة، من تحرير أرض مغتصبة أخذها منا عدونا في فترة علو استثنائي شاذ من قبله، وضعف عارض لا يدوم من قبلنا ، وهو أرضنا العزيزة في فلسطين عامة والقدس الشريف خاصة.
على كل حال، عدت من كوﭬـادنجا مسروراً بزيارتها فقد حققت لي حلماً عزيزاً، وعدت معجباً بعزائم الرجال مسلمين وغير مسلمين فأصحابها – بقدر الله – هم رواد التاريخ وصانعوه ومحركو أحداثه، أما الآخرون فهم فضول وتكملة وعالة.
في طريق العودة وجدتني أردد قول أبي الطيب:
وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتصغر في عين العظيم العظائم
على قدر أهل العزائم تأتي العزائم
وتكبر في عين الصغير صغارها
ووجدت نفسي وأنا المحب لشعر أبي الطيب أردد هذين البيتين المرة بعد المرة لشعوري أنهما لا يصدقان على شيء كما يصدقان على حكاية كوﭬـادنجا، وظللت في نشوة الترديد حتى أفقت على صورة ﭘـلايو أمام ناظري، وعلى صوته في أذني، وهو يقول لي بعربية فصيحة لا أدري أين تعلمها: إن في الطبيعة صخوراً عظيمة وعرة لكن عزائم الرجال عندما تصح أعظم وأوعر، فقلت له: صدقت.
غابت صورة ﭘـلايو عن ناظري وغاب صوته عن أذني، ورحت أتأمل في مأساتنا في الأندلس وكيف انطوت صفحتنا هناك بأسلوب فاجع. لقد كان تسامح المسلمين مع المسلمين تسامحاً رائعاً جداً وصل في بعض الأحيان إلى درجة التفريط، حتى إذا انقلبت الآية وانتصر الإسبان على المسلمين عاملوهم أسوأ المعاملة فقد بطشوا وغدروا ونقضوا العهود والمواثيق وانشأوا محاكم التفتيش التي فعلت بالمسلمين الأهوال والتي صارت في تاريخ الحضارة كلها سبة وعاراً يخجل منها منصفو الإسبان قبل غيرهم.
على أن القرن العشرين الذي نحن فيه والذي شارف على النهاية شهد تياراً منصفاً بين المثقفين الإسبان يدعو إلى إنصاف الحضارة الإسلامية الأندلسية والتعامل مع المسلمين بروح سمحة وحب ومودة، وقد قوي هذا التيار بعد صدور قانون حرية الأديان في إسبانيا الذي سمح للمرة الأولى للإسباني أن يعتنق ديناً غير الكاثوليكية، ويدعو هذا التيار إلى تبني ما يسميه ((روح قرطبة)) وأبرز من يمثله هو )) و ((روح قرطبة)) التي يدعو إليها هذا التيار تذكر Amuetico Castro((أمريكو كاسترو
الإسبان بحضارة المسلمين التي كانت قرطبة عاصمتها ومنطلقها والتي كان لها على إسبانيا خاصة وأوربا عامة أعظم الآثار وكأنها تدعوهم إلى الوفاء لها ومقابلة جميلها بجميل مماثل.
يقابل هذا التيار المنصف تيار آخر بين المثقفين الإسبان يدعو إلى تبني ما يسميه ((روح كوﭬـادنجا)) وهو تيار ظالم متعصب لا يزال ينظر إلى الإسلام والمسلمين بنفسية محاكم التفتيش ))Sauenez Albornozوأحقادها ومظالمها وأبرز من يمثله ((سانشس البورنوث
وإذا كان لكل من التيارين أنصاره في الساحة الإسبانية فإن من واجبنا أن نعمل على تقوية الأول منهما مستفيدين بما في الغرب من موضوعية مشكورة في بعض الجوانب، ومن قانون ((التدافع)) الذي يتيح لأصحاب العزائم أن يستفيدوا مما بين القوى المختلفة من ثغرات وتناقضات.
ليتنا – نحن المسلمين – اليوم نأخذ من الفاتح العربي عزيمته وإيمانه، ومن ﭘـلايو صلابته وإصراره، ومن قرطبة روحها الهادية البانية، ومن عصرنا أدواته ووسائله، ونعود إلى إسبانيا من جديد نبلغها رسالة الإسلام بالعلم والحوار، والندوة والمؤتمر، والمحاضرة والزيارة، والقدوة الحسنة، والحكمة والموعظة الحسنة، عندها سنجد من الإسبان الذين بدأ يفشو فيهم الإسلام على ندرة من يؤمن بهذا الدين العظيم ويشكر لنا أن هديناه، وربما وجدنا من أحفاد ﭘـلايو نفسه ومن أهالي كوﭬـادنجا نفسها من يسلم ويشكرنا كذلك.
عندها سنقول لـﭘـلايو ومن معه: لقد عدنا فاتحين من جديد ولكن بدون قتال، ونحن جميعاً سواسية، ربنا الله، وديننا الإسلام.
رعب في قلب مدريد
زرت إسبانيا عدداً من المرات، وتجولت فيها كثيراً، ووقفت متأملاً على عدد من آثار المسلمين وغير المسلمين فيها، حتى صارت لي معرفة طيبة بها، تعينني على أن أحسن التصرف فيها إذا كنت وحيداً، خاصة في غرناطة التي لبثت فيها مدة أطول بسبب حمرائها الباهرة، ومدريد التي طال مكثي فيها لأنها العاصمة، منها نبدأ، ومنها نعود.
ومع أني شرّقت وغرّبت، ووصلت أقصى الشمال ووقفت في أقصى الجنوب، ومررت بالعامر والمقفر، والقريب والنائي، فإنني – بفضل الله عز وجل – لم أتعرض إلا لمشكلة واحدة، وقعت لي في قلب مدريد، وأمام الناس المزدحمين، وذلك في عام 1416هـ، 1996م.
في هذه الزيارة كنت حريصاً على أن أمشي كثيراً، ذلك لأنني وقفت كثيراً على الآثار والمتاحف والحدائق في زياراتي السابقة، لذلك أعطيت المشي وقتي الأطول وجهدي الأكبر في هذه الزيارة، وكنت أمشي ليلاً ونهاراً، منفرداً أو مع صديق، فإذا تعبت أعطيت أول سائق لسيارة أجرة أراه ورقة فيها عنوان البيت وهو بيت الدكتور بهيج الذي كنت ضيفاً عليه، فيذهب بي إليه، فإذا استرحت عدت للمشي من جديد.
وقد أوصاني الدكتور بهيج وغيره من الأصدقاء بعدة وصايا، علي أن آخذ بها، بسبب مشيي وحيداً، وجهلي باللغة الإسبانية، وهي أن أمشي في الطرق المأهولة وأتجنب الطرق الخالية، وأن أمشي في النهار وفي أوائل الليل فقط، وأن يكون معي قدر من المال لا هو كثير ولا هو قليل، وذلك حتى إذا تعرضت لتهديد من مدمن أو لص، أدفع له المال دون جدل، فلا آسف لأن المال المدفوع كثير، ولا يغضب المدمن أو اللص لأن المال قليل، وقد يكون مستعداً لإيذائي إذا قاومته، ومستعداً أيضاً إذا كانت غنيمته قليلة.
ومضت الأمور على ما يرام بفضل الله، وصرت أزيد من مسافة المشي بالتدريج، وفرحت فقد وجدت الوزن ينقص، والنشاط يزداد، وظللت كذلك حتى وقعت لي القصة الطريفة التالية:
كنت أمشي وفي نفسي كل الوصايا السابقة، وكان الليل في أوله، وكان المشي في قلب مدريد، في شارع ((جران بيا)) والزحام على أشده، ولم يكن هناك ما ينذر بالسوء حتى رأيت على الطرف المقابل من الشارع امرأة تنظر إلي بإمعان فتخوفت.
كان الشارع يفصل بيننا، وكنا ننتظر أن تخضرّ الإشارة لنا نحن المشاة حتى يذهب كل منا في سبيله، ولما أطالت النظر إلي انسللت بهدوء من المكان الذي نقف فيه متواجهين حتى أغيب عنها، لكنها لم تلبث أن تحركت فوجدتها تقف إزائي تماماً في موقفي الجديد، وتنظر إلي بإمعان شديد، كانت تلبس بدلة رياضية بيضاء ولكنها ملطخة بالوحل، إذ يبدو أنها وقعت في أرض موحلة بسبب جرعة زائدة من الخمر أو المخدرات، بدليل أنها كانت تترنح وهي تنظر إلي شزراً وغيظاً وكأنها تتوعدني.
وحينما اخضرّت الإشارة مشيت بسرعة حتى أتلافاها، ولكنها أسرعت فأمسكت بي من عنقي، وأخذت تنادي البوليس. عندها أدركني رعب شديد وحياء أشد، وتخيلت نفسي وقد رآني بعض معارفي في مدريد فظنوا بي الظنون، أو أن البوليس جاء إلينا واصطحبنا إلى المخفر، وأخذ يسمع لها وهي تقول ما تشاء، وأنا لا أفهم ما تقول، ولا أستطيع إقناع المحقق ببراءتي لجهلي باللغة الإسبانية.
وأسعفتني البديهة الفورية التي تغني الإنسان في بعض الأحوال، بحل عاجل لم يكن في حسبانه، فإذا بي أدفعها فتقع على الأرض، وإذا بي أعدو في الاتجاه المضاد والرعب والحياء يعدوان معي ويعدوان بي. كنت قد نسيت العدو لكنّ الموقف أمدني بطاقة مدّخرة عوناً لي، فإذا بي أركض وكأنني أرنب مذعور، وما زلت كذلك حتى وصلت ناصية الشارع حيث تقف مجموعة من سيارات الأجرة، فركبت في أولها، واقفلت الباب، وأعطيت العنوان للسائق الذي أوصلني إلى بيت الدكتور بهيج.
وحين وصلت البيت أحسست بالأمان، وشكرت الله عز وجل شكراً عميقاً أن أنجاني من هذا المأزق المخجل، وهدأت، وصليت، وقرأت، وحين استأنفت المشي في اليوم التالي، كنت أكثر حذراً وانتباهاً، ثم إني رويت القصة بتفاصيلها لذويّ وأصدقائي، وما تزال هذه الواقعة ماثلة في ذهني تماماً، وما زالت صورة بطلتها في ذهني تماماً، وما زلت حتى الآن أتساءل لماذا فعلت بي هذه الحمقاء مل فعلت؟أأ اا
أندلسيات حسناوات جداً
((الأندلس)) في الاصطلاح الإداري الإسباني، هي مجموعة المحافظات الجنوبية والجنوبية الشرقية في إسبانيا، أما في الاصطلاح الإسلامي فإنها تطلق على كل ما وصل إليه سلطان المسلمين من شبه جزيرة إيبريا.
وللأندلس وقع عميق في وجدان كل عربي ومسلم، يثير فيه مشاعر متنوعة، وعبراً كثيرة، مردها إلى الإيحاء الموسيقي الجميل لهذا الاسم، ولما اقترن به من تاريخ حافل بالعجائب والغرائب والمتناقضات، عبر ثمانية قرون، وقرن آخر عاشته بقايا المسلمين بعد سقوط غرناطة، بين خضوع واستسلام، وثورة وتمرد، حتى تم طردها خارج إسبانيا في مأساة مروعة.
لقد سكنت الأندلس في الوجدان العربي والمسلم كما لم تسكنه منطقة أخرى في العالم باستثناء الحرمين الشريفين والمسجد الأقصى، ذلك أن هذه البلاد النائية ارتبطت في هذا الوجدان بالفتح الإسلامي في عنفوانه، وبالحضارة الهادية البانية في ازدهارها، وبالفداء والبطولة والتضحية من رجال كرام ونسوة حرائر، وبالخيانة والترف والعجز والأثرة من قاعدين وقواعد، ثم بالسقوط الذي لا مثيل له في تاريخ الدول والحضارات، حيث تهاوت دولة المسلمين بعد قرون طويلة ملأى بالأمجاد والمخازي، والتهم الإسبان هذه الدولة التي كانت صفحة مشرقة في تاريخ الحضارة عامة، وفي الحضارة الأوربية خاصة، قطعة قطعة، كان آخرها غرناطة التي سلّمها آخر ملوك بني الأحمر أبو عبد الله الصغير للمنتصرين الإسبانيين فرديناند وإيزابيلا في يوم حزين بارد هو الثاني من يناير (1492م – 897هـ). ثم خرج من حمرائها الجميلة المشرفة على المدينة المستسلمة، حتى إذا بلغ تلة صغيرة لا تزال تعرف حتى اليوم باسم ((حسرة العربي)) التفت وراءه ونظر إلى غرناطة المكلومة وحمرائها المحزونة، فبكى، فقالت له أمه الحرة العربية ((عائشة)): إبك مثل النساء ملكاً لم تحافظ عليه مثل الرجال، وقد وقفت على هذا المكان متذكراً معتبراً، وكتبت قصيدة سميتها باسمه ((حسرة العربي)). والنهاية الحزينة التي انتهت إليها دولة المسلمين في الأندلس زادت من تعلق العرب والمسلمين بها، ذلك أن الملكين الكاثوليكيين المنتصرين فرديناند وإيزابيلا نقضا كل العهود التي أبرماها مع أبي عبد الله الصغير، وفعلا بالمسلمين الأهوال، وتبعهما على الخط نفسه أغلب الملوك والأمراء والأحبار الإسبان، ولاحقوا المسلمين أشد الملاحقة في وأزيائهم وعاداتهم وأفراحهم وأحزانهم وأملاكهم، حتى اضطر المسلمون إلى الثورة أكثر من مرة، فحاربتهم الدولة حرباً ضارية، وأنشأت ديوان التحقيق الذي عرف باسم ((محاكم التفتيش)) ليتعقبهم ويعاقبهم، وهو من الوحشية والهمجية والقسوة بحيث يعد وصمة عار في تاريخ البشرية كلها، وقد أدى الديوان مهمته الذميمة على أشنع وجه، ولم ينج من فظاعته حتى المسلمون الذين تنصروا حقيقة أو خوفاً. ثم أجمع أهل القرار في إسبانيا على طرد البقية الباقية من هؤلاء المساكين، فرحلوا إلى أماكن مختلفة من العالم الإسلامي، واتجه أكثرهم إلى المغرب، ولا يزال بعضهم يتوارث مفاتيح بيوت أجدادهم التي تركوها عند ترحيلهم، بل إن بعض هؤلاء المهاجرين، شيدوا مدنهم وبيوتهم على طراز ما عاشوا عليه في الأندلس، تجد ذلك مثلاً في تطوان وفي شفشاون في المغرب، وفي سيدي بو سعيد في تونس. ***
في قصيدة شوقي الشهيرة السينية، التي يعارض فيها سينية البحتري الأشهر منها، بيت عجيب، بيت قصيدة، بل بقصائد، يصور فيه كيف خرج المسلمون من إسبانيا مطرودين تحملهم السفن، وهم في أسر الذل والضعف والهوان، على النقيض من أجدادهم الذين جاؤوا إلى إسبانيا فاتحين يركبون السفن وهم في جلال العز والفخر والغلبة. الأجداد الفاتحون كانوا كأنهم الملوك على العروش، والأحفاد المطرودون كانوا كأنهم الموتى في النعوش:
تحت آبائهم هي العرش أمس
ركبوا بالبحار نعشاً وكانت
لله در الشاعر العبقري شوقي، الذي استطاع في بيت واحد أن يصور القرون الثمانية بل التسعة، التي امتدت فيها حياة المسلمين في إسبانيا بما لها وما عليها.
وهناك بيت آخر لشوقي في السينية نفسها، لا يصل إلى قامة البيت السابق، لكنه يقاربها. وهو أعجوبة من أعاجيب شوقي، وما أكثر أعاجيبه، إنه في هذا البيت يصور كيف كانت قرطبة قبل المسلمين قرية منسية، وكيف صارت بحضارتهم المشرّفة المجيدة، بلدة تمسك أطراف الأرض حتى لا تميد، إنه قوله عنها:
تمسك الأرض أن تميد وترسي
قرية لا تعد في الأرض كانت
وليته اختار كلمة ((صارت)) بدلاً من كلمة ((كانت)) ففي ذلك ما يجعل المعنى أغنى والإيحاء أوسع.
***
خرجت الأندلس من أيدي المسلمين بعد ثمانية قرون هي المدى بين انتصار طارق بن زياد وموسى بن نصير وبين سقوط غرناطة، يضاف إليه قرن أو أكثر هو المدى بين سقوط غرناطة والطرد النهائي، وشهد التاريخ أن المسلمين أيام غلبتهم كانوا بناة حضارة، وأهل علم، ورادة ثقافة، وأنهم كانوا أهل عدل وشرف وحفاظ على العهود وتسامح مع المخالفين، وأن وجودهم في الأندلس نقلها نقلة رائعة إلى الأمام في كل الميادين، هكذا كانوا أيام غلبتهم، أما أيام ظفر عدوهم بهم فقد كانت الصورة مضادة تماماً، لقد غدر عدوهم بهم ونقض العهد وصار الدين واللغة والأرض والعرض والزي والعادة، فكان التناقض بين الصورتين تناقضاً حاداً، مثل المسلمون فيه أخلاق الفرسان، ومثل غالبوهم فيه أخلاق القراصنة.
وأياً كان فقد زادت النهاية المأساوية للإسلام وحضارته في الأندلس من حب العرب والمسلمين لها، وامضِ حيث شئت فسوف تجد أسماء مدنها الشهيرة وعلمائها وشعرائها وأبطالها في كل مكان، تطلق على المدارس والمقاهي والمطاعم والشوارع والفنادق والمحلات والمكتبات، وسوف تجد الموشحات الأندلسية الجميلة تشنف الآذان في كل مكان، وبخاصة موشحها الشهير الذي أبدعه واحد من أذكى أبنائها هو لسان الدين بن الخطيب، والذي نظمت على غراره موشحات كثيرة تصلح أن تكون موضوعاً طريفاً لرسالة ماجستير أو دكتوراه، وهو الذي يقول مطلعه:
جادك الغيث إذا الغيث همى
يا زمان الوصل بالأندلس
وأشهر من عارض هذا الموشح في عصرنا الحديث هو شوقي في موشحه الجميل الذي سماه ((صقر قريش)) ومطلعه:
برّح الشوق به في الغلس
أين شرق الأرض من أندلس
مَنْ لِنِضْوٍ يتنزَّى ألما
حنّ للبان وناجى العلما
وإذن لا غرابة أن تظل الأندلس ساكنة في الوجدان العربي والمسلم، مرتبطة بنوازع متآلفة ومتخالفة من الفخر والاعتزاز، والحسرة والأسى، والإشادة واللوم، والجمال والترف، والبطولة والعجز، والإفراط والتفريط، والتضحية والخيانة، وما شئت من أمثال ذلك.
* * *
وأنا أحد العرب المسلمين الذين سكنت فيهم الأندلس منذ قرأت عنها أيام دراستي الجامعية وقبلها وبعدها، سكنت فيّ إلى درجة العشق، ثم ازداد هذا العشق حين شاءعز وجل أن أزور إسبانيا مرات كثيرة أولاها عام 1399هـ - 1979م وآخرها عام 1416 هـ - 1996م، وفيّ كل دواعي العشق والشوق، ومعي عناوين وخرائط ورفقة تدلني وتشرح لي، ومعي كتابان يلازماني دائماً هما ((رحلة الأندلس)) لحسين مؤنس و((الآثار الأندلسية الباقية في إسبانيا والبرتغال)) لمحمد عبد الله عنان، أقرأ فيهما عن المواقع التي أزورها قبل الزيارة وأثناءها، وأتجول وأتامل وأتذكر وأتمنى وأنشد، في السهل والوعر، والشجر والطلل، والقصور والمتاحف، والحدائق والجبال، وبقايا القلاع والأسوار، والمآذن التي لا تزال باقية، والأزقة القديمة في الأحياء القديمة من غرناطة وقرطبة وإشبيلية وطليطلة، وهي أزقة تذكرك بأمثالها في دمشق والقاهرة وفاس وتطوان وتونس وإستانبول يتم تجديدها وتجديد بيوتها التي تقع فيها وفق ما كانت عليه، لأهداف تتعلق بحفظ التراث وكسب السياح.
وكنت أيضاً أبحث عن مواقع المعارك وأقرأ عنها حيث دارت وأتخيل وأتصور، وذهبت مرة إلى قرية (لوشا) وهي من أعمال غرناطة لا لشيء إلا لأنها أنجبت لسان الدين بن الخطيب، وأنا أعيد المرة بعد المرة موشحه الشهير ((جادك الغيث)) وأتذكر ذكاءه وألمعيته، وأمجاده، ونهايته المروعة، وأتخيل أنه مشى في المكان وذاك من بلدته أيام طفولته وصباه.
ولطول صحبتي لأبي البقاء الرندي، ومعايشتي لقصيدته الشهيرة التي رثى فيها الأندلس، رثاء حزيناً، والتي مطلعها:
لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسان
خيّل إلي أني تلقيت دعوة منه لزيارة مدينته ((رندة)) فذهبت إليها في رحلة شاقة متعبة، لكنها طريفة وشائقة، وقد كتبت عنها مقالاً ضافياً اسمه ((لعينيك يارندة)).
وذهبت أيضاً إلى أقصى الشمال الإسباني، مسوقاً بداعي العبرة التاريخية، باحثاً عن المغارة التي لجأ إليها نفر من الإسبان الشجعان في بداية الفتح الإسلامي لأنهم أبوا الخضوع له، فأهملهم المسلمون، فكانوا النواة الأولى للمقاومة التي انطلقت منها جموع الإسبان في كر وفر طويلين حتى استطاعت أن تظفر بالمسلمين جميعاً، ثم تطرد بقاياهم من إسبانيا نهائياً وقد كتبت عن المغارة وقصتها، مقالاً ضافياً اسمه ((صخور وعزائم)).
وذهبت مرة أبحث عن القرية التي كان يعيش فيها أمير الشعراء أحمد شوقي أيام منفاه، ووصلت إليها وتجولت فيها، وهي قرية جبلية وادعة جميلة، قريبة من برشلونة اسمها ﭬلـﭬديرا، كنت قد قرأت عنها في كتاب الدكتور شوقي ضيف الشهير ((شوقي شاعر العصر الحديث)).
أما الأمير العظيم الصبور، الجسور، المرزأ من ناحية والمظفر من أخرى، عبد الرحمن بن معاوية، الذي عرف في التاريخ باسم ((عبد الرحمن الداخل)) والذي لقبه خصمه العظيم أيضاً، الخليفة أبو جعفر ))ALMUNECARالمنصور ((صقر قريش)) فقد وصلت إلى قرية ((المنكّب)) التي تحمل اسم ((
والتي تقع على الساحل الجنوبي لإسبانيا مقابل المغرب، وتذكرت كيف وصلها بعد رحلة شاقة ملأى بالمخاطر عام 138هـ، ليبدأ منها ملحمة سيطرته على إسبانيا، فأعاد لبني أمية شيئاً من مجدهم في الغرب بعد خسارتهم إياه في الشرق، ورأيت كيف نصب له الإسبان تمثالاً ضخماً ونقشوا عليه أبياته مترجمة إلى اللغة الإسبانية، وتذكرت قوله:
أَقْرِ من بعضيَ السلام لبعض
وفؤادي ومالكيه عن جفوني بأرض
وطوى البين عن جفوني غمضي
فعسى باجتماعنا سوف يقضي
أيها الراكب الميمم أرضي
إن جسمي كما تراه بأرض
قدّر البين بيننا فافترقنا
قد قضى الله بالفراق علينا
زكما تذكرت هذا الأمير المغامر الداهية في ((المنكب)) تذكرته في مسجد قرطبة الذي كان أول من بدأ البناء فيه، ثم تتابع أمراء البيت الأموي على توسعته وتحسينه حتى صار من أخلد الآثار الإسلامية في العالم، وأجملها، وأشهرها، وأمتنها، وأقدرها على البقاء.
وتذكرته أيضاً حين مرّ في ((منية الرُصافة)) وهي من ضواحي قرطبة، بنخلة مفردة، فهاجت أحزانه وتذكر بها بلاده الأولى وهي أرض النخل، فقال:
تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل
وطول التنائي عن بنيّ وعن أهلي
فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي
يسحّ ويستمري السماكين بالوبل
تبدت لنا وسط الرصافة نخلة
فقلت شبيهي في التغرب والنوى
نشأت بأرض أنت فيها غريبة
سقتك غوادي المزن في صوبها الذي
وتذكرت أنه مات، فدفن في قرطبة، لكن الفتن التي اشتعلت أضاعت قبره فلم يعرف، لكن خلوده في الضمائر والأسفار والألسنة، أغناه عن قبره الضائع، وشتان بين قبر من تراب وقبر من إعجاب، وقد وفق شوقي غاية التوفيق حين إلتقط هذا المعنى النادر فضمّنه في موشحه ((صقر قريش)) فقال مخاطباً عبد الرحمن الداخل:
فيه واروك ولله المصيرْ
بيد أن الدهر نباش بصيرْ
وكذا عمر الأمانيّ قصيرْ
ما على الصقر إذا لم يرمسِي
فعلى الأفواه أو في الأنفس
قصرك المنيةُ من قرطبة
صدف خُطّ على جوهرةٍ
لم يدع ظلاً لقصر المنيةِ
كنت صقراً قرشياً علما
إن تسلْ أين قبور العظما
يبدو للمرء أن عبد الرحمن الداخل كان مجموعة عظماء في شخص واحد، يشهد لذلك أنه حكم خمسة وثلاثين عاماً، كان فيها راجح العلم، ثاقب الفهم، لا يخلد إلى الراحة، شجاعاً مقداماً مظفراً، عظيم الهمة حتى روى التاريخ عنه أن نفسه حدثته أن يخرج إلى بلاد الشام ليستعيد الحكم الأموي من بني العباس لكن الشواغل صرفته عن ذلك.
وفي موقع معركة ((العقاب)) التي جرت بين الموحّدين والإسبان عام (609هـ - 1212م) وقفت حزيناً أتذكر الهزيمة الفادحة التي مني بها الموحدين، والتي كان ظفر الإسبان فيها قوة دافعة لهم إلى المزيد من مطاردة المسلمين ومحاصرتهم حتى أخرجوهم من إسبانيا كلها، وفي مدينة ((برغش)) في شمال ))يوجد علم الجيش الموحدي المهزوم، معروضاً في أحد BURGOS))إسبانيا، وهي بالإسبانية
المتاحف، وهي إشارة تدل على اعتزاز الإسبان بظفرهم يومذاك.
وقد استشعر ابن الدباغ الإشبيلي الخسارة الفادحة، التي أصابت المسلمين في معركة ((العقاب)) ورأى فيها نذيراً يومئ إلى أن المسلمين سوف يخسرون إسبانيا كلها، فقال:
كأنك قد وقفت على الحساب
غدا سبباً لمعركة العقاب
وقد دخل البلا من كل باب
وقائلة أراك تطيل فكراً
فقلت لها أفكر في عقاب
فما في أرض أندلس مقام
وهذا الإحساس الحاد بالخطر، دفع شاعراً آخر هو ابن العسّال إلى أن يقول هذه الأبيات الحزينة التي تلتقي في تشاؤمها مع أبيات ابن الدباغ:
فما المقام بها إلا من الغلط
ثوب الجزيرة منسولاً من الوسط
كيف الحياة مع الحيّات في سفط
يا أهل أندلس حثوا مطيكم
الثوب ينسل من أطرافه وأرى
ونحن بين عدو لا يفارقنا
هذا، وتروى هذه الأبيات منسوبة إلى المؤرخ الأندلسي ابن حيان مع اختلاف يسير.
* * *
ويبدو لي أني لو توسعت في الحديث عن ذكرياتي في إسبانيا، وتداعياتها وامتداداتها وما كتبته عنها وفيها، وما بقي في ذاكرتي مما قرأته عنها لطال الحديث وطال، وربما تحول إلى كتاب كامل.
ولا غرابة، ففي مسجد قرطبة اعتراني شعور عميق بالحزن، المقترن بالإعجاب والإكبار فوجدت نفسي أتلو، وأبكي، ثم وجدت فمي يصدح بالأذان وأنا قرب المحراب البديع، الذي لا يزال كما المسلمون بالأمس، ثم أتخطى السلسلة التي تحجزه عن الزوار وأصلي ركعتين فيه، وقد دونت ذلك في مقال طريف سميته ((المسجد المحزون)) ويومها غلبني الوجد، فقلت سوف أؤذن في منارة المسجد كما أذنت في محرابه، فصعدت المنارة التي صارت ملأى بالنواقيس، فأذنت لإبهاج المنارة وإغاظة النواقيس.
وفي أطراف قرطبة زرت ضاحية الزهراء التي بناها الصقر القرشي، والتي كانت يومها من أعاجيب البناء والهندسة في الدنيا كلها، وتجولت في أطلالها، وخيّل إلي وأنا بين هذه الأطلال أني أسمع ابن زيدون يقول لولادة:
والأفق طلق ووجه الأرض قد راقا إني ذكرتك بالزهراء مشتاقاً
ولما كان الشجي يبعث الشجي كما يقول الشاعر العربي القديم، فقد وجدت نفسي في الزهراء أسترجع ما بقي في ذاكرتي من قصيدة شوقي الرائعة، التي قالها في دمشق إبان زيارته لها، ومطلعها:
مشت على الرسم أحداث وأزمان قـم ناج جلق وانشد رسم من بانوا
ووجدت ذاكرتي وأحزاني تتوقف بإلحاح، أمام بيته الرائع الحزين فيها، وهو قوله الذي يشير فيه إلى مجد بني أمية في دمشق ذكّره بمجدهم الآخر في الأندلس:
واليوم دمعي على الفيحاء هتان بـالأمس قمت على الزهراء أندبهم
أما اشبيلية فقد استرجعت فيها كل ما قرأته عن فارسها المعتمد بن عباد، وتذكرت أشعاره، وبطره، وترفه، وشجاعته يوم قاتل مع يوسف بن تاشفين في معركة ((الزلاقة)) في بسالة نادرة، ثم أسره ونفيه إلى أغمات في المغرب، وحين وقفت على تهر ((الوادي الكبير)) الذي يخترق اشبيلية، تذكرت كيف أسعفت بديهة فتاة كانت تغسل الملابس في النهر، بنصف بيت من الشعر، انتقلت فيه نقلة عجيبة، صارت به زوجة للمعتمد وملكة اشبيلية، ذلك أن المعتمد كان مع صديقه وشاعره ابن عمار، على الشاطئ، فهبت الريح عكس مجرى النهر، فارتجل المعتمد هذا الشطر: ((صنع الريح من الماء زرد)) وطلب من صديقه أن يأتي بالشطر الثاني فلم يوفق، فقالت الفتاة: ((أي درع لقتال لو جمد)) فنالت بنصف البيت هذا ما نالت، وشاركت المعتمد أمجاده أولاً، ونهايته الحزينة ثانياً، ودفنت معه ومع ابنته في أغمات بالمغرب، ولا تزال قبورهم معروفة يزورها الناسُ من كل مكان، وحين زرتها مررت بغرفة ملحقة بالمدفن، فيها سجل طويل مليء بما يدونه الزوار، وهو كثير جداً، منوع جداً، يدل على حب العرب للتاريخ، وحزنهم على النهاية الحزينة للمعتمد وزوجته الرميكية.
وقد تذكرت – فيما تذكرت – أن ملوك الطوائف حين استشعروا الخطر المحدق بهم، عقب سقوط طليطلة في يد ألفونسو السادس عام 478 هـ - 1085م، اتفقوا على استدعاء البطل المرابطي الشجاع الزاهد يوسف بن تاشفين من المغرب لنجدتهم، ولكنّ أحدهم تخوف من ابن تاشفين لأنه قد يعزلهم بسبب اختلافهم وتفريطهم، ويضم إماراتهم إلى دولته الموحدية، فقال له المعتمد ((لأن أكون راعي جمال خير من أن أكون راعي خنازير)) وهي كلمة بديعة ملأى بالرجولة والإيمان والنبل، وإيثار العام على الخاص، والآجل على العاجل.
وفي اشبيلية التي لم يبق من مسجدها الشهير شيء، إلا المنارة الموحدية التي تسمى في إسبانيا اليوم ((الخيرالدا)) وهي شاهقة جداً وفي حالة ممتازة جداً، تذكرت ما رواه التاريخ أن المؤذن ربما كان يصعد إليها على حصان، فقد جعل المهندس الذي بناها طريق الصعود يعتمد على الميل الخفيف لا على الدرج المعتاد في المآذن، وقد صعدت المنارة، ورأيت من فوقها مدينة اشبيلية باتساعها وجمالها وحدائقها، ووجدت أن عليّ أن أسمع المنارة الأذان فأذنت.
وفي مدينة ((سالم)) الواقعة على الطريق الذي يربط بين مدريد وسرقسطة، وقفت أمام قوس حجري، في منطقة متهدمة مهجورة، يغلب عليها الخراب، يروى أنها كانت المدفن الذي حظي بجسد المنصور بن أبي عامر، وهو من أهم الشخصيات الأندلسية الفاعلة الجبارة، والمثيرة للجدل بين قادح ومادح، وهو كما يقول عنه الدكتور حسين مؤنس: ((ثاني اثنين دانت لهما هذه الجزيرة من أول التاريخ حتى مطلع العصر الحديث أولهما عبد الرحمن الناصر)).
وإذا كان المرء يغلب عليه الجلال والوقار والحزن في مسجد قرطبة، فإنه في حمراء غرناطة يغلب عليه الأنس والفرح والطلاقة، خاصة في حدائقها الرائعة الأنيقة التي تعرف باسم ((جنة العريف))، ومن أطرف ذكرياتي فيها أن الصلاة أدركتني خلال تجوالي فيها، فانتحيت ركناً بعيداً فصليت، ورآني أطفال كانوا في رحلة طلابية مدرسية، فأخذوا ينظرون إلي ويعجبون ويضحكون. وكأنهم يتساءلون: ((ماذا يفعل هذا الكهل العربي الأسمر)) وقد سجلت ذلك في مقال طريف سميته ((صلاة في الحمراء)) وهناك صلاة أخرى لا يزال أثرها فيّ حياً حتى الآن، ذلك أني رأيت مجموعة من الشبان المغاربة، يتجولون في حدائق جنة العريف، بملابسهم المغربية الجميلة المميزة، أدركتهم الصلاة، فأذّن أحدهم، ثم أدوا الصلاة جماعة في مشهد بديع مؤثر، كتبت عنه قصيدة مطولة سميتها ((أشواق أندلسية)) وفي جبال ((البشرات)) تذكرت الثورة التي قام بها المسلمون في شعابها، بعد أن اضطهدهم الإسبان وتنكروا لعهود الصلح ومواثيق التسليم، وفي جبل طارق تذكرت القائد العبقري طارق بن زياد الذي يحمل الجبل اسمه، وتذكرت خطبته الشهيرة التي نحفظها جميعاً، وخيّل إلي أن هذا الجبل يربض على مدخل إسبانيا الجنوبي وكأنه أسد يحرسها، وفي متحف مدريد الحربي رأيت وثيقة التسليم التي وقعها أبو عبد الله الصغير، وسيفاً هنا، وعباءة هناك، ويماثل ذلك أو يقاربه ما غمر نفسي من أفراح وأحزان في سرقسطة، وطليطلة، وبلنسية، ومرسية، وشاطبة، وطريف، وبنبلونة، وسنتياغو، وسهيل، وجيان.
* * *
هل يستحق المسلمون الأندلسيون اللوم؟ نعم إنهم يستحقون لأنهم وقعوا، أو وقع كثير منهم في الترف، والترف حمض أكَّال يأكل الرجولة والجدية والفضائل، ولأنهم وقعوا في الخلاف، والخلاف بوابة راسعة للشرور بل والفناء.
لكن هذا اللوم ينبغي ألا يحملنا على نسيان عدة حقائق مهمة جداً، الأولى: أن المسلمين في الأندلس قاتلوا طويلاً، وضحوا كثيراً، وجدوا وصابروا، ويكفيهم شرفاً أن الأندلس التي فتحوها في سنتين فقط لم يستطع الإسبان أن يخرجوهم منها إلا في ثمانية قرون، وهي مفارقة مهمة ينبغي للدارس المنصف أن يشهد بها ويشيد بدلالتها المشرفة.
الثانية: أن أوربا كلها – بدرجات متفاوتة – وقفت خلف الإسبان في حروبهم ضد المسلمين، بالمال والعتاد والمقاتلين، ذلك أنها رأت في الأندلس المسلمة جسماً غريباً نشازاً مختلفاً عن بقية ديارها المسيحية، لابد أن يزال، وقد كان. لقد كانت حرب الإسبان ومن ورائهم أوربا ضد المسلمين حرباً صليبية بكل معنى الكلمة، بدأت قبل الحرب الصليبية التي غزت مشرقنا العربي واستمرت بعدها، بل كانت أشرس وأفتك.
الثالثة: أن المسلمين عمروا إسبانيا، ونقلوها نقلة واسعة إلى الأحسن في كل شيء وأنهم جعلوا من عاصمتهم ((قرطبة)) أيام المجد الأموي أعظم مدينة في أوربا على الإطلاق في السياسة، والعسكرية، والهندسة، والإدارة، والغنى، العلم، ويشهد التاريخ أن اثنين من بابوات روما درسا في قرطبة،
وأن أحد ملوك بريطانيا أرسل عدداً من بناته الأميرات ليتعلمن فيها، وإذن فإن المسلمين الأندلسيين لهم وعليهم، ولعل الذي لهم أكبر بكثير من الذي عليهم. وفي إسبانيا اليوم نفر من العلماء والأدباء المنصفين يشيدون بحضارة المسلمين في الأندلس وينصفونها غاية الإنصاف، ويعدون طرد المسلمين المورسكيين ظلماً كبيراً وجناية فادحة، ويعدون محاكم التفتيش وصمة عار، ووحشية بالغة.
الرابعة: أن غرناطة التي كانت آخر معاقل الأندلس سقوطاً، سقطت والدولة العثمانية في أوج قوتها، وكانت أوربا تخاف منها خوفاً شديداً، ولابد أن مسلمي غرناطة استنجدوا بها، وكانت الدولة العثمانية مؤهلة جداً للنجدة المأمولة، لأنها في ذروة القوة، ولأن خلفاء بني عثمان يومذاك كانوا يجمعون بين الشجاعة وبين الولاء التام للإسلام، إن هذا الأمر لغز غير مفهوم من ألغاز التاريخ ليت أحد الدارسين يجلّيه.
الخامسة: بذل المسلمون الأندلسيون الذين ظلوا في إسبانيا، بعد سقوط آخر معاقلهم بيد الإسبان وهي غرناطة جهوداً كبيرة للاحتفاظ بهويتهم الدينية، واللغوية، والاجتماعية، والثقافية، وقد توهموا في البداية أن معاهدة التسليم التي وقعها عنهم أبو عبد الله الصغير، وعن الإسبان الملكان الكاثوليكيان فرديناند وإيزابيلا، سوف تمكنهم من الاحتفاظ بهذه الهوية، وكانت جديرة أن تحقق لهم ذلك لو طبقت لأنها في الجملة معاهدة جيدة ومنصفة، لكن الملكين الظافرين، ومن ورائهما أحبار أشداء متحمسون، نقضوا هذه المعاهدة جملة وتفصيلاً، وفعلوا بالمسلمين الأهوال، وهو ما دفعهم إلى مزيد من التمسك بهويتهم، بل دفعهم إلى الثورة في جبال البشرات، ولكن دون جدوى، فقد هزموا هزيمة منكرة، فلم يجدوا بداً من الاستسلام، لكن الحكومة الإسبانية لم تأمن حتى لمن تنصر منهم حقيقة أو خوفاً، فلجأت إلى طردهم من إسبانيا طرداً جماعياً نهائياً، ولم تبق منهم إلا أعداد قليلة جداً في أمكنة متفرقة ذابت مع الزمن.
ومن أطرف ما فعلوه في تلك الفترة العصيبة أنهم ألفوا كتباً باللغة العربية، لكنها تكتب بالحروف اللاتينية، سموها ((الألخميادو)) أي ((الأعجمية)) في محاولة لإخفاء ما يكتبون عن عيون القساوسة ورقابة الأمن، وفي هذه الكتب أحكام شرعية، وآداب أخلاقية، ووصايا ونصائح، يراد منها تذكير الناس عامة والناشئة خاصة بدينهم ليتمسكوا به سراً ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
* * *
لقد كان هذا التطواف الذي استطعت أن أسرد بعضه، مزاجاً جميلاً متناغماً من الفرح والحزن، والأدب والتاريخ، والحقيقة والخيال، والأحلام والآمال، ينتظمه إطار أخاذ سميته ذات مرة ((العشق الأندلسي)).
وكان يواكب هذا العشق يسكنني، فرح غامر يذكيه فيزداد، سببه أن لي معرفة بنخبة من العرب الذين هاجروا إلى إسبانيا واستوطنوها فكانوا لي المضيف والصديق والدليل، ولا أزال أتذكر أحدهم وهو يقول لي: لقد أمللتنا بكثرة أسئلتك عن المواقع ورغبتك أن نأخذك إليها، وأتذكر ثانياً وهو يقول لي: سوف أسرق منك هذين الكتابين اللذين تحملهما دائماً حتى تكف عن السؤال والتجوال، وأتذكر ثالثاً وهو يقول لي: إنك الآن قد رأيت مما يشغل أمثالنا أكثر بكثير مما رأيناه نحن المهاجرين المستوطنين.
وثمة فرح آخر كان يغمرني، وهو فرح أنقى وأصفى وأبقى، إنه فرحي بالتعرف إلى البدايات الأولى لانتشار الإسلام مجدداً في إسبانيا، حيث كنت ألقى عدداً من المهتدين الجدد في مسجد أو بيت أو رحلة أو مخيم، ذلك أن إسبانيا بعد زوال عهد فرانكو وعودة الملكية الدستورية إليها أصدرت قانون حرية الأديان، وبموجبه صار من حق الإسباني ولمرة الأولى منذ سقوط غرناطة أن يعتنق غير الكاثوليكية. وفرحة المسلم حين يلقى مهتدياً جديداً ويحاوره ويعاونه فرحة ذات أفق روحي ونفسي وفكري بديع.
ولأولادي الذين كانوا صغاراً يومذاك، والذين رافقوني في معظم هذا التطواف الجميل، ذكريات حلوة لما فيها من طفولة وبراءة وعفوية، كانت لكل منهم مهمة حين نمتطي السيارة، أحدهم يتأكد أن عددنا كامل، والثاني يتأكد أن الأبواب مقفلة، والثالث يتأكد أن معنا زادنا ومتاعنا، والرابع يذكرنا بأن نبدأ رحلتنا بدعاء السفر طلباً لحفظ الله ورعايته.
وكانت أمامة – لأنها الأكبر بينهم – ترى لنفسها موقعاً قيادياً، وكانت تجادلني كثيراً حتى ترضى عن مكان المبيت، نظافة وجمالاً، وكنت أداريها أكثر من سواها، وقد أخبرتني فيما بعد، أنها أرادت أن تسخر من زميلة لها في المدرسة، كانت تدعي أنها زارت قصر الحمراء، وأعجبت السباع خاصة، فصارت تحدثها عن جمال هذه السباع, ودقة صناعتها، وقدرة النحَّات الذي وضع فوق كل سبعٍ تمثالاً لخروف، وفوق كل خروف تمثالاً لدجاجة، وفوق كل دجاجة تمثالاً لطائرٍ والزميلة المسكينة تؤكد أنها رأت ذلك كله وأعجبت به، وحين انكشفت الحيلة، شكتها الزميلة إلى مديرة المدرسة التي أنهت الموضوع بهدوء وهي تكتم ضحكتها.
أما معاذ فقد خطر له أن نسترد إسبانيا لأنها بهرته جداً، لكثرة ما تجول فيها، وكثرة ما حدثته عنها، فلما سألته عن كيفية الاسترداد كان جوابه جاهزاً، وهو: الغربيون ومنهم الإسبان مقلّون في الإنجاب، خلافاً لنا نحن المسلمون الذين نحب الإكثار منه، ليقيننا أن الأبناء قوة، وأن الله عز وجل هو الرازق، وأن الأبناء الصالحين مما ينفع الإنسان بعد موته، لذلك نهاجر إلى إسبانيا بالتدريج، ونتزوج مبكرين، وننجب الكثيرين، ومع الزمان نزداد شيئاً فشيئاً حتى نصبح الأكثرية، وتعود إسبانيا لنا.
أما أحمد فقد أعجبته منطقة جبلية جميلة في شمال إسبانيا توقفنا فيها بعض الوقت، فلما دعوته لركوب السيارة مع إخوته حتى نكمل التطواف أبى، حاولت إقناعه فازداد عناداً، فأجبرته على الركوب وهو يبكي، وقد ظللت دهراً طويلاً أداعبه وأقول له: لو ظللت هناك لصرت إسبانياً، وربما انضممت إلى عصابات الباسك المتمردة على الدولة لأنها تريد الانفصال عنها.
أما محمد فكان يحرص على أن يأخذ معه من الرياض، طاقية فيها ثقوب، مما يلبسه الناس على رؤوسهم، جتى إذا تجول في حدائق الحمراء في غرناطة، وقف عند بركة ((البرطل)) الملأى بالسمك الملون، وأدخل الطاقية في الماء تحت بعض الأسماك ثم رفعها بسرعة ليتسرب الماء، وتبقى الأسماك، ولكنه لم يظفر من ذلك بشيء.
* * *
النفس تعشق الحسن في النساء وغيرهن، وقد طاب لي أيها القراء الكرام أن أقدم لكم حديثاً عن حسناوات إسبانيا لا أزال أتذكرهن وأشتاق إليهن وأتمنى لو جددت الصلة بهن، وهؤلاء الحسناوات هن _ مع الأسف_ من الذكريات لا من النساء، فلا تظنوا بي سوءاً، ولا تخبروا بذلك أم معاذ حتى لا تظن أني جهلت بعد أن شبت، وربما كان الحسن في الذكريات، من صور ومعان وأمان ومواقع وعبر وتجارب وخبرات ومعلومات وحوارات وما إلى ذلك، أبقى في النفس وأكثر لذة وإمتاعاً من سواه، خاصة لمثلي ممن يحب الإسلام حباً ملك عليه شغافه، ويحب الأندلس وشعرها وموشحاتها، والطبيعة والترحال، وقراءة التاريخ، حباً عميقاً، وأرجو من القارئ الكريم أن يلتمس لي العذر، وينظر إلى هذه الذكريات الحسناوات على أنها مزيج متسق من الدين والشوق، والأدب والشعر، والتطواف والتاريخ، واستبطان الماضي، واستشراف المستقبل، وليس للنساء الحسان منها نصيب قط.
ليلة لا تنسى
نصحني إخواني كثيراً أن أزور منطقة جبلية في ماليزيا اسمها كاميرون هاي لاند، وتحدثوا عن جمالها وهدوئها بما شاقني ففعلت.
ذهبت إلى قلب العاصمة كولا لامبور، ومعي حقيبة صغيرة، وهناك ومن مجمع للسيارات وجدت نفسي في حافلة سياحية تأخذني مع الآخرين إلى المكان المقصود، يوم الأربعاء 11/10/1422- 26/12/ 2001.
كنت وحدي، مما أتاح لي فرصة محببة للخلوة بنفسي والتمتع بالمناظر الرائعة على جانبي الطريق الذي يتلوى مثل الأفعى. والمنظر أكثر من جميل، خضرة متصلة ومطر يتوقف ليبدأ وشمس تختفي لتطل واعتدال في المناخ يزداد برودة كلما اقتربنا من الغابة. يتحدث بعض الناس عن نجاح هذه الدولة أو تلك في تشجير مدنها بحيث تبدو بشوارعها وميادينها وقد تخللتها الأشجار الجميلة التي زرعت فيها ذات جمال أخاذ لكثرة ما زرع من الشجر، الأمر في ماليزيا يختلف تماماً لأن ماليزيا كلها قطعة خضراء زرعت فيها بيوت وقرى وشوارع ومعامل، فالخضرة هي الأساس لأن المطر جزء من حياة الناس اليومية. لذلك ترى الخضرة اليانعة حيث نظرت، ولو أن جداراً لأحد الدور لم ينظفه أهله لكسته الخضرة بما ينبت عليه، ومن أطرف ما رأيت أن بعض الأشجار تنبت عليها متسلقات وشجيرات من غير نوعها، ذلك أن الماء والطيور والريح تتكفل بنقل البذور التي تجد من اللحاء الريان مكاناً لها.
شعرت كأنني في معبد، وأن هذا الجمال كله يسبح لمبدعه، وسررت بالمنظر الذي لا يمل، وبالأدعية التي أفرح بتردادها خاصة حين أكون وحيداً، وشعرت بتواصل عميق مع هذه الطبيعة الخضراء الحسناء والشمس البازغة المحتجبة والريح البليلة والمطر الغزير أو الخفيف، والطيور التي تقفز هنا وهناك سعيدة جذلى، ألوانها أجمل من أصواتها، وأصواتها غناء بديع.
لا أدري كيف قفز ذهني إلى الصحراء فهي أيضاً معبد تظهر فيه عظمة الله، وما بين الصحراء والخضراء تضاد وتكامل، ولكل منهما جماله. الخضراء تشعرك بالأنس والقرب والصحراء تشعرك بالهيبة والوحشة. والخضراء تنبت الليونة والصحراء تنبت الرجولة، والخضراء تحيطك بالجمال الذي يناديك ويبعث على الاسترخاء والصحراء تحيطك بالجلال الذي يتحداك ويستفز قواك الكامنة. وأياً كان فكل منهما معبد تظهر فيه عظمة الله وقدرته، وحين تكون وحيداً تستطيع التواصل معهما واستفراغ الوسع في التأمل والاستمتاع.
بعد ساعات وصلت الحافلة إلى هدفها، فتركتنا في قرية صغيرة أنيقة نظيفة، فيها شارع رئيس فيه سوقها وفنادقها ومطاعمها، ثم بيوت وفنادق أخرى في هذا الطرف أو ذاك. لذلك استوعبت في دقائق قليلة القرية الجميلة الوادعة كلها.
كان الوقت قبيل المغرب بقليل، وجعلت همي الأول أن أصلي المغرب والعشاء معاً، فأخذت أمشي تحت مطر يبللني وأنا به فرح سعيد وليست لي وجهة محددة. بعد قليل أخذت أسمع صوتاً لم أعرفه تماماً ولم أنكره تماماً، لكنه أخذ يشدني فاتجهت غليه، وكم كانت فرحتي كبيرة حين اتضح الصوت لي فإذا به قارئ يتلو آيات من كتاب الله, وأخذ الصوت يزداد اتضاحاً كلما اقتربت منه، ثم توقفت التلاوة ليعلو أذان المغرب، نظرت جيداً فإذا بي أرى مسجداً على رابية جميلة في القرية الوادعة ويممت وجهي نحوه حتى دخلته وقد غمرتني الفرحة وبللني المطر.
صليت المغرب مع الجماعة وقرأ الإمام بفصاحة وجمال ((ألم نشرح لك صدرك)) في الركعة الأولى، و((ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل)) في الركعة الثانية، ولما انتهت الصلاة صليت العشاء وحدي ثم جلست أدعو وأنظر في اللوحات المنتشرة في المسجد وكانت إحداهن تحدد مواعيد الصلاة.
وحاولت أن أخلو بنفسي أقرأ بعض الآيات الكريمة في هذا المسجد الذي قد لا أراه ثانية، لكنني لم أستطيع فقد لاحظ الناس في المسجد أني غريب على قريتهم، فنظروا إليَّ، وجاء أحدهم يسلم علي، ثم تتابع الآخرون، وهم بين فرحة واستغراب ونظر في هذا العربي المسلم الذي شاركهم الصلاة. كانت الوجوه تنطق بالود والترحيب حتى خشيت أن يتبركوا بي، وكانت الأخوة الإسلامية تزيل الحواجز، زال أولها مع التلاوة التي نقلها مكبر الصوت، وزال ثانيها مع الأذان الذي يلخص حقائق الإسلام الكبرى ويعلن الهوية والشعار، وزال ثالثها مع الصلاة المكتوبة في المسجد الهادئ الجميل، وزال رابعها مع التحية والسلام. وكان مسك الختام أن جاء إمام المسجد يعانقني ويحدثني بالعربية. قال لي لإن اسمه ((عبد الله)) وإنه درس علوم الدين والعربية في إحدى المدارس الشرعية، وسألني عن مجيئي وكرر الترحاب ثم دلني على فندق جميل واجهته تطل على جدول صغير، وظهره على جبل بديع، أما الخضرة والجمال والمطر والأشجار المصفوفة وأحواض الزهور البديعة والحديقة المكشوفة ونافورة الماء فإنها سيمفونية رائعة. وزاد الشيخ عبد الله من فرحي حيت أخبرني أن صاحب الفندق مسلم ودلني على مطاعم المسلمين في القرية. ولا أزال أذكر موظفة الاستقبال في الفندق وهي مسلمة ترتدي اللباس الشرعي وهي تريد أن تشعرني بنسب الإسلام والعربية فتقول لي بعربية تكسوها العجمة ((مَنْ اسمك)) ثم تضحك.
أويت إلى الغرفة وكانت واسعة جميلة نظيفة، لكني وجدتها كأنها سجن يحول بيني وبين حديقة الفندق المكشوفة الملأى بالحسن المتراكب الأخاذ، فخرجت إليها وأنا أتلو وأدعو المطر يبلل جسمي وملابسي وأجمع شيئاً منه فأشربه، وأمسح الورود والأغصان، وأحاول أن أرشف أقصى ما أستطيعه من معزوفة الجمال وأن أندمج فيه بأقصى ما أستطيع، ذلك أني كنت أشعر أنني في جنة دنيوية، وأنني في معبد ينطق بعظمة الله وقدرته. كانت فرحتي تمتد، وكان الهواء النقي يصافح وجهي، فتلتقي فرحة الجسد بفرحة الروح التي تنقلها التلاوة والدعاء إلى امداء واسعة بهيجة. ولولا أن النعاس غلبني لحاولت أن أبقى في حديقة الفندق حتى الصباح، لأعتصر هذه الليلة الشائقة النادرة حتى الثمالة، لكن للنوم سلطاناً لابد من الخضوع له. جاء الصباح وأشرقت الشمس تظهر وتغيب، وأقبل المطر يهمي ويتوقف وهبت الريح الريح البليلة فيها شذا الروابي والزهور، ثم جاءني إمام القرية الشيخ عبد الله فطاف بي في جولة بديعة في قريته وفي القرى المجاورة. هنا جدول وهنا جبل، وهذه غابة وتلك مزرعة، وثمة بيت مختبئ في رابية منعزلة، ومزارع الشاي تمتد يانعة خضراء في دقة وإحكام، ومررنا على مصنع للشاي عرضوا لنا فيه المراحل التي يمر بها بها الشاي منذ أن يزرع إلى أن يشرب، ورأينا مساجد متفرقة، ووقفنا على ساحة فيها من الخضار والفواكه وغيرهما ما نعرفه وما لا نعرفه، وإن أنسى لا أنسى مروج الشاي الخضراء اليانعة يسقط عليها المطر ثم تشرق الشمس فتبدو قطرات الماء على أوراق الشاي وكأنها ملايين المرايا ترد إلى الشمس والغيم التحية بمثلها أو بأحسن منها.
شكرَ الله لمن نصحني بهذه الرحلة التي دامت يوماً واحداً لا ينسى، وشكر الله للإمام الذي اصطحبني وأكرمني وكان الأخ والدليل والمترجم، وعسى أن أظفر برحلة أخرى إلى هذا المكان البديع، على أن أكون وحدي أو مع صحبة تعشق ما أعشقه من ألوان السياحة في ضحى الصباح جاءني الإمام عبد الله وطاف بي في جولة.
أربعون صلاة
أن يظل المسلم مشتاقاً إلى المدينة المنورة هو الفطرة السوية لدى كل مسلم مست قلبه جمرة الإيمان، وسكنت قلبه طيوف حسان من هذه المدينة الطاهرة، الملأى بالبهجة والأنس، العامرة بالذكريات الوضاء، الفاتحة ذراعيها دائماً لاستقبال زائرها بكل الحب والجود والصدق.
هذه المدينة السخية السنية الورود هي مقر أول دولة قامت للإسلام في العالم وما الدول الأخرى التي تلتها إلا امتداد لها.
فيها المسجد النبوي الشريف، مثابة النور والهدى، وواحة العلم والمعرفة، ومنطلق الفتوح المظفرة التي خرجت منها لتنشر أنوار الإسلام في العالمين.
وفيها القبر الشريف الطاهر، على صاحبه أفضل الصلاة والسلام، أكرم بشر كان ويكون، والنبي الخاتم الأمين، الذي كان آخر من تنزلت عليه كلمة السماء فبلغها أحسن بلاغ وأداها أحسن أداء. وبالقرب منه قبرا الصاحبين العظيمين الصديق والفاروق الذين قدما أروع نموذج بشري للكمال الإنساني، وسيبقيان المنارة الهادية لأجيال المسلمين حتى يوم الدين.
وهناك البقيع حيث يرقد آل بيت النبوة والصحابة الكرام وعدد لا يحصيه إلا الله من الصالحين والزاهدين والعلماء والمجاهدين دفنوا في ثراه الطاهر، وهناك جبل أحد بكل ما يثيره في الذهن من معاني الفداء والبطولة التي شهدها خلال المعركة التي عرفت باسمه، وهناك موقعة الأحزاب أو الخندق التي كانت إيذاناً بانتهاء عهد تغزو فيه قوى الكفر دولة الإسلام الوليدة وابتداء عهد آخر تقوم فيه هذه الدولة الوليدة المباركة بغزو الكفر وتطهير الجزيرة العربية من رجسه وتضع القواعد المباركة لحضارة الإسلام الهادية البانية التي عطرت الدنيا كلها من معاقلها ومناراتها وعواصمها وحواجزها ومساجدها في دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة ودلهي واستامبول، وهناك مسجد قباء أول مسجد أسس في الإسلام يربض في مدخل المدينة المنورة من جهتها الجنوبية وسط غابة خضراء من النخيل تضفي على جلاله وجماله جلالاً وجمالاً.
ظلت هذه الطيوف والخواطر والدواعي تسكن أعماقي كما تسكن أعماق كل المسلمين، وظللت لا أستجيبها لها لكسل أو تسويف أو شواغل، حتى إذا كان موسم الحج عام 1418-1998 استيقظت فأججت في نار الشوق إلى طيبة الطيبة، خاصة أني تذكرت الهبة السخية التي تنتظر من استطاع أن يصلي في المسجد النبوي الشريف أربعين صلاة لا تفوته صلاة وهي براءة من النار وبراءة من النفاق ونجاة من العذاب([2]) وإيران وغيرهما. ولابد أن الفقيد مات وفي قلبه من هذا جراحات وأحزان.
هذا العصر الحافل بالأحداث العامة الكبيرة كان له انعكاساته على حياته الخاصة، أولاً لأن التداخل بين الخاص والعام أمر لابد منه، ثم لأنه شخص كان يعيش لأمته ودينه ولغته وحضارته وثقافته، وكان يدرك حجم المؤامرة عليها كما كان يدرك حجم تقصيرها في حق نفسها، وأيضاً لأنه كان رجلاً حاد الطباع، قلق النفس، متوتراً، كأن أعصابه شعلة من نار.
وجاءت مجموعة من الأحداث الخاصة لتلتقي مع المؤثرات العامة المشار إليها فتزيد من ازمة الفقيد وحدته، دخل الجامعة عام 1926م وتتلمذ على أستاذه الدكتور طه حسين في قسم اللغة العربية في جامعة الملك فؤاد ((جامعة القاهرة فيما بعد)) وكان الدكتور طه حسين قد طلع على الناس بدعوى انتحال الشعر الجاهلي وهي قضية شغلت الناس كثيراً في حينها، وكان الفقيد يرى أستاذه مخطئ من جانبين، الأول: أن الفكرة في ذاتها خطأ، والثاني أن الدكتور طه أخذ الفكرة من المستشرق مرجليوث ولم يشر إلى ذلك وهو عنده سطو يخالف الأخلاق، فضلاً عن التقاليد العلمية المقررة. وكبر الأمر عليه فغادر الجامعة وهو في السنة الثانية عام 1927م دون أن يتم دراسته، وعكف في داره على تثقيف نفسه والتبشير بأفكاره والانقطاع إلى الكتابة مرة والانقطاع عنها مراراً وظل على هذا الحال سبعين عاماً منذ ترك الجامعة حتى وفاته 1418-1997 رحمه الله.
وفتح الفقيد بيته وقلبه ومكتبته للناس، وبخاصة لطلبة الدراسات العليا في العلوم العربية والإسلامية الذين كانوا يؤمون الجامعات المصرية من شتى بلدان العالمين العربي والإسلامي، فاستفاد منه الكثيرون في اقتراح موضوع، أو حل معضلة، أو تحقيق قضية، فضلاً عن الانتفاع من مكتبته الزاخرة بالكتب والمخطوطات ومن نصائحه الثمينة لما يواجهونه من صعوبات، وكانت داره كأنها خلية علم لهؤلاء الطلبة ولغيرهم من أعلام الشعر والأدب والثقافة، وربما تحولت إلى ما يشبه داراً للضيافة أحياناً، ومنها تخرج أناس بلغوا أعلى المناصب وحملوا أعلى الدرجات، وقد انتهت الأمور بينه وبين بعضهم إلى الخصومة مما جعله يصفهم بالعقوق.
وفي العهد الناصري دخل السجن مرتين، وهو ما ترك في نفسه جراحاً كثيرة، وفي المرة الثانية لازمه إثر خروجه من السجن نوع من الاكتئاب والسخط، تخلص منه أو من جزء منه بصعوبة بالغة.
فإذا أضفت إلى ذلك أنه ظل سبعين عاماً، منذ أن هجر الجامعة حتى وفاته بدون دخل ثابت، تبين لك أن هذا الأمر شغله، خاصة بعد أن كبر، وجاءه ولداه فهر وزلفى في خريف العمر، ولابد أنه كان يشعر بالقلق إزاءهما وهو ينظر إلى شمسه تغرب شيئاً فشيئاً رحمه الله وأحسن إليه.
من هنا يمكن القول إن تلاقي الأحداث العامة مع الأحداث الخاصة في عمره المديد ترك آثاره على حياته بصورة حادة لا يخطئها من اتصل به أدنى اتصال.
محمود محمد شاكر مسلم صادق الإسلام أحب هذا الدين ومنحه ولاءه وأخلص له، وأحب نبيه الكريم r، وقرآنه العظيم، وحضارته وثقافته.
وهو عربي خالص العروبة أحب العرب وأخلص لهم ودافع عنهم، وكانت نفسه ملأى بالاعتزاز بهم وبلغتهم وبشعرائهم وبرموزهم في كل ميدان.
وقد تداخل عنده هذان الحبان، حب الإسلام وحب العرب، وهذا أمر منطقي ومبرر، فالعرب مادة الإسلام وهم حاملو رايته ولوائه، ثم إن العربية لغة هذا الدين، والعرب منحوا الإسلام ولاءهم فارتفعوا به، والإسلام يرفع معتنقيه عامة، فكيف إذا كانوا أصحاب مزايا تجعلهم جديرين بأن يكونوا أول من حمله والله أعلم حيث يجعل رسالته؟
ولما كانت اللغة العربية هي لغة الإسلام، كان ينبغي أن تحظى بعناية خاصة قبل الجميع وبالذات من المشتغلين بنشر الدعوة الإسلامية، ذلك أنها المفتاح الصحيح لفهم هذا الدين فهماً سليماً، وقد لاحظ الشاعر الكبير محمد إقبال رحمه الله أن العقل العربي المسلم في جملته استطاع أن يفهم الإسلام أفضل من أخيه العقل المسلم غير العربي في جملته، وأرجع ذلك إلى اللغة، وقد صدق الشاعر الكبير في هذه الملاحظة التي تؤكدها شواهد كثيرة.
والملاحظ في حركة المد والجزر في التاريخ الإسلامي أنه كلما انتشر الإسلام مقترناً بانتشار العربية كان أدوم للإسلام وللعربية معاً، ولذلك حين كان ينحسر الإسلام في بلد عربي لسبب ما يظل هذا الانحسار أقل من مثيله حين يقع في بلد مسلم غير عربي، والمثال التركي أوضح الأمثلة على صدق هذا الرأي وقوته، فلقد كان حجم الانحسار في تركيا هائلاً لأسباب كثيرة منها أن الأتراك لم يتعربوا يوم كانوا قادرين على ذلك ولعل هذا هو أكبر أخطائهم على الإطلاق، ولو أنهم تعربوا لظلت صلتهم بالإسلام أفضل لامتلاكهم أهم أدوات فهمه وهي اللغة. والعبرة المستفادة من ذلك للمهتمين بنشر الدعوة الإسلامية هي أن يحرصوا على نشر العربية معها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، فذلك أعون على صحة الفهم من ناحية، وأعون على الدوام من ناحية.
هذا الأمر وعاه الفقيد رحمه الله وأحسن إليه، وكان أحد أسباب حبه للعربية والدفاع عنها، وهو سبب يضاف إلى الأسباب الأخرى من عظمة هذه اللغة بحد ذاتها ومن عروبة الفقيد الصميمة. وحب العربية يقود بالضرورة إلى حب العرب، وحب العرب يتداخل مع حب الإسلام عند كل عربي وعند كل مسلم، وهكذا كان الفقيد.
على أن حبه لأمته المسلمة عامة والعربية منها خاصة لم يكن يخلو من السخط عليها، فقد سخط عليها كما سخط على أعدائه وأعدائها، والفارق بين السخطين أنه جهر بسخطه على العدو في شجاعة خلافاً لسخطه على أمته الذي كان يداريه ويغالبه لكنه يأبى إلا أن يظهر بين الحين والآخر. ومرد هذا السخط إلى شعوره أن الأمة لم تبوئه المكانة التي يستحقها وذلك عنده نوع من الجحود والعقوق، ولعله نسي أنه هو بطبعه ومزاجه السبب الأكبر في ذلك.
* * *
كانت حكمته أقل من علمه، وأنا أعلم أن هذا الكلام يغضب عدداً من محبيه وعارفي فضله وأنا واحد منهم، لكن هذه هي الحقيقة، وربما كان في الأمثلة ما يؤكد الفكرة وينفي عنها شبهة المبالغة.
هذا الرجل الذي عاش فترة طويلة من عمره فاتحاً قلبه وعقله وبيته ومكتبته وخبرته لطلبة الدراسات العليا، كان بوسعه أن يجعل من هؤلاء الطلبة رسل خير يتبنون أفكاره الجيدة النافعة ويعممونها حيث يكونون في مختلف المواقع الثقافية التي يحتلونها وعلى امتداد العالمين العربي والإسلامي، مما يترك لا محالة أعمق الآثار وأنفعها للعرب والمسلمين، ولما كان يؤمن به ويدعو إليه ويبشر به ويقاتل من أجله ويحترق بسببه. لكننا لا نجد من هذه الآثار إلا النزر القليل، والسبب هو مزاجه الحاد الذي كان يصطلي به رواده ومحبوه، فينفر من ينفر ويسكت من يسكت، ولطالما سمع منه هؤلاء اتهاماً لهذا أو ذاك بالجهل أو السوء وما يشبه ذلك. لقد كانت لديه القدرة على كسب الناس ثم خسارتهم كلياً أو جزئياًن ولو كان حظه من الحلم والأناة والحكمة والتودد إلى الناس والصبر على أخطاء الطلبة الذين يرونه أستاذهم ومرشدهم مماثلاً لحظه من العلم لصنع خيراً كبيراً لهم ولأمته ولغته ودينه ولنفسه أيضاً.
من أروع ما مر بي من ضرورة التوازن بين العلم والحكمة جملة سمعتها منقولة عن الشيخ عبد الفتاح أبي غدة رحمه الله، وهي ((درهم مال يحتاج إلى درهم عقل لحسن تدبيره و القيام عليه، لكن درهم علم يحتاج يحتاج إلى درهمي عقل للانتفاع منه)) وهي جملة بليغة جداً، فالعلم وحده معلومات ((خام)) قد تكون خاطئة، والعقل هو الذي يفرز الصواب والخطأ من ناحية، ثم هو الذي يدل صاحبه كيف يستعمل الصواب منه زماناً ومكاناً ومناسبة من ناحية. ولقد أدى الخلل بين العلم والحكمة في التاريخ الإسلامي إلى كوارث محزنة في مجالات العلم والدعوة والسياسة منذ الخوارج إلى أيامنا، وسوف تظل هذه الكوارث تطل برأسها ما ظل هذا الخلل.
ولا أزال أذكر أول مرة زرت فيها الفقيد في بيته في مصر الجديدة عام 1963م، حيث اصطحبني إليه الأخ الصديق النبيل عبد العزيز السالم وكنا طالبين في السنة الرابعة من قسم اللغة العربية بكلية الآداب في جامعة القاهرة وكانت صلته به أسبق من صلتي، وكيف كان الزميل النبيل يحدثني في الطريق عن بداوته ومزاجه ويدعوني لأحتمل ما عسى أن يسوءني منه، ومن يومها وطنت نفسي على ذلك، فما زرته في بيته في القاهرة أو في الرياض التي كان يأتي إليها لأسباب عامة أو خاصة، إلا وأنا على أتم الاستعداد لاحتمال لكل ما يقول، لاقتناعي بنصيحة الزميل العاقل، ولشعوري أن هذا الرجل نادر حقاً وله مزايا كبيرة فاحتماله مكرمة لا مهانة، ولقد سمعت منه فعلاً واحتملت.
ومن العجب أن هذا الرجل منذ خصومته مع أستاذه طه حسين اختار الصمت أكثر مما اختار الكلام رغم كل الدواعي الشخصية والعامة التي تدعوه إلى الكلام. يبدو لي أنه عاقب نفسه وعاقب أمته بهذا الموقف ولم يعاقب من يراهم أهل الخطأ والزيغ من مبشرين ومستغربين وعلمانيين ومن إليهم. هذا الموقف يذكرني بطرفة مرت بي في كتاب ((الأيام)) للدكتور طه حسين، يروي فيها أنه وزملاءه من طلبة الجامعة امتنعوا عن حضور درس لأستاذ إيطالي مستشرق كان يدرسهم احتجاجا على إيطاليا لأنها قامت بغزو ليبيا، كما لو كان هذا الأستاذ الإيطالي ((نلينو)) هو المسؤول عن الغزو وكما لو كان الامتناع عن حضور درسه هو الرد الصحيح، يومها قال الأستاذ افيطالي لطلبته: مثلكم مثل الذي أراد أن يعاقب زوجته فخصى نفسه.
ومن العجب أيضاً أن إنتاج هذا الرجل قليل بالقياس إلى عمره المديد وإلى العقود السبعة التي عاشها متفرغاً لما يريد بدون عمل ولا دخل، ولو أنه أحسن استثمار وقته، لكان إنتاجه أكثر بكثير، فسبعون عاماً مدة طويلة مباركة وبخاصة لشخص في ذكاء محمود محمد شاكر وعلمه وتفرغه وسعة مكتبته والتفاف الناس حوله، ولكن المزاج الحاد أضاع عليه- وعلى الأمة من بعده- هذا العطاء المنتظر. لقد كان أكثر إنتاجا منه، ومرد ذلك، إلى حسن التعامل مع الوقت ومع الناس، فضلاً عن اعتدال المزاج والتوازن بين العلم والحكمة، ولولا أن تسمية بعض هؤلاء لها محاذيرها لفعلت.
ومن العجب أيضاً أن هذا الرجل لم يستطع تجاوز أزمته مع الدكتور طه حسين فقد ظلت هاجساً ملحاً عليه منذ أن وقعت حتى مات، أي سبعين عاماً. حقاً لقد كانت الأزمة مهمة على مستواه الشخصي وعلى مستوى الأمة، لكن التعامل مع أزمة ما ينبغي ألا يتحول إلى عقدة دائمة بحيث تأخذ أكبر من الاهتمام المكافئ لها وبحيث تجوز على اهتمام آخر ينبغي أن يوجه لأزمة أخرى قد تكون أخطر وأكبر، ولكنه – مرة أخرى – المزاج الحاد وعقابيله.
وثمة نقطة أخرى هي من العجب، بل من أعجب العجب، وهي أن الرجل الغيور على دينه ولغته وأمته وثقافته لم يشتغل بفكر البدائل كما اشتغل بفكر المكاشفة والمواجهة إن معرفة الداء تحتاج إلى شجاعة عقلية لأن هذه المعرفة عمل فكري بالدرجة الأولى، وإن الجهر بهذه المعرفة يحتاج إلى شجاعة أدبية لأن الجهر قوة نفسية تصدم الآخرين فيما يعتقدون، ولقد امتلك الفقيد الشجاعتين العقلية والنفسية على السواء. ولكن هذا كله هو نصف المطلوب، أما النصف الآخر والأخطر أيضاً فهو تقديم البدائل، وماذا عسى ينفعك الطبيب الحاذق إذا عرف داءك وأعلمك به ولم يصف لك الدواء؟ نعم لقد كان للفقيد اجتهاده في هذا المجال لكنه كان أقل من المتوقع من رجل في حجمه، وكان أيضاً أقل مما شغل به نفسه في عمره المديد.
أبا فهر: لقد حاولت أن أكون منصفاً صريحاً وعساي وفقت. فإن كان في حديثي ما يغضب أحداً من محبيك – وأنا منهم – فلي العذر، وقد تعلمنا منك فيما تعلمنا الشجاعة في الجهر بالرأي.
رحمك الله يا أبا فهر وأجزل لك المثوبة ((اللهم تقبل عمله واغفر زلته غير خال من عفوك ولا محروم من إكرامك، اللهم أسبغ عليه الواسع من فضلك والمأمول من إحسانك، اللهم أتمم عليه نعمتك بالرضا وآنس وحشته في قبره بالرحمة واجعل جودك بلالاً له من ظمأ البلى ورضوانك نوراً في ظلام الثرى)).(
([2]) في أفغانستان سقط الحكم الشيوعي، وآل الأمر إلى الذين قادوا الجهاد الأفغاني ضد الشيوعيين فاقتتلوا فيما بينهم، وقضوا على الأمل الذي تعلق به المسلمون في العالم كله ودعموه، وهو أمل الالتفاف حول جهاد خالص يقيم حكماً عادلاً ونموذجاً مشرفاً للعمل الدعوي والجهادي إذا انتصر، وظهروا خليطاً من نسب متفاوتة من العصبية القبلية الجاهلية، والرغبة الحادة في السلطة، وولاء إسلامي مشوش، فضلاً عن الجهل بحقائق السياسة والجغرافية والاقتصاد، والعجز عن إيجاد طرق حضارية لحل الخلافات تعتمد على ضوابط ومرجعيات لها احترامها، وكل ما يقال عن التدخلات الأجنبية في إيقاد الفتن فيما بينهم لا يصلح للدفاع عنهم فهم المسؤولون أولاً وقبل كل أحد عن الكارثة، لقد كانوا - في جملتهم- نموذجاً رائعاً في إزهاق الباطل لكنهم لم يكونوا كذلك في إحقاق الحق، وكانوا نموذجاً رائعاً في مرحلة القتال لكنهم لم يكونوا ذلك في مرحلة الدولة. والتمييز بين المراحل يحتاج إلى ذكاء وشجاعة نفسية، وكما ينبغي للقائد أن يشهر سيفه عند الحاجة للحرب ويحشد الناس لها، ينبغي له أيضاً أن يغمد سيفه عند الحاجة للسلم ويحشد الناس للبناء والتعمير.
([3]) هكذا دعا الفقيد لأخيه الشيخ أحمد رحم الله الجميع.
وسوم: العدد 825