فقه الدعوة، موضوعات في الدعوة والحركة 2
خط العقيدة الحركي في التاريخ البشري
دورة الجاهلية.. ودورة الإسلام
لقد بيّنا من قبل في التعقيب على قصة نوح([14]) أن الإسلام كان هو أول عقيدة عرفتها البشرية على يدي آدم u أبي البشر الأول، ثم على يدي نوح عليه السلام أبي البشر الثاني . . ثم بعد ذلك على يدي كل رسول . . وأن الإسلام يعني توحيد الألوهيه من ناحية الاعتقاد والتصور والتوجه بالعبادة والشعائر، وتوحيد الربوبية من ناحية الدينونة، والاتباع والطاعة والخضوع: أي توحيد القوامة والحاكمية والتوجيه والتشريع .
ثم بينا كذلك أن الجاهلية - سواء كانت جاهلية الاعتقاد والتصور والعبادة والشعائر! أو جاهلية الدينونة والاتباع والطاعة والخضوع، أو هما معاً - كانت تطرؤ على البشرية بعد معرفة الإسلام على أيدي الرسل عليهم صلوات الله وسلامه، وكانت تفسد عقائدهم وتصوراتهم، كما تفسد حياتهم وأوضاعهم؛ بالدينونة لغير الله سبحانه، سواء كانت هذه الدينونة لطوطم، أو حجر، أو شجر، أو نجم، أو كوكب، أو روح، أو أرواح شتى؛ أو كانت هذه الدينونة لبشر من البشر: كاهن أم ساحر أم حاكم . . فكلها سواء في دلالتها على الانحراف عن التوحيد إلى الشرك، والخروج من الإسلام إلى الجاهلية.
ومن هذا التتابع التاريخي، الذي يقصه الله سبحانه في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، يتبين خطأ المنهج الذي يتبعه علماء الدين المقارن؛ وخطأ النتائج التي يصلون إليها عن طريقه . .
خطأ المنهج لأنه يتبع خط الجاهليات التي عرفتها البشرية، ويهمل خط التوحيد الذي جاء به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، وهم حتى في تتبعهم لخط الجاهليات، لا يرجعون إلا لما حفظته آثار العهود الجاهلية التي يحوم عليها التاريخ، ذلك المولود الحدث الذي لا يعرف من تاريخ البشرية إلا القليل؛ ولا يعرف هذا القليل إلا عن سبيل الظن والترجيح! وحتى حين يصلون إلى أثر من آثار التوحيد الذي جاءت به الرسالات رأساً في إحدى الجاهليات التاريخية، في صورة توحيد مشوه، كتوحيد أخناتون مثلاً في الديانة المصرية القديمة؛ فإنهم يتعمدون إغفال أثر رسالة التوحيد، ولو على سبيل الاحتمال، وقد جاء أخناتون في مصر بعد عهد يوسف u، وتبشيره بالتوحيد، كما جاء في القرآن الكريم حكاية عن قوله لصاحبي السجن في سورة يوسف:
﴿إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ * يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: 37- 40).
وهم إنما يفعلون ذلك، لأن المنهج كله إنما قام ابتداءً على أساس العداء والرفض للمنهج الديني، بسبب ما ثار بين الكنيسة الأوربية والبحث العلمي في كل صوره في فترة من فترات التاريخ، فبدأ المنهج وفي عزم أصحابه أن يصلوا إلى ما يكذب مزاعم الكنيسة من أساسها، للوصول إلى تحطيم الكنيسة ذاتها، ومن أجل هذا جاء منهجاً منحرفاً منذ البدء؛ لأنه يتعمد الوصول سلفاً إلى نتائج معينة، قبل البدء في البحث!
وحتى حين هدأت حدة العداء للكنيسة بعد تحطيم سيطرتها العلمية والسياسية والاقتصادية الغاشمة، فإن المنهج استمر في طريقه؛ لأنه لم يستطيع أن يتخلص من أساسه الذي قام عليه، والتقاليد التي تراكمت على هذا الأساس، حتى صارت من أصول المنهج!
أما خطأ النتائج، فهو ضرورة حتمية لخطأ المنهج من أساسه، هذا الخطأ الذي طبع نتائج المنهج كلها بهذا الطابع . .
على أنه أياً كان المنهج، وأياَ كانت النتائج التي يصل إليها؛ فإن تقريراته مخالفة أساسية للتقريرات الإلهية، كما يعرضها القرآن الكريم . .
وإذا جاز لغير مسلم أن يأخذ بنتائج تخالف مخالفة صريحة قول الله سبحانه في مسألة من المسائل؛ فإنه لا يجوز لباحث يقدم بحثه للناس على أنه «مسلم» أن يأخذ بتلك النتائج، ذلك أن التقريرات القرآنية في مسألة الإسلام والجاهلية، وسبق الإسلام للجاهلية في التاريخ البشري، وسبق التوحيد للتعدد والتثنية ... قاطعة، وغير قابلة للتأويل، فهي مما يقال عنه: إنه معلوم من الدين بالضرورة، وعلى من يأخذ بنتائج علم الأديان المقارنة في هذا الأمر، أن يختار بين قول الله سبحانه وقول علماء الأديان .
أو بتعبير آخر: أن يختار بين الإسلام، وغير الإسلام! لأن قول الله في هذه القضية منطوق وصريح، وليس ضمنياً ولا مفهوماً!
وعلى أية حال، فإن هذا ليس موضوعنا الذي نستهدفه...
إنما نستهدف هنا رؤية الخط الحركي للعقيدة الإسلامية في التاريخ البشري، والإسلام والجاهلية يتعاوران البشرية، والشيطان يستغل الضعف البشري، وطبيعة التكوين لهذا المخلوق المزدوج الطبيعة والاتجاه، ويجتال الناس عن الإسلام بعد أن يعرفوه، إلى الجاهلية؛ فإذا بلغت هذه الجاهلية مداها بعث الله للناس رسولاً يردهم إلى الإسلام، ويخرجهم من الجاهلية ... وأول ما يخرجهم منه هو الدينونة لغير الله سبحانه من الأرباب المتفرقة ... وأول ما يردهم إليه هو الدينونة لله وحده في أمرهم كله، لا في الشعائر التعبدية وحدها، ولا في الاعتقاد القلبي وحده .
إن هذه الرؤية تفيدنا في تقدير موقف البشرية اليوم، وفي تحديد طبيعة الدعوة الإسلامية كذلك . .
إن البشرية اليوم بجملتها تزاول رجعية شاملة إلى الجاهلية التي أخرجها منها آخر رسول - محمد e - وهي تتمثل في صور شتى:
بعضها يتمثل في إلحاد بالله سبحانه، وإنكار لوجوده، فهي جاهلية اعتقاد وتصور، كجاهلية الشيوعيين.
وبعضها يتمثل في اعتراف مشوه بوجود الله سبحانه، وانحراف في الشعائر التعبدية، وفي الدينونة والاتباع والطاعة، كجاهلية الوثنيين من الهنود وغيرهم . . وكجاهلية اليهود والنصارى كذلك .
وبعضها يتمثل في اعتراف صحيح بوجود الله سبحانه، وأداء للشعائر التعبدية، مع انحراف خطير في تصور دلالة شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ومع شرك كامل في الدينونة والاتباع والطاعة، وذلك كجاهلية من يسمون أنفسهم «مسلمين»، ويظنون أنهم أسلموا، واكتسبوا صفة الإسلام، وحقوقه بمجرد نطقهم بالشهادتين، وأدائهم للشعائر التعبدية؛ مع سوء فهمهم لمعنى الشهادتين، ومع استسلامهم، ودينونتهم لغير الله من العبيد!
وكلها جاهلية، وكلها كفر بالله كالأولين، أو شرك بالله كالآخرين([15]) .
إن رؤية واقع البشرية على هذا النحو الواضح؛ تؤكد لنا أن البشرية اليوم بجملتها قد ارتدت إلى جاهلية شاملة، وأنها تعاني رجعية نكدة إلى الجاهلية التي أنقذها منها الإسلام مرات متعددة، كان آخرها الإسلام الذي جاء به محمد e، وهذا بدوره يحدد طبيعة الدور الأساسي لطلائع البعث الإسلامي، والمهمة الأساسية التي عليها أن تقوم بها للبشرية، ونقطة البدء الحاسمة في هذه المهمة.
إن على هذه الطلائع أن تبدأ في دعوة البشرية من جديد إلى الدخول في الإسلام كرة أخرى، والخروج من هذه الجاهلية النكدة التي ارتدت إليها، على أن تحدد للبشرية مدلول الإسلام الأساسي: وهو الاعتقاد بألوهية الله وحده، وتقديم الشعائر لله وحده والدينونة والاتباع والطاعة والخضوع في أمور الحياة كلها لله وحده . . وأنه بغير هذه المدلولات كلها لا يتم الدخول في الإسلام، ولا تحتسب للناس صفة المسلمين، ولا تكون لهم تلك الحقوق التي يرتبها الإسلام في أنفسهم وأموالهم كذلك .
وأن تخلف أحد هذه المدلولات كتخلفها جميعاً، يخرج الناس من الإسلام إلى الجاهلية، ويصمهم بالكفر أو بالشرك قطعاً . .
إنها دورة جديدة من دورات الجاهلية التي تعقب الإسلام، فيجب أن تواجهها دورة من دورات الإسلام الذي يواجه الجاهلية، ليرد الناس إلى الله مرة أخرى، ويخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ولا بد أن يصل الأمر إلى ذلك المستوى من الحسم والوضوح في نفوس العصبة المسلمة التي تعاني مواجهة الجاهلية الشاملة في هذه الفترة النكدة من حياة البشرية، فإنه بدون هذا الحسم، وهذا الوضوح تعجز طلائع البعث الإسلامي عن أداء واجبها في هذه الفترة الحرجة من تاريخ البشرية، وتتأرجح أمام المجتمع الجاهلي، وهي تحسبه مجتمعاً مسلماً، وتفقد تحديد أهدافها الحقيقية، بفقدانها لتحديد نقطة البدء من حيث تقف البشرية فعلاً، لا من حيث تزعم! والمسافة بعيدة بين الزعم والواقع . . بعيدة جداً .
المفاصلة على أساس العقيدة
لقد أرسل كل رسول إلى قومه، وعند بدء الدعوة كان الرسول واحداً من قومه هؤلاء، يدعوهم إلى الإسلام دعوة الأخ لإخوته، ويريد لهم ما يريد الأخ لإخوته من الخير الذي هداه الله إليه، والذي يجد في نفسه بينة من ربه عليه.
هذا كان موقف كل رسول من قومه عند نقطة البدء . . ولكن هذا لم يكن موقف أي رسول عند نقطة الختام!
ونقف أمام تلك المواجهة الأخيرة من هود لقومه؛ وأمام تلك المفاصلة التي قذف بها في وجوههم في حسم كامل، وفي تحد سافر، وفي استعلاء بالحق الذي معه، وثقة في ربه الذي يجد حقيقته في نفسه بينة:
﴿قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾ (هود: 54 – 57).
إن أصحاب الدعوة إلى الله في كل مكان، وفي كل زمان في حاجة إلى أن يقفوا طويلاً أمام هذا المشهد الباهر .
رجل واحد، لم يؤمن معه إلا قليل، يواجه أعتى أهل الأرض، وأغنى أهل الأرض، وأكثر أهل الأرض حضارة مادية في زمانهم، كما جاء عنهم في قول الله تعالى فيهم حكاية عما واجههم به أخوهم هود في السورة الأخرى:
﴿كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ (الشعراء: 123 138).
فهؤلاء العتاة الجبارون الذين يبطشون بلا رحمة، والذين أبطرتهم النعمة، والذين يقيمون المصانع، يرجون من ورائها الامتداد والخلود! . . هؤلاء هم الذين واجههم هود u هذه المواجهة، في شجاعة المؤمن، واستعلائه وثقته واطمئنانه، وفاصلهم هذه المفاصلة الحاسمة الكاملة، وهم قومه، وتحداهم أن يكيدوه بلا إمهال، وأن يفعلوا ما في وسعهم فلا يباليهم بحال!
لقد وقف هود u هذه الوقفة الباهرة، بعدما بذل لقومه من النصح ما يملك، وبعد أن تودد إليهم، وهو يدعوهم غاية التودد . . ثم تبين له عنادهم، وإصرارهم على محادة الله، وعلى الاستهتار بالوعيد والجرأة على الله . .
لقد وقف هود u هذه الوقفة الباهرة؛ لأنه يجد حقيقة ربه في نفسه، فيوقن أن أولئك الجبارين العتاة المتمتعين المتبطرين، إنما هم من الدواب! وهو مستيقن أنه ما من دابة إلا وربه آخذ بناصيتها، ففيم يحفل إذن هؤلاء الدواب؟! وأن ربه هو الذي استخلفهم في الأرض، وأعطاهم من نعمة ومال وقوة وبنين وقدرة على التصنيع والتعدين! للابتلاء لا لمطلق العطاء، وأن ربه يملك أن يذهب بهم، ويستخلف غيرهم إذا شاء، ولا يضرونه شيئاً، ولا يردون له قضاء .. ففيم إذن يهوله شيء مما هم فيه، وربه هو الذي يعطي ويسلب حين يشاء كيف يشاء؟ . .
إن أصحاب الدعوة إلى الله لا بد أن يجدوا حقيقة ربهم في نفوسهم على هذا النحو، حتى يملكوا أن يقفوا بإيمانهم في استعلاء أمام قوى الجاهلية الطاغية من حولهم . . أمام القوة المادية، وقوة الصناعة، وقوة المال، وقوة العلم البشري، وقوة الأنظمة والأجهزة والتجارب والخبرات . . وهم مستيقنون أن ربهم آخذ بناصية كل دابة، وأن الناس كل الناس إن هم إلا دواب من الدواب!
وذات يوم لا بد أن يقف أصحاب الدعوة من قومهم موقف المفاصلة الكاملة؛ فإذا القوم الواحد أمتان مختلفتان .
أمة تدين لله وحده وترفض الدينونة لسواه، وأمة تتخذ من دون الله أرباباً، وتحاد الله!
ويوم تتم هذه المفاصلة يتحقق وعد الله بالنصر لأوليائه، والتدمير على أعدائه، في صورة من الصور التي قد تخطر، وقد لا تخطر على البال، ففي تاريخ الدعوة إلى الله على مدار التاريخ! لم يفصل الله بين أوليائه وأعدائه إلا بعد أن فاصل أولياؤه أعداءه على أساس العقيدة، فاختاروا الله وحده . . وكانوا هم حزب الله الذين لا يعتمدون على غيره، والذين لا يجدون لهم ناصراً سواه.
هذا كان موقف كل رسول من قومه عند نقطة البدء . . ولكن هذا لم يكن موقف أي رسول عند نقطة الختام!
لقد استجابت للرسول طائفة من قومه، فآمنوا بما أرسل به إليهم، عبدوا الله وحده كما طلب إليهم، وخلعوا من أعناقهم ربقة الدينونة لأي من خلقه ... وبذلك صاروا مسلمين .. صاروا «أمة مسلمة» .. ولم تستجب للرسول طائفة أخرى من قومه، كفروا بما جاءهم به؛ وظلوا في دينونتهم لغير الله من خلقه، وبقوا في جاهليتهم لم يخرجوا منها إلى الإسلام، ولذلك صاروا «أمة مشركة».
لقد انقسم القوم الواحد تجاه دعوة الرسول إلى أمتين اثنتين: أمة مسلمة، وأخرى مشركة، ولم يعد القوم الواحد أمة واحدة، كما كانوا قبل الرسالة، مع أنهم قوم واحد من ناحية الجنس والأرومة، إلا أن آصرة الجنس والأرومة، وآصرة الأرض والمصالح المشتركة .. لم تعد هي التي تحكم العلاقات بينهم كما كانوا قبل الرسالة.. لقد ظهرت مع الرسالة آصرة أخرى تجمع القوم الواحد أو تفرقه .. تلك هي آصرة العقيدة والمنهج والدينونه .. وقد فرقت هذه الآصرة بين القوم الواحد، فجعلته أمتين مختلفتين لا تلتقيان، ولا تتعايشان!
وعندما فاصل المسلمون قومهم على العقيدة والمنهج والدينونة فصل الله بينهما، فأهلك الأمة المشركة، ونجى الأمة المسلمة .. واطردت هذه القاعدة على مدار التاريخ.
والأمر الذي ينبغي لطلائع البعث الإسلامي في كل مكان أن تكون على يقين منه: أن الله سبحانه لم يفصل بين المسلمين وأعدائهم من قومهم، إلا بعد أن فاصل المسلمون أعداءهم، وأعلنوا مفارقتهم لما هم عليه من الشرك، وعالنوهم بأنهم يدينون لله وحده، ولا يدينون لأربابهم الزائفة، ولا يتبعون الطواغيت المتسلطة، ولا يشاركون في الحياة، ولا في المجتمع الذي تحكمه هذه الطواغيت بشرائع لم يأذن بها الله، سواء تعلقت بالاعتقاد، أو بالشعائر، أو بالشرائع .
إن يد الله سبحانه لم تتدخل لتدمر على الظالمين، إلا بعد أن فاصلهم المسلمون .. وما دام، المسلمون لم يفاصلوا قومهم، ولم يتبرؤوا منهم، ولم يعالنوهم بافتراق دينهم عن دينهم، ومنهجهم عن منهجهم، وطريقهم عن طريقهم، لم تتدخل يد الله سبحانه للفصل بينهم وبينهم، ولتحقيق وعد الله بنصر المؤمنين، والتدمير على الظالمين . .
وهذه القاعدة المطردة هي التي ينبغي لطلائع البعث الإسلامي أن تدركها، وأن ترتب حركتها على أساسها:
إن الخطوة الأولى تبدأ دعوة للناس بالدخول في الإسلام، والدينونة لله وحده بلا شريك، ونبذ الدينونة لأحد من خلقه في صورة من صور الدينونة، ثم ينقسم القوم الواحد قسمين، ويقف المؤمنون الموحدون الذين يدينون لله وحده صفاً - أو أمة - ويقف المشركون الذين يدينون لأحد من خلق الله صفاً آخر .. ثم يفاصل المؤمنون المشركين .. ثم يحق وعد الله بنصر المؤمنين، والتدمير على المشركين .. كما وقع باطراد على مدار التاريخ البشري.
ولقد تطول فترة الدعوة قبل المفاصلة العملية، ولكن المفاصلة العقيدية الشعورية يجب أن تتم منذ الحظة الأولى .
ولقد يبطئ الفصل بين الأمتين الناشئتين من القوم الواحد، وتكثر التضحيات، والعذابات والآلام على جيل من أجيال الدعاة أو أكثر .. ولكن وعد الله بالفصل، يجب أن يكون في قلوب العصبة المؤمنة أصدق من الواقع الظاهر في جيل أو أجيال، فهو لا شك آت، ولن يخلف الله وعده الذي جرت به سنته على مدار التاريخ البشري .
ولقد تطول فترة الدعوة قبل المفاصلة العملية . ولكن المفاصلة العقيدية الشعورية يجب أن تتم منذ الحظة الأولى .
ولقد يبطئ الفصل بين الأمتين الناشئتين من القوم الواحد، وتكثر التضحيات والعذابات والآلام على جيل من أجيال الدعاة أو أكثر .. ولكن وعد الله بالفصل يجب أن يكون في قلوب العصبة المؤمنة أصدق من الواقع الظاهر في جيل أو أجيال، فهو لا شك آت، ولن يخلف الله وعده الذي جرت به سنته على مدار التاريخ البشري .
ورؤية هذه السنة على هذا النحو من الحسم والوضوح ضرورية كذلك للحركة الإسلامية في مواجهة الجاهلية البشرية الشاملة، فهي سنة جارية غير مقيدة بزمان ولا مكان .. وما دامت طلائع البعث الإسلامي تواجه البشرية اليوم في طور من أطوار الجاهلية المتكررة، وتواجهها بذات العقيدة التي كان الرسل، عليهم صلوات الله وسلامه، يواجهونها بها كلما ارتدت وانتكست إلى مثل هذه الجاهلية، فإن للعصبة المسلمة أن تمضي في طريقها، مستوضحة نقطة البدء ونقطة الختام، وما بينهما من فترة الدعوة كذلك، مستيقنة أن سنة الله جارية مجراها، وأن العاقبة للتقوى .
طبيعة المنهج الحركي في الإسلام
خطواته ومراحله
سورة التوبة
سورة التوبة من أواخر ما نزل من القرآن - إن لم تكن هي آخر ما نزل من القرآن([16]) - ومن ثم قد تضمنت أحكاماً نهائية في العلاقات بين الأمة المسلمة، وسائر الأمم في الأرض، كما تضمنت تصنيف المجتمع المسلم ذاته، وتحديد قيمه ومقاماته، وأوضاع كل طائفة فيه وكل طبقة من طبقاته([17])، ووصف واقع هذا المجتمع بجملته، وواقع كل طائفة منه، وكل طبقة وصفاً دقيقاً مصوراً مبيناً.
والسورة - بهذا الاعتبار - ذات أهمية خاصة في بيان طبيعة المنهج الحركي للإسلام، ومراحله وخطواته - حين تراجع الأحكام النهائية التي تضمنتها مع الأحكام المرحلية التي جاءت في السور قبلها - وهذه المراجعة تكشف عن مدى مرونة ذلك المنهج، وعن مدى حسمه كذلك، وبدون هذه المراجعة تختلط الصور والأحكام والقواعد، كما يقع كلما انتزعت الآيات التي تتضمن أحكاماً مرحلية، فجعلت نهائية، ثم أريد للآيات التي تتضمن الأحكام النهائية أن تفسر، وتؤول لتطابق تلك الأحكام المرحلية، وبخاصة في موضوع الجهاد الإسلامي، وعلاقات المجتمع المسلم بالمجتمعات الأخرى، مما نرجو أن يوفقنا اللّه لإيضاحه وبيانه.
ومن مراجعة نصوص السورة مراجعة موضوعية، ومراجعة ما جاء في الروايات المأثورة عن أسباب النزول، وملابساته، ومراجعة أحداث السيرة النبوية كذلك .. يتبين أن السورة بجملتها نزلت في العام التاسع من الهجرة.. ولكنها لم تنزل دفعة واحدة .. ومع أننا لا نملك الجزم بالمواقيت الدقيقة التي نزلت فيها مقاطع السورة في خلال العام التاسع، إلا أنه يمكن الترجيح بأنها نزلت في ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى منها كانت قبل غزوة تبوك في شهر رجب من هذا العام.
والمرحلة الثانية كانت في أثناء الاستعداد لهذه الغزوة ثم في ثناياها.
والمرحلة الثالثة كانت بعد العودة منها.
أما مقدمات السورة من أولها إلى نهاية الآية الثامنة والعشرين منها فقد نزلت متأخرة في نهاية السنة التاسعة قبيل موسم الحج في ذي القعدة، أو في ذي الحجة .. وهذا - على الإجمال - هو كل ما يمكن ترجيحه والاطمئنان إليه.
_ _ _
وقد تضمنت السورة في المقطع الأول منها - من أولها إلى ختام الآية الثامنة والعشرين - تحديداً للعلاقات النهائية بين المعسكر الإسلامي والمشركين عامة في الجزيرة، مع إبراز الأسباب الواقعية والتاريخية والعقيدية التي يقوم عليها هذا التحديد، بالأسلوب القرآني الموحي المؤثر، وفي تعبيرات قوية الإيقاع حاسمة الدلالة، عميقة التأثير هذه نماذج منها:
﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (التوبة: 1 – 6).
﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ * اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ * فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ * أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ (التوبة: 7 – 16).
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ (التوبة: 23 – 24).
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (التوبة: 28).
وظاهر من الأسلوب القرآني في الآيات التي اقتطفناها هنا، وفي آيات المقطع كله، ومن القوة في التخضيض والتأليب على قتال المشركين، ومقاطعتهم في الجزيرة قاطبة، مدى ما كان يعتلج في نفوس الجماعة المسلمة - أو فريق منها على الأقل له وزنه - من التحرج والتخوف والتردد في اتخاذ هذه الخطوة الحاسمة في ذلك الحين، بسبب عوامل شتى، نرجو أن نكشف عنها.
أما المقطع الثاني - في السورة - فقد تضمن تحديداً للعلاقات النهائية كذلك بين المجتمع المسلم وأهل الكتاب عامة، مع بيان الأسباب العقيدية والتاريخية والواقعية التي تحتم هذا التحديد، وتكشف كذلك عن طبيعة الإسلام، وحقيقته المستقلة، وعن انحراف أهل الكتاب عن دين اللّه الصحيح عقيدة وسلوكاً، بما يجعلهم - في اعتبار الإسلام - ليسوا على دين اللّه الذي نزله لهم، والذي به صاروا أهل كتاب:
﴿قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ، حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ﴾ (التوبة: 29).
﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ * يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ﴾ (التوبة: 30 – 35).
وظاهر كذلك من الأسلوب القرآني في هذا المقطع أنه مواجهة لما كان في النفوس يومذاك، من تهيب وتردد في مواجهة أهل الكتاب عامة - أو الغالبية العظمى منهم - بهذا اللون من العلاقات التي تنص عليها الآية الأولى في المقطع .. وحقيقة إن المقصود - كان - بالمواجهة ابتداء هم الروم وحلفاؤهم من نصارى العرب في الشام، وما وراءها، وهذا وحده كان يكفي للتردد والتهيب؛ لما كان للروم من بأس وسمعة تاريخية بين أهل الجزيرة ..
ولكن النص عام في أهل الكتاب عامة، ممن تنطبق عليهم الأوصاف الواردة في الآية، كما سنفصل - إن شاء اللّه - عند مواجهة النصوص.
وفي المقطع الثالث يبدأ النعي على المتثاقلين الذين دعوا إلى التجهز للغزوة فتثاقلوا إلى الأرض، وتكاسلوا عن النفير .. وهؤلاء ليسوا كلهم من المنافقين، كما سيتبين، مما يشي بمشقة هذه الخطوة، وهذه الغزوة، على النفوس في ذلك الحين للأسباب التي نرجو أن نفصلها - بإذن اللّه - ونقف عندها في حينها:
﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (التوبة: 38- 41).
وظاهر من صيغ التأنيب والتهديد والتوكيد المكررة في هذا المقطع، ومن تذكير الذين آمنوا بنصر اللّه للرسول e إذ أخرجه الذين كفروا، دون أن يكون لأحد من البشر مشاركة في هذا النصر، ومن الأمر الجازم لهم بأن ينفروا خفافاً وثقالاً .. ظاهر من هذا كله، ما كان في الموقف من مشقة، ومن تخلف، ومن قعود، ومن تهيب، ومن تردد، اقتضى هذا الحشد من التأنيب والتهديد والتوكيد والتذكير والأمر الشديد ..
ثم يجيء المقطع الرابع في سياق السورة - وهو أطول مقاطعها- وهو يستغرق أكثر من نصفها - في فضح المنافقين، وأفاعيلهم في المجتمع المسلم، ووصف أحوالهم النفسية والعملية، ومواقفهم في غزوة تبوك، وقبلها، وفي أثنائها، وما تلاها، وكشف حقيقة نواياهم وحيلهم، ومعاذيرهم في التخلف عن الجهاد، وبث الضعف والفتنة والفرقة في الصف، وإيذاء رسول اللّه e، والخلص من المؤمنين، يصاحب هذا الكشف تحذير الخلصاء من المؤمنين من كيد المنافقين، وتحديد العلاقات بين هؤلاء وهؤلاء، والمفاصلة بين الفريقين، وتمييز كل منهما بصفاته وأعماله .. وهذا القطاع يؤلف في الحقيقة جسم السورة، ويتجلى من خلاله كيف عاد النفاق بعد فتح مكة فاستشرى، بعد ما كاد أن يتلاشى من المجتمع المسلم قبيل الفتح، مما سنكشف عن أسبابه في فقرة تالية، ولن نملك أن نستعرض هنا هذا القطاع بطوله فنكتفي بفقرات منه تدل على طبيعته:
﴿لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾. (التوبة: 42).
... ﴿وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ﴾ (التوبة: 46- 48).
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ * إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ﴾ (التوبة: 49- 50).
... ﴿وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ، وَما هُمْ مِنْكُمْ، وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ. لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ﴾ (التوبة: 56- 57).
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا، وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَقالُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ، سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ، إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ﴾ (التوبة: 58- 59).
... ﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ﴾ (التوبة: 61).
﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ * أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ﴾ (التوبة: 62، 63).
﴿يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ: أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ﴾ (التوبة: 64- 66).
﴿الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ﴾ (التوبة: 67- 68).
... ﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا، وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ﴾ (التوبة: 73- 74).
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ (التوبة: 75 – 77).
﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ (التوبة: 79- 80).
﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ * وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ * وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ (التوبة: 81 – 85)، إلخ ... إلخ.
وهذه الحملة الطويلة الكاشفة تشي بما كان للمنافقين في هذه الفترة من محاولات كثيرة لإيذاء الصف المسلم، وفتنته، وشغله بشتى الفتن والدسائس، والأكاذيب عن وجهته، كما أنها في الوقت ذاته تكشف عن حالة من الخلخلة، وعدم التناسق في التكوين العضوي للمجتمع الإسلامي في هذه الفترة يشير إليها قول اللّه سبحانه:
﴿ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ﴾ كما يشير إليها النهي المشدد عن الاستغفار للمنافقين، أو الصلاة عليهم .. هذه الحالة التي نشأت عن دخول جماعات كثيرة في الإسلام بعد الفتح، لم يكن الإيمان قد استقر في قلوبهم، ولا كانوا قد انطبعوا بالطابع الإسلامي الصحيح، مما سنفصل القول فيه بعد استعراض التصنيف القرآني الوارد في السورة لهذه الجماعات المتنوعة التي كان المجتمع المسلم يتألف منها في هذه الفترة.
والمقطع الخامس في سياق السورة هو الذي يتولى هذا التصنيف، ومنه نعلم أنه كان إلى جوار السابقين المخلصين من المهاجرين والأنصار - وهم الذين كانوا يؤلفون قاعدة المجتمع المسلم الصلبة القوية - جماعات أخرى .. الأعراب، وفيهم المخلصون والمنافقونـ والذين لم تخالط قلوبهم بشاشة الإيمان، والمنافقون من أهل المدينة، وآخرون خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، ولم يتم انطباعهم بالطابع الإسلامي، ولم يصهروا في بوتقة الإسلام تماماً، وطائفة مجهولة الحال لا تعرف حقيقة مصيرها، متروك أمرها للّه وفق ما يعلمه من حقيقة حالها ومآلها، ومتآمرون يتسترون باسم الدين! .. والنصوص القرآنية تتحدث عن هذه الجماعات كلها في اختصار مفيد، وتقرر كيف تعامل في المجتمع المسلم، وتوجه رسول اللّه e والخلص من المسلمين إلى طريقة التعامل مع كل منهم:
﴿الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (التوبة: 97 – 99).
﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (التوبة: 100).
﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ﴾ (التوبة: 101).
﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (التوبة: 102- 103).
... ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (التوبة: 106).
﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ [التوبة: 107- 108] إلخ.
وظاهر من تعدد الطوائف والطبقات والمستويات الإيمانية في المجتمع المسلم - كما تصفه هذه النصوص - مدى الخلخلة التي وجدت فيه بعد الفتح، مما كان المجتمع قد برئ منه، أو كاد قبيل فتح مكة كما سيجيء.
والمقطع السادس في سياق السورة يتضمن تقريراً لطبيعة البيعة الإسلامية مع اللّه على الجهاد في سبيله، وطبيعة هذا الجهاد وحدوده، وواجب أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب فيه، وأنه لا يحل لهم أن يتخلفوا عنه، وما كان لهم أن يتخلفوا عن رسول اللّه، ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه، وضرورة المفاصلة مع المشركين والمنافقين .. وفي ثنايا هذا المقطع يرد بيان لما قضى اللّه به في شأن بعض الذين تخلفوا عن الغزوة مخلصين غير منافقين، ووصف لبعض أحوال المنافقين وموقفهم تجاه ما يتنزل من القرآن الكريم:
﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (التوبة: 111).
... ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ (التوبة: 113 – 114).
... ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ (التوبة: 117 – 118) ...
... ﴿مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ (التوبة: 120 – 122).
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ (التوبة: 123)...
... ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾ (التوبة: 127) ..
وفي النهاية تختم السورة بصفة رسول اللّه e، وبتوجيهه من ربه إلى التوكل عليه وحده، والاكتفاء بكفالته سبحانه:
﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ (التوبة: 128، 129).
_ _ _
ولقد أطلنا الاقتباس من نصوص السورة في هذا الاستعراض الإجمالي - قبل مواجهة هذه النصوص فيما بعد بالتفصيل - عن قصد! ذلك أن سياق السورة يرسم صورة كاملة للمجتمع المسلم في فترة ما بعد الفتح، ويصف تكوينه العضوي .. وفي هذه الصورة يتجلى نوع من الخلخلة، وقلة التناسق بين مستوياته الإيمانية، كما تتكشف ظواهر وأعراض من الشح بالنفس والمال، ومن النفاق والضعف، والتردد في الواجبات والتكاليف، والخلط وعدم الوضوح في تصور العلاقات بين المعسكر الإسلامي والمعسكرات الأخرى، وعدم المفاصلة الكاملة على أساس العقيدة - وإن كان هذا كله لا يتعارض مع وجود القاعدة الصلبة الأمينة الخالصة من المهاجرين والأنصار - مما استدعى حملات طويلة مفصلة، ومنوعة للكشف، والتوعية والبيان والتقرير، تفي بحاجة المجتمع إليها.
ولقد سبق أن أشرنا إجمالاً إلى أن سبب هذه الحالة هو دخول جماعات كثيرة متنوعة من الناس في الإسلام بعد الفتح لم تتم تربيتها، ولم تنطبع بعد بالطابع الإسلامي الأصيل، إلا أن هذه الإشارة المجملة لا يمكن فهمها بوضوح إلا بمراجعة الواقع التاريخي الحركي قبل الفتح وبعده .. وسنحاول أن نلم به هنا بأشد اختصار ممكن قبل التعليق بشيء على دلالة هذا الواقع التاريخي ومغزاه، ودلالة النصوص القرآنية التي وردت في سياق هذه السورة كذلك.
القاعدة الصلبة
لقد ولدت الحركة الإسلامية في مكة على محك الشدة، فلم تكد الجاهلية - ممثلة في قريش - تحس بالخطر الحقيقي الذي يتهددها من دعوة: «أن لا إله إلا اللّه، وأن محمداً رسول اللّه»، وما تمثله من ثورة على كل سلطان أرضي لا يستمد من سلطان اللّه، ومن تمرد نهائي على كل طاغوت في الأرض، والفرار منه إلى اللّه، ثم بالخطر الجدي من التجمع الحركي العضوي الجديد الذي أنشأته هذه الدعوة تحت قيادة رسول اللّه e هذا التجمع الذي يدين منذ اليوم الأول بالطاعة للّه، ولرسول اللّه، ويتمرد، ويخرج على القيادة الجاهلية الممثلة في قريش، والأوضاع السائدة في هذه الجاهلية.
لم تكد الجاهلية - ممثلة في قريش أول الأمر - تحس بهذا الخطر وذاك، حتى شنتها حرباً شعواء على الدعوة الجديدة، وعلى التجمع الجديد، وعلى القيادة الجديدة، وحتى أرصدت لها كل ما في جعبتها من أذى، ومن كيد ومن فتنة، ومن حيلة ..
لقد انتفض التجمع الجاهلي ليدفع عن نفسه الخطر الذي يتهدد وجوده بكل ما يدفع به الكائن العضوي خطر الموت عن نفسه .. وهذا هو الشأن الطبيعي الذي لا مفر منه، كلما قامت دعوة إلى ربوبية اللّه للعالمين، في مجتمع جاهلي يقوم على أساس من ربوبية العباد للعباد، وكلما تمثلت الدعوة الجديدة في تجمع حركي جديد، يتبع في تحركه قيادة جديدة، ويواجه التجمع الجاهلي القديم مواجهة النقيض للنقيض([18])!
وعندئذ تعرض كل فرد في التجمع الإسلامي الجديد للأذى والفتنة بكل صنوفها، إلى حد إهدار الدم في كثير من الأحيان .. ويومئذ لم يكن يقدم على شهادة أن لا إله إلا اللّه، وأن محمداً رسول اللّه، والانضمام إلى التجمع الإسلامي الوليد، والدينونة لقيادته الجديدة، إلا كل من نذر نفسه للّه وتهيأ لاحتمال الأذى والفتنة والجوع والغربة والعذاب والموت في أبشع الصور في بعض الأحيان ..
بذلك تكونت للإسلام قاعدة صلبة من أصلب العناصر عوداً في المجتمع العربي، فأما العناصر التي لم تحتمل هذه الضغوط، فقد فتنت عن دينها، وارتدت إلى الجاهلية مرة أخرى، وكان هذا النوع قليلاً، فقد كان الأمر كله معروفاً مكشوفاً من قبل، فلم يكن يقدم ابتداء على الانتقال من الجاهلية إلى الإسلام، وقطع الطريق الشائك الخطر المرهوب إلا العناصر المختارة الممتازة الفريدة التكوين.
وهكذا اختار اللّه السابقين من المهاجرين من تلك العناصر الفريدة النادرة، ليكونوا هم القاعدة الصلبة لهذا الدين في مكة، ثم ليكونوا هم القاعدة الصلبة لهذا الدين بعد ذلك في المدينة مع السابقين من الأنصار الذين، وإن كانوا لم يصطلوها في أول الأمر، كما اصطلاها المهاجرون، إلا أن بيعتهم لرسول اللّه e (بيعة العقبة) قد دلت على أن عنصرهم ذو طبيعة أصيلة مكافئة لطبيعة هذا الدين .. قال ابن كثير في التفسير: «وقال محمد بن كعب القرظي وغيره: قال عبد اللّه بن رواحة t لرسول اللّه e (يعني ليلة العقبة): اشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال: (أشترط لربي أن تعبدوه، ولا تشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم)، قالوا: فما لنا إذا نحن فعلنا ذلك؟ قال: (الجنة)، قالوا: ربح البيع، ولا نقيل ولا نستقيل».
ولقد كان هؤلاء الذين يبايعون رسول اللّه هذه البيعة، ولا يرتقبون من ورائها شيئاً إلا الجنة، ويوثقون هذا البيع، فيعلنون أنهم لا يقبلون أن يرجعوا فيه، ولا أن يرجع فيه رسول اللّه e ! يعلمون أنهم لا يبايعون على أمر هين، بل كانوا مستيقنين أن قريشاً وراءهم، وأن العرب كلها سترميهم وأنهم لن يعيشوا بعدها في سلام مع الجاهلية الضاربة الأطناب من حولهم في الجزيرة، وبين ظهرانيهم في المدينة.
ومن رواية ابن كثير في كتابه: «البداية والنهاية»: «قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر بن خيثم، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: مكث رسول اللّه e بمكة عشر سنين، يتبع الناس في منازلهم .. عكاظ والمجنة .. وفي المواسم، يقول:
(من يؤويني؟ من ينصرني؟ حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة)
فلا يجد أحداً يؤويه، ولا ينصره، حتى إن الرجل ليخرج من اليمن، أو من مضر - كذا قال فيه - فيأتيه قومه وذوو رحمه فيقولون: احذر غلام قريش لا يفتنك، ويمضي بين رجالهم وهم يشيرون إليه بالأصابع، حتى بعثنا اللّه إليه من يثرب، فآويناه وصدقناه، فيخرج الرجل منا فيؤمن به، ويقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين، يظهرون الإسلام، ثم ائتمروا جميعاً، فقلنا: حتى متى نترك رسول اللّه e يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟
فرحل إليه منا سبعون رجلاً، حتى قدموا عليه في الموسم([19])، فواعدناه شعب العقبة، فاجتمعنا عندها من رجل ورجلين، حتى توافينا، فقلنا: يا رسول اللّه علام نبايعك؟ قال: (تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في اللّه لا تخافوا في اللّه لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم، وأزواجكم، وأبناءكم، ولكم الجنة)
فقمنا إليه، وأخذ بيده أسعد بن زرارة - وهو من أصغرهم - وفي رواية البيهقي - وهو أصغر السبعين - إلا أنا، فقال: رويداً يا أهل يثرب، فإنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول اللّه، وإن إخراجه اليوم مناوأة للعرب كافة، وقتل خياركم، وتعضكم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك، فخذوه وأجركم على اللّه، وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه، فبينوا ذلك فهو أعذر لكم عند اللّه ..
قالوا: أبطِ عنا يا أسعد! فو اللّه لا ندع هذه البيعة، ولا نسلبها أبداً! قال: فقمنا إليه، فبايعناه، وأخذ علينا وشرط، ويعطينا على ذلك الجنة»([20]).
فقد كان الأنصار إذن يعلمون - عن يقين واضح - تكاليف هذه البيعة، وكانوا يعلمون أنهم لم يوعدوا على هذه التكاليف شيئاً في هذه الحياة الدنيا - حتى ولا النصر والغلبة - وأنهم لم يوعدوا عليها إلا الجنة .. ثم كان هذا مدى وعيهم بها، ومدى حرصهم عليها .. فلا جرم أن يكونوا - مع السابقين من المهاجرين الذين بنوا هذا البناء، وأعدوا هذا الإعداد - هم القاعدة الصلبة للمجتمع المسلم أول العهد بالمدينة ..
ولكن مجتمع المدينة لم يظل بهذا الخلوص والنقاء .. لقد ظهر الإسلام وفشا في المدينة، واضطر أفراد كثيرون - ومعظمهم من ذوي المكانة في قومهم - أن يجاروا قومهم احتفاظاً بمكانتهم فيهم .. حتى إذا كانت وقعة بدر، قال كبير هؤلاء عبد اللّه بن أبيّ بن سلول: هذا أمر قد توجه! وأظهر الإسلام نفاقاً، ولا بد أن كثيرين قد جرفتهم الموجة، فدخلوا في الإسلام تقليداً - ولو لم يكونوا منافقين -، ولكنهم لم يكونوا بعد قد فقهوا في الإسلام، ولا انطبعوا بطابعه .. مما أنشأ تخلخلاً في بناء المجتمع المدني ناشئاً عن اختلاف مستوياته الإيمانية.
وهنا أخذ المنهج القرآني التربوي الفريد، بقيادة رسول اللّه e يعمل عمله في هذه العناصر الجديدة، ويعمل كذلك على إعادة التناسق والتوافق بين المستويات العقيدية والخلقية والسلوكية للعناصر المختلفة الداخلة في جسم المجتمع الوليد.
وحين نراجع السور المدنية - بترتيب النزول التقريبي - فإننا نطلع على الجهد الكبير الذي بذل في عملية الصهر الجديدة للعناصر المتنوعة في المجتمع المسلم، وبخاصة أن هذه العناصر ظلت تتوارد على هذا المجتمع - على الرغم من وقفة قريش العنيدة، وتأليبها لكل قبائل الجزيرة، ومن وقفة اليهود البشعة، وتأليبهم كذلك للعناصر المعادية للدين الجديد، والتجمع الجديد - وظلت الحاجة مستمرة لعمليات الصهر، والتنسيق بصورة دائمة لا تفتر، ولا تغفل لحظة ..
ومع هذا الجهد كله، كانت ما تزال تظهر بين الحين والحين - وبخاصة في فترات الشدة - أعراض من الضعف، والنفاق والتردد، والشح بالنفس والمال، والتهيب من مواجهة المخاطر .. وبصفة خاصة أعراض من عدم الوضوح العقيدي الذي يحسم في العلاقة بين المسلم، وقرابته من أهل الجاهلية .. والنصوص القرآنية في السور المتوالية تكشف لنا عن طبيعة هذه الأعراض التي كان المنهج القرآني يتعرض لها بالعلاج بشتى أساليبه الربانية الفريدة .. نذكر منها على سبيل المثال:
﴿كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ * يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾([21]) (الأنفال: 5 - 8).
* ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ * رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ﴾ (آل عمران: 7 - 9).
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ * لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ﴾ (الحشر: 11 - 13).
﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً * إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً * وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً ...﴾ إلخ (الأحزاب: 9 - 14).
﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً * وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً * وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً﴾ ... (النساء: 71 - 73).
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا* أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً﴾ (النساء: 77 - 78).
﴿إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ * إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ * ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ﴾ (محمد: 36 - 38).
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ * لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ * يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْ ءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ * اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ * لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (المجادلة: 14 - 22).
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ﴾ (المائدة: 51 – 53).
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ * إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ * لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ (الممتحنة: 1 – 4).
وحسبنا هذه النماذج من شتى السور، للدلالة على ما كان يظهر في المجتمع المسلم من أعراض ..نتيجة طبيعية وحتمية لدخول عناصر جديدة فيه بصفة مستمرة، لا يتم صهرها وتنسيقها مع القاعدة الصلبة الخالصة إلا بعد فترة وجهد، وتربية مستمرة ..
إلا أن قوام المجتمع المسلم في المدينة كان يظل سليماً في جملته بسبب اعتماده أساساً على تلك القاعدة الصلبة الخالصة من السابقين من المهاجرين والأنصار، وما تحدثه من تماسك وصلابة في قوامه في وجه جميع الأعراض والظواهر والخلخلة أحياناً، والتعرض للمخاطر التي تكشف عن هذه العناصر التي لم يتم بعد صهرها ونضجها وتماسكها وتناسقها.
وشيئاً فشيئاً كانت هذه العناصر تنصهر، وتتطهر، وتتناسق مع القاعدة، ويقل عدد الناشزين من ضعاف القلوب، ومن المنافقين، ومن المترددين كذلك، والمتهيبين، وممن لم يتم في نفوسهم الوضوح العقيدي الذي يقيمون على أساسه كل علاقاتهم مع الآخرين .. حتى إذا كان قبيل فتح مكة كان المجتمع الإسلامي أقرب ما يكون إلى التناسق التام مع قاعدته الصلبة الخالصة، وأقرب ما يكون بجملته إلى النموذج الذي يهدف إليه المنهج التربوي الرباني الفريد ..
نعم إنه كانت في هذا المجتمع ما تزال هناك أقدار متفاوتة أنشأتها الحركة العقيدية ذاتها، فتميزت مجموعات من المؤمنين بأقدارها على قدر بلائها في الحركة وسبقها وثباتها .. تميز السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، وتميز أهل بدر، وتميز أصحاب بيعة الرضوان في الحديبية، ثم تميز بصفة عامة الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، وجاءت النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، والأوضاع العملية في المجتمع المسلم، تؤكد هذه الأقدار التي أنشأتها الحركة بالعقيدة، وتنص عليها.
﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ، خالِدِينَ فِيها أَبَداً، ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ .. (التوبة: 100).
(لعل اللّه اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد وجبت لكم الجنة)([22]) ..
﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً * وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً﴾ ... (الفتح: 18 - 19).
﴿لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ، أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ ... (الحديد: 10).
(مهلا يا خالد، دع عنك أصحابي، فو اللّه لو كان لك أحد ذهباً، ثم أنفقته في سبيل اللّه، ما أدركت غدوة رجل من أصحابي ولا روحة) ([23]) .... فقال رسول اللّه e لخالد: (دع عنك أصحابي)، وهو يعني هذه الطبقة ذات القدر الخاص المتميز في المجتمع المسلم في المدينة.
ولكن تميز هذه الطبقات بأقدارها الإيمانية التي أنشأتها الحركة الإسلامية، لم يكن مانعاً أن تتقارب المستويات الإيمانية، وتتناسق في مجتمع المدينة قبيل الفتح، وأن يتوارى الكثير من أعراض الخلخلة في الصف، والكثير من ظواهر الضعف والتردد، والشح بالنفس والمال، وعدم الوضوح العقيدي، والنفاق .. من ذلك المجتمع، بحيث يمكن اعتبار المجتمع المدني بجملته هو القاعدة الإسلامية.
إلا أن فتح مكة في العام الثامن الهجري، وما أعقبه من استسلام هوازن وثقيف في الطائف، وهما آخر قوتين كبيرتين بعد قريش في الجزيرة، قد عاد فصب في المجتمع المسلم أفواجاً جديدة كثيرة دخلت في الدين مستسلمة على درجات متفاوتة من المستويات الإيمانية، وفيهم كارهون للإسلام منافقون، وفيهم المنساقون إلى الإسلام الظاهر القاهر، وفيهم المؤلفة قلوبهم، دون انطباع بحقائق الإسلام الجوهرية، ولا امتزاج بروحه الحقيقية.
لقد كانت وقفة قريش العنيدة الطويلة حاجزاً قوياً دون انسياح الإسلام في الجزيرة العربية، فقد كانت قريش هي صاحبة الكلمة العليا في الشؤون الدينية في الجزيرة - فوق ما كان لها من نفوذ اقتصادي وسياسي وأدبي كذلك -، فكانت وقفتها في وجه الدين الجديد، بهذه الصورة العنيدة، مدعاة لصرف العرب في أنحاء الجزيرة عن الدخول فيه، أو على الأقل مدعاة للتردد والانتظار حتى تنجلي المعركة بين قريش وهذا النبي من أبنائها! ...
فلما دانت قريش بالفتح، ودانت بعدها هوازن وثقيف في الطائف، وكانت قبائل اليهود الثلاث القوية في المدينة قد خضدت شوكتها نهائياً، فأجليت بنو قينقاع، وبنو النضير إلى الشام، وأبيدت بنو قريظة، واستسلمت خيبر الاستسلام الأخير ... كان ذلك إيذاناً بدخول الناس في دين اللّه أفواجاً، وانسياح الإسلام في أرجاء الجزيرة كلها في خلال عام واحد.
غير أن هذا الاتساع الأفقي في رقعة الإسلام قد أعاد معه جميع الأعراض والظواهر التي ظهرت في المجتمع بعد انتصار بدر - ولكن على نطاق أوسع - بعد ما كاد المجتمع يبرأ منها بتأثير التربية الطويلة المدى، المستمرة التأثير في خلال السنوات السبع بعد بدر الكبرى! ولولا أن المجتمع المدني بجملته كان قد تحول إلى أن يكون هو القاعدة الصلبة الخالصة لهذه العقيدة، والأساس الركين لهذا المجتمع، لكان هناك خطر كبير من هذا الاتساع الأفقي السريع في رقعة الإسلام في الجزيرة، ولكن اللّه الذي كان يدبر لهذا الأمر ويرعاه، كان قد أعد العصبة المؤلفة من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار؛ لتكون هي القاعدة الأمينة لهذا الدين بعد التوسع النسبي الذي جاء به انتصار بدر، كما أنه - سبحانه - كان قد أعد المجتمع المدني بجملته ليكون هو القاعدة الأمينة بعد التوسع الشديد السريع الذي جاء به فتح مكة .. واللّه أعلم حيث يجعل رسالته ..
وأول ما ظهر من ذلك كان يوم حنين الذي جاء عنه في هذه السورة: (التوبة): ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ﴾ (التوبة: 25- 26).
وكان من الأسباب الظاهرة لهذه الهزيمة في أول الأمر أن ألفين من «الطلقاء» الذين أسلموا يوم الفتح، قد خرجوا مع الآلاف العشرة من جند المدينة الذين فتحوا مكة، فكان وجود هذين الألفين - مع عشرة آلاف - سبباً في اختلال التوازن في الصف - بالإضافة إلى عامل المفاجأة من هوازن - ذلك أن الجيش لم يكن كله من القاعدة الصلبة الخالصة التي تمت تربيتها، وتناسقها في الزمن الطويل ما بين بدر والفتح.
كذلك كان ما ظهر في أثناء غزوة تبوك من الأعراض والظواهر المؤذية ثمرة طبيعية لهذا الاتساع الأفقي السريع، ودخول تلك الأفواج الجديدة، بمستوياتها الإيمانية، والتنظيمية المخلخلة .. هذه الظواهر والأعراض التي تحدثت عنها سورة التوبة، والتي اقتضت تلك الحملات الطويلة المفصلة المنوعة الأساليب، التي أشرنا إليها في المقتطفات الممثلة لكل مقاطع السورة.
ونستطيع أن نستطرد هنا لنتابع خطوات الواقع التاريخي للمجتمع المسلم بعد عامين اثنين من الفتح، عند ما قبض رسول اللّه e، فارتدت الجزيرة العربية كلها، ولم يثبت إلا مجتمع المدينة - القاعدة الصلبة الخالصة - فهذه الظاهرة يسهل الآن تفسيرها .. إن عامين اثنين بعد الفتح لم يكونا كافيين لاستقرار حقيقة الإسلام في نفوس هذه الأفواج الكثيرة التي دخلت في دين اللّه بعد الفتح، بمستوياتها الإيمانية المخلخلة، فلما قبض رسول اللّه e ارتجت الجزيرة المخلخلة، وثبتت القاعدة الصلبة، واستطاعت هذه القاعدة بصلابتها، وخلوصها، وتناسقها أن تقف في وجه التيار، وأن ترده عن مجراه الجارف، وأن تحوله إلى الإسلام مرة أخرى ..
إن رؤية هذه الحقيقة - على هذا النحو - كفيلة بأن ترينا تدبير اللّه الحكيم في المحنة الطويلة التي تعرضت لها الدعوة في مكة - في أول الأمر -، وحكمته في تسليط المشركين الطواغيت على الفئة المسلمة يؤذونها، ويفتنونها عن دينها، ويهدرون دماءها، ويفعلون بها الأفاعيل!
لقد كان اللّه سبحانه يعلم أن هذا هو المنهج القويم لتربية الجماعة الأولى، وتكوين القاعدة الصلبة لهذه العقيدة، وأنه بدون هذه المحنة الطويلة، لا تصلب الأعواد، ولا تثبت للضغوط، وأن هذه الدرجة من الصلابة والخلوص والتجرد والإصرار، والمضي في سبيل اللّه على الأذى والعذاب والقتل والتنكيل والتشريد والتجويع، وقلة العدد، وانعدام النصير الأرضي ... إن هذه الدرجة هي وحدها التي تصلح للقاعدة الأصيلة الثابتة عند نقطة الانطلاق الأولى ..
إن هذه القاعدة الصلبة من المهاجرين الأوائل هي التي انضم إليها السابقون من الأنصار، ليكونوا القاعدة في المدينة - قبل بدر -، وليكونوا هم الحراس الأقوياء الأشداء في فترة التخلخل التي أعقبت النصر في بدر، بالتوسع الأفقي الذي جاء بأعداد جديدة لم تنضج بعد، ولم تتناسق مع القاعدة في مستواها الإيماني والتنظيمي.
وأخيراً فإن القاعدة الصلبة التي اتسعت أبعادها قبيل الفتح، حتى صارت تتمثل في المجتمع المدني بجملته، هي التي حرست الإسلام، وصانته من الهزات بعد الفتح، ثم من الهزة الكبرى بعد وفاة رسول اللّه e، وارتداد الجزيرة عن الإسلام.
إن هذه الحقيقة - كما أنها ترينا تدبير اللّه الحكيم في المحنة الطويلة التي تعرضت لها الدعوة في مكة، وفي الأهوال والمشاق، والأخطار التي تعرض لها المجتمع المسلم في المدينة حتى الحديبية - هي كذلك تكشف لنا عن طبيعة المنهج الحركي للدعوة الإسلامية المتجددة في أي زمان، وفي أي مكان.
إنه ابتداء يجب توجيه الحرص كله لإقامة القاعدة الصلبة من المؤمنين الخلص، الذين تصهرهم المحنة، فيثبتون عليها، والعناية بتربيتهم تربية إيمانية عميقة تزيدهم صلابة وقوة ووعياً، ذلك مع الحذر الشديد من التوسع الأفقي قبل الاطمئنان إلى قيام هذه القاعدة الصلبة الخالصة الواعية المستنيرة، فالتوسع الأفقي قبل قيام هذه القاعدة خطر ماحق، يهدر وجود أية حركة، لا تسلك طريق الدعوة الأولى من هذه الناحية، ولا تراعي طبيعة المنهج الحركي الرباني النبوي الذي سارت عليه الجماعة الأولى.
على أن اللّه - سبحانه - هو الذي يتكفل بهذا لدعوته، فحيثما أراد لها حركة صحيحة، عرّض طلائعها للمحنة الطويلة، وأبطأ عليهم النصر، وقللهم، وبطأ الناس عنهم، حتى يعلم منهم أن قد صبروا وثبتوا، وتهيأوا، وصلحوا لأن يكونوا هم القاعدة الصلبة الخالصة الواعية الأمينة .. ثم نقل خطاهم بعد ذلك بيده - سبحانه -، واللّه غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
مراحل ... وسمات
والآن نعرض - على وجه الإجمال - للموضوعات الرئيسية، وبخاصة الأحكام النهائية التي قررتها في علاقة المعسكر الإسلامي بسائر المعسكرات حوله .. فالأحكام التي وردت في هذه السورة - بوصفها آخر ما نزل من الأحكام - هي التي تمثل قمة الخط الحركي للمنهج الإسلامي..
ونحب هنا أن نعيد ما قلناه في الجزء التاسع - في تقديم سورة الأنفال - عن طبيعة هذا المنهج؛ لنفهم على ضوئه هذه الأحكام النهائية الأخيرة، ولو كان في إعادته شيء من التكرار في كتاب الظلال، ذلك أن قرب هذه الفقرات التي سنعيدها هنا ضروري لحيوية السياق:
«لقد لخص الإمام ابن القيم سياق الجهاد في الإسلام في «زاد المعاد» في الفصل الذي عقده باسم: «فصل في ترتيب سياق هديه مع الكفار والمنافقين من حين بعث إلى حين لقي اللّه U: أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى: أن يقرأ باسم ربه الذي خلق، وذلك أول نبوته، فأمره أن يقرأ في نفسه، ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ، ثم أنزل عليه:
﴿يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ (المدثر: 1 – 2)
فنبأه بقوله: ﴿اقْرَأْ﴾
وأرسله بـ﴿يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾
ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين، ثم أنذر قومه، ثم أنذر من حولهم من العرب، ثم أنذر العرب قاطبة، ثم أنذر العالمين، فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته، ينذر بالدعوة بغير قتال، ولا جزية، ويؤمر بالكف والصبر والصفح.
ثم أذن له في الهجرة، وأذن له في القتال، ثم أمره أن يقاتل من قاتله، ويكف عمن اعتزله، ولم يقاتله، ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله للّه .. ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام:
أهل صلح وهدنة، وأهل حرب، وأهل ذمة ..
فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم، وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد؛ فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم، ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد، وأمر أن يقاتل من نقض عهده ..
ولما نزلت سورة براءة، نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها: فأمر أن يقاتل عدوه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، أو يدخلوا في الإسلام، وأمره فيها بجهاد الكفار، والمنافقين، والغلظة عليهم.
فجاهد الكفار بالسيف والسنان، والمنافقين بالحجة واللسان، وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار، ونبذ عهودهم إليهم .. وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام:
- قسما أمره بقتالهم، وهم الذين نقضوا عهده، ولم يستقيموا له، فحاربهم، وظهر عليهم.
- وقسماً لهم عهد موقت، لم ينقضوه، ولم يظاهروا عليه، فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم.
- وقسماً لم يكن لهم عهد، ولم يحاربوه، أو كان لهم عهد مطلق، فأمر أن يؤجلهم أربعة أشهر؛ فإذا انسلخت قاتلهم .. فقتل الناقض لعهده، وأجل من لا عهد له، أو له عهد مطلق، أربعة أشهر، وأمره أن يتم للموفي بعهده عهده إلى مدته؛ فأسلم هؤلاء كلهم، ولم يقيموا على كفرهم إلى مدتهم، وضرب على أهل الذمة الجزية .. فاستقر أمر الكفار معه بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام:
محاربين له، وأهل عهد، وأهل ذمة ..
ثم آلت حالة أهل العهد والصلح إلى الإسلام، فصاروا معه قسمين:
محاربين، وأهل ذمة. والمحاربون له: خائفون منه ..
فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام: مسلم مؤمن به، ومسالم له آمن، وخائف محارب..
وأما سيرته في المنافقين، فإنه أمر أن يقبل منهم علانيتهم، ويكل سرائرهم إلى اللّه، وأن يجاهدهم بالعلم والحجة، وأمر أن يعرض عنهم، ويغلظ عليهم، وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم، ونهى أن يصلي عليهم، وأن يقوم على قبورهم، وأخبر أنه إن استغفر لهم، فلن يغفر اللّه لهم .. فهذه سيرته في أعدائه من الكفار والمنافقين» ..انتهى.
ومن هذا التلخيص الجيد لمراحل الجهاد في الإسلام ، تتجلى سمات أصيلة، وعميقة في المنهج الحركي لهذا الدين، جديرة بالوقوف أمامها طويلاً، ولكننا هنا لا نملك إلا أن نشير إليها إشارات مجملة:
«السمة الأولى: هي الواقعية الجدية في منهج هذا الدين .. فهو حركة تواجه واقعاً بشرياً .. وتواجهه بوسائل مكافئة لوجوده الواقعي .. إنها تواجه جاهلية اعتقادية تصورية، تقوم عليها أنظمة واقعية عملية، تسندها سلطات ذات قوة مادية ..
ومن ثم تواجه الحركة الإسلامية هذا الواقع كله بما يكافئه .. تواجهه بالدعوة والبيان لتصحيح المعتقدات، والتصورات، وتواجهه بالقوة والجهاد لإزالة الأنظمة والسلطات القائمة عليها، تلك التي تحول بين جمهرة الناس وبين التصحيح بالبيان للمعتقدات، والتصورات، وتخضعهم بالقهر والتضليل، وتعبدهم لغير ربهم الجليل .. إنها حركة لا تكتفي بالبيان في وجه السلطان المادي، كما أنها لا تستخدم القهر المادي لضمائر الأفراد .. وهذه كتلك، سواء في منهج هذا الدين، وهو يتحرك لإخراج الناس من العبودية للعباد إلى العبودية للّه وحده.
«والسمة الثانية في منهج هذا الدين .. هي الواقعية الحركية .. فهو حركة ذات مراحل، كل مرحلة لها وسائل مكافئة لمقتضياتها، وحاجاتها الواقعية، وكل مرحلة تسلم إلى المرحلة التي تليها، فهو لا يقابل الواقع بنظريات مجردة، كما أنه لا يقابل مراحل هذا الواقع بوسائل متجمدة، والذين يسوقون النصوص القرآنية للاستشهاد بها على منهج هذا الدين في الجهاد، ولا يراعون هذه السمة فيه، ولا يدركون طبيعة المراحل التي مر بها هذا المنهج، وعلاقة النصوص المختلفة بكل مرحلة منها .. الذين يصنعون هذا يخلطون خلطاً شديداً، ويلبسون منهج هذا الدين لبساً مضلّلاً، ويحملون النصوص ما لا تحتمله من المبادئ والقواعد النهائية، ذلك أنهم يعتبرون كل نص منها كما لو كان نصاً نهائياً، يمثل القواعد النهائية في هذا الدين، ويقولون - وهم مهزومون روحياً وعقلياً تحت ضغط الواقع البائس لذراري المسلمين الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا العنوان:
إن الإسلام لا يجاهد إلا للدفاع! ويحسبون أنهم يسدون لهذا الدين جميلاً بتخليه عن منهجه، وهو إزالة الطواغيت جميعاً من الأرض جميعاً، وتعبيد الناس للّه وحده، وإخراجهم من العبودية للعباد إلى العبودية لرب العباد! لا بقهرهم على اعتناق عقيدته، ولكن بالتخلية بينهم وبين هذه العقيدة، بعد تحطيم الأنظمة السياسية الحاكمة، أو قهرها حتى تدفع الجزية، وتعلن استسلامها، والتخلية بين جماهيرها وهذه العقيدة، تعتنقها أو لا تعتنقها بكامل حريتها.
«والسمة الثالثة: هي أن هذه الحركة الدائبة، والوسائل المتجددة، لا تخرج هذا الدين عن قواعده المحددة، ولا عن أهدافه المرسومة، فهو منذ اليوم الأول سواء - وهو يخاطب العشيرة الأقربين، أو يخاطب قريشا، أو يخاطب العرب أجمعين، أو يخاطب العالمين .. إنما يخاطبهم بقاعدة واحدة، ويطلب منهم الانتهاء إلى هدف واحد .. هو إخلاص العبودية للّه، والخروج من العبودية للعباد .. لا مساومة في هذه القاعدة ولا لين .. ثم يمضي إلى تحقيق هذا الهدف الواحد، في خطة مرسومة، ذات مراحل محددة، لكل مرحلة وسائلها المتجددة .. على نحو ما أسلفنا في الفقرة السابقة.
«والسمة الرابعة: هي ذلك الضبط التشريعي للعلاقات بين المجتمع المسلم وسائر المجتمعات الأخرى - على النحو الملحوظ في ذلك التلخيص الجيد الذي نقلناه عن زاد المعاد - وقيام ذلك الضبط على أساس أن الإسلام للّه هو الأصل العالمي الذي على البشرية كلها أن تفيء إليه، أو أن تسالمه بجملتها، فلا تقف لدعوته بأي حائل من نظام سياسي، أو قوة مادية، وأن تخلي بينه وبين كل فرد، يختاره أو لا يختاره بمطلق إرادته، ولكن لا يقاومه، ولا يحاربه، فإن فعل ذلك أحد، كان على الإسلام أن يقاتله حتى يقتله، أو يعلن استسلامه!»([24]).
_ _ _
في ضوء هذا البيان نستطيع أن نفهم لم كانت هذه الأحكام الأخيرة في سورة التوبة: من براءة اللّه ورسوله من عهود المشركين، وإمهال ذوي العهود الموقوتة منهم - ممن لم ينقضوا مع المسلمين عهداً، ولم يظاهروا عليهم أحداً - إلى مدتهم، وإمهال ذوي العهود غير الموقوتة - ممن لم ينقضوا مع المسلمين عهداً كذلك، ولم يظاهروا عليهم أحداً - إلى أربعة أشهر، ومثلهم من لم يكن لهم مع المسلمين عهد أصلاً من المشركين.
ونبذ عهود الناقضين لعهودهم، مع إمهالهم أربعة أشهر يسيحون في الأرض آمنين، فإذا انسلخت هذه الأشهر أخذوا وقتلوا حيث وجدوا وحوصروا ومنعوا من التنقل وهم آمنون .. كما نفهم الأحكام الواردة فيها عن قتال أهل الكتاب المنحرفين عن دين اللّه الصحيح، حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .. ثم الأحكام الواردة بجهاد المنافقين مع الكافرين بالغلظة عليهم، وعدم الصلاة على موتاهم، أو القيام على قبورهم .. وكلها أحكام تعدّل الأحكام المرحلية السابقة في السور التي نزلت قبل التوبة، وهذا التعديل نحسب أنه أصبح مفهوما لنا الآن، في ضوء ذلك البيان!
وليس هنا مجال تفصيل القول في هذه الأحكام الأخيرة، ولا في الأحكام المرحلية السابقة لها.
ولكننا فقط نبادر فنقول:
إن تلك الأحكام المرحلية ليست منسوخة بحيث لا يجوز العمل بها في أي ظرف من ظروف الأمة المسلمة بعد نزول الأحكام الأخيرة في سورة التوبة، ذلك أن الحركة والواقع الذي تواجهه في شتى الظروف والأمكنة والأزمنة هي التي تحدد - عن طريق الاجتهاد المطلق - أي الأحكام هو أنسب للأخذ به في ظرف من الظروف، في زمان من الأزمنة، في مكان من الأمكنة! مع عدم نسيان الأحكام الأخيرة التي يجب أن يصار إليها، متى أصبحت الأمة المسلمة في الحال التي تمكنها من تنفيذ هذه الأحكام، كما كان حالها عند نزول سورة التوبة، وما بعد ذلك أيام الفتوحات الإسلامية التي قامت على أساس من هذه الأحكام الأخيرة النهائية، سواء في معاملة المشركين، أو أهل الكتاب.
إن المهزومين في هذا الزمان أمام الواقع البائس لذراري المسلمين - الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا العنوان -، وأمام الهجوم الاستشراقي الماكر على أصل الجهاد في الإسلام، يحاولون أن يجدوا في النصوص المرحلية مهرباً من الحقيقة التي يقوم عليها الانطلاق الإسلامي في الأرض لتحرير الناس كافة من عبادة العباد، وردهم جميعاً إلى عبادة اللّه وحده، وتحطيم الطواغيت، والأنظمة والقوى التي تقهرهم على عبادة غير اللّه، والخضوع لسلطان غير سلطانه، والتحاكم إلى شرع غير شرعه ..
ومن ثم نراهم يقولون مثلاً: إن اللّه سبحانه يقول:
﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ (الأنفال: 61) ..
ويقول: ﴿لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾ (الممتحة: 8).
ويقول: ﴿وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ (البقرة: 190)، ... ويقول عن أهل الكتاب:
﴿قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا: اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ (آل عمران: 64).
فالإسلام إذن لا يقاتل إلا الذين يقاتلون أهل دار الإسلام في داخل حدود هذه الدار، أو الذين يهددونها من الخارج! وأنه قد عقد صلح الحديبية مع المشركين، وأنه قد عقد معاهدة مع يهود المدينة ومشركيها! ومعنى ذلك - في تصورهم المهزوم - أن لا علاقة للإسلام إذن بسائر البشر في أنحاء الأرض، ولا عليه أن يعبدوا ما يعبدون من دون اللّه، ولا عليه أن يتخذ الناس بعضهم بعضاً أرباباً من دون اللّه في الأرض كلها ما دام هو آمناً داخل حدوده الإقليمية! وهو سوء ظن بالإسلام وسوء ظن باللّه - سبحانه! - تمليه الهزيمة أمام الواقع البائس النكد الذي يواجههم، وأمام القوى العالمية المعادية التي لا طاقة لهم بها في اللحظة الحاضرة!
وهان الأمر لو أنهم حين يهزمون روحياً أمام هذه القوى لا يحيلون هزيمتهم إلى الإسلام ذاته، ولا يحملونه على ضعف واقعهم الذي جاءهم من بعدهم عن الإسلام أصلاً! ولكنهم يأبون إلا أن يحملوا ضعفهم هم وهزيمتهم على دين اللّه القوي المتين!
إن هذه النصوص التي يلتجئون إليها نصوص مرحلية تواجه واقعاً معيناً، وهذا الواقع المعين قد يتكرر وقوعه في حياة الأمة المسلمة، وفي هذه الحالة تطبق هذه النصوص المرحلية؛ لأن واقعها يقرر أنها في مثل تلك المرحلة التي واجهتها تلك النصوص بتلك الأحكام، ولكن هذا ليس معناه أن هذه هي غاية المنى، وأن هذه هي نهاية خطوات هذا الدين .. إنما معناه أن على الأمة المسلمة أن تمضي قدماً في تحسين ظروفها، وفي إزالة العوائق من طريقها، حتى تتمكن في النهاية من تطبيق الأحكام النهائية الواردة في سورة التوبة، والتي كانت تواجه واقعا غير الواقع الذي واجهته النصوص المرحلية.
إن النصوص الأخيرة تقول في شأن المشركين:
﴿بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ* وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ * إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ﴾ (التوبة: 1 – 6).
وتقول في شأن أهل الكتاب:
﴿قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ﴾ (التوبة: 29).
فإذا كان المسلمون اليوم لا يملكون بواقعهم تحقيق هذه الأحكام، فهم - اللحظة ومؤقتاً - غير مكلفين بتحقيقها - ولا يكلف اللّه نفساً إلا وسعها - ولهم في الأحكام المرحلية سعة يتدرجون معها حتى ينتهوا إلى تنفيذ هذه الأحكام الأخيرة عند ما يكونون في الحال التي يستطيعون معها تنفيذها ..
ولكن عليهم ألا يلووا أعناق النصوص النهائية لتوافق أحكام النصوص المرحلية، وعليهم ألا يحملوا ضعفهم الحاضر على دين اللّه القوي المتين، وعليهم أن يتقوا اللّه في مسخ هذا الدين، وإصابته بالهزال، بحجة أنه دين السلم والسلام!
إنه دين السلم والسلام فعلاً، ولكن على أساس إنقاذ البشرية كلها من عبادة غير اللّه، وإدخال البشرية كافة في السلم كافة .. إنه منهج اللّه هذا الذي يراد البشر على الارتفاع إليه، والاستمتاع بخيره، وليس منهج عبد من العبيد، ولا مذهب مفكر من البشر، حتى يخجل الداعون إليه من إعلان أن هدفهم الأخير هو تحطيم كل القوى التي تقف في سبيله؛ لإطلاق الحرية للناس أفراداً في اختياره ..
_ _ _
إنه حين تكون المذاهب التي يتبعها الناس مذاهب بشرية من صنع العبيد، وحين تكون الأنظمة والشرائع التي تصرف حياتهم من وضع العبيد أيضاً، فإنه في هذه الحالة يصبح لكل مذهب، ولكل نظام الحق في أن يعيش داخل حدوده آمناً، ما دام أنه لا يعتدي على حدود الآخرين، ويصبح من حق هذه المذاهب والأنظمة، والأوضاع المختلفة أن تتعايش، وألا يحاول أحدها إزالة الآخر!
فأما حين يكون هناك منهج إلهي وشريعة ربانية، ووضع العبودية فيه للّه وحده، وتكون إلى جانبه مناهج ومذاهب، وأوضاع من صنع البشر العبودية فيها للعباد .. فإن الأمر يختلف من أساسه، ويصبح من حق المنهج الإلهي أن يجتاز الحواجز البشرية، ويحرر البشر من العبودية للعباد، ويتركهم أحراراً في اختيار العقيدة التي يختارونها في ظل الدينونة للّه وحده.
والمهزومون الذين يحاولون أن يلووا أعناق النصوص لياً؛ ليخرجوا من الحرج الذي يتوهمونه في انطلاق الإسلام وراء حدوده الأولى؛ ليحرر البشر في الأرض كلها من العبودية لغير اللّه، ينسون هذه الحقيقة الكبرى ..وهي أن هناك منهجاً ربانياً العبودية فيه للّه وحده، يواجه مناهج بشرية العبودية فيها للعبيد!!!
إن للجهاد المطلق في هذا الدين مبرراته النابعة من ذات المنهج الإلهي، فليراجعها المهزومون الذين يحملون هزيمتهم وضعفهم على هذا الدين، لعل اللّه أن يرزقهم القوة من عنده، وأن يجعل لهم الفرقان الذي وعد به عباده المتقين!
قمة المنهج الحركي
خطوة حاسمة
﴿بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ * وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ * إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ﴾ (التوبة: 1- 6).
﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ * اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ * لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ * فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ﴾ (التوبة: 7- 12).
﴿أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ﴾ (التوبة: 13- 16).
﴿ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ * إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ * أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ (التوبة: 17- 22).
﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ﴾ (التوبة: 23- 24).
﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ * ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (التوبة: 25- 27).
﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ (التوبة: 28).
هذا المقطع من سياق السورة نزل متأخراً عن بقيتها، وإن كان قد جاء ترتيبه في مقدماتها، وترتيب الآيات في السورة كان يتم - كما تقدم - بأمر رسول اللّه e، فهو أمر توقيفي منه e.
وهو يتضمن إنهاء العهود التي كانت قائمة بين المسلمين والمشركين حتى ذلك الحين، سواء كان هذا الإنهاء بعد أربعة أشهر لمن كانت عهودهم مطلقة، أو الناكثين لعهودهم، أو كان بعد انتهاء الأجل لمن كانت لهم عهود مقيدة، ولم ينقصوا المسلمين شيئاً، ولم يظاهروا عليهم أحداً .. فعلى الجملة كانت النتيجة الأخيرة هي إنهاء العهود مع المشركين في الجزيرة العربية، وإنهاء مبدأ التعاقد أصلاً مع المشركين بعد ذلك، بالبراءة المطلقة من المشركين، وباستنكار أن يكون للمشركين عهد عند اللّه وعند رسوله.
ومن بين ما يتضمنه كذلك عدم السماح للمشركين بالطواف بالمسجد الحرام، أو عمارته في صورة من الصور بعد ذلك، خلافاً لما كان عليه العهد العام المطلق بين رسول اللّه e والمشركين، أن يأمن بعضهم بعضاً في البيت الحرام، والأشهر الحرم مع بقائهم على شركهم.
والذي يراجع أحداث السيرة النبوية ووقائعها، ليرى من خلالها الواقع التاريخي للمنهج الحركي الإسلامي، ويراجع كذلك طبيعة هذا المنهج في ذاته ومراحله وأهدافه .. يرى بوضوح أن هذه الخطوة الحاسمة في العلاقات بين المعسكر الإسلامي في الجزيرة، وسائر معسكرات المشركين - وكذلك بينه وبين معسكرات أهل الكتاب التي تقررت في هذه السورة - كان قد جاء موعدها، وتمهدت لها الأرض، وتهيأت لها الأحوال، وأصبحت هي الخطوة الطبيعية في أوانها المحتوم.
كان قد تبيَّن من الواقع العملي مرحلة بعد مرحلة، وتجربة بعد تجربة، أنه لا يمكن التعايش بين منهجين للحياة بينهما هذا الاختلاف الجذري العميق البعيد المدى الشامل لكل جزئية من جزئيات الاعتقاد والتصور، والخلق والسلوك، والتنظيم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي - والإنساني - وهو الاختلاف الذي لا بد أن ينشأ من اختلاف الاعتقاد والتصور .. منهجين للحياة أحدهما يقوم على عبودية العباد للّه وحده بلا شريك، والآخر يقوم على عبودية البشر للبشر، وللآلهة المدعاة، وللأرباب المتفرقة، ثم يقع بينهما التصادم في كل خطوة من خطوات الحياة؛ لأن كل خطوة من خطوات الحياة في أحد المنهجين، لا بد أن تكون مختلفة مع الأخرى، ومتصادمة معها تماماً، في مثل هذين المنهجين وفي مثل هذين النظامين.
إنها لم تكن فلتة عارضة أن تقف قريش تلك الوقفة العنيدة لدعوة: «أن لا إله إلا اللّه، وأن محمداً رسول اللّه» في مكة، ولا أن تحاربها هذه الحرب الجائرة في المدينة .. ولم تكن فلتة عارضة أن يقف اليهود في المدينة كذلك لهذه الحركة، وأن يجمعهم مع المشركين معسكر واحد - وهم من أهل الكتاب! - وأن يؤلب اليهود، وتؤلب قريش قبائل العرب في الجزيرة في غزوة الأحزاب؛ لاستئصال شأفة ذلك الخطر الذي يتهدد الجميع بمجرد قيام الدولة في المدينة على أساس هذه العقيدة، وإقامة نظامها وفق ذلك المنهج الرباني المتفرد!.
وكذلك سنعلم بعد قليل أنها لم تكن فلتة عابرة أن يقف النصارى - وهم من أهل الكتاب كذلك! - لهذه الدعوة، ولهذه الحركة، سواء في اليمن أم في الشام، أم فيما وراء اليمن، ووراء الشام إلى آخر الزمان! ..
إنها طبائع الأشياء .. إنها أولاً طبيعة المنهج الإسلامي التي يعرفها جيداً - ويستشعرها بالفطرة - أصحاب المناهج الأخرى! طبيعة الإصرار على إقامة مملكة اللّه في الأرض، وإخراج الناس كافة من عبادة العباد إلى عبادة اللّه وحده، وتحطيم الحواجز المادية التي تحول بين «الناس كافة» وبين حرية الاختيار الحقيقية ..
ثم إنها ثانيا طبيعة التعارض بين منهجين للحياة، لا التقاء بينهما في كبيرة ولا صغيرة، وحرص أصحاب المناهج الأرضية على سحق المنهج الرباني الذي يتهدد وجودهم، ومناهجهم، وأوضاعهم قبل أن يسحقهم! .. فهي حتمية لا اختيار فيها - في الحقيقة - لهؤلاء ولا هؤلاء!
وكانت هذه الحتمية تفعل فعلها على مدى الزمن، وعلى مدى التجارب، وتتجلى في صور شتى، تؤكد وتعمق ضرورة الخطوة النهائية الأخيرة التي أعلنت في هذه السورة، ولم تكن الأسباب القريبة المباشرة التي تذكرها بعض الروايات إلا حلقات في سلسلة طويلة ممتدة على مدى السيرة النبوية الشريفة، وعلى مدى الحركة الإسلامية منذ أيامها الأولى ..
وبهذه السعة في النظرة إلى الجذور الأصيلة للموقف، وإلى تحركاته المستمرة، يمكن فهم هذه الخطوة الأخيرة، وذلك مع عدم إغفال الأسباب القريبة المباشرة؛ لأنها بدورها لا تعدو أن تكون حلقات في تلك السلسلة الطويلة.
قانون الصراع
الذي يراجع أحداث السيرة النبوية ووقائعها، ليرى من خلالها الواقع التاريخي للمنهج الحركي الإسلامي، ويراجع كذلك طبيعة هذا المنهج في ذاته، ومراحله وأهدافه .. يرى بوضوح أن هذه الخطوة الحاسمة في العلاقات بين المعسكر الإسلامي في الجزيرة، وسائر معسكرات المشركين - وكذلك بينه وبين معسكرات أهل الكتاب التي تقررت في هذه السورة - كان قد جاء موعدها، وتمهدت لها الأرض، وتهيأت لها الأحوال، وأصبحت هي الخطوة الطبيعية في أوانها المحتوم.
كانت التجربة تلو التجربة قد كشفت عن القانون الحتمي الذي يحكم العلاقات بين المجتمع المسلم الذي يفرد اللّه سبحانه بالألوهية والربوبية، والقوامة والحاكمية والتشريع، والمجتمعات الجاهلية التي تجعل هذا كله لغير اللّه، أو تجعل فيه شركاء للّه .. هذا القانون الحتمي هو قانون الصراع الذي يعبر عنه قول اللّه سبحانه:
﴿وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً﴾ (الحج: 40)..
والذي يقول عنه سبحانه كذلك:
﴿وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ (البقرة: 251).
وقد ظهرت آثار هذا القانون الحتمي في ظاهرتين بارزتين:
إحداهما: انطلاق الإسلام خطوة بعد خطوة، وغزوة بعد غزوة، ومرحلة بعد مرحلة؛ لنشر منهج اللّه في الأرض حوله، وإبلاغ كلمة اللّه إلى أرض بعد أرض، وإلى قبيلة بعد قبيلة - في طريقه إلى إبلاغها إلى الناس كافة، وإزالة الحواجز المادية التي تحول دون هذا الإعلان العام، والبلوغ إلى كل بني الإنسان - حتى فتحت مكة، وخضدت شوكة قريش العقبة الكبرى في طريق الزحف الإسلامي، واستسلمت هوازن وثقيف في الطائف أقوى القبائل بعد قريش في طريق هذا الزحف، وأصبحت للإسلام قوته التي ترهب عدوه، وتسمح بالقيام بالخطوة النهائية الحاسمة في الجزيرة - تمهيداً لما وراءها من أرض اللّه - حسبما تتهيأ الظروف الملائمة لكل خطوة تالية، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين للّه.
وثانيتهما: نقض العهود التي كانت المعسكرات الجاهلية تعقدها مع المسلمين - في ظروف مختلفة - عهداً بعد عهد، بمجرد أن تتاح لها فرصة نقضها، وعند أول بادرة تشير إلى أن المعسكر الإسلامي في ضائقة تهدد وجوده، أو على الأقل تجعل هذا النقض مأمون العاقبة على ناقضيه من المشركين - ومن أهل الكتاب من قبلهم - فما كانت هذه العهود - إلا نادراً - عن رغبة حقيقية في مسالمة الإسلام، ومهادنة المسلمين، إنما كانت عن اضطرار واقعي إلى حين! فما تطيق المعسكرات الجاهلية طويلاً أن ترى الإسلام ما يزال قائماً حيالها، مناقضاً في أصل وجوده لأصل وجودها، مخالفاً لها مخالفة جذرية أصيلة في الصغيرة والكبيرة من مناهجها، يهدد بقاءها بما في طبيعته من الحق والحيوية والحركة، والانطلاق لتحطيم الطاغوت كله، ورد الناس جميعا إلى عبادة اللّه وحده.
وهذه الظاهرة الأخيرة والقاعدة الأصيلة التي تقوم عليها هي التي يقررها اللّه سبحانه في قوله عن المشركين:
﴿وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا﴾ ... (البقرة: 217).
والتي يقول فيها عن أهل الكتاب:
﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ﴾ .. (البقرة: 109).
ويقول فيها كذلك: ﴿وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ .. (البقرة: 120).
فيعلن - سبحانه - بهذه النصوص القطعية عن وحدة الهدف بين جميع معسكرات الجاهلية تجاه الإسلام والمسلمين، وعن قوة الإصرار على هذا الهدف، وامتدادها عبر الزمان، وعدم توقيتها بظرف أو زمان!
وبدون إدراك ذلك القانون الحتمي في طبيعة العلاقات بين التجمع الإسلامي، والتجمعات الجاهلية، وتفسير الظواهر التي تنشأ عنه - على مدار التاريخ - بالرجوع إليه، لا يمكن فهم طبيعة الجهاد في الإسلام، ولا طبيعة تلك الصراعات الطويلة بين المعسكرات الجاهلية والمعسكر الإسلامي، ولا يمكن فهم بواعث المجاهدين الأوائل، ولا أسرار الفتوحات الإسلامية، ولا أسرار الحروب الوثنية والصليبية التي لم تفتر قط طوال أربعة عشر قرناً، والتي ما تزال مشبوبة على ذراري المسلمين - وإن كانوا لسوء حظهم تخلوا عن حقيقة الإسلام، ولم يبق لهم منه إلا العنوان - في المعسكرات الشيوعية والوثنية والصليبية، كلها في روسيا، والصين، ويوغسلافيا، وألبانيا، وفي الهند، وكشمير، وفي الحبشة، وزنجبار، وقبرص، وكينيا، وجنوب إفريقية، والولايات المتحدة ..
وذلك فوق عمليات السحق الوحشية البشعة لطلائع البعث الإسلامي في كل مكان في العالم الإسلامي - أو الذي كان إسلامياً بتعبير أدق - وتعاون الشيوعية والوثنية والصليبية مع الأوضاع التي تتولى سحق هذه الطلائع، ومد يد الصداقة إليها، وإمدادها بالمعونات التي تبلغ حد الكفالة، وإقامة ستار من الصمت حولها، وهي تسحق هذه الطلائع الكريمة!
إن شيئاً من هذا كله، لا يصبح مفهوماً بدون إدراك ذلك القانون الحتمي، والظواهر التي يتجلى فيها ..
وقد تجلى ذلك القانون - كما أسلفنا - قبيل نزول سورة التوبة، وبعد فتح مكة في هاتين الظاهرتين اللتين أسلفنا الحديث عنهما، وظهر بوضوح أنه لا بد من اتخاذ تلك الخطوة الحاسمة في الجزيرة، سواء تجاه المشركين - وهو ما نواجهه في هذا المقطع من السورة - أو تجاه أهل الكتاب، وهو ما سنواجهه في المقطع التالي مباشرة والذي بعده ..
_ _ _
حملة طويلة
ولكن وضوح ذلك كله للقيادة المسلمة - حينذاك - لم يكن معناه وضوحه - بنفس الدرجة - لكل الجماعات والطوائف في المجتمع المسلم، وبخاصة لحديثي العهد بالإيمان، والمؤلفة قلوبهم، فضلاً على ضعاف القلوب والمنافقين!
كان في المجتمع المسلم - ولعل بعض هؤلاء من كرام المسلمين، وخيارهم - من يتحرج من إنهاء العهود مع المشركين جميعاً - بعد أربعة أشهر للناكثين، ومن لهم عهود غير موقتة، ومن لم يحاربوا المسلمين، ولو من غير عهد، ومن لهم عهود، أقل من أربعة، وبعد انقضاء الأجل لمن لهم عهود موقوتة، ولم ينقصوا المسلمين شيئاً، ولم يظاهروا عليهم أحداً - ولئن كانوا يستسيغون نبذ عهود الناكثين، والذين تخاف منهم الخيانة، كما سبق في الحكم المرحلي الذي تضمنته سورة الأنفال:
﴿وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ﴾ .. (الأنفال: 58).
فإن إنهاء عهود غيرهم بعد أربعة أشهر، أو بعد الأجل المقدر، ربما بدا لهم مخالفاً لما عهدوه، وألفوه من معاهدة المعاهدين، وموادعة الموادعين، وترك المهادنين .. ولكن اللّه - سبحانه - كان يريد أمراً أكبر من المألوف، وخطوة وراء ما انتهت إليه الأمور!
وكان في المجتمع المسلم كذلك - ولعل بعض هؤلاء من كرام المسلمين، وخيارهم كذلك - من يرى أنه لم تعد هناك ضرورة لقتال المشركين عامة، ومتابعتهم حتى يفيئوا إلى الإسلام بعد ما ظهر الإسلام في الجزيرة وغلب، ولم تبق إلا جيوب متناثرة هنا وهناك، لا خوف منها على الإسلام اليوم، ومن المتوقع أن تفيء رويداً رويداً - في ظل السلم - إلى الإسلام .. ولا يخلو هذا الفريق من التحرج من قتال الأقرباء والأصدقاء، ومن تربطهم بهم علاقات اجتماعية واقتصادية متنوعة، متى كان هناك أمل في دخولهم في الإسلام بغير هذا الإجراء العنيف ..
ولكن اللّه سبحانه كان يريد أن تقوم آصرة التجمع على العقيدة وحدها، وأن تخلص الجزيرة للإسلام، وأن تصبح كلها قاعدة أمينة له، وهو يعلم أن الروم يبيتون للإسلام على مشارف الشام كما سيجي ء!
وكان في المجتمع المسلم - ولعل بعض هؤلاء كان من كرام المسلمين، وخيارهم أيضاً! - من يخشى الكساد الذي يتوقعه من تعطل الصلات التجارية والاقتصادية في أنحاء الجزيرة، بسبب إعلان القتال العام على المشركين كافة فيها، وتأثير ذلك في موسم الحج، وبخاصة بعد إعلان ألا يحج بعد العام مشرك، وألا يعمر المشركون مساجد اللّه، وبخاصة حين يضيف إلى هذا الاعتبار عدم ضرورة هذه الخطوة، وإمكان الوصول إليها بالطرق السلمية البطيئة! ..
ولكن اللّه سبحانه كان يريد أن تقوم آصرة التجمع على العقيدة وحدها - كما تقدم -، وأن تكون العقيدة أرجح في ميزان القلوب المؤمنة من كل ما عداها، سواء من القرابات، والصداقات، أم من المنافع والمصالح، كما أنه - سبحانه - كان يريد أن يعلمهم أنه هو الرزاق وحده، وأن هذه الأسباب الظاهرة للرزق ليست هي الأسباب الوحيدة التي يملك أن يسخرها لهم بقدرته.
وكان في المجتمع المسلم من ضعاف القلوب، والمترددين، والمؤلفة قلوبهم والمنافقين، وغيرهم كذلك ممن دخلوا في دين اللّه أفواجاً، ولم ينطبعوا بعد بالطابع الإسلامي من يفرق من قتال المشركين كافة، ومن الكساد الذي ينشأ من تعطيل المواسم، وقلة الأمن في التجارة، والتنقل، وانقطاع الأواصر والصلات، وتكاليف الجهاد العام في النفوس والأموال، ولا يجد في نفسه دافعاً لاحتمال هذا كله، وهو إنما دخل في الإسلام الغالب الظاهر المستقر، فهي صفقة رابحة بلا عناء كبير ..
أما هذا الذي يرادون عليه، فما لهم وما له، وهم حديثو عهد بالإسلام وتكاليفه؟! ..
وكان اللّه - سبحانه - يريد أن يمحص الصفوف والقلوب، وهو يقول للمسلمين: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ، وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ﴾ (التوبة: 16).
هذه الأعراض المتشابكة في المجتمع المسلم المختلط - بعد الفتح - اقتضت ذلك البيان الطويل المفصل المتعدد الأساليب، والإيحاءات في هذا المقطع، لمعالجة هذه الرواسب في النفوس، وهذه الخلخلة في الصفوف، وتلك الشبهات حتى في قلوب بعض المسلمين المخلصين ..
اقتضت أن تفتتح السورة بهذا الإعلان العام ببراءة اللّه ورسوله من المشركين، وأن يتكرر إعلان البراءة من اللّه ورسوله بعد آية واحدة بنفس القوة، ونفس النغمة العالية، حتى لا يبقى لقلب مؤمن أن يبقى على صلة مع قوم يبرأ اللّه منهم ويبرأ رسوله:
﴿بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (التوبة: 1) ..
﴿وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾ (التوبة: 3).
واقتضت تطمين المؤمنين، وتخويف المشركين بأن اللّه مخزي الكافرين، وأن الذين يتولون لا يعجزون اللّه، ولا يفلتون من عذابه:
﴿فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ﴾ (التوبة: 2).
﴿فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ﴾ (التوبة: 3).
واقتضت استنكار أن يكون للمشركين عهد عند اللّه، وعند رسوله - إلا الذين عاهدوا، ثم استقاموا، فيستقام لهم مدة عهدهم ما استقاموا عليه - مع تذكير المؤمنين بأن المشركين لا يرقبون فيهم عهداً، ولا يتذممون من فعلة، لو أنهم قدروا عليهم، وتصوير كفرهم، وكذبهم فيما يظهرونه لهم أحياناً من مودة بسبب قوتهم:
﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ * اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ * لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ﴾(التوبة: 7 - 10).
واقتضت استثارة الذكريات المريرة في نفوس المسلمين، واستجاشة مشاعر الغيظ والانتقام، وشفاء الصدور من أعدائهم وأعداء اللّه ودين اللّه:
﴿أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (التوبة: 13 - 15).
واقتضت الأمر بالمفاصلة الكاملة على أساس العقيدة، ومقاومة مشاعر القرابة، والمصلحة معاً، والتخيير بينها وبين اللّه ورسوله، والجهاد في سبيله، ووقف المسلمين على مفرق الطريق:
﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ﴾(التوبة: 23 - 24).
واقتضت تذكيرهم بنصر اللّه لهم في مواطن كثيرة، وأقربها يوم حنين الذي هزموا فيه، فلم ينصرهم إلا اللّه بجنده، وبتثبيته لرسوله:
﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ﴾(التوبة: 25 – 26).
واقتضت أخيراً تطمينهم من ناحية الرزق الذي يخشون عليه من كساد الموسم، وتعطل التجارة، وتذكيرهم أن الرزق منوط بمشيئة اللّه، لا بهذه الأسباب الظاهرة التي يظنونها:
﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (التوبة: 28).
وهذه التوكيدات والتقريرات، وهذه الإيحاءات والاستثارات، وهذه الحملة الطويلة المنوعة الأساليب ..
تشي - كما أسلفنا - بحالة المجتمع المسلم بعد الفتح، ودخول العناصر الجديدة الكثيرة فيه، وبعد التوسع الأفقي السريع الذي جاء إلى المجتمع المسلم بهذه الأفواج التي لم تنطبع بعد بطابع الإسلام .. ولولا أن مجتمع المدينة كان قد وصل مع الزمن الطويل، والتربية الطويلة إلى درجة من الاستقرار والصلابة والخلوص والاستنارة، لكانت هذه الظواهر مثار خطر كبير على وجود الإسلام ذاته كما ذكرنا ذلك مراراً من قبل.
على مدى التاريخ
وبعد .. فما المدى الذي تعمل فيه هذه النصوص؟ ما المدى التاريخي والبيئي؟ أهي خاصة بأهل الجزيرة العربية في ذلك الزمان المحدد؟ أم إن لها أبعاداً أخرى في الزمان والمكان؟
إن هذه النصوص كانت تواجه الواقع في الجزيرة العربية بين المعسكر الإسلامي ومعسكرات المشركين.
وما من شك أن الأحكام الواردة بها مقصود بها هذا الواقع، وأن المشركين المعنيين فيها هم مشركو الجزيرة ..
هذا حق في ذاته .. ولكن ترى هذا هو المدى النهائي لهذه النصوص؟
إن علينا أن نتتبع موقف المشركين - على مدى التاريخ - من المؤمنين ... ليتكشف لنا المدى الحقيقي لهذه النصوص القرآنية؛ ولنرى الموقف بكامله على مدار التاريخ:
فأما في الجزيرة العربية، فلعل ذلك معلوم من أحداث السيرة المشهورة، ولعل في هذا الجزء من الظلال وحده ما يكفي لتصوير مواقف المشركين من هذا الدين وأهله منذ الأيام الأولى للدعوة في مكة حتى هذه الفترة التي تواجهها نصوص هذه السورة.
وحقيقة إن المعركة الطويلة الأمد لم تكن بين الإسلام والشرك بقدر ما كانت بين الإسلام وأهل الكتاب من اليهود والنصارى، ولكن هذا لا ينفي أن موقف المشركين من المسلمين كان دائماً هو الذي تصوره آيات هذا المقطع من السورة:
﴿كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ * اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ * لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ﴾ (التوبة: 8- 10).
لقد كان هذا هو الموقف الدائم للمشركين، وأهل الكتاب من المسلمين، فأما أهل الكتاب، فندع الحديث عنهم إلى موعده في المقطع الثاني، وأما المشركون، فقد كان هذا دأبهم على مدار التاريخ ..
وإذا اعتبرنا أن الإسلام لم يبدأ برسالة محمد e إنما ختم بهذه الرسالة، وأن موقف المشركين من كل رسول، ومن كل رسالة من قبل، إنما يمثل موقف الشرك من دين اللّه على الإطلاق، فإن أبعاد المعركة تترامى، ويتجلَّى الموقف على حقيقته، كما تصوره تلك النصوص القرآنية الخالدة، على مدار التاريخ البشري كله بلا استثناء!
ماذا صنع المشركون مع نوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، وشعيب، وموسى، وعيسى، عليهم صلوات اللّه وسلامه، والمؤمنين بهم في زمانهم؟ ثم ماذا صنع المشركون مع محمد e، والمؤمنين به كذلك؟ .. إنهم لم يرقبوا فيهم إلّا ولا ذمة متى ظهروا عليهم، وتمكنوا منهم ..
وماذا صنع المشركون بالمسلمين أيام الغزو الثاني للشرك على أيدي التتار؟ ثم ما يصنع المشركون والملحدون اليوم بعد أربعة عشر قرناً بالمسلمين في كل مكان؟ .. إنهم لا يرقبون فيهم إلّا ولا ذمة، كما يقرر النص القرآني الصادق الخالد ..
عند ما ظهر الوثنيون التتار على المسلمين في بغداد وقعت المأساة الدامية التي سجلتها الروايات التاريخية، والتي نكتفي فيها بمقتطفات سريعة من تاريخ أبي الفداء ابن كثير المسمى «البداية والنهاية» فيما رواه من أحداث عام 656 هـ:
«ومالوا على البلد، فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان، ودخل كثير من الناس في الآبار، وأماكن الحشوش، وقنى الوسخ، وكمنوا كذلك أياما لا يظهرون.
وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات، ويغلقون عليهم الأبواب، فتفتحها التتار، إما بالكسر ،وإما بالنار، ثم يدخلون عليهم، فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة، فيقتلونهم بالأسطحة، حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة - فإنا للّه وإنا إليه راجعون - كذلك في المساجد والجوامع والربط، ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى([25])، ومن التجأ إليهم، وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي، وطائفة من التجار أخذوا أماناً بذلوا عليه أموالاً جزيلة، حتى سلموا، وسلمت أموالهم، وعادت بغداد بعد ما كانت آنس المدن كلها كأنها خراب، ليس فيها إلا القليل من الناس، وهم في خوف وجوع وذلة وقلة ..
«وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة، فقيل ثمانمائة ألف، وقيل: ألف ألف، وقيل: بلغت القتلى ألفي ألف نفس - فإنا للّه وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم - وكان دخولهم إلى بغداد في أواخر المحرم، وما زال السيف يقتل أهلها أربعين يوماً .. وكان قتل الخليفة المستعصم باللّه أمير المؤمنين يوم الأربعاء رابع عشر صفر، وعفي قبره، وكان عمره يومئذ ستاً وأربعين سنة وأربعة أشهر، ومدة خلافته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وأيام، وقتل معه ولده الأكبر أبو العباس أحمد، وله خمس وعشرون سنة، ثم قتل ولده الأوسط أبو الفضل عبد الرحمن وله ثلاث وعشرون سنة، وأسر ولده الأصغر مبارك وأسرت أخواته الثلاث: فاطمة وخديجة ومريم ..
«وقتل أستاذ دار الخلافة الشيخ محيي الدين يوسف ابن الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي، وكان عدو الوزير، وقتل أولاده الثلاثة: عبد اللّه، وعبد الرحمن، وعبد الكريم، وأكابر الدولة واحداً بعد واحد، منهم الدويدار الصغير مجاهد الدين أيبك، وشهاب الدين سليمان شاه، وجماعة من أمراء السنة وأكابر البلد .. وكان الرجل يستدعى به من دار الخلافة من بني العباس، فيخرج بأولاده ونسائه، فيذهب إلى مقبرة الخلال، تجاه المنظرة، فيذبح كما تذبح الشاة، ويؤسر من يختارون من بناته وجواريه .. وقتل شيخ الشيوخ مؤدب الخليفة صدر الدين علي ابن النيار، وقتل الخطباء والأئمة وحملة القرآن، وتعطلت المساجد والجماعات والجمعات مدة شهور ببغداد..
«ولما انقضى الأمر المقدر، وانقضت الأربعون يوماً، بقيت بغداد خاوية على عروشها، ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطر، فتغيرت صورهم، وأنتنت من جيفهم البلد، وتغير الهواء، فحصل بسببه الوباء الشديد حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون، فإنا للّه وإنا إليه راجعون ..
«ولما نودي ببغداد بالأمان، خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والقنى والمقابر كأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم، وقد أنكر بعضهم بعضاً، فلا يعرف الوالد ولده، ولا الأخ أخاه، وأخذهم الوباء الشديد.
فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى ..» إلخ إلخ.
هذه صورة من الواقع التاريخي، حينما ظهر المشركون على المسلمين، فلم يرقبوا فيهم إلّا ولا ذمة، فهل كانت صورة تاريخية من الماضي البعيد الموغل في الظلمات، اختص بها التتار في ذلك الزمان؟
كلا! إن الواقع التاريخي الحديث، لا تختلف صوره عن هذه الصورة! .. إن ما وقع من الوثنيين الهنود عند انفصال باكستان لا يقل شناعة ولا بشاعة عما وقع من التتار في ذلك الزمان البعيد .. إن ثمانية ملايين من المهاجرين المسلمين من الهند - ممن أفزعتهم الهجمات البربرية المتوحشة على المسلمين الباقين في الهند، فآثروا الهجرة على البقاء - قد وصل منهم إلى أطراف باكستان ثلاثة ملايين فقط!
أما الملايين الخمسة الباقية، فقد قضوا بالطريق .. طلعت عليهم العصابات الهندية الوثنية المنظمة المعروفة للدولة الهندية جيداً، والتي يهيمن عليها ناس من الكبار في الحكومة الهندية، فذبحتهم كالخراف على طول الطريق، وتركت جثثهم نهباً للطير والوحش، بعد التمثيل بها ببشاعة منكرة، لا تقل - إن لم تزد - على ما صنعه التتار بالمسلمين من أهل بغداد! ..
أما المأساة البشعة المروعة المنظمة، فكانت في ركاب القطار الذي نقل الموظفين المسلمين في أنحاء الهند إلى باكستان، حيث تم الاتفاق على هجرة من يريد الهجرة من الموظفين المسلمين في دوائر الهند إلى باكستان، واجتمع في هذا القطار خمسون ألف موظف .. ودخل القطار بالخمسين ألف موظف في نفق بين الحدود الهندية الباكستانية يسمى (ممر خيبر) .. وخرج من الناحية الأخرى، وليس به إلا أشلاء ممزقة متناثرة في القطار! ..
لقد أوقفت العصابات الهندية الوثنية المدربة الموجهة، القطار في النفق، ولم تسمح له بالمضي في طريقه إلا بعد أن تحول الخمسون ألف موظف إلى أشلاء ودماء! .. وصدق قول اللّه سبحانه:
﴿كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إلًّا وَلَا ذِمَّةً﴾
وما تزال هذه المذابح تتكرر في صور شتى.
ثم ماذا فعل خلفاء التتار في الصين الشيوعية وروسيا الشيوعية بالمسلمين هناك؟ .. لقد أبادوا من المسلمين في خلال ربع قرن ستة وعشرين مليوناً .. بمعدل مليون في السنة .. وما تزال عمليات الإبادة ماضية في الطريق .. ذلك غير وسائل التعذيب الجهنمية التي تقشعر لهولها الأبدان، وفي هذا العام وقع في القطاع الصيني من التركستان المسلمة ما يغطي على بشاعات التتار ..
لقد جيء بأحد الزعماء المسلمين، فحفرت له حفرة في الطريق العام، وكلف المسلمون تحت وطأة التعذيب والإرهاب، أن يأتوا بفضلاتهم الآدمية-التي تتسلمها الدولة من الأهالي جميعاً؛ لتستخدمها في السماد مقابل ما تصرفه لهم من الطعام!!!-، فيلقوها على الزعيم المسلم في حفرته .. وظلت العملية ثلاثة أيام، والرجل يختنق في الحفرة على هذا النحو حتى مات!
كذلك فعلت يوغسلافيا الشيوعية بالمسلمين فيها، حتى أبادت منهم مليوناً منذ الفترة التي صارت فيها شيوعية بعد الحرب العالمية الثانية إلى اليوم، وما تزال عمليات الإبادة والتعذيب الوحشي - التي من أمثلتها البشعة إلقاء المسلمين رجالاً ونساء في «مفارم» اللحوم التي تصنع لحوم (البولوبيف)؛ ليخرجوا من الناحية الأخرى عجينة من اللحم والعظام والدماء - ماضية إلى الآن!!!
وما يجري في يوغسلافيا يجري في جميع الدول الشيوعية والوثنية .. الآن .. في هذا الزمان .. ويصدق قول اللّه سبحانه:
﴿كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً؟﴾.
﴿لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ﴾ ..
إنها لم تكن حالة طارئة، ولا وقتية في الجزيرة العربية، ولم تكن حالة طارئة، ولا وقتية في بغداد .. إنها الحالة الدائمة الطبيعية الحتمية، حيثما وجد مؤمنون يدينون بالعبودية للّه وحده، ومشركون، أو ملحدون يدينون بالعبودية لغير اللّه، في كل زمان، وفي كل مكان.
ومن ثم فإن تلك النصوص - وإن كانت قد نزلت لمواجهة حالة واقعة في الجزيرة، وعنت بالفعل تقرير أحكام التعامل مع مشركي الجزيرة - إلا أنها أبعد مدى في الزمان والمكان؛ لأنها تواجه مثل هذه الحالة دائماً في كل زمان، وفي كل مكان، والأمر في تنفيذها إنما يتعلق بالمقدرة على التنفيذ في مثل الحالة التي نفذت فيها في الجزيرة العربية، ولا يتعلق بأصل الحكم، ولا بأصل الموقف الذي لا يتبدل على الزمان ..
تحديد العلاقات النهائية
بين المجتمع المسلم وأهل الكتاب
تحديد العلاقات النهائية بين المجتمع المسلم وأهل الكتاب
﴿قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ﴾.
﴿وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾.
﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ﴾ (التوبة: 29 – 35).
هذا المقطع الثاني في سياق سورة التوبة، يستهدف تقرير الأحكام النهائية في العلاقات بين المجتمع المسلم وأهل الكتاب، كما استهدف المقطع الأول منها تقرير الأحكام النهائية في العلاقات بين هذا المجتمع والمشركين في الجزيرة.
وإذا كانت نصوص المقطع الأول في منطوقها تواجه الواقع في الجزيرة يومئذ، وتتحدث عن المشركين فيها، وتحدد صفات ووقائع وأحداثاً تنطبق عليهم انطباقاً مباشراً، فإن النصوص في المقطع الثاني - الخاصة بأهل الكتاب - عامة في لفظها ومدلولها، وهي تعني كل أهل الكتاب، سواء منهم من كان في الجزيرة، ومن كان خارجها كذلك.
هذه الاحكام النهائية التي يتضمنها هذا المقطع تحتوي تعديلات أساسية في القواعد التي كانت تقوم عليها العلاقات من قبل بين المجتمع المسلم وأهل الكتاب - وبخاصة النصارى منهم -، فلقد كانت وقعت المواقع قبل ذلك مع اليهود، ولكن حتى هذا الوقت لم يكن قد وقع منها شيء مع النصارى.
والتعديل البارز في هذه الأحكام الجديدة هو الأمر بقتال أهل الكتاب المنحرفين عن دين اللّه حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .. فلم تعد تقبل منهم عهود موادعة ومهادنة إلا على هذا الأساس .. أساس إعطاء الجزية .. وفي هذه الحالة تتقرر لهم حقوق الذمي المعاهد، ويقوم السلام بينهم وبين المسلمين، فأما إذا هم اقتنعوا بالإسلام عقيدة، فاعتنقوه فهم من المسلمين ..
إنهم لا يكرهون على اعتناق الإسلام عقيدة، فالقاعدة الإسلامية المحكمة هي: «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ» ..
ولكنهم لا يتركون على دينهم إلا إذا أعطوا الجزية، وقام بينهم وبين المجتمع المسلم عهد على هذا الأساس.
وهذا التعديل الأخير في قواعد التعامل بين المجتمع المسلم، وأهل الكتاب لا يفهم على طبيعته إلا بالفقه المستنير لطبيعة العلاقات الحتمية بين منهج اللّه ومناهج الجاهلية من ناحية، ثم لطبيعة المنهج الحركي الإسلامي، ومراحله المتعددة، ووسائله المتجددة، المكافئة للواقع البشري المتغير من الناحية الأخرى.
وطبيعة العلاقة الحتمية بين منهج اللّه ومناهج الجاهلية، هي عدم إمكان التعايش إلا في ظل أوضاع خاصة، وشروط خاصة، قاعدتها ألا تقوم في وجه الإعلان العام الذي يتضمنه الإسلام لتحرير الإنسان بعبادة اللّه وحده، والخروج من عبادة البشر للبشر، أية عقبات مادية من قوة الدولة، ومن نظام الحكم، ومن أوضاع المجتمع على ظهر الأرض! ذلك أن منهج اللّه يريد أن يسيطر، ليخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة اللّه وحده - كما هو الإعلان العام للإسلام - ومناهج الجاهلية تريد - دفاعاً عن وجودها - أن تسحق الحركة المنطلقة بمنهج اللّه في الأرض، وأن تقضي عليها ..
وطبيعة المنهج الحركي الإسلامي أن يقابل هذا الواقع البشري بحركة مكافئة له، ومتفوقة عليه، في مراحل متعددة ذات وسائل متجددة .. والأحكام المرحلية، والأحكام النهائية في العلاقات بين المجتمع المسلم، والمجتمعات الجاهلية تمثل هذه الوسائل في تلك المراحل.
ومن أجل أن يحدد السياق القرآني في هذا المقطع من السورة طبيعة هذه العلاقات، حدد حقيقة ما عليه أهل الكتاب، ونص على انه «شرك»، و«كفر»، و«باطل»، وقدم الوقائع التي يقوم عليها هذا الحكم، سواء من واقع معتقدات أهل الكتاب، والتوافق والتضاهي بينها وبين معتقدات ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ﴾، أو من سلوكهم، وتصرفهم الواقعي كذلك.
والنصوص الحاضرة تقرر:
أولاً: أنهم لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر.
ثانياً: أنهم لا يحرمون ما حرم اللّه ورسوله.
ثالثاً: أنهم لا يدينون دين الحق.
رابعاً: أن اليهود منهم قالت: عزير ابن اللّه، وأن النصارى منهم قالت: المسيح ابن اللّه، وأنهم في هذين القولين يضاهئون قول الذين كفروا من قبل، سواء من الوثنيين الإغريق، أو الوثنيين الرومان، أو الوثنيين الهنود، أو الوثنيين الفراعنة، أو غيرهم من الذين كفروا (مع العلم أن التثليث عند النصارى، وادعاء البنوة للّه منهم، أو من اليهود مقتبس من الوثنيات السابقة، وليس من أصل النصرانية، ولا اليهودية).
خامساً: أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون اللّه، كما اتخذوا المسيح رباً، وأنهم بهذا خالفوا عما أمروا به من توحيد اللّه، والدينونة له وحده، وأنهم لهذا «مشركون»!
سادساً: أنهم محاربون لدين اللّه، يريدون أن يطفئوا نور اللّه بأفواههم، وأنهم لهذا «كافرون»!
سابعاً: أن كثيرا من أحبارهم ورهبانهم يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل اللّه.
وعلى أساس هذه الأوصاف، وهذا التحديد لحقيقة ما عليه أهل الكتاب، قرر الأحكام النهائية التي تقوم عليها العلاقات بينهم وبين المؤمنين بدين اللّه، القائمين على منهج اللّه ..
ولقد يبدو أن هذا التقرير لحقيقة ما عليه أهل الكتاب، مفاجئ، ومغاير للتقريرات القرآنية السابقة عنهم، كما يحلو للمستشرقين، والمبشرين، وتلاميذهم أن يقولوا، زاعمين أن رسول اللّه e قد غيَّر أقواله، وأحكامه عن أهل الكتاب عند ما أحس بالقوة، والقدرة على منازلتهم!
ولكن المراجعة الموضوعية للتقريرات القرآنية - المكية والمدنية - عن أهل الكتاب، تظهر بجلاء أنه لم يتغير شيء في أصل نظرة الإسلام إلى عقائد أهل الكتاب التي جاء فوجدهم عليها، وانحرافها، وبطلانها، وشركهم، وكفرهم بدين اللّه الصحيح - حتى بما أنزل عليهم منه وبالنصيب الذي أوتوه من قبل -، أما التعديلات، فهي محصورة في طريقة التعامل معهم .. وهذه - كما قلنا مراراً - تحكمها الأحوال والأوضاع الواقعية المتجددة.
أما الأصل الذي تقوم عليه - وهو حقيقة ما عليه أهل الكتاب -، فهو ثابت منذ اليوم الأول في حكم اللّه عليهم.
ونضرب هنا بعض الأمثلة من التقريرات القرآنية عن أهل الكتاب وحقيقة ما هم عليه .. ثم نستعرض مواقفهم الواقعية من الإسلام وأهله، تلك المواقف التي انتهت إلى هذه الأحكام النهائية في التعامل معهم:
في مكة لم تكن توجد جاليات يهودية، أو نصرانية ذات عدد، أو وزن في المجتمع .. إنما كان هناك أفراد، يحكي القرآن عنهم أنهم استقبلوا الدعوة الجديدة إلى الإسلام بالفرح والتصديق والقبول، ودخلوا في الإسلام، وشهدوا له ولرسوله بأنه الحق المصدق لما بين أيديهم .. ولا بد أن يكون هؤلاء ممن كان قد بقي على التوحيد من النصارى واليهود، وممن كان معهم شيء من بقايا الكتب المنزلة .. وفي أمثال هؤلاء وردت مثل هذه الآيات:
* ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ﴾ (القصص: 52 - 53).
* ﴿قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً﴾ ... (الإسراء: 107 - 109).
* ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ، وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ، فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ ... (الأحقاف: 10).
* ﴿وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ﴾ ... (العنكبوت: 47).
* ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ ... (الأنعام: 114).
* ﴿وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ﴾ ... (الرعد: 36).
وقد تكررت هذه الاستجابة من أفراد كذلك في المدينة حكى عنهم القرآن بعض المواقف في السور المدنية مع النص في بعضها على أنهم من النصارى، ذلك أن اليهود كانوا قد اتخذوا موقفاً آخر غير ما كان يتخذه أفراد منهم في مكة، عند ما أحسوا خطر الإسلام في المدينة:
* ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ﴾ ... (آل عمران: 199).
﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً،وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها، وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ﴾ ... (المائدة: 82 - 85).
ولكن موقف هؤلاء الأفراد لم يكن يمثل موقف الغالبية من أهل الكتاب في الجزيرة - ومن اليهود منهم بصفة خاصة -، فقد جعل هؤلاء يشنون على الإسلام، منذ أن أحسوا خطره عليهم في المدينة، حرباً خبيثة، يستخدمون فيها كل الوسائل التي حكاها القرآن عنهم في نصوص كثيرة، كما أنهم في الوقت ذاته رفضوا الدخول في الإسلام طبعاً، وأنكروا وجحدوا ما في كتبهم من البشارة بالرسول e، ومن تصديق القرآن لما بين أيديهم من بقايا كتبهم الحقة، مما كان أولئك الأفراد الطيبون يعترفون به، ويقرونه، ويجاهرون به في وجه المنكرين الجاحدين! .. كذلك أخذ القرآن يتنزل بوصف هذا الجحود، وتسجيله، وبتقرير ما عليه أهل الكتاب هؤلاء من الانحراف، والفساد، والبطلان في شتى السور المدنية .. على أن القرآن المكي لم يخل من تقريرات عن حقيقة ما عليه أهل الكتاب، نذكر من ذلك:
* ﴿وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ * فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾ .. (الزخرف: 63 - 65).
* ﴿وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ﴾... (الشورى: 14).
* ﴿وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ * وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ﴾ ... (الأعراف: 161 - 163).
* ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ ... (الأعراف: 167).
* ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ، أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ ... (الأعراف: 169).
أما القرآن المدني، فقد تضمن الكلمة الأخيرة في حقيقة ما عليه أهل الكتاب، كما حكى عنهم أشنع الوسائل، وأبشع الطرق في حرب هذا الدين، وأهله في قطاعات طويلة من سور البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، وغيرها، قبل أن يقرر الكلمة النهائية في أمرهم كله في سورة التوبة، وسنكتفي هنا بنماذج محدودة من هذه التقريرات القرآنية الكثيرة:
* ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ * أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ * وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ * فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ، وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾ (البقرة: 75 - 79).
* ﴿وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ * وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ * وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ * وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ * قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (البقرة: 87 - 91).
* ﴿قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ * قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ (آل عمران: 98 - 99).
* ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا * أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً﴾ (النساء: 51 - 52).
* ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ * لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ * أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ، ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ (المائدة: 72 - 75).
من مراجعة هذه النصوص القرآنية وأمثالها - وهو كثير في القرآن المكي والمدني على السواء - يتبين أن النظرة إلى حقيقة ما عليه أهل الكتاب من الانحراف عن دين اللّه الصحيح، لم يتغير فيها شيء في التقريرات الأخيرة الواردة في السورة الأخيرة، وأن وصمهم بالانحراف، والفسوق، والشرك، والكفر ليس جديداً، ولا يعبر عن اتجاه جديد فيما يختص بحقيقة الاعتقاد .. وذلك مع ملاحظة أن القرآن الكريم ظل يسجل للفريق المهتدي الصالح من أهل الكتاب هداه وصلاحه فقال تعالى منصفاً للصالحين منهم:
* ﴿وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ (الأعراف: 159).
* ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ (آل عمران: 75).
* ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ * لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾ (آل عمران: 112 - 115).
أما الذي وقع فيه التعديل فعلاً، فهو أحكام التعامل مع أهل الكتاب فترة بعد فترة، ومرحلة بعد مرحلة، وواقعة بعد واقعة، وفق المنهج الحركي الواقعي لهذا الدين في مواجهة أحوال أهل الكتاب، وتصرفاتهم، ومواقفهم مع المسلمين.
ولقد جاء زمان كان يقال فيه للمسلمين:
* ﴿وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ (العنكبوت: 46).
* ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (البقرة: 136 - 137).
* ﴿قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا: اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ (آل عمران: 64).
* ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (البقرة: 109).
ثم أتى اللّه بأمره الذي وكل المؤمنين إليه، فوقعت أحداث، وتعدلت أحكام، وجرى المنهج الحركي الواقعي الإيجابي في طريقه حتى كانت هذه الأحكام النهائية الأخيرة، في هذه السورة، على النحو الذي رأينا ..
إنه لم يتغير شيء في نظرة هذا الدين إلى حقيقة ما عليه أهل الكتاب من فساد العقيدة، ومن الشرك باللّه والكفر بآياته .. إنما الذي تغير هو قاعدة التعامل .. وهذه إنما تحكمها تلك الأصول التي أسلفنا الحديث عنها في مطلع هذا الفصل التمهيدي لهذا المقطع من سياق السورة، في هذه الفقرات:
«وهذا التعديل الأخير في قواعد التعامل بين المجتمع المسلم، وأهل الكتاب لا يفهم على طبيعته، إلا بالفقه المستنير لطبيعة العلاقات الحتمية بين منهج اللّه ومناهج الجاهلية من ناحية، ثم لطبيعة المنهج الحركي الإسلامي، ومراحله المتعددة، ووسائله المتجددة، المكافئة للواقع البشري المتغير، من الناحية الأخرى ... إلخ».
_ _ _
والآن نأخذ في شيء من استعراض طبيعة الموقف بين أهل الكتاب والمجتمع المسلم سواء من الناحية الموضوعية الثابتة، أو من ناحية المواقف التاريخية الواقعة ... فهذه هي العناصر الرئيسية التي انتهت إلى هذه الأحكام النهائية.
إن طبيعة الموقف بين أهل الكتاب والمجتمع المسلم يجب البحث عنها:
أولاً: في تقريرات اللّه - سبحانه - عنها، باعتبار أن هذه هي الحقيقة النهائية التي لا يأتيها الباطل من بين يديها، ولا من خلفها وباعتبار أن هذه التقريرات - بسبب كونها ربانية - لا تتعرض لمثل ما تتعرض له الاستنباطات، والاستدلالات البشرية من الأخطاء ..
وثانياً: في المواقف التاريخية المصدقة لتقريرات اللّه سبحانه!
إن اللّه سبحانه يقرر طبيعة موقف أهل الكتاب من المسلمين في عدة مواضع من كتابه الكريم .. وهو تارة يتحدث عنهم - سبحانه - وحدهم، وتارة يتحدث عنهم مع الذين كفروا من المشركين، باعتبار أن هنالك وحدة هدف - تجاه الإسلام والمسلمين - تجمع الذين كفروا من أهل الكتاب والذين كفروا من المشركين.
وتارة يتحدث عن مواقف واقعية لهم تكشف عن وحدة الهدف، ووحدة التجمع الحركي لمواجهة الإسلام والمسلمين .. والنصوص التي تقرر هذه الحقائق من الوضوح والجزم بحيث لا تحتاج منا إلى تعليق ..
وهذه نماذج منها ..
* ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ﴾ (البقرة: 109).
* ﴿وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ (البقرة: 120).
* ﴿وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ﴾ (آل عمران: 69).
* ﴿وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ (آل عمران: 72 - 73).
* ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ﴾ ... (آل عمران: 100).
* ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ ...﴾ (النساء: 44 - 45).
* ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا﴾ (النساء: 51).
وفي هذه النماذج وحدها ما يكفي لتقرير حقيقة موقف أهل الكتاب من المسلمين ... فهم يودون لو يرجع المسلمون كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق، وهم يحددون موقفهم النهائي من المسلمين بالإصرار على أن يكونوا يهوداً أو نصارى، ولا يرضون عنهم، ولا يسالمونهم إلا أن يتحقق هذا الهدف، فيترك المسلمون عقيدتهم نهائياً، وهم يشهدون للمشركين الوثنيين بأنهم أهدى سبيلاً من المسلمين! ... إلخ.
وإذا نحن راجعنا الأهداف النهائية للمشركين تجاه الإسلام والمسلمين، كما يقررها اللّه - سبحانه - في قوله تعالى:
* ﴿وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا﴾ (البقرة: 217).
* ﴿وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً﴾ (النساء: 102).
* ﴿إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ﴾(الممتحنة: 2).
* ﴿وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً﴾(التوبة: 8).
* ﴿لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً﴾ (التوبة: 10).
إذا نحن راجعنا هذه التقريرات الربانية عن المشركين، وجدنا أن الأهداف النهائية لهم تجاه الإسلام والمسلمين، هي بعينها - وتكاد تكون بألفاظها - هي الأهداف النهائية لأهل الكتاب تجاه الإسلام والمسلمين كذلك .. مما يجعل طبيعة موقفهم مع الإسلام والمسلمين هي ذاتها طبيعة موقف المشركين.
وإذا نحن لاحظنا أن التقريرات القرآنية الواردة في هؤلاء وهؤلاء ترد في صيغ نهائية، تدل بصياغتها على تقرير طبيعة دائمة، لا على وصف حالة مؤقتة، كقوله تعالى في شأن المشركين:
﴿وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا﴾.
وقوله تعالى في شأن أهل الكتاب:
﴿وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾.
إذا نحن لاحظنا ذلك تبين لنا بغير حاجة إلى أي تأويل للنصوص، أنها تقرر طبيعة أصيلة دائمة للعلاقات، ولا تصف حالة مؤقتة ولا عارضة!
فإذا نحن ألقينا نظرة سريعة على الواقع التاريخي لهذه العلاقات، متمثلة في مواقف أهل الكتاب - من اليهود والنصارى - من الإسلام وأهله، على مدار التاريخ، تبين لنا تماماً ماذا تعنيه تلك النصوص والتقريرات الإلهية الصادقة، وتقرر لدينا أنها كانت تقرر طبيعة مطردة ثابتة، ولم تكن تصف حالة مؤقتة عارضة.
إننا إذا استثنينا حالات فردية - أو حالات جماعات قليلة - من التي تحدث القرآن عنها، وحواها الواقع التاريخي بدت فيها الموادة للإسلام والمسلمين، والاقتناع بصدق رسول اللّه e وصدق هذا الدين، ثم الدخول فيه، والانضمام لجماعة المسلمين .. وهي الحالات التي أشرنا إليها فيما تقدم .. فإننا لا نجد وراء هذه الحالات الفردية، أو الجماعية القليلة المحدودة، إلا تاريخاً من العداء العنيد، والكيد الناصب، والحرب الدائبة، التي لم تفتر على مدار التاريخ ..
فأما اليهود، فقد تحدثت شتى سور القرآن عن مواقفهم، وأفاعيلهم، وكيدهم، ومكرهم، وحربهم، وقد وعى التاريخ من ذلك كله ما لم ينقطع لحظة واحدة منذ اليوم الأول الذي واجههم الإسلام في المدينة حتى اللحظة الحاضرة!
وليس هنا مجال لعرض هذا التاريخ الطويل، ولكننا سنشير فقط إلى قليل من كثير من تلك الحرب المسعورة التي شنها اليهود على الإسلام، وأهله على مدار التاريخ ..
لقد استقبل اليهود رسول اللّه e، ودينه في المدينة شر ما يستقبل أهل دين سماوي رسولاً يعرفون صدقه، وديناً يعرفون أنه الحق ..
استقبلوه بالدسائس والأكاذيب، والشبهات والفتن، يلقونها في الصف المسلم في المدينة بكافة الطرق الملتوية الماكرة التي يتقنها اليهود .. شككوا في رسالة رسول اللّه e، وهم يعرفونه، واحتضنوا المنافقين، وأمدوهم بالشبهات التي ينشرونها في الجو، وبالتهم، والأكاذيب، وما فعلوه في حادث تحويل القبلة، وما فعلوه في حادث الإفك، وما فعلوه في كل مناسبة، ليس إلا نماذج من هذا الكيد اللئيم ..
وفي مثل هذه الأفاعيل كان يتنزل القرآن الكريم، وسور: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والحشر، والأحزاب، والتوبة، وغيرها تضمنت من هذا الكثير([26]):
* ﴿وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ﴾ (البقرة: 89 - 90).
* ﴿وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 101).
* ﴿سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها * قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (البقرة: 142).
* ﴿يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (آل عمران: 70 - 71).
* ﴿وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾(آل عمران: 72).
* ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ (آل عمران: 78).
* ﴿قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ * قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾(آل عمران: 98 - 99).
* ﴿قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ (آل عمران: 98 – 99).
﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ (النساء: 153).
﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ (التوبة: 32.
شهادة التاريخ
كذلك شهد التاريخ نقض اليهود لعهودهم مرة بعد مرة، وتحرشهم بالمسلمين، مما أدى إلى وقائع بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة، وخيبر، كما شهد تأليب اليهود للمشركين في الأحزاب، مما هو معروف مشهور.
ثم تابع اليهود كيدهم للإسلام وأهله منذ ذلك التاريخ . . كانوا عناصر أساسية في إثارة الفتنة الكبرى التي قتل فيها الخليفة الراشد عثمان بن عفان t، وانتثر بعدها شمل التجمع الإسلامي إلى حد كبير . .
وكانوا رأس الفتنة فيما وقع بعد ذلك بين علي t ومعاوية . . وقادوا حملة الوضع في الحديث، والسيرة، وروايات التفسير . . وكانوا من الممهدين لحملة التتار على بغداد، وتقويض الخلافة الإسلامية . . .
فأما في التاريخ الحديث، فهم وراء كل كارثة حلت بالمسلمين في كل مكان على وجه الأرض، وهم وراء كل محاولة لسحق طلائع البعث الإسلامي، وهم حماة كل وضع من الأوضاع التي تتولى هذه المحاولة في كل أرجاء العالم الإسلامي!
ذلك شأن اليهود، فأما شأن الفريق الآخر من أهل الكتاب، فهو لا يقل إصراراً على العداوة، والحرب من شأن اليهود!
لقد كانت بين الرومان والفرس عداوات عمرها قرون . . ولكن ما إن ظهر الإسلام في الجزيرة، وأحست الكنيسة بخطورة هذا الدين الحق على ما صنعته هي بأيديها، وسمته «المسيحية»، وهو ركام من الوثنيات القديمة، والأضاليل الكنسية، متلبساً ببقايا من كلمات المسيح u وتاريخه([27]) . . حتى رأينا الرومان والفرس ينسون ما بينهم من نزاعات تاريخيه قديمة، وعداوات، وثارات عميقة، ليواجهوا هذا الدين الجديد .
ولقد أخذ الروم يتجمعون في الشمال هم وعمالهم من الغساسنة؛ لينقضوا على هذا الدين، وذلك بعد أن قتلوا الحارث بن عمير الأزدي رسول رسول الله e إلى عامل بصرى من قبل الروم - وكان المسلمون يؤمنون الرسل، ولكن النصارى غدروا برسول النبي e، وقتلوه - مما جعل رسول الله e يبعث بجيش الأمراء الشهداء الثلاثة: زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة في غزوة «مؤتة»، فوجدوا تجمعاً للروم تقول الروايات عنه: إنه مائة ألف من الروم ومعه من عملائهم في الشام من القبائل العربية النصرانية مائة ألف أخرى؛ وكان جيش المسلمين لا يتجاوز ثلاثة آلاف مقاتل، وكان ذلك في جمادى الأولى من السنة الثامنة للهجرة .
ثم كانت غزوة تبوك التي يدور عليها معظم سورة التوبة، ثم كان جيش أسامة بن زيد الذي أعده رسول اللّه e قبيل وفاته، ثم أنفذه الخليفة الراشد أبو بكر t إلى أطراف الشام؛ لمواجهة تلك التجمعات الرومانية التي تستهدف القضاء على هذا الدين!
ثم اشتعل مرجل الحقد الصليبي منذ موقعة اليرموك الظافرة، التي أعقبها انطلاق الإسلام لتحرير المستعمرات الإمبراطورية الرومانية في الشام، ومصر، وشمال إفريقية، وجزر البحر الأبيض، ثم بناء القاعدة الإسلامية الوطيدة في الأندلس في النهاية.
إن «الحروب الصليبية» المعروفة بهذا الاسم في التاريخ، لم تكن هي وحدها التي شنتها الكنيسة على الإسلام ..
لقد كانت هذه الحروب مبكرة قبل هذا الموعد بكثير .. لقد بدأت في الحقيقة منذ ذلك التاريخ البعيد ..
منذ أن نسي الرومان عداواتهم مع الفرس، وأخذ النصارى يعينون الفرس ضد الإسلام في جنوب الجزيرة.
ثم بعد ذلك في «مؤتة»، ثم فيما تلا موقعة اليرموك الظافرة .. ثم تجلت ضراوتها ووحشيتها في الأندلس، عند ما زحفت الصليبية على القاعدة الإسلامية في أوربة، وارتكبت من الوحشية في تعذيب ملايين المسلمين، وقتلهم هناك، ما لم يعرف التاريخ له نظيراً من قبل .. وكذلك تجلت في الحروب الصليبية في الشرق بمثل هذه البشاعة التي لا تتحرج، ولا تتذمم، ولا تراعي في المسلمين إلّا ولا ذمة.
ومما جاء في كتاب «حضارة العرب» لجوستاف لوبون - وهو فرنسي مسيحي-:
«كان أول ما بدأ به ريكاردوس الإنجليزي أنه قتل أمام معسكر المسلمين، ثلاثة آلاف أسير سلموا أنفسهم إليه، بعد أن قطع على نفسه العهد بحقن دمائهم، ثم أطلق لنفسه العنان باقتراف القتل والسلب، مما أثار صلاح الدين الأيوبي النبيل، الذي رحم نصارى القدس، فلم يمسهم بأذى، والذي أمد فيليب، وقلب الأسد بالمرطبات، والأدوية، والأزواد، أثناء مرضهما»([28]).
كذلك كتب كاتب مسيحي آخر (اسمه يورجا)([29]) يقول:
«ابتدأ الصليبيون سيرهم على بيت المقدس بأسوأ طالع، فكان فريق من الحجاج يسفكون الدماء في القصور التي استولوا عليها، وقد أسرفوا في القسوة، فكانوا يبقرون البطون، ويبحثون عن الدنانير في الأمعاء! أما صلاح الدين، فلما استرد بيت المقدس بذل الأمان للصليبيين، ووفى لهم بجميع عهوده، وجاد المسلمون على أعدائهم، ووطؤوهم مهاد رأفتهم، حتى أن الملك العادل، شقيق السلطان، أطلق ألف رقيق من الأسرى، ومنّ على جميع الأرمن، وأذن للبطريرك بحمل الصليب وزينة الكنيسة، وأبيح للأميرات والملكة بزيارة أزواجهن».
ولا يتسع المجال هنا لاستعراض ذلك الخط الطويل للحروب الصليبية - على مدار التاريخ -، ولكن يكفي أن نقول: إن هذه الحرب لم تضع أوزارها قط من جانب الصليبية، ويكفي أن نذكر ماذا حدث في زنجبار حديثاً؛ حيث أبيد المسلمون فيها عن بكرة أبيهم، فقتل منهم اثنا عشر ألفاً، وألقي الأربعة الآلاف الباقون في البحر، منفيين من الجزيرة! ويكفي أن نذكر ماذا وقع في قبرص، حيث منع الطعام، والماء عن الجهات التي يقطنها بقايا المسلمين هناك؛ ليموتوا جوعاً وعطشاً، فوق ما سلط عليهم من التقتيل، والتذبيح، والتشريد! ويكفي أن نذكر ما تزاوله الحبشة في إريترية، وفي قلب الحبشة، وما تزاوله كينيا مع المائة ألف مسلم الذين ينتمون إلى أصل صومالي، ويريدون أن ينضموا إلى قومهم المسلمين في الصومال! ويكفي أن نعلم ماذا تحاوله الصليبية في السودان الجنوبي!
ويكفي لتصوير نظرة الصليبيين إلى الإسلام أن ننقل فقرة من كتاب لمؤلف أوربي صدر سنة 1944 يقول فيه:
«لقد كنا نخوّف بشعوب مختلفة، ولكننا بعد اختبار، لم نجد مبرراً لمثل هذا الخوف .. لقد كنا نخوّف من قبل بالخطر اليهودي، والخطر الأصفر، وبالخطر البلشفي، إلا أن هذا التخويف كله لم يتفق كما تخيلناه.
إننا وجدنا اليهود أصدقاء لنا، وعلى هذا يكون كل مضطهد لهم عدونا الألد! ثم رأينا أن البلاشفة حلفاء لنا.
أما الشعوب الصفراء، فهنالك دول ديمقراطية كبرى تقاومها، ولكن الخطر الحقيقي كامن في نظام الإسلام، وفي قوته على التوسع والإخضاع، وفي حيويته .. إنه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوربي»([30]).
ولا نستطيع أن نمضي أبعد من ذلك في استعراض تاريخ تلك الحرب العاتية التي أعلنتها الصليبية على الإسلام، وما تزال .. وقد تحدَّثنا من قبل عن طبيعة هذه المعركة، الطويلة، ومسائلها، وأشكالها. فحسبنا هذه الإشارات السريعة هنا بالإحالة على بعض المراجع الأخرى القريبة([31]).
_ _ _
وهكذا نرى من هذا الاستعراض السريع - بالإضافة إلى ما قلناه من قبل عن طبيعة الإعلان الإسلامي العام بتحرير الإنسان، وتحفز الجاهلية في الأرض كلها لسحق الحركة التي تحمل هذا الإعلان العام، وتنطلق به في الأرض كلها أن هذه الأحكام الأخيرة الواردة في سورة التوبة، هي المقتضى الطبيعي لهذه الحقائق كلها مجتمعة، وأنها ليست أحكاماً محددة بزمان، ولا مقيدة بحالة، وإن كان هذا في الوقت ذاته لا ينسخ الأحكام المرحلية السابقة النسخ الشرعي الذي يمنع العمل بها في الظروف، والملابسات التي تشابه الظروف، والملابسات التي تنزلت فيها، فهناك دائماً طبيعة المنهج الإسلامي الحركية، التي تواجه الواقع البشري مواجهة واقعية، بوسائل متجددة، في المراحل المتعددة.
وحقيقة أن هذه الأحكام النهائية الواردة في سورة التوبة، كانت تواجه حالة بعينها في الجزيرة، وكانت تمهيداً تشريعياً للحركة المتمثلة في غزوة تبوك، لمواجهة تجمع الروم على أطراف الجزيرة مع عمالهم للانقضاض على الإسلام وأهله - وهي الغزوة التي يقوم عليها محور السورة -، ولكن وضع أهل الكتاب تجاه الإسلام وأهله، لم يكن وليد مرحلة تاريخية معينة، إنما كان وليد حقيقة دائمة مستقرة، كما أن حربهم للإسلام والمسلمين لم تكن وليدة فترة تاريخية معينة، فهي ما تزال معلنة ولن تزال .. إلا أن يرتد المسلمون عن دينهم تماماً! ..
وهي معلنة بضراوة وإصرار وعناد، بشتى الوسائل على مدار التاريخ!
ومن ثم فهذه الأحكام الواردة في هذه السورة أحكام أصيلة، وشاملة، وغير موقوتة بزمان، ولا مقيدة بمكان .. ولكن العمل بالأحكام، إنما يتم في اطار المنهج الحركي الإسلامي، الذي يجب أن يتم الفقه به، قبل أن يتحدث المتحدثون عن الأحكام في ذاتها.
وقبل أن يحمل واقع ذراري المسلمين - الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا العنوان – وضعفهم، وانكسارهم على دين اللّه القوي المتين!
إن الأحكام الفقهية في الإسلام كانت - وستظل دائماً - وليدة الحركة وفق المنهج الإسلامي، والنصوص لا يمكن فهمها إلا باستصحاب هذه الحقيقة .. وفرق بعيد بين النظرة إلى النصوص كأنها قوالب في فراغ، والنصوص في صورتها الحركية وفق المنهج الإسلامي، ولا بد من هذا القيد: «الحركة وفق المنهج الإسلامي»، فليست هي الحركة المطلقة خارج المنهج، بحيث نعتبر «الواقع البشري» هو الأصل أياً كانت الحركة التي أنشأته، ولكن «الواقع البشري» يصبح عنصراً أساسياً في فقه الأحكام إذا كان قد أنشأه المنهج الإسلامي ذاته.
وفي ظل هذه القاعدة تسهل رؤية تلك الأحكام النهائية في العلاقات بين أهل الكتاب والمجتمع المسلم، وهي تتحرك الحركة الحية، في مجالها الواقعي، وفق ذلك المنهج الحركي الواقعي الإيجابي الشامل.
مغزى هذا البيان
وبعد، فلا بد أن نقف هنا وقفة قصيرة للتعقيب، نبرز فيها دلالة هذا البيان الرباني لحقيقة ما عليه أهل الكتاب من عقيدة، ومن دين، ومن خلق، ومن سلوك - وذلك بالإضافة إلى الإشارات التي أوردناها خلال الفقرات السابقة.
إن تعرية أهل الكتاب من شبهة أنهم على شيء من دين اللّه، ألزم وأشد ضرورة من بيان حال المشركين الصريحين في شركهم، الشاهدين على أنفسهم بالكفر بظاهر عقائدهم وشعائرهم ..
ذلك أن نفوس المسلمين لا تنطلق الانطلاق الكامل لمواجهة الجاهلية إلا حين يتجلى لها تماماً وجه الجاهلية! ووجه الجاهلية مكشوف، صريح فيما يختص بالمشركين، وليس الحال كذلك فيما يختص بأهل الكتاب، (ومن يزعمون أنهم على شيء من دين اللّه من أمثالهم، كالشأن في الغالبية العظمى ممن يدعون أنفسهم اليوم «مسلمين»)!.
ولقد احتاج الانطلاق الكامل لمواجهة المشركين كثيرا من البيان في سورة التوبة، نظراً للملابسات التي شرحناها، حيث قال اللّه - سبحانه - للمؤمنين:
* ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ * اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ * لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ﴾ (التوبة: 8- 10).
﴿أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (التوبة: 13- 14).
﴿ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ﴾ (التوبة: 17).
* ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (التوبة: 23).
... إلخ ... إلخ ...
وإذا كان الانطلاق لمجاهدة المشركين قد اقتضى كل هذه الحملة - وأمرهم ظاهر - نظرا لتلك الملابسات التي كانت قائمة في التكوين العضوي للمجتمع المسلم في تلك الفترة .. فقد كان الانطلاق لمجاهدة أهل الكتاب في حاجة إلى حملة أشد وأعمق، تستهدف - أول ما تستهدف - تعرية أهل الكتاب هؤلاء من تلك «اللافتة» الشكلية التي لم تعد وراءها حقيقة، وتظهرهم على حقيقتهم الواقعية .. مشركين كالمشركين .. كفارا كالكفار .. محاربين للّه، ولدينه الحق، كأمثالهم من المشركين الكافرين .. ضلالاً يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل اللّه .. في مثل هذه النصوص القاطعة الصريحة:
* ﴿قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ * وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ * يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ... ﴾إلخ (التوبة: 29- 34).
وذلك بالإضافة إلى التقريرات القرآنية الحاسمة - في السور المكية والمدنية على السواء - عن حقيقة ما انتهى إليه أمر أهل الكتاب من الشرك والكفر، والخروج من دين اللّه الذي جاءهم به أنبياؤهم من قبل، فضلاً على وقفتهم من رسالة اللّه الأخيرة، التي على أساس موقفهم منها، يتحدد وصفهم بالكفر أو بالإيمان.
فلقد سبق أن ووجه أهل الكتاب بأنهم ليسوا على شيء من دين اللّه أصلاً في قوله تعالى: ﴿قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ﴾ (المائدة: 68).
كذلك سبق وصفهم بالكفر، وضمهم إلى المشركين في هذه الصفة: يهوداً ونصارى .. أو مجتمعين في صفة «أهل الكتاب» في مثل قوله تعالى:
* ﴿وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً ...﴾ (المائدة: 64).
* ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ...﴾ (المائدة: 72).
* ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ ...﴾ (المائدة: 73).
* ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ (البينة: 1).
وغيرها كثير، أثبتنا بعضه فيما تقدم، والقرآن الكريم - مكيّه ومدنيّه - حافل بمثل هذه التقريرات.
وإذا كانت الأحكام القرآنية قد جعلت لأهل الكتاب بعض الامتيازات في التعامل عن المشركين، وذلك كإحلال طعامهم للمسلمين، وإجازة التزوج بالمحصنات (أي العفيفات) من نسائهم .. فإن ذلك لم يكن مبنياً على أساس أنهم على شيء من دين اللّه الحق، ولكن كان مراعى فيه - واللّه أعلم - أن لهم أصلاً من دين وكتاب - وإن كانوا لا يقيمونه - فمن الممكن محاكمتهم إلى هذا الأصل الذي يدعون أنهم عليه! فهم في هذا يفترقون عن المشركين الوثنيين الذين لا كتاب لهم؛ لأنه ليس لهم من أصل يردون إليه، ويمكن محاكمتهم له .. أما تقريرات القرآن عن حقيقة ما عليه أهل الكتاب من عقيدة ودين، فهي صريحة وحاسمة في أنهم ليسوا على شيء من دين اللّه بعد ما تركوا كتبهم، ودينهم إلى ذلك الذي صنعه لهم أحبارهم، ورهبانهم، ومجامعهم، وكنائسهم! وفي قول اللّه - سبحانه - فصل الخطاب في هذا الموضوع!
والمهم الآن أن نبرز دلالة هذا البيان الرباني لحقيقة ما عليه أهل الكتاب من العقيدة والدين ..
إن هذه «اللافتة» المضللة التي ليس وراءها شيء من الحقيقة، تحول دون الانطلاق الإسلامي الكامل لمواجهة «الجاهلية»، فتتحتم - إذن - إزالة هذه اللافتة، وتعريتهم من ظلها الخادع، وكشفهم على حقيقتهم الواقعة .. ولا نغفل الملابسات التي كانت قائمة في المجتمع المسلم يومذاك - والتي أشرنا إليها من قبل - سواء منها ما يختص بالتكوين العضوي لهذا المجتمع يومها، وما يختص بظروف الغزوة ذاتها في الحر والعسرة! وما يختص كذلك بالتهيب من لقاء الروم بسبب ما كان لهم في نفوس العرب - قبل الإسلام - من هيبة وسمعة ومخافة! .. ولكن الأعمق من هذا كله هو ما يحيك في النفس المسلمة، عند الأمر بقتال أهل الكتاب على هذا النحو الشامل .. وهم أهل كتاب!!!
وأعداء هذا الدين، الراصدون لحركات البعث الإسلامي الجديدة في هذا الجيل يرصدونها عن خبرة واسعة بطبيعة النفس البشرية، وبتاريخ الحركة الإسلامية، على السواء .. وهم من أجل ذلك حريصون - كل الحرص - على رفع «لافتة إسلامية» على الأوضاع والحركات والاتجاهات والقيم والتقاليد والأفكار التي يعدونها، ويقيمونها، ويطلقونها لسحق حركات البعث الإسلامي الجديدة في أرجاء الأرض جميعاً، ذلك لتكون هذه اللافتة الخادعة مانعة من الانطلاق الحقيقي لمواجهة «الجاهلية» الحقيقة القابعة وراء تلك اللافتة الكاذبة!
لقد أخطأوا - مضطرين - مرة أو مرات في إعلان حقيقة بعض الأوضاع والحركات، وفي الكشف عن الوجه الكالح للجاهلية المنقضة على الإسلام فيها .. وأقرب مثال لذلك حركة «أتاتورك» اللاإسلامية الكافرة في تركيا .. وكان وجه الاضطرار فيها هو حاجتهم الملحة إلى إلغاء آخر مظهر للتجمع الإسلامي تحت راية العقيدة، ذلك المظهر الذي كان يتمثل في قيام «الخلافة» .. وهو - وإن كان مجرد مظهر - كان آخر عروة تنقض قبل نقض عروة الصلاة! كما قال رسول اللّه e: (ينقض هذا الدين عروة عروة، فأولها الحكم، وآخرها الصلاة).
ولكن أولئك الأعداء الواعين - من أهل الكتاب والملحدين الذين لا يجتمعون إلا حين تكون المعركة مع هذا الدين! - لم يكادوا يتجاوزون منطقة الاضطرار في الكشف عن الوجهة اللاإسلامية الكافرة في حركة «أتاتورك» حتى عادوا يحرصون بشدة على ستر الأوضاع التالية المماثلة لحركة «أتاتورك» في وجهتها الدينية، بستار الإسلام، ويحرصون على رفع تلك اللافتة الخادعة على تلك الأوضاع - وهي أشد خطراً على الإسلام من حركة أتاتورك السافرة - ويفتنون افتناناً في ستر حقيقة هذه الأوضاع التي يقيمونها، ويكفلونها اقتصادياً وسياسياً وفكرياً، ويهيئون لها أسباب الحماية، بأقلام مخابراتهم، وبأدوات إعلامهم العالمية، وبكل ما يملكونه من قوة وحيلة وخبرة، ويتعاون أهل الكتاب والملحدون على تقديم المعونات المتنوعة لها؛ لتؤدي لهم هذه المهمة التي لم تنته منها الحروب الصليبية قديماً ولا حديثاً يوم كانت هذه الحروب الصليبية معركة سافرة بين الإسلام وأعدائه المكشوفين الظاهرين!
والسذج ممن يدعون أنفسهم «مسلمين» يخدعون في هذه اللافتة .. ومن هؤلاء السذج كثير من الدعاة إلى الإسلام في الأرض! فيتحرجون من إنزالها عن «الجاهلية» القائمة تحتها، ويتحرجون من وصف هذه الأوضاع بصفتها الحقيقية التي تحجبها هذه اللافتة الخادعة .. صفة الشرك والكفر الصريحة.
ويتحرجون من وصف الناس الراضين بهذه الأوضاع بصفتهم الحقيقية كذلك! وكل هذا يحول دون الانطلاق الحقيقي الكامل لمواجهة هذه الجاهلية مواجهة صريحة، لا تحرج فيها، ولا تأثم من وصفها بصفتها الحقيقية الواقعة!
بذلك تقوم تلك اللافتة بعملية تخدير خطرة لحركات البعث الإسلامي، كما تقوم حاجزاً دون الوعي الحقيقي، ودون الانطلاق الحقيقي لمواجهة جاهلية القرن العشرين التي تتصدى لسحق الجذور الباقية لهذا الدين([32]).
هؤلاء السذج - من الدعاة إلى الإسلام - أخطر في نظري على حركات البعث الإسلامي من أعداء هذا الدين الواعين، الذين يرفعون لافتة الإسلام على الأوضاع والحركات والاتجاهات والأفكار والقيم والتقاليد التي يقيمونها، ويكفلونها لتسحق لهم هذا الدين!
إن هذا الدين يغلب دائماً عند ما يصل الوعي بحقيقته، وحقيقة الجاهلية إلى درجة معينة في نفوس العصبة المؤمنة - في أي زمان وفي أي مكان -.
والخطر الحقيقي على هذا الدين ليس كامناً في أن يكون له أعداء أقوياء واعون مدربون، بقدر ما يكمن في أن يكون له أصدقاء سذج مخدوعون، يتحرجون في غير تحرج، ويقبلون أن يتترس أعداؤهم بلافتة خادعة من الإسلام، بينما هم يرمون الإسلام من وراء هذه اللافتة الخادعة!
إن الواجب الأول للدعاة إلى هذا الدين في الأرض، أن ينزلوا تلك اللافتات الخادعة المرفوعة على الأوضاع الجاهلية، والتي تحمي هذه الأوضاع المقامة لسحق جذور هذا الدين في الأرض جميعاً!
وإن نقطة البدء في أية حركة إسلامية هي تعرية الجاهلية من ردائها الزائف، وإظهارها على حقيقتها... شركاً وكفراً...ووصف الناس بالوصف الذي يمثل واقعهم، كيما تواجههم الحركة الإسلامية بالطلاقة الكاملة، بل كيما ينتبه هؤلاء الناس أنفسهم إلى حقيقة ما انتهى إليه حالهم - وهي الحقيقة التي انتهى إليها حال أهل الكتاب، كما يقررها الحكيم الخبير - عسى أن يوقظهم هذا التنبيه إلى تغيير ما بأنفسهم، ليغير اللّه ما بهم من الشقوة والنكد والعذاب الأليم الذي هم فيه مبلسون!
وكل تحرج في غير موضعه، وكل انخداع بالأشكال والظواهر واللافتات هو تعويق لنقطة الانطلاق الأولى لأية حركة إسلامية في الأرض جميعاً:
وهو تمكين لأعداء هذا الدين من مكرهم الذي أرادوه بالحرص على إقامة تلك اللافتات بعد ما انكشفت حركة «أتاتورك» في التاريخ الحديث، وباتت عاجزة عن المضي خطوة واحدة بعد إلغاء آخر مظهر من مظاهر التجمع الإسلامي على أساس العقيدة، نظراً لانكشاف وجهتها هذا الانكشاف الصريح ...مما دعا كاتباً صليبياً شديد المكر، عميق الخبث، مثل «ولفرد كانتول سميث» في كتابه: «الإسلام في التاريخ الحديث» إلى محاولة تغطية حركة أتاتورك مرة أخرى، ونفي الإلحاد عنها، واعتبارها أعظم وأصح حركة بعث «إسلامي» (كذا) في التاريخ الحديث!!!
زاد الطريق
زاد الطريق
﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة: 153).
يتكرر ذكر الصبر في القرآن كثيراً، ذلك أن اللّه سبحانه يعلم ضخامة الجهد الذي تقتضيه الاستقامة على الطريق بين شتى النوازع، والدوافع، والذي يقتضيه القيام على دعوة اللّه في الأرض بين شتى الصراعات والعقبات، والذي يتطلب أن تبقى النفس مشدودة الأعصاب، مجندة القوى، يقظة للمداخل والمخارج ..
ولا بد من الصبر في هذا كله ..
لا بد من الصبر على الطاعات، والصبر عن المعاصي، والصبر على جهاد المشاقين للّه، والصبر على الكيد بشتى صنوفه، والصبر على بطء النصر، والصبر على بعد الشقة، والصبر على انتفاش الباطل، والصبر على قلة الناصر، والصبر على طول الطريق الشائك، والصبر على التواء النفوس، وضلال القلوب، وثقلة العناد، ومضاضة الإعراض ..
وحين يطول الأمد، ويشق الجهد، قد يضعف الصبر، أو ينفد، إذا لم يكن هناك زاد ومدد، ومن ثم يقرن الصلاة إلى الصبر، فهي المعين الذي لا ينضب، والزاد الذي لا ينفد، المعين الذي يجدد الطاقة، والزاد الذي يزود القلب، فيمتد حبل الصبر ولا ينقطع، ثم يضيف إلى الصبر، الرضى والبشاشة، والطمأنينة، والثقة، واليقين.
إنه لا بد للإنسان الفاني الضعيف المحدود أن يتصل بالقوة الكبرى، يستمد منها العون حين يتجاوز الجهد قواه المحدودة، حينما تواجهه قوى الشر الباطنة والظاهرة، حينما يثقل عليه جهد الاستقامة على الطريق بين دفع الشهوات، وإغراء المطامع، وحينما تثقل عليه مجاهدة الطغيان والفساد، وهي عنيفة، حينما يطول به الطريق، وتبعد به الشقة في عمره المحدود، ثم ينظر، فإذا هو لم يبلغ شيئاً، وقد أوشك المغيب، ولم ينل شيئاً، وشمس العمر تميل للغروب، حينما يجد الشر نافشاً، والخير ضاوياً، ولا شعاع في الأفق ولا معلم في الطريق ..
هنا تبدو قيمة الصلاة .. إنها الصلة المباشرة بين الإنسان الفاني، والقوة الباقية، إنها الموعد المختار لالتقاء القطرة المنعزلة بالنبع الذي لا يغيض، إنها مفتاح الكنز الذي يغني، ويقني، ويفيض، إنها الانطلاقة من حدود الواقع الأرضي الصغير إلى مجال الواقع الكوني الكبير، إنها الروح والندى والظلال في الهاجرة، إنها اللمسة الحانية للقلب المتعب المكدود .. ومن هنا كان رسول اللّه e إذا كان في الشدة قال: (أرحنا بها يا بلال) .. ويكثر من الصلاة إذا حزبه أمر؛ ليكثر من اللقاء باللّه.
إن هذا المنهج الإسلامي منهج عبادة، والعبادة فيه ذات أسرار، ومن أسرارها أنها زاد الطريق، وأنها مدد الروح، وأنها جلاء القلب، وأنه حيثما كان تكليف كانت العبادة هي مفتاح القلب؛ لتذوق هذا التكليف في حلاوة وبشاشة ويسر .. إن اللّه سبحانه حينما انتدب محمداً e للدور الكبير الشاق الثقيل، قال له:
﴿يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾ (المزمل: 1- 5) .. فكان الإعداد للقول الثقيل، والتكليف الشاق، والدور العظيم هو قيام الليل، وترتيل القرآن .. إنها العبادة التي تفتح القلب، وتوثق الصلة، وتيسر الأمر، وتشرق بالنور، وتفيض بالعزاء، والسلوى، والراحة، والاطمئنان.
ومن ثم يوجه اللّه المؤمنين هنا، وهم على أبواب المشقات العظام .. إلى الصبر وإلى الصلاة ..
ثم يجيء التعقيب بعد هذا التوجيه: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ .. معهم، يؤيدهم، ويثبتهم، ويقويهم، ويؤنسهم، ولا يدعهم يقطعون الطريق وحدهم، ولا يتركهم لطاقتهم المحدودة، وقوتهم الضعيفة، إنما يمدهم حين ينفد زادهم، ويجدد عزيمتهم حين تطول بهم الطريق ..
وهو يناديهم في أول الآية ذلك النداء الحبيب: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ .. ويختم النداء بذلك التشجيع العجيب:
﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.
والأحاديث في الصبر كثيرة، نذكر بعضها لمناسبته هنا في إعداد الجماعة المسلمة لحمل عبئها، والقيام بدورها:
عن خباب بن الأرتّ t قال: «شكونا إلى رسول اللّه e وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: (قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار، فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه .. واللّه ليتمن اللّه تعالى هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت فلا يخاف إلا اللّه، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)»([33]).
وعن ابن مسعود t قال: «كأني أنظر إلى رسول اللّه e يحكي نبيا من الأنبياء عليهم السلام، ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه، وهو يقول: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)»([34]).
وعن يحيي بن وثاب، عن شيخ من أصحاب النبي e قال: قال رسول اللّه e: (المسلم الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم، ولا يصبر على أذاهم)([35]).
في ميزان الله
ثم نقف الوقفة الأخيرة مع قصة نوح؛ لنرى قيمة الحفنة المسلمة في ميزان اللّه سبحانه:
إن حفنة من المسلمين من أتباع نوح u، تذكر بعض الروايات أنهم اثنا عشر، هم كانوا حصيلة دعوة نوح في ألف سنة إلا خمسين عاماً، كما يقرر المصدر الوحيد المستيقن الصحيح في هذا الشأن...
إن هذه الحفنة - وهي ثمرة ذلك العمر الطويل، والجهد الطويل - قد استحقت أن يغير اللّه لها المألوف من ظواهر هذا الكون، وأن يجعل هذه الحفنة وحدها هي وارثة الأرض بعد ذلك، وبذرة العمران فيها والاستخلاف من جديد..
.. وهذا أمر خطير ...
إن طلائع البعث الإسلامي التي تواجه الجاهلية الشاملة في الأرض كلها، والتي تعاني الغربة في هذه الجاهلية والوحشة، كما تعاني الأذى، والمطاردة، والتعذيب، والتنكيل.. إن هذه الطلائع ينبغي أن تقف طويلاً أمام هذا الأمر الخطير، وأمام دلالته التي تستحق التدبر والتفكير!
إن وجود البذرة المسلمة في الأرض شيء عظيم في ميزان اللّه تعالى ...شيء يستحق منه سبحانه أن يدمر الجاهلية، وأرضها، وعمرانها، ومنشآتها، وقواها، ومدخراتها جميعاً، كما يستحق منه سبحانه أن يكلأ هذه البذرة، ويرعاها حتى تسلم، وتنجو، وترث الأرض، وتعمرها من جديد!
لقد كان نوح u يصنع الفلك بأعين اللّه ووحيه، كما قال تعالى:
﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾ (هود: 37).
وعند ما لجأ نوح إلى ربه، والقوم يطاردونه ويزجرونه، ويفترون عليه، كما قال اللّه تعالى في سورة القمر:
﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ * فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ﴾ (القمر: 9- 10).
عندما لجأ نوح إلى ربه يعلن أنه «مغلوب»، ويدعو ربه أن «ينتصر» هو، وقد غلب رسوله... عندئذ أطلق اللّه القوى الكونية الهائلة لتكون في خدمة عبده المغلوب:
﴿فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ﴾ (القمر: 11- 12)
وبينما كانت تلك القوى الهائلة تزاول عملها على هذا المستوى الكوني الرائع المرهوب ...كان اللّه سبحانه - بذاته العلية - مع عبده المغلوب:
﴿وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ ﴾ (القمر: 13- 14).
هذه هي الصورة الهائلة التي يجب أن تقف طلائع البعث الإسلامي في كل مكان، وفي كل زمان أمامها حين تطاردها الجاهلية، وحين «تغلبها» الجاهلية!
إنها تستحق أن يسخر اللّه لها القوى الكونية الهائلة ... وليس من الضروري أن تكون هي الطوفان، فما الطوفان إلا صورة من صور تلك القوى!
﴿وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾ (المدثر: 31)
وإنه ليس عليها إلا أن تثبت وتستمر في طريقها، وإلا أن تعرف مصدر قوتها، وتلجأ إليه، وإلا أن تصبر حتى يأتي اللّه بأمره، وإلا أن تثق أن وليها القدير لا يعجزه شيء في الأرض، ولا في السماء، وأنه لن يترك أولياءه إلى أعدائه، إلا فترة الإعداد، والابتلاء، وأنها متى اجتازت هذه الفترة؛ فإن اللّه سيصنع لها، وسيصنع بها في الأرض ما يشاء.
.. وهذه هي عبرة الحادث الكوني العظيم..
إنه لا ينبغي لأحد يواجه الجاهلية بالإسلام أن يظن أن اللّه تاركه للجاهلية، وهو يدعو إلى إفراد اللّه سبحانه بالربوبية، كما أنه لا ينبغي له أن يقيس قوته الذاتية إلى قوى الجاهلية، فيظن أن اللّه تاركه لهذه القوى، وهو عبده الذي يستنصر به حين يغلب، فيدعوه: ﴿أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ﴾..
إن القوى في حقيقتها ليست متكافئة ولا متقاربة.. إن الجاهلية تملك قواها.. ولكن الداعي إلى اللّه يستند إلى قوة اللّه، واللّه يملك أن يسخر له بعض القوى الكونية - حينما يشاء وكيفما يشاء - وأيسر هذه القوى يدمر على الجاهلية من حيث لا تحتسب!
وقد تطول فترة الابتلاء لأمر يريده اللّه ...ولقد لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، قبل أن يأتي الأجل الذي قدره اللّه، ولم تكن حصيلة هذه الفترة الطويلة إلا اثني عشر مسلماً ...ولكن هذه الحفنة من البشر كانت في ميزان اللّه تساوي تسخير تلك القوى الهائلة، والتدمير على البشرية الضالة جميعاً، وتوريث الأرض لتلك الحفنة الطيبة، تعمرها من جديد، وتستخلف فيها...
إن عصر الخوارق لم يمض! فالخوارق تتم في كل لحظة - وفق مشيئة اللّه الطليقة - ولكن اللّه يستبدل بأنماط من الخوارق أنماطاً أخرى، تلائم واقع كل فترة، ومقتضياتها، وقد تدق بعض الخوارق على بعض العقول فلا تدركها، ولكن الموصولين باللّه يرون يد اللّه دائماُ، ويلابسون آثارها المبدعة.
والذين يسلكون السبيل إلى اللّه ليس عليهم إلا أن يؤدوا واجبهم كاملاً، بكل ما في طاقتهم من جهد، ثم يدعوا الأمور للّه في طمأنينة وثقة، وعند ما يُغلبون عليهم أن يلجؤا إلى الناصر المعين، وأن يجأروا إليه، كما جأر عبده الصالح نوح:
﴿فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ﴾..
ثم ينتظروا فرج اللّه القريب، وانتظار الفرج من اللّه عبادة، فهم على هذا الانتظار مأجورون.
ومرة أخرى نجد أن هذا القرآن لا يكشف عن أسراره إلا للذين يخوضون به المعركة، ويجاهدون به جهاداً كبيراً ..إن هؤلاء وحدهم هم الذين يعيشون في مثل الجو الذي تنزل فيه القرآن، ومن ثم يتذ و قونه، ويدركونه؛ لأنهم يجدون أنفسهم مخاطبين خطاباً مباشراً به، كما خوطبت به الجماعة المسلمة الأولى، فتذو قته وأدركته وتحركت به ..
.. والحمد للّه في الأولى والآخرة...
الفهرس
بين يدي الكتاب 5
1- الجدية: 6
2- أسلوبه في الكتابة: 9
3- مواقفه: 10
«كتاب فقه الدعوة»: 10
هذا القرآن 13
كتاب هذه الدعوة 15
بصائر تهتدي 19
حقائق القرآن ونظريات العلم 28
آصرة العقيدة 35
في العبادات 49
عبادة الله وحده 51
مصطلح العبادات 59
قيمة حقيقة التوحيد في الحياة البشرية 62
فقه الحركة وفقه الأوراق 73
معركة أحد 91
في ميدان الأرض .. وميدان الفس 93
وقائع المعركة 100
وقائع موحية 108
أسلوب القرآن في معالجة الموقف 115
حقائق ضخمة 117
خط العقيدة الحركي في التاريخ البشري 135
دورة الجاهلية.. ودورة الإسلام 137
المفاصلة على أساس العقيدة 143
طبيعة المنهج الحركي في الإسلام 151
خطواته ومراحله 151
سورة التوبة 153
القاعدة الصلبة 168
مراحل ... وسمات 185
قمة المنهج الحركي 197
خطوة حاسمة 199
قانون الصراع 205
على مدى التاريخ 215
تحديد العلاقات النهائية بين المجتمع المسلم وأهل الكتاب 223
شهادة التاريخ 245
مغزى هذا البيان 252
زاد الطريق 261
في ميزان الله 267
الفهرس 271
([1]) يراجع كتاب معركة التقاليد لمحمد قطب.
([2] ) يراجع كتاب : «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته»، وكتاب «هذا الدين» وكتاب : «الإسلام ومشكلات الحضارة»، وكتاب : «معالم في الطريق» للمؤلف .. وكتب: «الإنسان بين المادية والإسلام»، و«دراسات في النفس الإنسانية»، و«التطور والثبات في حياة البشرية»، و«منهج التربية الإسلامية»، و«منهج الفن الإسلامي» لمحمد قطب.
([3]) انظر: الحاشية السابقة.
([4]) يراجع كتاب: «نحو مجتمع إسلامي» للمؤلف.
([5]) يراجع فصل: «جيل متفرد»، وفصل: «التصور الإسلامي والثقافة» في كتاب: «معالم في الطريق».
([6]) يراجع فصل: «لا إله إلا اللّه منهج حياة»، وفصل: «طبيعة المجتمع الإسلامي» في المصدر السابق.
([7]) من هؤلاء جوليان هاكسلي من علماء الداروينية الحديثة!
([8]) يراجع فصل: «نشأة المجتمع المسلم وخصائصه» من كتاب: «معالم في الطريق».
([9]) يراجع «المصطلحات الأربعة في القرآن» للأستاذ المودودي.
([10]) عن كتاب: «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته».
([11]) عن كتاب: «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته».
([12]) هم من الأعراب، وقد سموا كذلك لتحالفهم إلى جوار مكان يقال له: الأحبش.
([13]) عتمدنا في تقرير أن هذا كان رأي النبي e على ما قرره الإمام ابن قيم الجوزية في كتابه: «زاد المعاد».
([14]) الجزء الثاني عشر من الظلال ص 70 – 76.
([15]) يراجع فصل: «لا إله إلا الله منهج حياة» من كتاب «معالم في الطريق».
([16]) الرواية الراجحة أن سورة النصر هي آخر سورة نزلت .
([17]) الطبقات التي نعنيها في المجتمع المسلم ليست طبقات اجتماعية بالمعنى الصغير المفهوم الآن من الطبقية، ولكنها الطبقات التي تقوم على قيم إسلامية بحتة، كالسابقين من المهاجرين والأنصار، وأهل بدر، وأصحاب بيعة الرضوان، ومن أنفق من قبل الفتح وقاتل، ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل، والقاعدين، والمنافقين ... إلخ.
([18]) يراجع في هذا الجزء العاشر من الظلال ص 67 – 71.
([19]) المحقق أنهم اثنان وسبعون، ولكن العرب كثيراً ما تحذف الكسر.
([20]) وقد رواه الإمام أحمد أيضاً، والبيهقي من طريق داود بن عبد الرحمن العطار - زاد البيهقي عن الحاكم - بسنده إلى يحيى بن سليم، كلاهما عن عبد اللّه بن عثمان بن خيثم، عن أبي إدريس به نحوه، وهذا إسناد جيد على شرط مسلم، ولم يخرجوه، وقال البزار: «وروى غير واحد غير ابن خيثم، ولا نعلمه يروى عن جابر إلا من هذا الوجه».
([21]) يراجع تفسير هذه الآيات والملابسات التي أحاطت بنزولها في الجزء التاسع من الظلال ص 1479 - 1482 من الطبعة الثانية المنقحة.
([22]) من حديث أخرجه البخاري، وكان هذا رد رسول اللّه e على عمر t، وقد استأذن رسول اللّه e في أن يضرب عنق حاطب بن أبي بلتعة حينما أدركته لحظة ضعف، فأرسل إلى قريش سراً ينبئهم بتجهز رسول اللّه e لفتح مكة.
([23]) أورده ابن القيم في زاد المعاد، وهو رد رسول اللّه e على خالد بن الوليد؛ إذ تلاحى مع عبد الرحمن بن عوف ب، وخالد هو سيف اللّه، ولكن عبد الرحمن من السابقين الأولين.
([24]) يراجع بقية ما جاء في مقدمة سورة الأنفال ص 166 - 201 من الجزء الثاني من الظلال.
([25])لاذلك أن اليهود والنصارى (من أهل الذمة!) كانوا ممن كاتب التتار لغزو عاصمة الخلافة، والقضاء على الإسلام والمسلمين فيها، وممن دلّوا على عورات المدينة، وشاركوا مشاركة فعلية في هذه الكارثة، واستقبلوا التتار الوثنيين بالترحاب، ليقضوا لهم على المسلمين الذين أعطوهم ذمتهم، ووفروا لهم الأمن والحماية.
([26]) تراجع مقدمات سور: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة في هذه الطبعة المنقحة من الظلال.
([27]) يراجع فصل: «الفصام النكد» في كتاب: «المستقبل لهذا الدين».
([28]) نقلاً عن كتاب: «الشريعة الإسلامية والقانون الدولي العام» للأستاذ علي علي منصور.
([29]) السابق.
([30]) من كتاب جورج براون نقلاً عن كتاب: «التبشير والاستعمار في البلاد العربية» للدكتور مصطفى خالدي، والدكتور عمر فروخ.
([31]) يراجع كتاب: «التبشير والاستعمار» للدكتور مصطفى خالدي، والدكتور عمر فروخ، وكتاب: «الغارة على العالم الإسلامي» للاستاذين اليافي، ومحب الدين الخطيب، وكتاب: «الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر» للدكتور محمد محمد حسين، وكتاب: «هل نحن مسلمون» لمحمد قطب.
([32]) راجع كتاب: «جاهلية القرن العشرين» لمحمد قطب.
([33]) أخرجه البخاري، وأبو داود، والنسائي.
([34]) أخرجه الشيخان.
([35]) أخرجه الترمذي.
وسوم: العدد 929