عبد الله الطنطاوي أديب في زمن الربيع العربي 2
عناية الطنطاوي بالتراجم
عناية الطنطاوي بتراجم الإسلاميين
كتب الطنطاوي بفنيّة عالية وقلم سيّال العديد من التراجم، تناول فيها الشخصيات المترجم لها بالدراسة والتحليل، بحياد تام بعيداً عن العاطفة والتعصّب والغلو،
واستطاع أن يجمع جوانب الشخصيّة الواحدة في مقالة مختصرة، تغني القارئ عن كتاب كامل، مع قدرته على التوسّع في هذا الموضوع، كما بيّنا في كتب التراجم التي ألّفها، بسبب ثقافته الموسوعيّة، وسعة اطّلاعه، كما رأيناه يجمع الرواية الطويلة في القصّة القصيرة.
وقد حالفه النجاح في هذا النوع من التأليف حتّى كاد يغلب على الجانب الأدبي الذي برع فيه،
وشخصياّت الطنطاوي منتقاة من عالمه الإسلامي الرحب، المليء بالنماذج الفريدة المنثورة في كتب التراث والأدب والدين، والرجال المعاصرين الذين عايشهم ولمس آثارهم عن قرب.
ولا بدّ لنا في هذه العجالة من تدوين بعض المقتطفات المنتقاة من سيرة هؤلاء الروّاد، كما كتبها الطنطاوي، لنتبيّن أسلوبه وطريقة عرضه والرسالة التي أراد نشرها من خلال ترجمة كل شخصيّة:
يتحدث الطنطاوي عن بيئة الشيخ محمد بن عبد الوهاب فيقول:
لا يعرف قيمة دعوة الشيخ وأهميتها، إلا من عرف ما كانت عليه حال الأمة في عصره والعصور التي سبقته، فقد بلغ الانحطاط الفكري مداه في العالم الإسلامي بعد إغلاق أبواب الاجتهاد، وصار العلماء وطلاب العلم يعكفون على متون المتأخرين وحواشيهم، وانتشرت الضلالات، وشوهت العقيدة بما داخلها من تشوهات قاربت شركيات الجاهلية الأولى أو كادت في نجد وسواها من بلاد المسلمين..وانتشرت الخرافات والبدع وظنوها من الدين.
كانت الحياة السياسة سيئة وفاسدة، والحروب بين الزعامات ناشبة، والبلاد مقسمة ممزقة، قسمتها الأهواء، ومزقتها الجاهليات المستحدثة، والعلماء أنصاف جهلة وأنصاف عجزة، لا يقوون على إنكار منكر، وقطاع الطرق يعبثون بأمن البلاد، ويعتدون على حرمات العباد، ويسطون على الحجيج، يسلبونهم أموالهم وطعامهم وشرابهم. كانت الخلافة العثمانية ضعيفة، دبت في أوصالها عوامل الضعف، وفقدت سيطرتها على أطرافها البعيدة، ولم تستطع أن تبسط سلطانها على شبه الجزيرة العربية التي تتبعها بالاسم فقط وأوربا لا تخفي أحقادها على العرب والمسلمين والخلافة، تسوقها روح صليبية لم تهدأ منذ غزوة مؤتة، مروراً بالحملات الصليبية، وحتى الاستعمار الحديث ويوم الناس هذا، وقد تستمر إلى يوم الدين، وأوروبا تطمع في (الرجل المريض) واقتسام تركته، والمسلمون في حالة عجز تام. فوضى في السياسة، وفوضى اجتماعية، وفوضى وانحراف في العقائد والعبادات وكل ما يمت إلى هذا الدين العظيم بصلة.
ثم يتحدث عن نشأته، ويعدد أبرز صفاته فيجملها بالآتي: الذكاء، والزهد، والكرم، ورهافة الحس، والشجاعة والإقدام، وشدّة الغيرة على الدين، وقوّة العقيدة، والعقل الراجح، والمثابرة والدأب، وحريّة التفكير، والإدارة والتدبير.
ثم يتحدث عن علمه ومؤلّفاته وبعض أقواله، ومذهبه الفقهي، ومسار الدعوة، وأعداء الدعوة، ويختم الطنطاوي هذه السيرة المختصرة بوفاة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله..(1)
* * *
وكتب سيرة مختصرة لشيخ الإسلام في الدولة العثمانيّة الشيخ مصطفى صبري، فتحدّث عن حياته ووظائفه، وعن مصطفى صبري سياسيّاً، ومغادرته وطنه،
وكتب الطنطاوي عن مصطفى صبري مفكّراً، فأفاض في الحديث عن مؤلّفات الشيخ مصطفى:
أيقن الشيخ مصطفى صبري أن أخطر ما تتعرض له الأمة من أخطار، وهي كثيرة جداً، خطر الغزو الثقافي الذي تبدّى في الهزيمة النفسية للمثقفين المسلمين عامة، والعرب خاصة، أمام الثقافة الغربية التي ملكت عليهم أقطار عقولهم، وأحلّوها من قلوبهم ونفوسهم محلاً ما كان ينبغي لهم أن يحلوها فيه.
ظهر له هذا في المقالات التي تُنشَر في الصحف المصرية، وما تطرحه المطابع من دوريات وكتب، فتصدّى لها بالنقد، وألّف العديد من الكتب التي تردّ عليها "وبذلك، صار لكتبه –إلى جانب قيمتها الفكرية الإسلامية- قيمة تاريخية، إذ أصبحت سجلاً صادقاً للحياة الفكرية المعاصرة، وزاد في قيمتها من هذه الناحية، أن المؤلف قد جرى في كل كتبه، على نقل النصوص التي يعارضها كاملة، قبل أن يتولّى الردّ عليها."
كانت المهمة الأولى للشيخ، مقاومة الدعوة إلى الإلحاد، ودعوة المسلمين إلى التمسّك بدينهم، وشريعتهم، والإيمان بالكتاب كله، دون تفريق بين دقيق وجليل، ورفض كل دعوة إلى التأويل وإلى تطوير الإسلام، تحت ستار ملاءمة ظروف الحال، ومسايرة ركب الحضارة، والتطور مع الزمن. ظهر هذا في مؤلفاته:
ففي كتابه (النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة)، بحث مسألة الخلافة من الناحية السياسية، وهاجم الكماليين، ونفّر العالم الإسلامي عامة ومصر خاصة، منهم، وحذّر من شرورهم، ونبّه المسلمين إلى سوء نياتهم في التفريق بين الخلافة والسلطنة، وبيّن دوافع هذا التفريق، وأوضح الآثار المترتبة عليه.
وتحدّث عن فساد دين الكماليين، وعن تعصّبهم للجنس التركي، ومحاربتهم للعصبية الإسلامية، واستخفافهم بالقرآن، وبتعاليم الإسلام، وأنها غير صالحة للقرن العشرين، وقدّم نماذج من كتابات كتّابهم الداعين إلى التخلص من سلطان الدين، وإبعاده عن سياسة الدولة، اقتداء بالأوربيين، وذكر كلمة لأحد غلاة الكماليين من الترك في أحد كتبه "إنا عزمنا على أن نأخذ كل ما عند الغربيين، حتى الالتهابات التي في رئاتهم، والنجاسات التي في أمعائهم". وقدّم المؤلف أمثلة بالقوانين التي خالفوا فيها الشرع، وأن الكماليين خرجوا من عباءة الاتحاديين الملاحدة، لا فرق بينهم، فهم مثلهم في صلتهم باليهود، وتواطئهم مع الإنكليز، وردّ على الذين نصحوه بعدم مهاجمة مصطفى كمال أتاتورك، لتعلق المسلمين به، وقال لهؤلاء:
- ليست من وظيفة العلماء محاباة العامة، ومجاراة الدهماء، بل وظيفتهم إطلاع الناس على حقائق الأمور، ولابدّ من بيان عصبية الكماليين لقوميتهم التركية، وتعصبهم لطورانيتهم إلى حدّ العداوة للإسلام، ومهاجمته، باعتباره ديناً عربياً، وإحيائهم لعقائد الترك الوثنية في جاهليتهم الأولى، وإحلالهم المشاعر القومية محل المشاعر الإسلامية.
وقال: إن الكماليين والاتحاديين حزب واحد، ولعنة الله على الاتحاديين الذين أدخلوا السياسة في الجيش، فسنّوا بهذا سنّة سيئة صارت آفة على الدولة، وصار الجيش آفة على الدولة، وقادوا الإمبراطورية إلى حربين ضيّعوا فيهما الخلافة والدولة والأمة، وقال: "ولن تجد ملة أو قوماً خارج بلادنا وداخلها دامت مودّة الاتحاديين والكماليين معهم إلا اليهود" ولهذا لم يسلم جنس من عدوانهم في تركيا، لا الألبان، ولا العرب، ولا الأكراد، ولا الأرمن، ولا الشراكسة، ولا الأروام.. ما سلم من عدوانهم إلا اليهود.
واختصر الجانب الفكري من خلال مؤلّفات الشيخ: (مسألة ترجمة القرآن)، و(موقف البشر تحت سلطان القدر)، و(قولي في المرأة)، و(القول الفصل بين الذين يؤمنون بالغيب والذين لا يؤمنون)، و(موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين، وعباده المرسلين).(2)
* * *
وكتب الطنطاوي في سيرة محدث الديار الشاميّة الشيخ بدر الدين الحسني، فمهّد لها بالحديث عن الرجال الذين لا يموت ذكرهم، وتحدّث عن ميلاده، ونشأته، وصفته، وطبائعه، وأخلاقه، وعلمه، وتآليفه، وفتاواه، وتدريسه، وغرفته، ورحلاته، ومكانته، ثم تحدّث عن المحرّك الأوّل للثورة في سوريّة فيقول الطنطاوي:
عاصر الشيخ أواخر العهد العثماني، وشهد الانحرافات والمظالم على أيدي الاتحاديين المشبوهين، وشهد ظروف الحرب العالمية الأولى، وكانت قاسية مريرة، فيها ظلمٌ، وقتلٌ، وفقرٌ، وجوعٌ، فكان يأسى لحالهم، ويسأل عن أسعار أقواتهم، وهمومهم، ويتصل بالحكام ليدفع عنهم ألوان الظلم والقهر.
وعندما قرر الفرنسيون احتلال سورية، أرسل ولده الشيخ تاج الدين، وتلميذه المفتي الشيخ عطا الكسم لقتال الغزاة الفرنسيين في (ميسلون).
ولما وصل الجنرال الفرنسي الغاشم (غورو) إلى دمشق، وأراد مقابلة الشيخ، رفض الشيخ مقابلته، وحضّ الناس على عدم دفع الضرائب للفرنسيين، وعدم التعامل معهم، وكان يعلن في دروسه العامة، أن الجهاد صار فرض عين على كل من يستطيع حمل السلاح واستعماله.
ثم قام بجولته المشهورة على المحافظات السورية، بصحبة تلميذه الواعظ النجيب الشيخ علي الدقر، وكان الشيخ يطوف المدن السورية، متنقلاً من بلدة إلى أخرى، حاثاً على الجهاد، وحاضّاً عليه، وكان يقابل المجاهدين، ويغذّيهم بآرائه، وينصح لهم بالخطط الحكيمة، فكان أباً روحياً للثورة والثائرين المجاهدين.
وكان من تلاميذه المجاهدين الأبطال، الشيخ محمد الأشمر وحسن الخراط اللذان يأتمران بأوامره، وينفذان تعاليمه، ويعملان بنصائحه في المعارك الهائلة التي خاضها المجاهدون في الغوطة ودمشق. وكان خادمه الشيخ عبد الله الأفغاني، يشترك بالحملات، ثم يرجع إلى (دار الحديث) من أجل خدمة البدر.
" إن البطولة الحقة، والجهاد الحق، إنما كان من الإسلام، وبالإسلام، وبطريق الإسلام الذي كان متمثلاً في قائد الثورة الشيخ بدر الدين الحسني وتلامذته الأتقياء الأصفياء المجاهدين". كما قال الأستاذ شوقي أبو خليل.
وقدّر الرائد إحسان هندي في كتابه (كفاح الشعب العربي السوري 1908-1948 دراسة عسكرية تاريخية) الدور الكبير الذي نهض به الشيخ بدر الدين، في الثورة السورية عامة، وفي ثورة المجاهدين في دمشق وفي الغوطتين خاصة، وهو لا يقل أهمية ووطنية عن أدوار الذين حملوا السلاح، فقد كان الشيخ المحرك الأول للثورة في أوساط تلاميذه ومريديه، حتى بلغ الأمر بالشيخ علي الدقر أن ينهي إحدى خطبه في جامع السنانية بدمشق بقوله:
" يا إخواننا. اللص دخل الدار، وهو يطلب منكم ثلاثة أشياء: دينكم، ومالكم, وعرضكم.
ولمّا سأله أحد المصلين: ومن هو هذا اللص يا شيخي؟ أجاب الشيخ: فرنسا."
ثم يختم هذه السيرة العطرة بالحديث عن وفاة الشيخ الحسني رحمه الله.
المراجع:
1 ـ موقع رابطة أدباء الشام 1/9/2007 محمد بن عبد الوهاب، بقلم: عبد الله الطنطاوي.
2 ـ موقع رابطة أدباء الشام 8/9/2007 الشيخ مصطفى صبري شيخ الإسلام في الدولة العثمانيّة، بقلم: عبد الله الطنطاوي.
3 ـ موقع رابطة أدباء الشام 13/10/2007 محدّث الديار الشاميّة بدر الدين الحسني، بقلم: عبد الله الطنطاوي.
4 ـ ارجع إلى كتاب رجال لهم آثار تأليف عبد الله الطنطاوي.
* * *
أدب التراجم عند عبد الله الطنطاوي
اهتمّ الطنطاوي بكتابة التراجم، وأصدر العديد من كتب التراجم، ودعا إخوانه لتدوين ما يملكون من معلومات شفهيّة عن سير الشخصيّات الإسلاميّة التي عاصروها، وأثنى على كتّاب التراجم من إخوانه.
يقول الأستاذ أبو أسامة في مقالة منشورة بعد صدور مجلّدات كتاب المستشار عبد الله العقيل (من أعلام الحركة والدعوة الإسلاميّة المعاصرة).
"إنني أدعو رجالات الحركة الإسلامية، ممن لقوا الإمام الشهيد، وتتلمذوا على يديه وعلى أيدي إخوانه البررة، وأيدي تلاميذهم أن يبادروا إلى كتابة ما اختزنته الذاكرة عن أولئك العظماء، قبل أن يحين حَيْنُ الواحد منهم، فيرحل، وترحل معه ذكرياته ومذكراته، وهي التاريخ الحقيقي لهذه الجماعة الخيِّرة، ولهذه الأمة المنكوبة بقوَّادها وكثير من مثقفيها.
إننا نودّع في كل يوم حبيباً من أولئك الشيوخ، وعندما نحاول رثاءهم، أو التعريف بهم، لا نجد المادة التي تؤهلنا للكتابة عنهم، فهم كانوا زاهدين في الأضواء، والإعلام الرسميّ والعلماني منحاز ضدهم، وأكثرهم يأخذ بوصية الإمام الشهيد، في البعد عن كتابة المذكرات، حتى لا تقع في أيدي "زوَّار الظلام" الفجرة.. وهذا صحيح من جهة، وغير صحيح من جهات، ونحن بهذا نترك المجال للأعداء والخصوم يكتبون ما تمليه عليهم أهواؤهم وضمائرهم المستترة، والمنفصلة، والمنحرفة... ونحن لا نعتب على أولئك، فهم خصوم متربصون، ولكننا نعتب على أصحاب القضية انصرافهم عن التأريخ لجماعتهم من خلال ذكرياتهم ومذكراتهم، متعللين بتعلاّت غير مقبولة.
من يستطيع الكتابة منكم فليكتب، ومن لم يستطع الكتابة فليضع المسجل أمامه، ويسجل بصوته ذكرياته عن الحوادث والرجال، ولو بصوت واهن، وإذا كانت لديه وثائق، فليسلمها إلى أصحاب الشأن، حتى يستفيد الكاتبون ويستفيد المؤرخون.
عودوا إلى من بقي من الشيوخ
إنني أرجو إخواننا الشباب النابهين في سائر الأقطار، وخاصة في مصر وسورية، أن يعودوا إلى من بقي من شيوخنا الكرام، وأن يعودوا إلى صحف الإخوان وكتاباتهم منذ التأسيس وحتى الآن، وخاصة في الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات من القرن المنصرم، ويجمعوا ما كتبه القادة والمفكرون والأدباء والشعراء من أبناء الدعوة، لتكون لدى الدارسين موادّ موثّقة يستندون إليها في كتاباتهم".
ووصف المترجم لهم بأنّهم: " رجال أبطال، تنوَّعت عظمتهم، وتلوَّنت بطولاتهم بألوان الطيف الإنساني التي حباها الإسلام من التسامي ما زادها تألقاً... في زمن الغثائية، والمادية الطاغية.
برز أولئك العظماء حين شحَّ الرجال، وعزَّ ذوو البذل والعطاء، وتصدَّوا لألوان التخلف والفساد والطغيان، وعاشوا لله، ولدينهم، ولأمتهم، باعوا نفوسهم لله، وبذلوا أوقاتهم، وأموالهم، وجهودهم، بسخاء، واستهانوا بما يقتتل عليه الناس من المتع الدنيا، ولم يأبهوا بالإغراءات، وكانوا فوق كل ترغيب أو ترهيب، وحزنوا على الذين تساقطوا على مفترق الدروب والطرق، ممن استهوتهم الطواغيت في الأرض".
وفي قراءة نقديّة لكتاب (عظماؤنا في التاريخ) الذي جمعه وحقّقه وقدّم له الأستاذ عبد الله الطنطاوي ـ وهو غير كتاب الدكتور مصطفى السباعي الذي طبعه المكتب الإسلامي في بيروت ـ كتب الأديب الراحل محمد الحسناوي معلّقاً على صدور الطبعة الأولى للكتاب عن دار البشير في بيروت عام 1974يقول: الأديب الإسلامي عبد الله الطنطاوي شقيق روحي، ماذا أقول عنه بمناسبة تكريمه، وهو الذي من عادته أن يكرم الآخرين – ولاسيما الأدباء – بدءاً من إسهامه في تأسيس (رابطة الوعي الإسلامي) في بواكيره، وانتهاء إلى إشرافه على موقع (رابطة أدباء الشام) وموقع (الفاتح للأطفال) الألكترونيين، فضلاً عن اتخاذه بيته ومكتبته العامرة.... دارة لاستقبال الأدباء والشعراء والمفكرين في الوطن وفي الغربة على حد سواء.
ماذا أقول، والصداقة حجاب، مثلما كانت المعاصرة حجاباً؟
كيف يألف الإنسان الماء والهواء وشروق الشمس والقمر وغروبهما، لدرجة الغفلة عما وراء ذلك وقبله من خالق قادر بديع السماوات والأرضين، وما في خلق هذه الآلاء من حكمة بالغة، وجمال باهر، كذلك يغفل الصديق عن مزايا صديقه، وإن تذكرها، بعضها أو كلها، خجل من الحديث عنها، لئلا يتهم في شهادته.
ومع ذلك أن تقول فتعدل خير من أن تصمت فتبخل. والساكت في حضرة القول: إما شيطان أخرس، أو ناكر للجميل أشوس، والنأي عن كليهما أحرى وأكيس.
عشرات التراجم للكبار والصغار
وعلى تعدد مواهب أخي أبي أسامة في الكتابة، من قص وتاريخ ونقد أدبي وكتابة مسلسلات تلفزيونية... سأختار الحديث عن جهده في باب (التراجم) أي الكتابة عن الأعلام، أعلام أمتنا، للكبار والصغار، وهي كتابة ألصق ما تكون بطبيعة من يأخذ بخدمة الآخرين، الآخرين الذين يكتب عنهم، أو الآخرين الذين يكتب لهم.
أخرج صاحبنا – مدّ الله في عمره – في أدب (التراجم) ما لا يقل عن (40) كتاباً، أربعة منها للكبار: مثل رواية (الوادي الأحمر عن القسام).
و(مصطفى السباعي الداعية المجاهد).
و(اللواء الركن محمود شيت خطاب).
و(محمد منلا غزيل في ظلال الدعوة) .
وخمسة وثلاثين كتاباً وكراساً للأطفال، ستة وعشرين منها في سلسلة (نجوم الإسلام) صدر منها أربعة مجلدات.
وتسعة أخرى في سلسلة (مكتبة النذير للأشبال) وسوف يكون حديثنا عن كتب الفتيان والأشبال.
ما كتبه للكبار يختص بأعلام الإسلام المعاصرين (مجاهدين – دعاة – مفكرين – أدباء). أما ما سطره للفتيان والأشبال فقد جمع بين القدامى والمحدثين، وبالدقة بين نماذج صدر الإسلام الأول وبين رجالات الإسلام في القرن الأخير، والجامع بينهم: الإسلام، وبالدقة الإسلام الناهض، والنهضة هي الوشيجة الجامعة بين هؤلاء جميعاً، فهل أمسكنا بأول خيط في خطط صاحبنا الطنطاوي؟
ففي المجلد الأول الذي يتحدث فيه عن تسعة من كرام الصحابة رضي الله عنهم (كجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة) يتحدث أيضاً عن (الشيخ عبد الرحمن الكواكبي)،
وفي المجلد الثاني الذي يتحدث فيه عن خمسة من الصحابة (كالزبير بن العوام وعمرو بن العاص) يتحدث عن ثلاثة معاصرين هم (الشيخ عز الدين القسام والشيخ سليمان الجوسقي وسليمان الحلبي)،
وفي الجزء الثالث يتحدث عن اثنين من الصحابة هما (سلمان الفارسي وجرير بن عبد الله البجلي) وعن اثنين آخرين من الأعلام المعاصرين هما (الدكتور مصطفى السباعي والشيخ محمد الحامد)، مما يؤكد أن الاختيار بني على منهج الربط بين ماضي الأمة المشرق الناهض وبين حاضرها الذي يسير على هدى أولئك الصحابة الكرام، سواء بالهمة والعزيمة، أم بالفكر والرأي، أم بالسيف والقلم، وهو منهج الصحوة الإسلامية، منهج الدعوة والعودة إلى لله.
مزاوجة وأمانة
أما الخيط الثاني في منهج التأليف لدى صاحبنا، فهي مزاوجته بين الأدب والتاريخ، على سنن أدبائنا الكبار مثل ابن خلدون وابن خلكان وياقوت الحموي، لذلك أدرج في نهاية كل ترجمة جريدة بأسماء المصادر والمراجع التي نهل منها أو اعتمد عليها؛ وفوق ذلك يسمي الشخصيات التي تتحدث في كل ترجمة بأسماء الذين يأخذ منهم أو عنهم، الاسم الأول مثل الأستاذ (بسام) يعني به بسام الأسطواني، أو (حسني) يقصد به حسني أدهم جرار في ترجمة للدكتور السباعي رحمه الله تعالى، أو الاسم الكامل مثل محمد المبارك ومحمد الفاضل وسواهما.
والحقيقة أن الرجل لم يقف عند المزاوجة بين الأدب والتاريخ، بل قرن ذلك بالأمانة التاريخية، خلافا لبعض الأدباء الذين يتصرفون جهلاً أو عن هوى؛ صنيع جرجي زيدان في رواياته عن تاريخ العرب والإسلام، لأن رسالة الطنطاوي الإصلاح، وشريعته الأمانة، أما أولئك فرسالتهم وشريعتهم غير ذلك.
ومن الأمانة التاريخية تضمين صاحبنا أو اقتباسه النصوص بأنواعها – ولاسيما القرآن الكريم والحديث الشريف وكلام الصحابة – من جهة، أو نقل صفحات من كتابة الكتاب المحدثين أو خطبهم أو رسائلهم وأشعارهم من جهة ثانية.
أما الخيط الثالث فهو الشكل الفني الذي سكب فيه هذه التراجم فكانت قطعاً أدبية بقدر ما كانت أعمالاً تاريخية في الوقت نفسه.
والجانب الفني يتجلى في البناء الحواري أولاً، وفي الأسلوب التعبيري ثانياً، والرواسم الهادفة ثالثاً، والتركيز في رسم الشخصيات على صاحب الترجمة رابعاً.
أما البناء الحواري فنعني به أن المؤلف اتخذ من الأسلوب الحواري قالباً فنياً للترجمة، وذلك بأن اختار المؤلف شخصية أخوين فتيين (صادق وصادقة) يتحاوران ويحبان الاطلاع على سير الرجال العظماء في رعاية والدهما الذي يشجعهما على هذه الهواية ويرعاها، يضاف إليهم زائر عالم يقوم بدور الراوية الذي يصف الشخصية المترجم لها بضمير الغائب، وفي حالة أخرى، يحل المترجم له بنفسه محل العالم أو الراوية ويدور الحوار معه نفسه، كما نرى في ترجمة الصحابي سلمان الفارسي رضي الله عنه، حيث يظهر الصحابي نفسه، بعد أن مهد له (الشيخ نايف) الراوية قبل صفحات في زيارة مستقلة لأسرة الفتيين ولأبيهما، وأحد الأخوين الفتيين (صادق) هو الراوي لنا نحن القراء والعمل شبيه بالنص المسرحي، لكنه لا يتقيد بحبكة من تمهيد وعقدة وحل ولا بناء درامي من صراع صاعد وتطاحن بين الشخصيات.
الأسلوب التعبيري
الأسلوب التعبيري، هو على بساطته وسهولته، يحمل حظاً غير قليل من الألفاظ والتراكيب القديمة، التي لابد منها في نصوص الأعلام المترجم لهم، أو لأغراض التربية للفتيان والأشبال على الأساليب العالية، وعن طريق الحوار يجري السؤال والجواب عن معاني بعضها، مما يخفف من وطأة الغرابة والاستيحاش، فتدغم في السياق وفي النفوس.
أما الرواسم الهادفة، فهناك الافتتاح بعبارة (حدثنا الفتى صادق أمين فقال:) التي تتكرر في بداية كل ترجمة، وأحياناً في تضاعيفها، على طريقة المحدثين القدامى.
وهناك ثبات الشخصيات المتجاورة في كل ترجمة، على نسق واحد، الفتيان (صادق وصادقة) والأب، والزائر الراوية: عالم أو شيخ أو مؤرخ، وأخيراً: شخصية المترجم له بنفسه، يضاف إلى ذلك الاعتماد على صفحات من كتب، أو قصص، أو طرائف، أو حكم وأمثال، تساق بين الحين والآخر ضمن الحوار، مما يذكرنا بنسق الشخصيات في المقامات أيضاً.
وروسم آخر هو الالتزام بتكثيف الترجمة وذلك بإطلاق أبرز صفاتها في العنوان. فالصحابي سلمان الفارسي – يوصف بـ ابن الإسلام، والصحابي جرير بن عبد الله البجلي: يوسف هذه الأمة، والشيخ الدكتور مصطفى السباعي: رجل الدعوة في بلاد الشام، والشيخ محمد الحامد: رجل العلم والتقوى والجهاد، وهكذا دواليك...
والروسم المهم هو التركيز دوماً – في رسم الشخصيات – على شخصية العلم المترجم له، فشخصية الفتيين والأب والراوية شخصيات خفيفة الظل، بمعنى أننا نعرف ملامحها الثابتة القليلة، أو هي مساعدة بأشكال متفاوتة للراوي، أما الشخصية المستوفاة من حيث الأبعاد الجسمية والنفسية والاجتماعية فهي شخصية المترجم له، وهذا يخدم الغرض الرئيس من الترجمة، كما هو معلوم، وهي الشخصية التي تتبدل تفصيلات ملامحها من ترجمة إلى ترجمة أخرى، ولا جامع بينها إلا العظمة أو التفوق.
الجانب التربوي
أما الخيط الرابع في كتابة صاحبنا للفتيان والأشبال، فهو الجانب التربوي، فبالإضافة إلى المتعة الفنية والجمالية، وإلى سرد المعلومات قصاً أو حواراً، هناك الأهداف التربوية الكامنة أو المتحصلة من الأسلوب التعبيري الأنيق، والألفاظ والتراكيب الفصيحة المختارة، أو من قيم التفكير الراقي التي قامت عليها هذه الشخصيات الأعلام، أو عملت على نشرها وتحققها في الحياة، أو من مجالي المشاعر والعواطف السامية التي نبضت بها قلوب هذه الأعلام في ساعات العسر أو اليسر، أو في ساعات الألم أو النصر، والتربية من خلال الأشخاص والوقائع أجدى وأنفع من القواعد والقوانين المجردة من اللحم والعظام والأعصاب والأحداث، وهو ما نطلق عليه أحياناً اسم التاريخ، التاريخ القديم أو التاريخ الحديث، وما التاريخ في الحس البشري إلا أنه برهان على شيء واقعي حدث، ويمكنه أن يحدث ثانية وثالثة ورابعة. وهذا خير برهان على حيوية هذه القيم وواقعيتها وجاذبيتها في الوقت نفسه. ومن يملك رصيداً ضخماً من القيم والشخصيات المتحققة بهذه القيم فطوبى له وحري به أن يفيد منها، وويل له إن هجرها واستورد أو حاول الاستيراد من غيره.
أما الخيط الخامس في هذه التراجم... فهو ملاءمتها لجيل الفتيان والأشبال، رجال المستقبل... ملاءمتها أولاً من حيث دورانها على البطولة والعظمة والتفوق، وهي النزعة الغالبة على نفسيات الفتيان والأشبال في هذه السن، وعلى استعداداتهم التي تبحث عن القدوة فيها من جهة، والحاجة إلى زاد لغوى أدبي يوطد ملكة البيان والتعبير لديهم من جهة ثانية، وزرع الأمل في مستقبل الأمة من خلال الانتساب إلى ماض عريق فيه أمثال هذه الأعلام المتميزة في زحمة الصراع الحضاري، وخروجاً من مشاعر الحاضر المتخلف المحبط من جهة ثالثة، وتعويضاً عن الإهمال الذي كان يلاقيه جيل الفتيان والأشبال وما يزال من جهة رابعة.
بقي أن نقول: إن هذا الشكل الحواري الذي عرضت فيه التراجم أقرب ما يكون إلى الشكل الذي يرشحها للتمثيل في مسلسلات تلفزيونية.
بخ بخ أبا أسامة، ولافض فوك، ولا عاش شانئوك.
المراجع:
أدباء الشام 4/10/2003 من أعلام الحركة والدعوة الإسلاميّة المعاصرة للمستشار عبد الله العقيل مقال: عبد الله الطنطاوي.
* * *
عبد الله الطنطاوي وسيّد قطب
في مقدمة (مهمة الشاعر في الحياة)
عرف الناس الأستاذ سيد قطب، مفكراً، وداعيةً، ومجاهداً، وشهيداً وعرفه النقاد ودارسو الأدب العربي، مثقفاً، وأديباً، وناقداً فذاً، منذ بداياته في هذا الكتاب، الذي هو محاضرة نقدية – كان يبشر بميلاد ناقد عربي أصيل، بل ربما صار إماماً في النقد، ولكنه لم يواصل طريقه النقدي، وانحاز إلى طريق الجهاد والاستشهاد الذي قاده إلى الفردوس الأعلى.
هذه المحاضرة النقدية، قدَّمها لشُداةِ الشعر، وهو طالب في سنته الجامعية الثالثة، وقد وعد في مقدمتها أن تكون هي – المحاضرة – مقدمة لكتاب كبير في الموضوع نفسه: مهمة الشاعر في الحياة. وربما وضع المعالم والصُّور لمهمات عظام، للإنسان الجاد الذي يسعى ليكون شيئاً مذكوراً في هذه الحياة، شاعراً كان أو مفكراً، أو أديباً، أو ناقداً، أو فناناً، أو إنساناً صالحاً وذا مشروع في هذه الحياة.
وقارئ سيد قطب، يلاحظ الجدية في بداياته فيما كتب وعمل، يتسامى عن السفاسف والموبقات، ويبدو كأنه صاحب مشروع لم يتوضَّح لديه بعد، ثم ما لبث أن وجد مبتغاه في المشروع الإخواني فأسرع إليه، وصار من مفكريه ومن قادته الكبار العاملين على تحقيقه، إلى أن لقي ربه شهيداً من سادة الشهداء، بعد أن خطَّ لإخوانه وللناس جميعاً، سبيل الرشاد إلى المنهج الرباني الذي ينهض بالأمة، لتكون كما كانت من قبل: خيرَ أمة أخرجت للناس.
في كتاباته المبكرة إرهاصات لما انتهى إليه في زمن النضج والرشد، فلم يكن اندماجه في العمل الدعوي قفزة أو طفرة، بل كان يصعد السُّلم في تُوءدة وتأنٍ، حتى إذا اقتنع، أحرق السفن التي قد تعيقه أو تثبّطه، وترك وراءه مشاريعه الأدبية، والنقدية التي ارتقى فيها مرتقى لفت إليه أنظار الكبار، ومنهم أستاذه مهدي علّام، الذي قدَّمه للمثقفين في هذه المحاضرة، ثم في هذا الكتاب، وتوقع له مستقبلاً أدبياً ونقدياً باهراً، فقد وجد في سيّد، مثقفاً ثقفاً وناقداً لقفاً، ومبدعاً في شعره ونثره.
في هذه المحاضرة، مهّد سيّد لمدرسة فكرية وأدبية ونقدية، أتبعها بعدد من الدراسات النقدية، ثم الكتب النقدية، مثل كتابه "كتب وشخصيات" و "نقد كتاب مستقبل الثقافة في مصر" لطه حسين، ثم كتابه البديع "النقد الأدبي: أصوله ومناهجه" ودعا فيه إلى نظرية جديدة في النقد هي نظرية الصور والظلال، كما بسط القول في مناهج النقد الأدبي الأربعة، وهي: المنهج الفني، والمنهج التاريخي، والمنهج النفسي، والمنهج التكاملي الذي وقف عنده، وكأنه يؤثره على ما سواه من تلك المناهج.
وكان في كتابيه الرائعين: "التصوير الفني في القرآن"، و"مشاهد القيامة في القرآن"، مبدعاً ومجدداً ورائداً، ولقي الكتابان حفاوة في الأوساط الأدبية والعلمية والدينية، والكتابان في هذا السياق النقدي الذي لم يُسبق إليه.
كان سيد – كدأب الرواد – يضع الأسس والأطر، ويأتي بالنماذج، ثم يترك للدارسين، شرح تلك الأسس والمتون، لِيُبدِئُوا ويُعيدوا فيها، حتى تكتمل النظرية، كنظرية الأدب الإسلامي التي تلقَّفها أخوه وتلميذه وشارح أفكاره، الأستاذ الكبير محمد قطب – رحمه الله رحمة واسعة – وأبدع في صياغتها في كتابه البديع: "منهج الفن الإسلامي".
في هذه المحاضرة/ الكتاب، ترك لمن بعده أن يدرس ويطوّر ويُنضج ما هُدي إليه ذلك الشاب سيد قطب، وما كتبه بعد ذلك في أربعينيات القرن العشرين وخمسينياته، فقد يُثري الدارسون تلك الكتابات – كما فعل محمد قطب، ونجيب الكيلاني – وقد يصلون إلى ما كان يعتمل ويثور في نفس المفكر المبتكر الثائر سيد، فتأتي النظرية كاملة متكاملة بين النظريات النقدية والأدبية في المذاهب والأجناس الأدبية الأخرى.. تأتي النظرية النقدية منسجمة مع فكره الدعوي، وأظنهما يتعانقان، فإن سيداً، كما كان ثورياً وإصلاحياً فيما قدَّم من شعر وقصة ورواية ونقد، ودراسات إسلامية حتى بداية الخمسينيات "التصوير الفني – مشاهد القيامة – العدالة الاجتماعية – معركة الإسلام والرأسمالية – السلام العالمي والإسلام – دراسات إسلامية" – كان ثورياً وإصلاحياً بل مجاهداً في ميادين الدعوة والسياسة والأدب.
سيد هو سيد، في أدبه، وفكره، ونقده الأدبي والاجتماعي، والسياسي، وثورته على الظلم والظالمين، وعلى الفاسدين والمفسدين، وعلى الخونة السائرين أو السادرين في ركائب الاستعمار والاستغراب والتخريب..
لنقرأ معاً هذه الكلمات من هذه المحاضرة/ الكتاب:
"وقد لاحظتم في كل النماذج التي اخترناها لشعرائنا الناشئين لمحة من البؤس: الصامت أو الصارخ، ومن الشكوى والتخبط والحيرة، وبعضكم يَعجَبُ لهذه الظاهرة المتشائمة الشاكية المضطربة ولكن ذلك في نظرنا دليل صدق هؤلاء الشعراء وسلامة فطرتهم. فهم صورة من النفسية المصرية العامة في هذه الفترة، فترة الانتقال والحيرة والاصطدام، في جميع النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية، الاصطدام الذي تُخيبُ فيه الآمال، ثم تبدأ في الانتعاش، ثم تصطدم من جديد!
مُدُّوا بأبصاركم في كل نواحي الحياة المصرية، ألا ترون التصادم بين القوى الناشئة، والظروف المحيطة بها، التي تُناوئها مناوأة قاسية؟
ألا تسمعون الصيحات داوية بالألم والاستنكار من كل جانب؟ فعَلامَ إذن لا يكون كذلك الشعر وهو أدق مُعبِّرٍ عن الإحساس الدفين.
عَلامَ يُغرِّدُ الشعراء بأناشيد الفرح والمرح؟ كيف تَدبُّ روح النشاط الطروب في الفنون؟
هل انْتصرنا في موقعة حربية على جيوش الأعداء، فيغني الجيش والشعب أناشيد الظفر والسرور؟
أَفتحنا في العالم فتحاً جديداً؟ بل، أَحصَلنا على استقلالنا المغصوب؟ أَنتنفس بحرية في أي جو من الأجواء؟
ألنا عظمةٌ صناعية على الأقل نتغنى بآثارها؟..
أَلنا عظمة علمية نُمْتَدحُ بمزاياها؟ ودَعْ ذلك كله... أفلنا فقط سياسة تعليمية رشيدة! وهذا أبسط الشؤون؟! كل ما في البلد جدير بالشكوى، وكل ما فيها يلذع بالألم، وإن التألم والشَّكاةَ، لدليل عدم الرضا، ودليل السعي لتغيير هذه الحال، وتلك عدتنا للمستقبل، وأملنا الوحيد للإصلاح المنشود.
ولو أن هذه الشكوى الدائبة صمتت اليوم أو انقلبت إلى لهوٍ ومراح، لكان ذلك دليلاً على الموت والاضمحلال، لأن الأمة التي لا تشكو من مثل هذه الحالة، أمةٌ لا تحس، فهي أمة في طريقها إلى الفناء الرهيب. وإن الذين يهزلون اليوم أو يغنون ويمرحون، هم أحد فريقين: فريق أنانيٌ مجرم لا يُعنى بهذه الأمة، ولا يحفلُ بآلامها لأنه في ظل نعمة، ولا علاقة له بالآخرين، وفريقٍ ميت الوجدان، ذليل الكرامة، لا تنبض به حياة إلا كالدواب والجراثيم!
نصحت مرة – 1972 – الشاعرة المبدعة نازك الملائكة – رحمها الله رحمة واسعة – أن تكتب ملحمة عن سيد، ووعدتها أن أزوِّدها بالمعلومات، وتُقدرون، وتضحك الأقدار، فقد داهمنا حكم حافظ أسد، والاعتقال.. والعمل تحت الأرض، ثم (السياحة)، في بلاد الله الواسعة منذ ما يزيد عن خمس وثلاثين سنة، مليئة بالمواجع، وداهمها المرض، ثم الانتقال إلى رحاب الله الرحمن الرحيم، وكان أمر الله مفعولاً.. وكان أمر الله قدراً مقدوراً.
سيد... أيها السيد القطب..
هنيئاً لك ما قدمت، وما استقبلت، وما أراك ولا أتخيلك، إلا مع أبطال الإسلام في الفراديس العلا، جزاءً وفاقاً لجهادك المبرور، واستشهادك في سبيل الله، ومن أجل دينه الذي بشّرتَ أن المستقبل له.. لهذا الدين العظيم.. وها هي ذي بشائر النصر بالتمكين لهذا الدين تلوح في الأفق، وتتلامح بين ركام الكوارث والمصائب والمآسي في بلاد الشام والعراق، وفي كنانة الله في أرضه، في مصر.. في شرق الأرض وغربها، في شمالها وجنوبها، تستهدف أتباع هذا الدين وجُنده الميامين، تستهدف هذا الدين.. ولكن هيهات أن يتحقق لهم ما يتمنون، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
* * *
الطنطاوي وسيّد قطب
في مقدمة كتاب (معركة الإسلام والرأسمالية)
كتب الطنطاوي ترجمة قيّمة للشهيد السعيد سيّد قطب، من خلال قراءته لكتاب (معركة الإسلام والرأسماليّة) جاء فيها:
"أحمدك اللهمّ وأشكرك عظيم الحمد والشكر على ما أنعمت على الأمة برجل رجل، وسيد سيد، هو قطب في سائر أحواله، قبل أن يهتدي إلى الإسلام منهجاً وسلوكاً ونظام حياة، إلى أن شغفه الإسلام حباً فكان فارسه الميمون النقيبة، الذي راد ميادينه كلها، وكان فيها السابق المُجلِّي، فكراً وسلوكاً، وتنظيماً، وجهاداً، وشهادة، كان سيداً من سادة الشهداء، خافه أبالسةُ الأرض، فائتمروا به ليقتلوه، وما خافهم على خسةٍ منهم ونذالة، وعلى شموخ منه وإيمان، لو وُزِّع على أهل الأرض لَوسعهم، وما ضاق بهم.
تصدَّى لشياطين الشيوعية واليسار، ومعه عقلٌ يزنُ الجبال، وإيمان في عمق المحيطات، وقلم بَزَّ أقلامَ أساتذته وأقلام االذين كانوا أنداده ولِدَاته، ولم يلحق به تلميذ من الآلاف الذين تتلمذوا عليه، من اليسار إلى اليمين، في أرض الكنانة، في كثير من مقالاته، وكان كتابه الرائع "السلام العالمي والإسلام"، قد بشَّر الشقَّ الشرقي من الحضارة الغربية بالسقوط أولاً، وقد سقط كما توقّع، وانفرط عقد الاتحاد السوفياتي الذي كان يمثل أحد شقي الحضارة الغربية.
وتصدى لأبالسة الرأسمالية في الغرب المادي، وفي بلاد الكنانة، ممن كانوا عبيداً للغرب فكراً وسلوكاً هابطاً، وكتب كثيراً من المقالات الثائرة بهم، وبقيمهم المادية الكثيفة، في أوروبا وأمريكا، وفي بلاد العرب، وندّد بسلوكياتهم المنحرفة، المنبثقة من فكرهم المادي، ولم يوفّر ذيولهم في مصر، فساطهم بسياطه الإنسانية، وسياطه العربية والإسلامية، وكان كتابه "معركة الإسلام والرأسمالية" – وهو هذا الكتاب الذي نقدمه لناس القرن الحادي والعشرين بعد أن فعل مفعوله العجيب في ناس القرن العشرين – فقد كتب فصوله قبل انقلاب يوليو 1952م، وظهرت في كتاب عام 1953م، وفيه يحذّر، وينذر، ويبشر بميلاد المجتمع المسلم والإنسان المسلم الذي سوف ينأى بنفسه وقيمه عن الحضارة المادية الغربية بشقيها: الماركسي والرأسمالي.
وكذلك فعل في كتابه الآخر الذي ضاعت بعض فصوله، وهو كتاب: "أمريكا التي رأيت" رآها فيما قرأ عنها وطالع ودرس، وفيما شاهد فيها وعاين عندما ابتعثته وزارة المعارف المصرية إلى أمريكا، فكان نعم المُوفد اليقظ، والضمير الحر، والبصير ببصائر الإنسان المسلم الشامخ بإيمانه وفكره وأدبه، العَصيّ على التأثر والاختراق.
وقارئ سيد في كتبه آنفة الذكر، ومقالاته وكتبه الأخرى المُبشرة بميلاد عملاق الفكر الإسلامي الحديث، منذ أواسط الأربعينيات، بكتبه التي أرهصت بولادته، وهي: (التصوير الفني في القرآن، ومشاهد القيامة في القرآن، والعدالة الاجتماعية في الإسلام).
بل إن قارئ سيد، قبل تَوجُّهه نحو الإسلام عقيدةً وشريعة ونظام حياة، يلاحظ تطور فكره المتمرد، نحو الثورة الإنسانية الشاملة، وقد وجدها في الإسلام العظيم، الذي توغَّل فيه دراسةً وفهماً، وخلص إلى ثوابت دفع عمره كله من أجلها، وأعرض عما يقتتل الناس حوله من المال، والجاه, والمنصب، وسائر البهارج والزخرف.
وكانت كتبه معبرة تعبيراً صارخاً عن المسلم المجاهد الذي يجاهد بهذا القرآن العظيم، بهذا الدين العظيم، ليعمر به الحياة التي لوَّثها الفاسدون والمفسدون من حملة الفكر الرأسمالي المادي الكثيف.. فكان كتابه العظيم: (في ظلال القرآن) وكتبه الأخرى المنبثقة من الحياة في ظلال القرآن: (هذا الدين – المستقبل لهذا الدين – خصائص التصور الإسلامي – مقومات التصور الإسلامي – الإسلام ومشكلات الحضارة – معالم في الطريق – وسواها)، وقد أحدثت ثورة فكرية إسلامية في عقول المسلمين، وأرواحهم، وقلوبهم، وضمائرهم، كما نبهت أعداء الإسلام إلى هذا المفكر الثائر، بل المجاهد، وعرفوا أنه الخطر الماحق عليهم وعلى حضارتهم وقيمهم المادية، فبادروا إلى قتله، فارتقى شهيداً عظيماً.
وانتشرت كتبه بما تحمل من فكر إسلامي مجاهد، وقد حاول أعداء الإسلام قتلها، وسلطوا عليها وعلى مؤلفها العظيم، وعلى الجماعة التي انتمى إليها، وصار من قادتها المُنظِّرين لها – حملة ظالمة، وحاولوا تشويهها وتشويه سمعة كاتبها، ولكن هيهات، فسيد قطب صار عند الله والناس: سيداً من سادة الشهداء، وكتبه صارت في قلوب الناس وحياتهم، كما هي في مكتباتهم، وقد ارتقت بالمسلمين في كل مكان وزمان، وعملت على إصلاح نفوسهم، وإصلاح مجتمعاتهم، وما زال الشبان المسلمون ينهلون من معينه، ويقتاتون من سيرته، حتى صار – بحق – مجدّد الفكر الإسلامي تجديداً حقيقياً منذ أواسط الخمسينيات في القرن العشرين ولذلك قتلوه.. زعموا.. فما مات من هو حيٌ عند الله وعند الناس.. الناس، لا الأوشاب الأوباش.
قتلوا الجسد الفاني، ولكنهم ما استطاعوا، ولن يستطيعوا قتل روحه الذي سرى وعَمَرَ كل خلية من خلايا الشباب المسلم المتوهج بهذا النور القطبي الحي الذي يَلقفُ ما صنعوا من حبال فكرية زائفة، ظنوا أنها تصمد في وجه النور الإعصار الذي جاء به سيد من كتاب الله العظيم، وسُنة رسوله أستاذ الحياة الأمين، ومن حضارة الإسلام التي عاش الناس في ظلالها حقباً زمنية سعيدة..
قتله الرأسماليون والشيوعيون معاً، لأنه فضحهم جميعاً، رفع الغطاء عنهم، كشف زيفهم وعوارهم، وندد بعمالتهم للشرق والغرب. كشف المستور من أنانياتهم التي أودت بالأمة أو كادت، أنانياتهم والأهواء التي تعصف بالشعوب التي غلبوها على أمورها، واستاقوها كالأنعام، بما زيّنوا لها من إفك، وأثاروا من غرائز حيوانية هابطة، فَعَمُوا وصَمُّوا، وأُصيبوا بالعجز، فضاعوا وضاعت مصالحهم، وعاشوا في جحيم الجهالة، فيما يرتع أولئك الأنانيون الشهوانيّون الغرائزيون أصحاب المصالح الشخصية الفاجعة، ويأكلون خيرات الوطن ونُعْمَياتِه. يعيشون في القصور، فيما يعيش أولئك البائسون من العمال والفلاحين والمساكين في الزراريب والأكواخ التعيسة.. ظهروا أنذالاً لا يمتّون إلى مصرهم بصلة قُربة أو قرابة أو أي معنى إنساني، وليس لهم بدين الأمة وأخلاقها علاقة.
لقد كشفهم سيد، فبرزوا عرايا كما نساؤهم على الشواطئ والبلاجات.. عرايا من الشرف والإنسانية، ومن الوطنية التي ارتكبوا، وما زالوا يرتكبون بحقها ما ندعوه جرائم وطنية.. خانوا الوطن والمواطنين، ولم يرعوا فيهم إلاً ولا ذمّة..
خشي الرأسماليون والشيوعيون معاً، أن يدرك (الغَلابة) ما هم فيه من ضَنْك، إن هم قرؤوا ما يدعوهم إليه سيد قطب، بل ما يدعوهم إليه الإسلام...
خشي السادة بل الأسياد (الذئاب) من ثورة (الغَلابة) التي تحطّم القيود والأغلال التي يرسفون فيها وتُزيلُ المزابل التي يتقلبون فوقها، فلم يُخَلُّوا بين سيد وكتبه وأفكاره وبينهم، ليستمروا في ركاب العبيد، وقوداً يحترق، ليضيء للسادة الأسياد سراديب العهر، يؤمّن لهم (السعادة) القائمة على انتفاخ الكروش وما تحتها، على حساب أولئك التاعسين هم وأزواجهم وذراريهم.
هذه رسالة السيد القطب فيما كتب، ومن أجل هذه الرسالة لقي الألاقي على أيدي الخونة الأنذال الحاكمين بأوامر شياطين الخارج والداخل.. سجون، وتعذيب وظلم وظلمات في هذه الحياة، ثم جنات وفراديس عند الله له ولمن اتبعه من الأحياء.. الأحياء الذين أدركوا ما يريده لهم الإسلام، ولسانُه قلمُ سيد قطب، وخَسِئَ وخاب من ظنَّ أن ذلك القلم الشجاع قد أورده المهالك، ورفعه إلى حبل المشنقة.
إن قلم سيد، المعبر عما يعتمل في عقله وصدره من مشروعات وطموحات، قد ارتقى به إلى الفردوس الأعلى، عند مليكٍ مقتدر. رحمان رحيم، مخلِّفاً وراءه أولئك التافهين الحاكمين بأمر أعداء الأمة، بلا كرامة.. إيْ نعم.. بلا كرامة ولا شرف. والحمد لله الذي أعطى وأبقى كما نزع فأذلَّ وأشقى".
الطنطاوي ومصطفى السباعي*
ويتحدث الطنطاوي عن صلته الأولى بالدكتور مصطفى السباعي عميد كليّة الشريعة بجامعة دمشق، والمراقب العام الأسبق لجماعة الإخوان المسلمين، في معرض ذكرياته فيقول:
"مرحلة دراستي الإعدادية والثانوية في معهد العلوم الشرعية بدمشق، كانت مرحلة غنية، فقد كانت المكوّن الأهم في حياتي الأدبية، والثقافية، والسلوكية.. |
كانت صلتي المباشرة مع مشايخنا الأجلاء، قد أكسبتني جرأة أدبية، وحبّبت إليّ الاتصال بالكبار قدراً وسنًّا، وسوف أذكر لكم بعض ما ينثال على الخاطر والبال من أولئك الكبار. |
ـ في عام 1952 كانت صلتي الأولى بالدكتور الشيخ مصطفى السباعي، رحمه الله، وكان لهذا الرجل العظيم آثار عميقة في نفسي، فقد كان يشجعني، ويرتاح لحماستي، وهو الذي أمرني بالانتساب إلى كلية الآداب ـ قسم اللغة العربية، بدلاً من كلية الشريعة التي كان السباعي عميدها، وكانت رغبتي ورغبة والدي أن أكون من خريجيها، وكانت رغبة السباعي أن أكون أديباً كاتباً، ورغبته أمر لا أقوى على تجاوزه. |
وكان السباعي، كالأستاذ العظمة، يشجعني على الكتابة في مجلته الرائعة: (حضارة الإسلام) التي كان كاتبوها من طبقة الطنطاوي الكبير. |
واستمرت صلتي بهذا الأستاذ العظيم حتى وفاته وهو في أوج نضجه، في التاسعة والأربعين". |
* * *
مصطفى السباعي شاعراً
بقلم: عبد الله الطنطاوي
عرف الناس الدكتور مصطفى السباعي -تغمّده الله بفيض رحمته ورضوانه- خطيباً مفوَّهاً لا يُجارى، وعرفوه سياسيّاً محنّكاً لا يُبارى، وعرفوه كاتباً باحثاً عميقاً قويّ الحجّة، وعرفوه داعية قلَّ في الدُّعاة نظراؤه، وعرفوه فارساً لا يُشقُّ له غبار، وعرفوه سيفاً من سيوف الإسلام شهره الله في وجـوه الخونة والطغاة والمستعمرين، وقطع به ألسنة الفجّار والفاسدين والملحدين والمارقين، وعرفوه حكيماً، وعرفوه أديباً، ولكنهم لم يعرفوه شاعراً إلا في أواخر عمره القصير الحافل بجلائل الأعمال. وقد روى الأستاذ الكبير محمد المجذوب في كتابه القيّم: (علماء ومفكرون عرفتهم) أنّ السباعي أسمعه قصيدة طويلة، فيها من التوفيق الشيء الكثير، وكان ذلك عقيب مغادرته سجن الشيشكلي، الحاكم العسكري لسورية بين عامي (1952 ـ 1954) ويقول الأستاذ المجذوب عن شعر السباعي: "فله في هذا النصّ جولات موفّقات، وبخاصة في الجانبين: الديني والسياسي(1)". ولكن.. أين هذا الشعر؟ وهل ضاع في جملة ما ضاع من كتبه وأبحاثه وخطبه وحكمه وأوراقه؟ يا حسرة على ما ضاع، ويا ويح المفرّطين بآثار هذا الرجل الجليل الذي ترك مكانه شاغراً لمئات السنين، والله أعلم.
ونحن -تلاميذه- ما كنّا نعرف أنه شاعر، وما أسمعنا يوماً شيئاً من شعره، فقد كانت مشاغل الدعوة، ومشكلات السياسة، والتنظيم، تأكل وقته وأعصابه، وكانت ميادين الجهاد تستأثر بجهوده، فما كان يُرى إلا على الصهوات فارساً مُعْلماً، وسيفاً بتّاراً، وما أظنّه من مذهب الشافعي -رحمه الله- القائل:
فلولا الشعر بالعلماء يزري لكنتُ اليوم أشعر من لبيد
لأنه -رحمه الله- كان يشجّعنا -نحن الصغار- ويدفعنا دفعاً إلى ميادين الشعر والقصة وسائر ألوان الأدب.. كيف لا وهو صاحب الكلمة الشفّافة، والحلم الوضيء، والقلب الكبير، والعقل الحصيف، والنفس الشاعرة، والروح الثائرة، والذوق الرفيع؟
ما عرفناه شاعراً إلا في مرضه الذي طال عليه وعلينا، وصبر وصبرنا.. كان ينشر بعض قصائده في مجلته الرائعة: (حضارة الإسلام) وكنا نتلقّف ما ينشر، ونحفظه عن ظهر قلب، والدموع ملء مآقينا، وابتهالاتنا الحرَّى تتضرّع إلى الله العليّ القدير، الجواد الكريم، أن يمنّ بالشفاء العاجل على أستاذنا وقائدنا وقدوتنا أبي حسّان، وأن يأخذ من أعمارنا إلى عمره، ويمدّ في أجله، ولكن.. لكل أجل كتاب.
عندما قرأنا رائعته: (طريقي) تذكّرنا أبياتاً لجواد العرب: حاتم الطائي الذي كان يحبّ مكارم الأخلاق، ومنها:
وعـاذلةٍ هبّـتْ عليّ تلومني |
كـأني إذا أعـطيت مالي أضيمها |
|
أعاذلُ إنّ الجود ليس بمُهْلكي |
ولا مُخْلد النفس الشّحيحة لُومُها |
ولكنّ حاتماً كان يبذل ماله، أمّا السباعي فكان يبذل نفسه، فهو أبو النجدات والمروءات.. إنه على قدم الرسول القائد، عليه صلوات الله.. ويا ليتنا ننصت إليه وهو يرسم للدعاة العاملين طريقه ليترسَّموه، فهو طريقهم:
دعيني وشأني، ليس عذري بشافعٍ |
لديـك، ولا حالي يعنُّ ببالكِ |
|
وهـل يلـتقي طيران: هذا محلّقٌ |
تـروم جناحاه سمـاءَ ملائكِ |
|
وذاك مـسفٌّ حائمٌ فـوق جيفة |
على الأرض تدنيه لوطء سنابكِ |
|
وكـم بين من يمشي بصيراً بدربه |
تضيء له الأقدار وَعْرَ المسالكِ |
|
وبـين عـمٍ لا يـهتدي لطريقه |
يحـاط بحجب مظلماتٍ حوالكِ |
|
دعـيني فـفي دنياي هـمٌّ ومحنة |
وقـطعُ طريق في المفاوز شائكِ |
|
وحـلٌّ وتـرحالٌ وحربٌ وهدنة |
وتـعليمُ أستاذ وعـزلةُ ناسكِ |
|
ودنياكِ، مـا دنياكِ؟ وهمٌ وخدعة |
وسـعيٌ حثيثٌ نحو شتّى المهالكِ |
إلى أن يقول:
همُ الناس بين اثنين: صِيْدٍ تشوقُهم |
معاركُ في ساح الهدى، وصعالكِ |
|
دعيني أعيش العمر في غربة الهوى |
فـفي الحقّ محرابي، وفيه مناسكي |
|
وفي النُّصح لذّاتي، وفي الخير ثروتي |
وفي العلم مـحراثي، وفيه سبائكي |
ومن كان هذا طريقه، لابدّ أن يتعب ويُتعب، فما كان السباعي لينام، وما كان ينيم.. كان يصل ليله بنهاره، ونهاره بليله، حتى وهو يعاني أشدّ الآلام، بعد أن برّح به المرض، وخاض معه غمار صراع مرير، وسلاحه صبره وإيمانه، وشموخٌ سباعيٌّ وكرامة سباعيّة:
هيهات، يا صاحبي، آسى على زمنٍ |
سـاد العبيدُ به، واقتيدَ أحرارُ |
|
أو أذرف الدمع في حِبّ يفاركـني |
أو في اللذائذ، والآمـالُ تنهارُ |
|
فـما سبتنيَ قـبل اليـوم غانيـة |
ولا دعاني إلى الفحشـاء فُجّار |
|
أمَـتُّ في الله نـفساً لا تـطاوعني |
في المكرمات لها في الشرّ إصرار |
|
وبـعتُ في الله دنيا لا يـسود بها |
حـقٌّ، ولا قادها في الحكم أبرار |
ويختم قصيدته الوداعية هذه، بهذين البيتين البديعين اللذين ينبئان عمّا يعتمل في نفسه الكبيرة تجاه إخوانه في الله، الذين طالما سهر على تربيتهم ليكونوا رجالاً يتابعون الطريق الذي اختطه لهم الرسول القائد، وسار عليه، من قبلُ ومن بعدُ، الهداة المهديّون:
أستودع الله صحباً كنتُ أذخرهم |
للـنائبات، لنـا أنسٌ وأسمار |
|
الملتقى في جنـان الخلد إن قُبلتْ |
مـنا صلاةٌ وطاعات وأذكار |
* * *
لم يكن السباعي شاعراً محترفاً متفرّغاً للشعر، ملاحقاً للشعراء الفحول، أو الشعراء المتمرسين، ومتابعاً لمذاهبه لدى الشعراء العرب، أو شعراء الغرب، وما ينبغي له أن يكون كذلك، وهو الذي وهب دعوته وأمّته حياته، يجالد هنا، ويقاتل هناك، ويخوض الملاحم في كلّ ميدان يرى فيه ثغرة لا يسدّها سواه، ولهذا لا نرى في شعره الأغراض التقليدية التي نراها لدى الشعراء الآخرين، فلم يمدح من البشر غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقف بغير بابه، يشكو ما ألمّ به من أسقام أقضّت مضجعه، وأطارت النوم من عينيه:
يا سيّـدي، يا حبيب الله جـئت إلى |
أعتاب بابك أشكو البَرْح من سقمي |
|
يا سيّدي قد تمادى السُّقم في جسدي |
مـن شدّة السُّقم لم أغفـل ولم أنم |
|
الأهـل حـولي غـرقى في رقاد همو |
أنـا الـوحيد جفـاه النوم من ألم |
نظم الأستاذ السباعي هذه (المناجاة) بين يدي الحبيب الأعظم، صلى الله عليه وسلم، قرب المنبر النبويّ الشريف، وتلاها أمام الحجرة النبوية مرتين، قبل الحج وبعده، عام 1384هـ وهي قصيدة طويلة، فيها آلام وآمال وتباريح ممّا آل إليه حاله، وهو الذي كان ملء السمع والبصر، مالئ الدنيا بجلائل الأعمال، وشاغل الناس بإثارتهم، وتوعيتهم بحقوقهم وواجباتهم من أجل النهوض من جديد، لاستئناف الحياة الحرّة الكريمة، تحت راية القرآن.. يقول فيها:
قد عشتُ دهراً مديداً كلُّه عـملٌ |
واليوم لاشيء غير القول والقلم |
|
يا سيّدي طال شوقي للجهاد، فهل |
تدعـو ليَ الله عوداً عالي العلم ؟ |
|
تـالله ما لـهفتي للبُرْء عن رغبٍ |
في ذي الحياة، ولا جاهٍ، ولا نِعَمِ |
|
وإنـما طمـعٌ في أن يقول غداً |
لقد هَـديتم إلى الإسلام كلَّ عَم |
والضمير في (يقول) عائد إلى الله عزّ وجلّ، فهو لا يطمع إلا في مرضاته، ولا يرجو من حياته إلا التقرّب إليه بالجهاد في سبيله، وبصالح الأعمال.
وفي هذه (المناجاة) الرائعة، لا ينسى أحبّاءه الذين ربّاهم على عينه، وهو يرى المؤامرات تحاك ضدّهم، لأنهم أحرار، لا يطأطئون هاماتهم للطواغيت:
واحفظْ جنودك من سوءٍ يراد بهم |
لم ينـحنوا لفئام البغي من شمم |
|
تعـقَّبوا الشرَّ أنّى سـار متّجهاً |
فأحبطوا كيده دهـراً ولم يقم |
هذه القصيدة حافلة بالضراعة والابتهال، والدعاء للمرضى والفقراء البائسين الذين ما كان لينساهم في يوم من أيام عمره، وفيها حِكَمٌ مسدَّدة استقاها من تجاربه الحياتية، وفيها شموخ، وفيها تفاؤل بالتمكين لهذا الدين في قابل الأيام، وفيها:
فأكـرمُ الناس من كانت منيّته |
في حـومة الحقّ جلداً غير منهزم |
|
وأهونُ الناس من جاءت منيّته |
خلواً من الهمّ أو خلواً من الهمم |
وفيها رضاء بقضاء الله العادل الرحيم، رضاء الصابر المحتسب:
أشكو إلى الله شكوى غير ذي جزع |
في شدّة الضرّ وجهي وجهُ مبتسم |
|
مـا في قضائك ظـلمٌ للـعباد ولا |
فيه الإساءة، بل محضٌ من الحِكَم |
|
هـي المـقادير، مـا شكٌّ بحكمتها |
عندي، ولا أنـا منها قطُّ في بَرَم |
وفي شعر السباعي ذاتية ما تنفكُّ ملتحمة مع الجماعة التي أنشأها، وسهر على تنظيمها وإعدادها من أجل الذياد عن الإسلام وأمة الإسلام وأوطان المسلمين، وأبناؤها في ضميره، وفي سائر أحواله، يراهم، يناديهم، يشدّ على أياديهم، يرسم لهم الطريق، ويضع فوقه الصّوى والمعالم، حتى لا يضلّوا في متاهات الحياة.. يهتف بهم أن يلتزموا درب الحقّ، ولا ينسوا ذلك القائد الثائر:
أيّـها السائرون في مـوكب الحقّ سراعاً للخير لا للمغانم |
صـدقوا الله عهدهم فتـنادوا للمنايا لا يعـبؤون بظـالم |
عـرّجوا في الطريق نحو جريح كـان في الله ثورة لا تسالم |
كـافح الظالمين في صـولة الظلم، وللشرّ دولـة ومعـالم |
ثمّ شاءت إرادة الله أن يُقصى بعيداً عن خوض تلك الملاحم |
أوثقتْه الأسقام بضع سنينٍ في اكتمال الشباب والحظُّ باسم |
أرغمـتْه الآلام أن يلزم البيت إذ الخطب في العشيرة داهم |
عـلم اللهُ كرهه راحـة الجسم إذا البغيُ في الـمرابع جاثم |
فانثـنى يجرع العذاب، وفي القلب جراح، وفي الفؤاد عزائم |
لا تلوموه إن تنحـّى عن الركب قـليلاً، فجسمُه غير سالم |
لـكمو مـنه: رأيُه وهـواه ومـروءاتُه وحملُ المغارم |
وكذلك كان السباعي، يعطي ولا يأخذ، يبذل كلَّ ما يملك من مال ووقت وجهد، ولا يعرف للراحة طعماً، دون مقابل، وسعادته في البذل والعطاء، وغايته إرضاء الله سبحانه، غير آبهٍ بالحسّاد والشانئين والذين يغارون منه، لأنهم لا يستطيعون أن يصولوا صولاته، وأن يقتحموا المعامع التي يقتحم:
ومنتظرٍ موتي ليـشفي غيظـه |
رويـدك إنّ الموت أقرب موعد |
|
أغاظك مـنّي شهرة ومـحبّة |
من الناس أولتني قلادة سؤدد ؟ |
|
لعمرُك ماذاك الذي قد أهاب بي |
إلى دعوة الإصلاح في ظلّ أحمد |
|
ولكنّه الإخلاص والعلم والظما |
وطول عناء الأمس واليوم والغد |
|
فمن ساءه عزمي على السير إنني |
إلى الله ماضٍ فليطلْ همُّ حُسّدي |
ويختم قصيدته الحزينة المتحدّية بهذا البيت الذي أسال دموعنا الحِرار:
وإن يأسَ أحبابي عليّ من الردى |
لطول السُّرى فالموت في الحق مسعدي! |
يا لطيف.. ما أقسى حسد الحسّاد!.. ما أنذل عديمي الوفاء!. ما أتفه الذين كانوا يغارون من هذا الفارس الذي أبى أن يترجّل والآلام تفري جسده!.
إن شعر السباعي نفثات مصدور يفثأ بها حميّا الحسد والغدر والنكث بعد طول السُّرى والإدلاج جهاداً لا تنطفئ ناره، ونضالاً لا يخبو أواره، مادام السباعي القائد الفارس يطوي المهامه، وينير الدّروب للسالكين، لا يبتغي إلا الأجر من الله الذي لا يأوي إلا إلى ركنه، ولا يلجأ لسواه، في سائر أحواله:
أراك جميلاً حين ترضى وتغضب |
وحـين تمنّـي بالوصـال وتـعتب |
|
وحين تعافيني من الهـمّ والضَّنى |
وحـين دمـائي من جراحي تثغب |
|
أراك جمـيلاً في فعـالك كلّها |
فهل أنت راضٍ أم تُرى أنت مغضب؟ |
وهو دائماً يرنو إليه سبحانه، طالباً عفوه ورضاه:
فياربّ هب لي منك صبراً ورحمة |
ويـاربّ حـبّبـني بمـا فيَّ تكتب |
|
وأنزلْ على قلبي الجريح سكينة |
وأحسنْ ختامي، ليس لي عنك مذهب |
وفي رائعته الحائية، يسأل أصفياءه أن يحملوه إلى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأن يطرحوه ببابه، ثمّ يشكو إليه ما يلقاه من آلام، ثقة ببركته، سائلاً إياه الدعاء الذي لا يردّ، ثم يقول:
حـسبي الله لا أريـد سواه |
هو أنـسي وفي حمـاه أريـح |
|
ربّ لولاك ما استطعتُ ثباتاً |
في مسيري، ولا سمتْ بي روح |
رحمه الله رحمة واسعة، وتغمّده بفيض رحمته ورضوانه، فهو حسبُه، وهو أنسُه، وهو مثبِّته في سائر أحواله الجهادية، وإليه يلجأ، وفي حماه يريح.
* * *
محب الدين الخطيب رائد الصحافة الإسلامية
كتب الأستاذ عبد الله الطنطاوي في التراجم يقول:
محب الدين الخطيب، رجل جليل، سار ذكره في آفاق العروبة والإسلام طوال القرن الماضي، وما يزال الناس يذكرونه بالخير، فقد كان علمًا في رأسه نور، وفي قلبه نور، وفي لسانه نور، وفي قلمه نورٌ وشواظ من نار تحرق أعداء العروبة والإسلام في كل مكان، عربًا مستغربين، وغربيين مستشرقين، كان من أبرز أعلام الفكر العربي الإسلامي المعاصر، حمل أعباء الدعوة الإسلامية من بدايات القرن العشرين.
ولد محب الدين الخطيب في حي القيمرية بدمشق عام 1303هـ الموافق 1886م في أسرة دمشقية كريمة، عريقة في أصولها الإسلامية، محافظة على دينها وأخلاقها، معتزة بهما، آخذة من العلم بحظوظ وافية. أصل أسرته من بغداد، من ذرية الشيخ عبد القادر الكيلاني، ومنها نزحت إلى حماة، ونزح فرع منها إلى قرية عذراء (عدرا)، ثم نزح فريق منها إلى دمشق، وصارت من أكبر الأسر الدمشقية عددًا، ومن أجلّها علمًا وفضلاً.
كان أبوه الشيخ أبو الفتح الخطيب من أفاضل رجالات دمشق، وكان أمين دار الكتب الظاهرية، وتولى التدريس والوعظ في الجامع الأموي، وكان زاهدًا، متقشفًا، يكره معاشرة الحكام، وله (مختصر تاريخ ابن عساكر) في خمسة أجزاء، و(مختصر تيسير الطالب) و(شرح للعوامل). وأمّه السيدة آسية الجلاد بنت محمد الجلاد -المزارع الكبير- تقية صالحة مشهورة بالفضل وعمل الخير، ومن أسرة دمشقية كريمة عريقة، وقد توفيت بريح السموم بين مكة والمدينة، بعد أن أدّت فريضة الحج، ودُفنت هناك في الفلاة، وكان محب الدين الخطيب طفلاً صغيرًا ماتت وهو في حجرها.
تعلم في دمشق، ومات أبوه وهو تلميذ في مكتب عنبر، فاضطر لتركه، ولزم دروس العلماء، ولما عاد الشيخ طاهر الجزائري إلى دمشق، لزمه الفتى محب الدين الخطيب، وكان الشيخ له بمنزلة الأب والمعلم والموجّه والمرشد.
وحبّب الشيخ إليه العلم، وقراءة التراث، والدعوة إلى الله، واستنهاض العرب من سباتهم وبياتهم الطويل؛ من أجل حمل رسالة الإسلام، وكان محب الدين الخطيب يقول عنه: "من هذا الشيخ الحكيم عرفت عروبتي وإسلامي".
كان الشيخ طاهر الجزائري يختار له بعض المخطوطات من تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية وأمثاله من العلماء العاملين، ويأمره بنسخها؛ ليستفيد بذلك علمًا ومالاً واطلاعًا على الإسلام المصفى من البدع والخرافات، وأمره أن يعود إلى مكتب عنبر ليتابع دراسته، واختار له بعض العلماء ليحضر دروسهم، كالشيخ أحمد النويلاتي الذي أقرأه شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، وحفظ - بتلقينه- مقامات من كتاب (أطواق الذهب) للزمخشري، وعلّمه كيف ينطق الحروف، بإخراجها من مخارجها الصحيحة؛ مما أكسبه بيانًا وفصاحة.
وكان محب الدين الخطيب كثير القراءة في سائر علوم الشريعة، والعربية، والعصرية، وكان حبّه للعربية والعرب شديدًا، وكان يرى أن الله تعالى اختص العرب بصفات ومزايا تجعلهم أصحاب رسالة، ومسؤولين عن القيام بأمر العقيدة الصحيحة السليمة. وكان من عشاق الحرية منذ نعومة أظفاره، فكان يقرأ ما كتبه الكواكبي والأفغاني ومحمد عبده عن الحرية، فيشتد حبّه لها، وكرهه للاستبداد.
وخشي الفتى النابه من استمرار التحامل عليه، وقرر الانتقال إلى بيروت، وانتقل معه كثير من زملائه الطلاب؛ مما يدل على شدة تأثيره فيهم، وتعلقهم به، ونجح في دراسته هناك نجاحًا باهرًا، وكان له في بيروت نشاط أدبي وسياسي كبير خلال تلك السنة 1323هـ/1905م.
والسيد محب الدين الخطيب ذو عقلية منظمة، يدرس الأمور دراسة منهجية، ويخطِّط لغده، ثم يُقدِم. وكان من توجيه أستاذه الشيخ طاهر الجزائري، أن يعمل على إيقاظ العرب من غفلتهم، وهذا ما حداه لأنْ يعمل في أوساط الطلبة العرب في الأستانة، ويقوم بعملية توعية لهم بلغتهم، وبأمتهم، وما يحيط بها من أخطار، وقد بادر إلى تشكيل جمعية النهضة العربية معهم.
ثم اضطر بعد ملاحقته إلى مغادرة الأستانة إلى دمشق، وأسس فيها فرعًا لجمعية النهضة العربية. وكان من الأعضاء العاملين في جمعية الشورى العثمانية. وكان أمير سر جمعية التعارف الإسلامي التي أسسها السيّد محمد رشيد رضا. وفي القاهرة كان صاحب فكرة تأسيس جمعية الشبان المسلمين، وأحد مؤسسيها البارزين، وأمين سرّها.
كان محب الدين الخطيب من أوائل المفكرين والأدباء العرب الذين تنبّهوا لأخطار الصهيونية، وحذروا منها، حين كشف الغطاء عن حقائقها وأسرارها، وعن محاولة اليهود في الوصول إلى فلسطين منذ عام 1844م ومطالبتهم لمحمد علي باشا بفلسطين، وما كان بينهم وبين السلطان عبد الحميد بهذا الشأن عام 1902م.
ونستطيع أن نزعم أن السيد محب الدين الخطيب هو رائد الصحافة العربية الإسلامية، فقد كان صحفيًّا بالفطرة، بدأ الكتابة في الصحف وهو ما يزال تلميذًا في مكتب عنبر، وأخذ ينشر ما يكتب وما يترجم عن اللغة التركية في صحيفة (ثمرات الفنون) البيروتية. وعندما عمل في مدينة الحديدة باليمن، أسس شركة مساهمة للصحافة والطباعة، وأصدر جريدة باسم (جريدة العرب)، وأنشأ مطبعة باسم (مطبعة جزيرة العرب).
وعندما رجع إلى دمشق، شارك العاملين في جريدة القبس، بتحرير الملحق الأدبي للجريدة: (طار الخرج) الكوميدية الناقدة، التي أقبل الجمهور على شراء العدد الأول منها بأضعاف ثمنه.
شارك في تحرير (جريدة المؤيد)، وترجم ونشر فيها الكثير عن أعمال المبشرين البروتستانت، نقلاً عن مجلتهم (مجلة العالم الإسلامي) الفرنسية، وفضح ما يراد بالمسلمين من شرّ على أيديهم وعقولهم الملوّثة، وكان لنا من ذلك كتاب (الغارة على العالم الإسلامي) الذي كان له دويّ في العالم الإسلامي. وفي الحجاز عمل مع الشريف حسين، وحرر له جريدة (القبلة). وعندما ترك الحجاز وعاد إلى دمشق، تولّى إدارة الجريدة الرسمية (العاصمة) وتحريرها، وكتب فيها مقالات رائعة.
وعندما قرر الاستقرار في مصر، عمل في تحرير جريدة الأهرام نحوًا من خمس سنين، وأنشأ المكتبة السلفية، والمطبعة السلفية، بثمن بيته الذي باعه في دمشق.
وأصدر مجلة الزهراء الشهريّة، وهي مجلة أدبية اجتماعية ذات طابع أكاديمي (1343هـ/ 1924م)، ولكنها كانت تلهب المشاعر، وتوقد العواطف كدأب محب الدين الخطيب في مقالاته وأبحاثه.
ثم أصدر جريدة الفتح من (1344- 1367هـ/ 1926-1948م) وهي مجلة إسلامية أسبوعية، تركت لنا حصيلة ضخمة من الثقافة والفكر والتاريخ والسياسة، أنشأها لمماشاة الحركة الفكرية الإسلامية، وتسجيل أطوارها، ولسدّ الحاجة إلى حادٍ يترنم بحقائق الإسلام، مستهدفًا تثقيف النشء الإسلامي، وصبغه بصبغة إسلامية أصيلة، يظهر أثرها في عقائد الشباب وأخلاقهم وتصرفاتهم.
والزهراء والفتح هما امتداد لمجلة المنار للشيخ محمد رشيد رضا، التي هي امتداد للعروة الوثقى، وكان محب الدين الخطيب من كُتّاب المنار المهمّين. ثم تولّى رئاسة تحرير مجلة الأزهر، وكانت افتتاحياته فيها نارية، صبّ فيها الكثير من نفسه وعقله وتوهّج عواطفه.
توفي محب الدين الخطيب - رحمه الله رحمة واسعة- في القاهرة، في ذي القعدة 1389هـ/ فبراير (شباط) 1969م، ودُفن فيها، كدأب أكثر زعماء سورية في النصف الثاني من القرن الماضي وحتى اليوم.
الطنطاوي و أدباء وشعراء عصره
الطنطاوي وعلي أحمد باكثير
رأ ى الطنطاوي أنّ البحث العلمي يجب أن يكون بعيداً عن سائر ألوان التعصب الإقليمي والعرقي والديني والمذهبي.. بعيداً عن الأهواء والأمزجة التي تلوي عنق الحقيقة لتقرر ما يخالف الواقع والحقيقة، وخاصة في العلوم الإنسانية.
وأنّ لعلي أحمد باكثير فضل الريادة في ابتداع واكتشاف شعر التفعيلة، وفي إرساء بعض ملامح عروضه، ثم جاءت الشاعرة الكبيرة نازك، فأفاضت فيه، وقعّدت عروضه.
وشعر التفعيلة هذا، " يختلف اختلافاً أساسياً عن الطريقة التي سلكها كثير من الشعراء المحدثين كالزهاوي وأبي حديد وغيرهما ممن أسموه الشعر المرسل ؛ فالنظم على طريقتهم لا يختلف عن النظم العربي القديم إلا في إرساله من القافية.
وقال الطنطاوي: زعمت وأزعم وأصر على أن باكثير كان الأسبق إليه تاريخياً من كل الشعراء الآخرين.
السياب نفسه، رحمه الله، اعترف بريادة باكثير، وأثنى عليه. ومحاولة تمييع سبقه فاشلة، وتفتقر إلى الخوف من الله، ثم من التاريخ وإلى الضمير العلمي، والحس الخلقي..
كتب الأستاذ عبد الله الطنطاوي العديد من البحوث والدراسات عن الأديب علي أحمد باكثير، نشرت في الصحف والمجلات المختلفة، نذكر منها:
مع رواد الشعر الحر – مجلة الآداب البيروتية – 1/9/1969
سيرة شجاع – صحيفة المسلمون- 5 أغسطس 1994
باكثير رائد شعر التفعيلة – مجلة الأدب الإسلامي – 2002
المسرح السياسي لدى باكثير – مجلة الرافد – الإمارات – العدد 113- يناير 2007
بالإضافة إلى مقالاته المنشورة في موقع رابطة أدباء الشام التي يرأسها الطنطاوي، ومنها:
باكثير في ذكراه الخامسة والثلاثين.
وفيما يلي باقة عطرة مما كتبه الطنطاوي عن أدب باكثير:
باكثير في ذكراه الخامسة والثلاثين
بقلم: عبد الله الطنطاوي
في العاشر من تشرين الثاني قبل خمسة وثلاثين عاماً رحل عن هذه الدنيا الفانية، الكاتب المسرحي الكبير، والشاعر المبدع، ورائد شعر التفعيلة بلا منازع، الأديب علي أحمد باكثير، مخلّفاً وراءه تراثاً أدبياً ضخماً، وظلماً ضخماً لذلك الرجل الضخم الذي ظُلم حياً وميتاً.
ظلمه أصحاب الأيديولوجيات التي يعشش الظلم في تلافيف الأدمغة التي ابتدعتها، وكان (الحاكم بأمره) قد أطلق لهم العنان، وتركهم (على حلّ شواربهم) يعيثون فساداً وإفساداً في وسائل الإعلام، فرفعوا مَنْ حقُّه أن يكون من الناس... الفنانين (اللي تحت) وسحقوا مَنْ حقُّه أن يكون الأعلى في عالم الفن والأدب والإبداع، وفي عالم الوطنية، وفي عالم العروبة والإسلام... اضطهدوا الأحرار من الكتِّاب والشعراء والفنانين، كدأب الأنظمة الاستبدادية في كل مكان وزمان، ومن هؤلاء الأحرار، صاحب هذه الذكرى: علي أحمد باكثير.
ظلموه، وحجبوا أعماله المسرحية التي بزّتْ أعمال الرواد كالحكيم، ورصفائه، وتلاميذه، ولم يسمحوا لأعماله البديعة أن ترى النور إلا لماماً، حسداً من عند أنفسهم، وحقداً على العقيدة التي يحملها، وغيرة من إبداعاته في المسرح، والرواية، والشعر، ولو كان ممن يرضون أن يسيروا في ركاب الطغيان والانحراف، لتقدَّم على معاصريه جميعاً، ولكن تساميه فوق الحطام الذي يقتتل حوله أولئك الأوغاد، جعلهم يقعدون له كل مرصد، حتى فكّر في الرحيل عن مصر.
وظلمه النقاد وأدعياء النقد ميتاً، كما ظلمه الحاكمون، فلم يأبهوا لذلك التراث الضخم الذي تركه لأبناء هذه الأمة، وحاولوا إنكار ريادته لشعر التفعيلة، وتقدّمه في فني المسرح والرواية التاريخية، وجادل بعضهم في ذلك، ولكن بعض الدارسين أنصفوه بمقالة هنا، وأخرى هناك.
ومن قبيل إنصاف الرجل، بادر هذا الموقع إلى نشر بعض الدراسات عنه، ونشر ما لم يُجمع في كتاب من مسرحه السياسي، وقد تفضل الأستاذ الدكتور محمد أبو بكر حميد بالسفر إلى مصر، والحصول على أكثر من خمسين مسرحية قصيرة من مسرحه السياسي، وأهداها لموقع أدباء الشام الذي بادر إلى نشرها تباعاً، ليعلم الناس ريادته في هذا الميدان، واهتمامه بالقضايا العربية والإسلامية عموماً، وبالقضية الفلسطينية خصوصاً، ونفاذ رؤيته السياسية، ورؤاه المستقبلية، وأنه كان سابقاً لمعاصريه من الأدباء والنقاد والسياسيين، وسابقاً لعصره، والذي يقرأ مسرحه هذا الذي كتبه قبل ستين عاماً، يظن أن الرجل يكتب لهذا القرن، لهذه الأيام...
ونحن نرمي من وراء نشر هذه المسرحيات، إلى تحفيز كتابنا وأدبائنا وشعرائنا وفنانينا، ليكونوا مثل باكثير، في استلهام الأحداث، وتسجيلها تسجيلاً فنياً يكون خالداً على الزمان..
لقد ودعنا باكثير قبل خمسة وثلاثين عاماً، ولكن أدبه مازال حيّاً.. حيّاً بشكله الفني الأصيل، وبمضموناته الملتزمة بقيم العروبة والإسلام، وبقضاياهما.. وإننا -إذ نحيي هذه الذكرى- ندعو الأصفياء الأنقياء من النقاد والدارسين الأصلاء، إلى العودة إلى تراث أديبنا الكبير، وإلى إحيائه، بتقديم ألوان من الدراسات عنه، كما ندعو طلاب الدراسات العليا، إلى تقديم رسائلهم الجامعية عن مسرحه السياسي، وعن مسرحه التاريخي، وعن مسرحه الأسطوري، وعن مسرحه الشعري، وعن فنه الروائي، وعن فنّه الشعري...
علي أحمد باكثير أديب ضخم ضخم ضخم، فهلمّوا إلى إنصافه، والإفادة من عبقريته في هذه الميادين أيها الأدباء والنقاد والساسة، ويا شداة الأدب والفن والسياسة.
موقع رابطة أدباء الشام
* * *
مسرح علي أحمد باكثير
بقلم: عبد الله الطنطاوي
علي أحمد باكثير – سقى الله جسده الطاهر بقدر ما قدّم لهذه الأمة- كاتب أديب شاعر ينتمي إلى مذهب (الإسلامية) في الأدب، بل هو من روّادها ومؤصّليها بما قدّم من أعمال مسرحية وروائية وشعرية، جعلت منه، بحق، رائداً عظيماً من فحول الأدب الإسلامي في العصر الحديث، ومن شوامخ أدبائنا العرب على مدى التاريخ.
ولد باكثير في مدينة (سورابايا) في أندونيسيا عام 1910 من أبوين عربيين مسلمين من حضرموت، ونشأ في حضرموت، ودرس في مصر، واستقرّ فيها، وتزوج إحدى بناتها، وتوفي فيها عام 1969.
والذي يطالع السيرة الأدبية لباكثير، يعجب من ضخامة إنتاجه المسرحي ومن تنوعه، ومن سموقه منذ البدايات، ومن اهتماماته.. فهو كتب الكثير في المسرح التاريخي، ولعل رائعته (ملحمة عمر) التي جاءت في ثمانية عشر كتاباً أو جزءاً أو عملاً مسرحياً بديعاً، تأتي على رأس أعماله المسرحية التاريخية، التي بزّ فيها سابقيه ومعاصريه، كما بزَّ غيره في مسرحيته التاريخية الثانية (دار ابن لقمان) ومسرحيته الثالثة (الدودة والثعبان) أو (جيش الشعب) كما كان اسمها في البداية، قبل أن تمتدّ يد الرقيب إلى التحريف والتغيير. وهذه المسرحيات التاريخية وأخواتها التاريخيات الأخرى كلها مسرحيات هادفة، لم يكتبها باكثير عبثاً، بل كان يتخيّر موضوعاتها، ويبث فيها أفكاره، ويسقط أحداثها على الواقع المعيش، ليأخذ الناس منها العبرة.. ولا أستطيع إلا أن أذكر مسرحيته الرائعة (سر الحاكم بأمر الله) ففيها الكثير من العبر عن الديكتاتوريات الظالمة التي اكتوى بنيران بعضها..
أما مسرحه الاجتماعي فقد طرق فيه كثيراً من الأفكار العصرية، ناقشها في فنية أبعدتها عن الذهنية الباردة، وقدّم كثيراً من الحلول لكثير من المشكلات التي كان يعاني منها المجتمع العربي عامة، والمصريّ منه بوجه خاص، من خلال الحوار الحارّ حيناً، والدافئ حيناً آخر، ومن خلال الحركة الذهنية التي كانت ترسمها ريشته الصناع من خلال الحوار المتميز، ومن خلال الإرشادات التي كان يقدّمها للمخرج والممثلين، من هذه المسرحيات الاجتماعية: السلسلة والغفران – الدكتور حازم – مسمار جحا (وهذه ذات بُعد سياسي أيضاً) – الدنيا فوضى – جلفدان هانم – حبل الغسيل – الفلاح الفصيح، وغيرها وغيرها. عالج فيها مشكلات الظلم والجهل والتقليد الأعمى للأجنبي، والفقر والبؤس والتعاسة التي يعاني منها العرب والمسلمون، بأسلوب بعيد عن الوعظية والمباشرة والخطابية.
أمّا مسرحه السياسي، فقد جاء فيه بالعجب العجاب، وسبق في وعيه وتحليله السياسي كثيراً من السياسيين والزعامات الحزبية.. عالج فيها الاستعمار الحديث لبلدان المسلمين، ودعا إلى الجهاد من أجل الاستقلال والتخلص من نير المستعمرين، وسخر من الإمبراطورية العجوز: بريطانيا التي كانت لا تغيب الشمس عن مستعمراتها، وذلك في مسرحيته (إمبراطورية في المزاد) الصادرة في عام 1952 وفيها هجوم فني ساخر على الاستعمار البريطاني المتحالف مع الصهيونية العالمية، ودعا فيها إلى تكتل العالم الثالث، وإلى اجتماع زعماء دوله في مؤتمر عام يعقد في دلهي، وذلك قبل التفكير بعقد مؤتمر باندونغ بثلاث سنين، وكذلك الأمر في مسرحيته السياسية الاجتماعية (مسمار جحا).
وقد احتلت القضية الفلسطينية حيزاً كبيراً في مسرح باكثير، تجلّى ذلك في مسرحياته: (مأساة أوديب) التي أصدرها بُعيد النكبة (1949) و (شيلوك الجديد) بجزءيه: المشكلة والحل، اللتين أصدرهما عام 1944، و (مسرح السياسة) المتضمن عدة مسرحيات كتبها بين (1945 – 1948) وعالج فيها القضية الفلسطينية من مختلف الجوانب، بفنية ساخرة معجبة، وهي مسرحيات: نقود تنتقم – والسكرتير الأمين – وراشيل والثلاثة الكبار – وليلة 15 مايو – ومعجزة إسرائيل.
وفعل الأمر نفسه في مسرحية (شعب الله المختار) و (إله إسرائيل) وهي ثلاث مسرحيات في كتاب واحد، وهي مسرحيات: الخروج – وملكوت السماء – والحية. وقد استوعب فيها المشكلة اليهودية منذ أقدم عصورها حتى يوم كتابتها، بأسلوب فني راقٍ.
وبعد نكبة حزيران 1967 كتب باكثير مسرحيته الأخيرة (التوراة الضائعة) نُشرت بعد وفاته هماً وغماً مما أصاب العرب والمسلمين من قهر وإذلال على أيدي اليهود من جهة، وممّا أصابه هو شخصياً على أيدي الطواغيت الممسكين بأزمة السياسة والثقافة من جهة ثانية.
هذا تعريف موجز مكثف بمسرح رائد من رواد مذهب (الإسلامية) في الأدب، ودراسة هذا الرجل بجوانبه الفنية: الروائية والشعرية والمسرحية، تحتاج إلى كتب، وقد أصدرتُ كتاباً عام 1977 بعنوان: دراسة في أدب باكثير، وألّف غيري كتباً أخرى عن هذا الرائد العملاق الذي غمطه النقاد والحكام حقّه في حياته وبعد مماته، حتى فكّر الرجل بالهجرة من مصر إلى بلاد الله الواسعة بعد نكبة حزيران، ولكنه لم يفعل.. وهو مجال خصيب للدراسات.
إنني أدعو سائر المثقفين إلى قراءة أدب باكثير، فهو أدب إسلامي عربي أصيل في شكله ومضمونه، وهو يردّ على كثير من الاتهامات الموجهة ظلماً إلى الأدباء الإسلاميين.
* * *
مع الشاعرة العراقيّة نازك الملائكة
بقلم: عبد الله الطنطاوي
كان ذلك في صيف عام 1972م..
كنّا ثلة من الأدباء السوريين والعراقيّين: "د.عماد الدين خليل، د.نبيل طالب –رحمه الله- من العراق، وإبراهيم عاصي، ومحمد الحسناوي – رحمهما الله - وكاتب هذه الأسطر، من سورية" في بيروت، عندما طالعنا في الصحف اللبنانية خبر وصول الشاعرة الكبيرة نازك الملائكة، بصحبة زوجها الدكتور عبد الهادي محبوبة إلى لبنان، ونزولهما في فندق الصخرة في عاليه.
قلت لأصحابي: ما رأيكم في زيارة الشاعرة؟
وبعد حوار قصير، استقرّ رأينا على أن نزورها نحن السوريّين، ولم تمضِ ساعات حتى كنا نجلس –في الصالة الكبيرة في فندق الصخرة- نحن الثلاثة، في انتظار الشاعرة المبدعة، وزوجها الناقد الأديب.
حضرت نازك وزوجها، تعارفنا –لأول مرة- ثم جلسنا، وكنت إلى يمين الشاعرة، وكان زوجها إلى شمالها.
رحّبت بهما، ثمّ عرّفتهما بصاحبيّ، ثمّ بنفسي، وعندما سمعت اسمي ازورّت عني..
لاحظنا تجهّم الشاعرة، وانصرافها عن المشاركة في الحديث، حتى اضطرّ زوجها الدكتور محبوبة إلى تنبيهها أكثر من مرة، حتى قال لها مرة، وبصوت مهموس ولكنه مسموع: "الجماعة ضيوفك، ولا يعرفونني".
تنبه الشاعر محمد الحسناوي إلى سبب هذا التجهّم، وذلك الانصراف عنّا، فقال لها:
- الأخ عبد الله، يا دكتورة يحبّك، ومعجب بكِ وبشعركِ، حتى إنّه سمّى بنته باسمكِ، سمّاها نازك من أجلكِ.
فانبسطَ وجه الشاعرة، والتفتت إليّ ضاحكة القسمات، متسائلة:
- صحيح أستاذ عبد الله، سمّيت بنتك نازك من أجلي؟
فتنفّستُ الصّعداء كما يقولون، وقلت:
- نعم يا ستّي..
فازداد وجه نازك تألّقاً وإشراقاً، وهي تحكي لنا سبب تسميتها، وقالت:
- كان أبي في دمشق عام 1923م، وشهد هناك مظاهرة نسائيّة ضد الاستعمار الفرنسيّ، تقودها امرأة رجلة اسمها نازك العابد، فأعجب والدي بها وبشجاعتها ووطنيّتها، وعندما عاد إلى بغداد، وجد أمي قد ولدتني، فأسماني نازك، تيمّنًا بنازك العابد.
فقلتُ لها مازحًا: إذن.. بضاعتنا رُدّت إلينا..
وضحكنا جميعًا.
ثمّ اعتذرتُ للشاعرة الكبيرة عمّا جاء من شدة وحدّة في مقالي المنشور في العدد التاسع من مجلة الآداب البيروتية عام 1969م، وكان بعنوان: "مع رواد شعر التفعيلة"، ناقشتُ فيه كلّ الشعراء الذين زعموا الريادة لأنفسهم، أو زعم لهم محبوهم، الريادة والسبق في نظمِ شعر التفعيلة، وأثبتُّ أن الشاعر الحضرميّ المتمصر "علي أحمد باكثير" هو رائد شعر التفعيلة، وقد سبقَ نازك والسيّاب ببضع عشرة سنة، وكنت شديدًا على الشاعرة نازك، وأنا الآن لا أجد لي سببًا في تلك الشدّة، لأنني أولاً أزعم أني أكتب بموضوعيّة وحياديّة وتجرّد، وثانيًا: لأنني أحب الشاعرة وشعرها، ومعجب بإبداعاتها، كما تقدّم. ولكن.. هذا ما حصل.
وعندما أبدت الشاعرة استغرابها لحدّتي معها، لم أملك نفسي من الاعتذار، دون تبيّن الأسباب الداعية إلى ذلك، ودون تبيينها.
قالت الشاعرة الكبيرة:
- والله لم أكن أعرف، قبل مقالك شيئًا ذا بال عن علي أحمد باكثير، ولو عرفت أنّه السبّاق لاعترفت له بأفضليّة السبق، حتى الآن، لم أقرأ ترجمته لمسرحية "روميو وجولييت" ولا مسرحيّته "إخناتون ونفرتيتي" اللتين وضعهما أو نظمهما على هذا النمط الجديد في الشعر العربي.
ثم انتقل الحديث بنا إلى ضرورة الاستمرار في الكتابة لمجلة الآداب – وكنا توقفنا عن الكتابة فيها، بسبب الحملة الظالمة عليّ من بعض كتّابها.
- قالت: اكتبوا للآداب. يعني لمجلة الآداب مهما تكن الظروف.
أولاً: لأنها المجلة الأدبية الأولى في الوطن العربي.
وثانيًا: لأنها تدخل كل الأقطار العربية.
وثالثًا: لأن صاحبها الدكتور سهيل إدريس مرجوّ لمستقبل الأيام، وسوف يصير إلى ما صار إليه الدكتور طه حسين والعقاد والدكتور مصطفى محمود وسواهم، ممّن التحموا بأمتهم، ونافحوا عنها، وعن تاريخها، وعقيدتها.. بعد ما كان منهم في شبابهم.. فالذي يقرأ "مرآة الإسلام" لطه حسين، لا يصدّق أنه كاتب "مستقبل الثقافة في مصر". وكتابات مصطفى محمودالآن، غير كتاباته قبل سنوات، حتى ليحسب القارئ أن هناك كاتبَين باسم مصطفى محمود.. وسهيل إدريس الذي ترجم وروّج للأدب الوجودي في دار الآداب ومجلة الآداب، سوف يلتصق بآداب أمته، ويدافع عنها وعن عقيدتها وتاريخها.. وكذلك السيّاب رحمه الله.
قلتُ لها: ولكن كتابتنا فيها، قد أزعجت سليمان فياض، وغالي شكري، ومحي الدين صبحي، والدكتور كمال نشأت ومحي الدين محمد، وقد كتبوا إلى الدكتور سهيل يحتجون على ما نشرَ لي، كما أنهم أعلموه بأنهم لن يكتبوا في الآداب، ما دامَ ينشر لهذا الرجعيّ وذاك..
قالت:
- هذا يجعلني أصر على دعوتي إياكم، لمعاودة الكتابة في الآداب..
قلت للشاعرة الكبيرة:
- عندما كنا نقرأ شعركِ في "عاشقة الليل، وشظايا ورماد، وقرارة الموجة، وتراجيديا الإنسان" كنا نحس بتشاؤمكِ، وضيقكِ بالحياة والأحياء، وخوفكِ من المجهول، وكنا شديدي التأثّر بكِ، نحفظ شعركِ، وكان بعضنا يقول لبعضنا الآخر، مازحين حينًا، وجادّين حينًا آخر: "تعالوا نضع على عيوننا نظارات سوداء، كتلك التي تضعها نازك".
وذات يوم، كنا نجلس على شاطئ نهر عفرين –شمالي حلب- وتذكرت قصيدتك التي تقولين فيها:
يا نهرُ فلتدفن شكاياتي ومُرّ شجونها..
الآدميّة إن بكت، فلضعفها وجنونها..
وكان معنا الشاعر الإعزازي – نسبة إلى مدينة إعزاز جنّة الشمال السوريّ- أعني الأستاذ مهندس البترول محمود كلزي، فصمت لحظات، خيّمت خلالها الكآبة والحزن علينا، ثمّ أخرج قلمه ودفتره من جيبه، وكتب قصيدة بديعة، استلهمها من قصيدتكِ تلك، أذكر منها قوله:
آه يا نهر، وهل يجدي المعنّى قولُ آه؟!
آه من دهري وأقداري وأوصاب الحياة!
كلما وجّهت وجهي أجتلي الأسرار تاه!
سألت نازك عن هذا الشاعر المبدع الذي لم تسمع به، ولم تقرأ له قطّ، فقلت لها:
- وبمن تسمعين من الشعراء السوريّين المبدعين؟
هل سمعتِ بالشاعر الحلبي المبدع: علي الزيبق؟
هل سمعتِ بالشاعر المنبجاني: محمد منلا غزيّل؟
هل سمعتِ بعمر بهاء الدين الأميري، وعمر أبو قوس، ومحمد هلال فخرو، وعبد الله عيسى السلامة، ومصطفى النجّار، ومحمد سعيد فخرو، وأحمد دوغان، ومحمد الحسناوي، ومحمد المجذوب، وعبد القادر حداد، وعبد الجبار الرحبي، وبشعراء آخرين عطّروا أجواء سوريّة بأشذاء أرواحهم الشاعرة؟
قالت نازك في استغراب:
- وأنتم؟ أين أنتم؟ أنا وعبد الهادي كنا في سورية، جئنا إلى لبنان من سورية، وزارنا بعض الشعراء والكتاب والنّقاد، ولكنّنا لم نقابل واحدًا من هؤلاء.
قلت: هناك تعتيم إعلامي، واستبعاد وإقصاء لكل من لا ينضوي تحت راية البعث.. فالبعثيون ومن شاكلهم قد استأثروا بالصحافة الأدبيّة في سوريّة.. وبسائر وسائل الإعلام.. الإذاعة، والتلفزيون، والصحافة، والمسرح.. على أيّ حال، نحب أن نعود إلى شعركِ يا أستاذة نازك.
فقالت:
- أمّ البراق.. أنا أمّ البراق..
قلت:
- والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أمرنا بأن ندعو أحباءنا بأحب الأسماء إليهم يا سيدتي أمّ البراق.
أنا أحفظ من شعركِ التشاؤميّ، أو – بالأحرى- من بعض ما أحفظ من شعركِ هذا، قولكِ:
ها أنا بين فكيّ الموتِ قلبًا لم يزل راعشًا بحبِّ الحياةِ..
وقولكِ:
لستُ إلا ذرّة في لجّة الدّهرِ المغيرِ.. |
وغدًا يجرفني التيّار، والصّمتُ مصيري.. |
وقولكِ:
ما أنا إلّا بقايا مطرٍ ملَّ السّماءْ.. |
ترجعُ الرّيحُ إلى الأرضِ بهِ ذاتَ مساءْ... |
وقولكِ:
لم يعد في نفسيَ الولهى مكان |
لأسىً أو فرجةٍ أو ذكرياتِ.. |
وقولكِ:
آه يا أشجار لا تذكّريني |
فأنا تمثال يأسٍ بشري.. |
|
ليس عندي غير آثار حنيني |
وبقايا من شقائي الأبدي.. |
وقولكِ:
وغدًا تنضب الدموع وتفنى |
ضجة الموتِ في عمقِ السكونِ! |
فهتفت الشاعرة الكبيرة:
- يكفي.. يكفي.. كدتَ تعيدني إلى ماضٍ أحبّ أن أنساه.
- ولكنّكِ يا سيدتي الشاعرة المبدعة، في أشعاركِ ودواوينكِ التالية، نزعتِ النظارة السوداء عن عينيكِ، وصرتُ أشعر بالبهجة وأنا أقرأ شعركِ، بينما كنت أحسّ بالضّيق والاختناقِ، وأنا أقرأ نازك في النصف الأول من الخمسينيّات والأربعينيّات.
سألت: وهل عرفتَ السّبب؟ فأنت ناقد، والناقد يجب أن يكون بصيرًا.
أجبت: لا.. لم أعرف السبب.
قالت: السبب بسيط، وفي غاية الأهمية معًا.. عندما كنت أضع النظارة السوداء – على حد تعبيرك - كنت ملحدة.. بقيت ملحدة بضع سنوات، ضقت فيها بحياتي، وكنت أتساءل في نفسي: ما قيمة هذه الحياة مهما امتدّت، ما دامت سوف تنتهي بالقبر، وما دام هذا الجسد سوف يؤول طعامًا للدّيدان؟ فكنت أتشاءم، وأبكي، وأعبّر عن ضيقي بما كنتم تقرؤون لي من شعر يعبّر عن تراجيديا الحياة، وبؤس الإنسان، وتعاسته..
أغمضت الشاعرة الكبيرة عينيها، وهزت رأسها، كأنها تتذكر الأيام الخوالي، ثم قالت:
- إلى أن أوفدتني الجامعة إلى أمريكا، لمتابعة الدراسة هناك.. فقد لاحظت شدة اهتمام بعض أساتذتي بي.. فقلت في نفسي: "فتاة من الشرق، وشاعرة متحررة. لهذا كانوا يهتمون بي"..
ما كان يخطر على بالي أي سوء نية تجاه هؤلاء الأساتذة الكبار.. ولكني لاحظت بعد فترة، أنهم قد اتّفقوا على أمرين: الاهتمام بي، والطعن بالإسلام ونبي الإسلام.. في البداية لم أكترث، لأن الأديان والغيبيات لا تحتل أيّ حيز من فكري وعقلي وقلبي، كسائر الملاحدة في العالم.. ولكنني لاحظت تركيزهم الشديد في الطعن بمحمد "زير نساء، همجي، بدوي، متخلف، سفّاك دماء.." إلى آخر ما هنالك من صفات جعلتني أشمئز وأتقزز، ثم دفعني تصرفهم هذا إلى كتابة رسالة إلى أمي "الشاعرة أم نزار الملائكة" طلبت فيها منها، أن ترسل إليّ نسخة من القرآن الكريم.. فرحتْ أمي بطلبي هذا، وأرسلت إليّ مصحفًا جميلًا، وكتبت عليه إهداء هو عبارة عن ثمانية أبيات هزتني هزًا عنيفًا، وجعلتني أكبّ على قراءة القرآن الكريم قراءة الدارس الراغب في اكتشاف مجهول، فبهرني بجماله، ثم شدّني إليه أكثر من ذي قبل، وأنا أتملّى أسلوبه المعجز، وشعرت بأشعة الإيمان تنير ظلمات قلبي ونفسي، وندمت على الأيام السوالف التي أمضيتها في الإلحاد، والسخرية من المؤمنين، وعدم طاعة أمي التي كانت تدعوني إلى قراءة القرآن، القرآن..
كانت تدعوني، بل ترجوني أن أقرأ القرآن كأي كتاب، وكنت أعتذر بلطف، لأنني أحب أمي، بل أعشقها لحنانها وأدبها وأخلاقها وسموّ نفسها، كنت أراها كاملة.. إنسانة كاملة بكل معنى الكمال، وما كنت أرى فيها عيبًا سوى إيمانها وإسلامها وعبادتها..
ثم فتشت عن أولئك الأساتذة الكبار، وإذا هم يهود حاقدون على العروبة والإسلام، وعندما لذتُ بإيماني وإسلامي، وصرت أناقشهم كعربية تدافع عن تراث العرب، غضبوا، وعندما سمعوني أشيد بالإسلام والأديان والقرآن وبالنبي محمد، جن جنونهم، وصاروا ينظرون إليّ نظرة استعلاء فاستعليت عليهم بعروبتي وبإيماني، وفاخرتهم بإسلامي الذي ما كنت أعرف منه إلا القليل.
ومنذ أن عدت إلى الإيمان، عادت إليّ ابتسامتي وفرحي ومرحي، ولم أعد أعير التشاؤم أيّ اعتبار، فقد عرفت أن هذه الدنيا دار عمل، وممر إلى الحياة الحقيقية الخالدة.. الآخرة.. حيث الجنة لمن آمن وعمل وأحسن، والنار لمن كفر أو أساء وأذنب، وأن القبر ليس هو المثوى الأخير لهذا الإنسان الذي كرّمه الله، وخلقه في أحسن تقويم.
وفيما كانت نازك تتدفق بالحديث عن الإيمان وما يفعله في النفس الشاعرة بشكل خاص، إذا الزغاريد تملأ جوّ الصالة، تسبق عريسين وعروسين، فقالت نازك:
- هذا من التفاؤل بتجدد الحياة، ومباهجها..
وقلت:
- تفاءلوا بالخير تجدوه يا سيدتي.
ثم نظرَتْ إلى زوجها الدكتور عبد الهادي، وقالت:
- وقد آلينا على أنفسنا.. عبد الهادي وأنا.. أن نكتب عن إعجاز القرآن، وعن كنوزه، ولكن.. بأسلوب سوف يكون مختلفًا عما كتب به علماؤنا وأدباؤنا ونقّادنا..
وأبدت إعجابها بما كتبه عبد القاهر الجرجاني، وتلميذه سيد قطب الذي نبّه المثقفين إليه، كما أبدت إعجابها بالإعجاز البياني للدكتورة بنت الشاطئ.
قلتُ لها:
- لاحظنا تغيّركِ في محاضراتكِ عن "الغزو الفكري والثقافي" التي ألقيتها في مؤتمر الأدباء في بغداد عام 1965م، ثم بمقالكِ الرائع عن ملاحظاتكِ حول المرأة العربية، وقد طبعنا بحلب هذا المقال، وتلك المحاضرة، ووزعناهما بالبريد إلى كل من نعرف في سورية وغير سورية، وطلبنا ممن نرسلهم إليهم، أن يبادروا إلى تصويرهما، وتوزيعهما على المعارف والأصدقاء.
فقالت نازك:
- شكرًا لكم على هذا التقدير، ولكن هناك كاتبًا دمشقيًّا أخذ مقالي عن المرأة، وبنى عليه، وأخرجه في كتاب، وطبعه وباعه أكثر من مرة، ولم يتكرّم عليّ بنسخة ولا بكلمة شكر.
قلت لها:
- نحن نعرفه، وظنناه فعل ذلك بعد استئذانك.. على أيّ حال، نحن نريد نشر أفكارنا وليتاجر غيرنا بها، أليس كذلك يا أم البراق؟
- بلى.. ولكن.. من لم يشكر الناس، لم يشكر الله.. على أي حال، سامحه الله.
ثم قلت:
- كان كتّاب اليسار وشعراؤه ونقاده، يشيدون بكِ وبشعركِ وثقافتك، وبريادتك للشعر الحرّ، شعر التفعيلة، حتى إذا ما نشرتِ "ثلاث قصائد شيوعية" في مجلة الآداب، انقلبوا عليكِ، فمنهم من هاجمكِ ومنهم من خجل أن يقول فيك اليوم، ما لم يقله بالأمس، أو غير ما قاله فيكِ، فسكت، ولكنهم لا يتورعون عن التنكيل بك وبشعركِ كلما جالسناهم، وناقشناهم.
قالت:
- أنا أعرف الكثير عنهم، والحقيقة "ثلاث قصائد شيوعية" كانت القشة التي قصمت ظهر البعير، وإلا.. فإنّهم بدؤوا هجومهم عليّ! بالتجاهل مرّة وبالتجريح لا النقد مرات، منذ عدت من أمريكا، بغير ما ذهبت إليها، لقد نقموا مني إيماني بإسلامي، واعتزازي بعروبتي، كما نقم ذلك مني الأساتذة الكبار في الدراسات العليا في أمريكا.. الشيوعيون في أخلاقيّاتهم، كاليهود الذين احتفلوا بي وأنا ملحدة، وغاضبوني وأنا عربية مسلمة مؤمنة.
كان هذا بعض ما دار من حديث وحوار بيننا، ولعلنا نواصل الحديث في قابل، إن شاء الله تعالى.(1)
وبعد اللقاء الثاني مع الشاعرة العراقية الكبيرة نازك الملائكة – شفاها الله وعافاها من مرضها- وبالتحديد بتاريخ 7 شباط 2004، كتب الأديب عبد الله الطنطاوي مقالة تحت عنوان (الإسلاميّة والتفاؤل)، تحدثت الشاعرة عن بواكيرها الشعرية في النصف الثاني من الأربعينيات وبداية الخمسينيات، وفي دواوينها الثلاثة: (عاشقة الليل)، و(قرارة الموجة)، و(شظايا ورماد) فقالت:
ـ كنت متشائمة، لأنني كنت ملحدة، وكنت أنظر إلى هذه الحياة التي نحياها نظرة تراجيدية، يعيش الإنسان فيها حياة تراجيدية، تنتهي به إلى الموت، فإلى القبر، ذلك الشقّ من الأرض المعتم، حيث يُسجَّى جسده ليأكله الدود، ولذلك، كنـت متشائمة لهذا المصير الذي سأصير إليه كغيري من البشر.
وعندما عدت إلى الإيمان والإسلام، وقرأت القرآن العظيم، واطلعت على الحديث النبويّ، وعلى بعض الكتب الإسلامية الجادة، عرفت يقيناً، أن هذه الحياة التي نحياها ليست إلا ممراً لدار أبدية، دار الخلود في الجنة للمحسنين، والنار للمسيئين، عندئذ، عادت إليّ الحياة طلقة بهيجة، وعدت إليها متفائلة، لأن هذه الحياة الدنيا ليست كل شيء في حياة الإنسان، بل هناك الحياة الأخرى، حيث الحساب، فجنة أو نار، فالإنسان وعمله، (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى).
هذا فحوى كلام الشاعرة الكبيرة نازك في عام 1972 وهو وسواه من أشعارها وكتاباتها ونقداتها الصائبة، هي التي أزعجت من أزعجت من الأدباء والشعراء والمفكرين الذين تختلف نظرتهم عن نظرة الشاعرة المفكرة الناقدة المبدعة نازك، وتختلف عقيدتهم ومبادئهم عن عقيدتها ومبادئها. فانبروا يهاجمونها ويتهمونها بالرجعية والارتداد، وهي التي كانت الشاعرة التقدمية المفضلة لديهم، حتى استطاعوا عزلها عن الحياة الشعرية والفكرية للأسف، و(النقاد) الإسلاميون، والكتّاب الملتزمون (يتفرجون)!
فالأديب المسلم أديب متفائل، والتفاؤل من أهم ما يميّز مذهب الإسلامية في الأدب والفن، ونظرة سريعة إلى قصص القرآن الكريم، تجعلنا نحسّ بهذه من خلال النهايات السعيدة لتلك القصص سواءٌ منها القصص التاريخية الواقعية، والقصص التي جاءت لتضرب الأمثال للناس، من أجل الموعظة الحسنة، عن طريق الفن الراقي.
والكتّاب والشعراء الإسلاميون، حتى وهم في أحلك الظروف وأقساها، تراهم يبدعون أعمالاً أدبية وفنية تشيع في نفوس الناس التفاؤل والحياة، ولا تجد فيهم من يضع على عينيه نظارة سوداء، فلا يرى إلا من خلالها.
وهذا يعني، أن المصدر الذي تستقي منه (الإسلامية) إلهاماتها، هو مصدر إلهيٌّ عظيم، وليس مصدراً وضعياً لا يلبث أن يتغير بتغيّر حال الكاتب المبدع، أو تحوّل الظروف المحيطة صعوداً أو هبوطاً.. إنه مصدر حيوي، يريد الحياة السعيدة للإنسان، ويحبب إليه التفاؤل، حتى في أقسى الظروف، فهو يرى فيها حكمة ربانية بالغة، هي غيب من غيوب الله، قد تظهر له، وكثيراً ما تظهر له، ولو بعد حين، ولهذا يبقى الأديب المسلم متفائلاً، برغم الظَّلام والظُّلام وما ينشأ عنهم من ظلم وظلمات.. يبقى متفائلاً، ويشيع في جوائه التفاؤل، ويطرد التشاؤم.(2)
المراجع:
1 ـ جريدة الحياة اللندنيّة 1997، مقال: مع الشاعرة العراقيّة نازك الملائكة، بقلم: عبد الله الطنطاوي.
2 ـ موقع رابطة أدباء الشام 7/2/2004 الإسلاميّة والتفاؤل بقلم: عبد الله الطنطاوي.
* * *
الطنطاوي وأخوّة خمسين عاماً مع الحسناوي*
وكتب عبد الله الطنطاوي الإنسان مقالة حزينة باكية (هكذا المجاهدون... لا يموتون إلاّ واقفين)، تتصدّر المقالات والقصائد التي ضمّها كتاب: (محمد الحسناوي بأقلام محبيه) الذي جمع فيه الطنطاوي ما قيل في رثاء شقيق روحه الحسناوي رحمه الله رحمة واسعة متسائلاً: كيف أبدأ... لست أدري ؟.
"وهل بإمكان واحد فقير قليل مثلي، أن يمتلك أعصابه، أن يشدّ على قلمه، أن يوقف تسارع دقات قلبه، أن يمنع دموع عيونه، وقد تفجرت ذاته إلى عيون.. إلى ينابيع، تذرف ما تمتح من خزين الدموع، على شقيق الروح، رفيق الدرب، صديق العمر، الشاب والكهل والشيخ الذي أمضيت معه خمسين عاماً.. أجل.. أمضينا معاً خمسين عاماً حافلة بالشهد.. حتى المرارات، مرارات كالصاب والعلقم، كنا نلعقها معاً، فتذوب في حلاقيمنا عسلاً بشهده، لا نريده عسلاً مصفى.. فصفحة الحياة.. حياتينا، كانت كقرص الشهد، ولا نبالي بلسع النحل، ولا نأبه بالأشواك تدمي أقدامنا، ولا بالحراب توجَّه إلى صدورنا."
واغرورقت عيناه بالدموع وقال: "أخوّة خمسين عاماً، أواريها الآن في التراب، وأغادرها لأنام على سريري؟
صداقة خمسين عاماً، أختصرها بكلمات؟
لا والله.. ليس لي قدرة على هذا..
فعن ماذا أتحدث؟"
ثم تساءل وهو يتأمّل سيرة الرجل الذي أعزّه القنوع، والعلم والأدب، وشرّفه الاضطهاد والاغتراب، وما زادته المحنة إلاّ عزيمة وتصميماً.
"هل أقول: إنه خرج من الدنيا كما دخلها، لم ينل منها إلا ما يسدّ الرمق؟ إلا ما يضمن الحدود الدنيا من العيش الكريم؟
هل أتحدث عن الحسناوي الشاعر؟ والحسناوي الناثر؟
هل أتحدث عنه سياسياً ورجل إعلام وتخطيط، أو أتحدث عنه أديباً أو مفكراً، أو محاضراً، أو مناقشاً يراعي أدب الاختلاف في الرأي؟
هل أتحدث عن اعتقاله، عن اضطهاده، عن اغترابه، عن القهر الذي لقيه.. ومع ذلك.. لم يهادن، ولم يساوم، وبقي شامخاً في وجه الأعاصير، عاش واقفاً، ومات واقفاً، لم يضعف.. لم تضعف روحه، ولم تضعف عزيمته، برغم الهزال الذي ألمَّ بجسمه الناحل".
ويستعرض الطنطاوي في خياله الرحب شريط الذكريات التي جمعته بأبي محمود الحسناوي، وقد طال البعاد، وشفّه النصب، ويترنّم بأبيات قصيدة شوق وحنين إلى مغاني الشهباء، نظمها الحسناوي في ساعة تأمّل جعلت مآقينا تمتلئ بالدموع.
يا ليلة من ليالي الشام أذكرها |
ذكر الميامين..مجداً تالداً وأبا |
|
وحدي مع الليل والأنسام تنفحني |
عطراً شذياً، وشعراً يكشف الحجبا |
|
أبو فراس وسيف الدولة استمعا |
شجوي المندى وحولي أيقظوا الحقبا |
|
كل سقاني بكأس من شمائله |
ومن شمائلهم ما أسرج الشهبا |
* * *
الطنطاوي وأحمد مظهر العظمة*
أمّا عن علاقة الفتى ابن الخامسة عشرة، بأحمد مظهر العظمة رئيس تحرير (مجلّة التمدّن الإسلامي)، الذي يبعد مكتبه بشارع النصر، عن معهد العلوم الشرعيّة الملحق بجامع تنكز مسافة قصيرة, فيروي الطنطاوي كيف تعرّف به قائلاً:
كنا جلوساً ننتظر مدرس مادة التعبير الشيخ فلاناً، رحمه الله، وعندما دخل الشيخ صحت في الطلاب: قيام.. فقام الجميع له. |
دخل الشيخ متجهم الوجه، وكان يحدّ النظر إليّ، وكان قد وضع أصبعه في وسط مجلة التمدن الإسلامي، وبعد أن أمرنا بالجلوس، وجلسنا، أمرني بالخروج من الصف. سألته: لماذا؟ فقد كنت محبوباً لدى أساتذتي جميعاً، وكنت الأول على صفي، وكنت عريف الصف، ولم أذنب حتى يخرجني، فقال لي آمراً: |
ـ اخرج يا غشاش. |
فسأله زميلي الذي يجلس بجانبي، وكان كفيفاً: |
ـ وكيف عرفت أنه غشاش يا أستاذ؟ |
فقال له الشيخ وهو يفتح المجلة عند الموضع الذي كان يضع أصبعه فيه: |
ـ انظر يا أعمى البصر والبصيرة.. لقد كذب على المجلة، وزعم لها أنه أستاذ، فكتب مقاله السخيف هذا (النفاق الاجتماعي) بقلم الأستاذ عبد الله محمود الطنطاوي.. |
عندما سمعت هذا الكلام، مددت يدي إلى المجلة، وخطفتها من يد الأستاذ، وخرجت من الصف، والأستاذ ذاهل عما أفعل. |
وطلب الشيخ معاقبتي، فعاقبني المدير بحرماني من الطعام أسبوعاً كاملاً. |
وفي المساء، طلبت الإذن من الناظر الليلي من أجل العشاء، فأذن لي. |
معهدنا في شارع النصر ـ لمن يعرف منكم دمشق ـ ملحق بجامع تنكز، ومجلة التمدن الإسلامي في باب الجابية.. يعني.. كانت قريبة من المعهد. |
دخلت على رئيس التحرير الأستاذ الرائع أحمد مظهر العظمة، وسلَّمت عليه، فردَّ السلام، وبقي مكباً على أوراق بين يديه يقرؤها. |
قلت له: عفواً أستاذ.. أنا مستعجل. |
رفع رأسه، ونزع نظارته عن عينيه. ووضع طربوشه الأحمر على رأسه، وابتسم وقال: |
ـ تفضل. ماذا تريد؟ |
قلت له: عندما أرسلت إليكم مقالي عن النفاق الاجتماعي، هل كتبت لكم: بقلم الأستاذ عبد الله. |
سألني: من أنت؟ |
أجبت: أنا عبد الله محمود الطنطاوي. |
سأل في دهشة: أنت كاتب المقال؟ |
ـ نعم.. |
نهض الأستاذ، واقترب مني، وسلَّم علي من جديد وهو يسأل: |
ـ في أي صف أنت؟ |
ـ في الصف العاشر.. |
وحكيت له ما كان من أمر الشيخ معي.. |
ومن هنا بدأت صلتي بهذا الأستاذ الكبير الذي حل لي مشكلتي مع المعهد، وأصر أن يكتب أمام اسمي كلمة أستاذ، لكل قصة أو مقال كنت أرسله إليه.(1) |
وكان الدكتور أحمد مظهر العظمة، ومحمد بن كمال الخطيب، ومحمد مهدي استانبولي، قد أسّسوا في دمشق عام 1931 جمعيّة إسلاميّة باسم (التمدّن الإسلامي)، وكان من أبرز أعضائها الشيخ محمد بهجة البيطار، وحسن الشطي، ويعود لهذه الجمعيّة الفضل في إصدار مجلة شهرية باسم (مجلة التمدن الإسلامي) عام 1935 وتأسيس مدرستها الثانوية عام 1946 وأنشاء (الرابطة الأخوية لمساعدة فقراء الطلاب) وكان لها دور بارز في مساعدة الفلسطينيين عام 1936 وتأسيس (لجنة إعانة المنكوبين في القدس).
المراجع:
1 ـ رابطة الأدب الإسلامي العالميّة 7/4/2012 حوار الزمن مع الأستاذ عبد الله الطنطاوي، حاوره: الدكتور عبد الله الخطيب.
الطنطاوي والشاعر الناثر وليد الأعظمي*
يتحدث المستشار عبد الله العقيل عن دور الأستاذ عبد الله الطنطاوي في جمع وترتيب وتدقيق وطبع الأعمال النثريّة الكاملة للمرحوم وليد الأعظمي، ويصف فرحة الأعظمي وهو يتلقّى ديوانه كاملاً قبل أن يرحل عن هذه الدنيا ببضعة أيّام، وكيف عقدا العزم على جمع آثاره النثريّة، إكراماً لشخصه ولجهاده المبرور، فهو أهل للإكرام والتكريم حيّاً وميّتا.
ويضيف قائلاً: عقدنا العزم، ونهض الأستاذ عبد الله الطنطاوي بجمع آثاره النثريّة، وكنّا نظنّها لا تتعدّى ألف صفحة من القطع الكبير، وإذا هي أربعة آلاف وخمس مئة صفحة، لا يسعها مجلّد.
وقامت دار القلم بدمشق بنشر الطبعة الأولى ل(الأعمال النثريّة الكاملة) سنة 1428هـ/2007م في ثمانية مجلّدات أنيقة، بهمّة الرجلين الفاضلين العقيل والطنطاوي.
الطنطاوي والناقد الإسلامي عماد الدين خليل*
وتكريماً للناقد الإسلامي عماد الدين خليل، أقامت رابطة الأدب الإسلامي في مكتبها بعمّان مساء السبت 7/6/2003، حفل تكريم للضيف الكريم القادم من العراق الشقيق، تحدّث فيه عدد من أدباء الرابطة عن مناقب المحتفى به، وألقى الكاتب عبد الله الطنطاوي كلمة عن عماد الدين ناقداً فقال: كتبت كلمة لحفل التكريم هذا بعنوان "خلائق العماد، في النقد والانتقاد" اخذت مادتها من كتابه اللطيف (في النقد التطبيقي) وخلائقه في كتابه مع منقوديه، كخلائقه السلوكية مع اخوانه واصدقائه ومعارفه، ثم بدا لي ان اتحدث عن ذكرياتي أو بعض ذكرياتي معه، وهي كثيرة غزيرة تمتد الى عام 1970م.
واضاف: كنت اقرأ ما تقع عليه عيناي من كتابات الدكتور عماد في الصحافة العربية ومنها السورية، ثم قرأت كتابه البديع في بابه (ملامح الانقلاب الإسلامي في عهد عمر بن عبدالعزيز) فشدني اليه ووجدت ضالتي عنده، وكانت لنا في حلب صولات وجولات وذكريات.
وتحدّث الدكتور عماد الدين خليل عن جهود الأستاذ عبد الله الطنطاوي في خدمة أدب الأطفال فعدّد هذه السلسلة: 1 ـ منصور لم يمت. 2 ـ محمود عز العرب. 3 ـ القدس لا تؤمن بالدموع. 4 ـ السياج. 5 ـ الأصدقاء الثلاثة. 6 ـ الأرض الملتهبة. 7 ـ ذبيح القدس. 8 ـ رحلة إلى جبل النار. 9 ـ أبطال من جباليا. 10 ـ البركان الإسلامي.
وتناول حلقة من سلسلة أطفال الحجارة، نشرت تحت عنوان (منصور لم يمت)، وقال: ومنذ الوهلة الأولى تقرّ عين المرء وهو يجد قبالته عشرة أعمال تغذّي أدب الطفل المسلم الذي لا يزال يعاني من الشحّة وقلّة الاهتمام رصيداً ثميناً.
تقرّ عينه وهو يرى الأديب المسلم وهو يلاحق حدثاً ساخناً لم ترد دماؤه بعد، فيعرف كيف يتعامل معه بهذا القدر من السخاء.
ثمّ هو يجد فضلاً عن هذا وذاك، تعاملاً إسلاميّاً ملتزماً ينبض بالصدق الفنّي، لأنّ الحدث الذي يشكّل حبكته من مفرداته هو في نبضه وبنيته وتوجّهاته حدث إسلامي حتى أعمق نقطة في تكوينه.
هذا إلى أنّ السلسلة تنطوي على قيمتها التوثيقيّة، فإن ثورة الحجارة التي استمرّت السنوات الطوال في مجابهة تحديات التآكل والغثاء، محققة ذلك الكسب الكبير في منح القضيّة دماً جديداً، وفي تحفيز فاعليّتها في قلب الأرض الفلسطينيّة، وتمكينها من المزيد من العطاء، هذه الثورة الفريدة من نوعها في تاريخ مقاومة هيمنة الطاغوت المغتصب، والتي اعتمدت الحجر أداة لضرب العدو، لهي بأمسّ الحاجة إلى توثيق تفاصيلها المدهشة، ومفرداتها التي تعزّ على الصديق، بقوّة الأداء الفني وتقنياته الجماليّة شعراً أم قصّة أم رواية أم مسرحيّة أم مقالاً، ولسوف يكون هذا التوثيق أكثر صدقاً فنيّاً عندما يتعامل مع الحدث لحظة تشكله وخفقاته، أو قريباً منها.
* * *
رسالة الدكتور عماد الدين خليل إلى الأستاذ عبد الله الطنطاوي في عمان (أيلول 1991)
نتهز الفرصة لأعرب لكم عن عميق شكري وامتناني لضيافتكم الكريمة، وللساعات العذبة التي منحني إياها لقائي الأخوي بكم...
أخي الكريم:
فيما يتعلق بسلسلة "أصوات" وتنفيذاً للوعد الذي قطعناه والإخوة الأحبّة بصددها؛ فقد خلوت إلى نفسي لاقتراح المحاور التي يمكن أن تدور عليها الأعداد القادمة بمعونة الله سبحانه وتعالى، وقد وضعت يدي على عددٍ منها، وسوف تتولّون - أنتم وسائر الإخوة المعنيين بها - إضافة واقتراح محاور أخرى...
المحور الثاني (باعتبار أن الأوّل قد صدر في مجال الإبداع القصصي والمسرحي) في النقد التطبيقي.
المحور الثالث: في المنظور أو التنظير النقدي والجمالي.
المحور الرابع: قراءات في الرواية العالمية.
المحور الخامس: في الأصالة والمعاصرة أو التراث والمعاصرة.
المحور السادس: دراسات في الأدب والفن.
المحور السابع: مقاطع أو لقطات من "السيرة الذاتية".
المحور الثامن: تحقيقات أو مقابلات صحفية.
المحور التاسع: تجربتي مع القرآن الكريم.
المحور العاشر: كتب أثّرت في حياتي.
المحور الحادي عشر: مقاطع شعرية.
المحور الثاني عشر: نماذج من القصة القصيرة.
المحور الثالث عشر: في أدب الطفل.
أخي الغالي: أما فيما يتعلق بالأمور الإجرائية فإليكم الملاحظات التالية:
أولاً: جعل الإصدار نصف سنوي؛ لكي تتاح الفرصة لإنضاج البحوث واستكتاب المساهمين.
ثانياً: تحقيق أكبر قدر ممكن من التغطية الجغرافية عن طريق استكتاب أديب أو أكثر من كل قطر عربي أو إسلامي إن أمكن.
ثالثاً: في حالة مساهمة عدد مناسب من الأدباء في العدد الواحد يكتفى بموضوع أو عملٍ واحد لكلّ منهم. أما إذا كان عدد المساهمين محدوداً فيمكن أن يكلّف كل منهم بموضوعين أو عملين أسوةً بما تمّ في العدد الأوّل من "أصوات".
رابعاً: هل ترون معي ضرورة إضافة كلمة (إسلامية) إلى أصوات، بحيث تصبح (أصوات إسلامية) لكي تدلّ على شخصيتها وتميّزها؟ أم أن ذلك لا ضرورة له؟ الأمر إليكم...
خامساً: يُستكتب الأدباء المعنيّون قبل فترة مناسبة، ويستحسن إعلامهم بالمحاور المقترحة (لأصوات) كي يعدّوا عدّتهم، ويكونوا على استعداد لتغذية أكثر من محور في موعدٍ مناسب.
سادساً: لدى صدور كل عدد من (أصوات) يشار إلى المحور الذي سيدور عليه العدد اللاحق ليكون القرّاء على بيّنة من الأمر، وكذلك لتنفيذ دعاية ضرورية لأعداد السلسلة.
سابعاً: يا حبذا لو تُرتّب عندكم قائمة بالأسماء المقترحة للمشاركة وعناوينها الدقيقة ويفضّل أن تغطي القائمة جغرافياً معظم البلدان العربية وحتى الإسلامية والأوربية إن أمكن.
ثامناً: المقالات الفائضة عن كل محور يحتفظ بها للإفادة منها في إصدارات لاحقة.
تاسعاً: إذا اكتملت مقالات محورٍ ما فتعطاه الأولوية في النشر كسباً للوقت.
عاشراً: يُفضل المقال غير المنشور سابقاً، ثم المنشور في الصحف والمجلات. أما المنشور في كتب مستقلّة فيُعتذر عن نشره.
أحد عشر: يُستحسن نشر الضوابط المهمة في الصفحات الأولى من كل عدد من (أصوات) ليكون الكتاب والقرّاء على بيّنة من الأمر.
أخي الغالي: يمكنكم بعد الاطلاع على الضوابط أعلاه إلغاء وإضافة ما ترونه لكي تأخذ صيغتها الأقرب إلى المطلوب.
هذا وقد أعرب عدد من الأدباء في الموصل عن رغبتهم في المساهمة في (أصوات)، ولسوف يرسلون على عنوانكم ما يتيسر إرساله - بإذن الله - وسيكون أخي نبيل من بينهم، وكذا الأخ الشاعر حكمت صالح، والأخ الدكتور منجد مصطفى وغيرهم.
أخي نبيل يبلغكم والأخ (أبو محمود) أطيب تمنيّاته وعميق محبّته، وكذا سائر الإخوة. ومن جهتي أرجو إبلاغ الإخوة كافة تحياتي ودعواتي، وبخاصة أبي سعيد، وأبي محمود، وقفّة، وأبي زياد، وكل من يسأل...
مع رجاء إعلامي عن تسلّمكم رسالتي هذه، ورأيكم بصدد ما تضمنّته من مقترحات..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ملاحظة: أخي الكريم: كسباً للوقت أرسل لكم مقالين في النقد التطبيقي: أحدهما يتعامل مع النصّ القصصي القصير بعنوان (هناك طريقة أخرى)، والآخر يتعامل مع النصّ الشعري بعنوان (للكلمات فضاء آخر).
فإذا تجمّع لديكم عدد كافٍ من المقالات في محور النقد التطبيقي فيمكنكم إصدارها في العدد الثاني من (أصوات) على بركة الله.
ولسوف أوافيكم لاحقاً بمقالات أخرى - إن شاء الله - لتغذية المحاور المختلفة ولكي تكون جاهزة بين يديكم ريثما تتوفر مقالات الأدباء الآخرين.
راجياً إعلامي عن المحور أو المحاور الأقرب في موعد صدوره في ضوء ما يتجمع لديكم لكي أكون على بيّنة من الأمر.
ملاحظة أخرى: أرى من الضروري الإعلان عن (أصوات) في المجلات الإسلامية المعنية بهموم الأدب من مثل (المشكاة)، و(المسلم المعاصر)، و(ملحق الرائد الأدبي) وغيرها، ويستحسن كذلك الإعلان في المجلات والصحف غير الإسلامية من أجل توسيع دائرة الاهتمام.
* * *
الطنطاوي والمؤرّخ العراقي محمود شيت خطّاب*
ويتحدث الطنطاوي عن الكبار الذين عرفهم في حديث الذكريات بإثنينيّة الشيخ عبد المقصود خوجة في مدينة جدّة فيقول"اللواء الركن محمود شيت خطاب، الرجل الذي يحمل سيفه في كتبه، كنت على صلة وثيقة به، بدأت في أوائل عام 1983 عندما استقرّ بي المقام في بغداد، وحتى وفاته رحمه الله رحمة واسعة. |
كنت آتيه أصبوحة كل يوم أجد فيه متسعاً، فما كان ينام الصٌّبحة، وأزوره أمسية كل يوم أكون في بغداد، يقدمني لأصلي به المغرب، مرّة يقول لي: طوِّل، ومرّة: قصِّر.. كان يحبّ تلاوتي، ومرّة زرت بصحبته، مفتي دير الزور، الشيخ عمر النقشبندي، رحمه الله، وعندما قمنا لصلاة العشاء، قال اللواء خطاب للمفتي: |
ـ يا شيخ عمر، مُر أبا أسامة أن يؤمّنا. |
وحاولت الاعتذار فلم أفلح. |
وأفدت من اللواء خطاب أكثر مما أفدته من أيّ عالم آخر.. فقد كان عالماً، عاملاً، زاهداً، فيه شموخ وأنفة، يتعالى على الطغاة، ويتواضع لأمثالي من العباد، يعيش على الكفاف، ويأبى المال الكثير الذي لا يكلفه إلا كلمة شكر للحاكم بأمره، أو السكوت عن مخازيه. |
كتبت عنه كتابين، وسوف أكتب عنه رواية إن شاء الله، فهو من أعظم من عرفت من الرجال". |
وكتب عبد الله محمود الطنطاوي في التراجم تحت عنوان: (محمود شيت خطّاب المجاهد الذي يحمل سيفه في كتبه) ترجمة أمينة وصادقة لخطّاب جاء في مقدمتها:
المقَدّمَة
عرفت اللواء محمود شيت خطاب في كتابه الرائد (الرسول القائد) - صلى الله عليه وسلم -، ثمّ في كتبه ومقالاته التي كانت تملأ فراغاً كبيراً ما ملأه غيرها، ثم كان التعارف في بغداد عام 1983 م ومذ عرفته والتقيته ما فارقته إلا لماماً ومضطراً، فكنت أجلس إليه، وأستمع منه، وأحاوره في شؤوننا، وهو العسكري المجرِّب الخبير، فأفدت منه علماً، وديناً، وأخلاقاً، وجِدّاً، واكتسبت من خبراته، وأطلعني على كثير من أسراره وأسرار مَنْ حوله، وقد يأتي يوم قريب - إن شاء الله تعالى - أكتب فيه عن تلك المعارف والأسرار التي دوّنتها في لحظتها، بعد عودتي إلى بيتي، وحرصتُ عليها وعلى سرّيّتها، حتى لا يؤذى الرجل الذي ما كان يحسب حساباً لغير الله والحقيقة والتاريخ، حسبما أحسب.
كان أستاذي الثالث، بعد شيخنا السباعي، وأستاذي الرائع أحمد مظهر العظمة، رحمهم الله جميعاً رحمة واسعة.
وهذا الكتاب تعريف موجز بحياته الخصبة، وتعريف ببعض كتبه القيّمة، جاء بهذا الحجم الصغير، ليكون إلى جانب إخوته في سلسلة: (علماء ومفكرون معاصرون) التي تحرص أن تكون هكذا.. تقدّم لمحات من حياة المترجَم له، وتعريفات بكتبه، في صفحات معلومات.. وسوف يليه كتاب كبير يليق به إن شاء الله.
أرجو من الله الكريم أن يأجر صاحب فكرتها الأستاذ الكاتب، والأخ الحبيب محمد علي دولة، مؤسس دار القلم بدمشق وصاحبها، حفظه الله لها، وحفظها له، وحفظهما لخدمة الإسلام ورجالاته في القديم والحديث.
وصلّى الله وسلم وبارك على مولاي وسيِّدي وقائدي محمد وعلى آله وصحبه، والحمد لله أولاً وآخراً.
عمّان: 21/ 12/ 1421 هـ
16/3/2001م
عبد الله محمود الطنطاوي
* * *
محمود شيت خطّاب المجاهد الذي يحمل سيفه في كتبه:
وتضمن كتاب الطنطاوي عن المرحوم محمود شيت خطّاب: لمحة عن حياته وعصره، حيث وصفه بأنّه شاهد القرن على تلك الكوارث والمآسي التي اجتاحت العراق الحبيب الغالي الذي بذل من أجله إنهاضه الكثير، وكان العقوق جزاءه.
وتضمّن دراسته، والتحاقه بالجيش، ودراساته العسكريّة العليا، ومقالاته الصحفيّة، ونشاطه الإذاعي والتلفزيوني.
وكتب الطنطاوي عن أهم الموضوعات التي كتب خطّاب فيها، وحدّد المحاور الأربعة التي كتب ضمنها، والمؤتمرات العلميّة التي شارك فيها، والأبحاث التي كتب فيها، ومشاركته في الوزارات العراقيّة، وعن مواقفه في نصرة دعاة الإسلام: سيّد قطب، والمودودي، وعن موقفه من العاميّة، ومن شعر التفعيلة، وموقفه من اللغة العربيّة، وموقفه من الحضارة الغربيّة والأدب الماجن، وموقفه من اليهود والصهيونيّة، وموقفه من إقامة الهيكل، وموقفه من المستشرقين، وبناء الرجال، وشروط النهضة، وعلاقته مع الزعماء، وموقفه من الوحدة العربيّة، وأنّ الإسلام هو الحل، وموقفه من الأرقام، وكتابة القرآن بالإملاء الحديث، والقول بالاتباع، والتفرّغ للعلم، وتصديه للشيوعيّة، وجهاده في فلسطين.
وقال الطنطاوي: كان خطّاب يرى أنّ من العار على العربي المسلم أن يفرح أو يبتسم بعد هزيمة حزيران، واحتلال ما بقي من فلسطين، وأسر الأقصى وقبّة الصخرة، وانتهاك القدس.
ثمّ يعرّف بمؤلّفاته، ويصفه بغزارة الإنتاج، بلغت مؤلّفاته وأبحاثه المطبوعة والمخطوطة والمنشورة في عدد من المجلات العربيّة أربعمائة كتاب وبحث، ثم أخذ يسرد ويعرّف ببعضها.
صدر الكتاب عن مكتبة مدرسة دار الفقاهة ببغداد، في 164 صفحة في طبعة أنيقة.
* * *
الطنطاوي والكاتب الإسلامي أحمد الجدع*
يتحدث المرحوم الأديب الناشر أحمد الجدع عن اللقاء الأوّل العابر الذي لم يدم أكثر من ساعة بالأخ عبد الله الطنطاوي، أخذت انطباعاً جيّداً عن الزائر الذي جاء بصحبة الأخوين الفاضلين عادل كنعان، ومصطفى الصيرفي، وكان مما ميّزه هدوؤه وبساطته، بالإضافة إلى علمه الذي ينبيك به حديثه، رغم ما تشعره من سمت التواضع في كلامه.
ثم يتحدّث الأخ أحمد الجدع في (أدباء وعلماء عرفتهم) عن (رابطة الوعي الإسلامي) التي كان هذا الزائر أحد مؤسّسيها فيقول: أيقنت أنّ الرجل ذو باع في الأدب، وذو محبّة للشعر، وإن كنت لم أقرأ له شعراً، ومن هنا بدأت أطالع بعض كتابات الرجل.
ويقول: للأستاذ عبد الله الطنطاوي مؤلّفات كثيرة، وقد أهداني معظمها، وهو لا يكفّ عن الكتابة، بل إني لأشعر أنّ الكتابة زاده اليومي وعشقه الأبدي.
أعمال هذا الرجل كثيرة، ولكن أبعدها أثراً وأكثرها نفعاً، وإن كانت كل أعماله نافعة ومؤثّرة، إنشاؤه لموقع أدباء الشام على الشبكة العالميّة للإنترنت.
ولي أن أقول: بأنّ رابطة أدباء الشام امتداد لرابطة الوعي الإسلامي، وهي تطوّر عنها وتطوير لها.
ويفرد المرحوم أحمد الجدع في كتابه (معجم الأدباء الإسلاميين المعاصرين) للأستاذ الطنطاوي سبع صفحات، تحدث فيها عن حياة المترجم له العامّة، وحياته العمليّة، وعدّد إنتاجه الأدبي، فذكر تسعة وخمسين عنواناً ما بين رواية وقصّة وترجمة منشورة، ودوّن فقرتين من نماذج أدبه.
* * *
الطنطاوي والشاعر يوسف العظم*
تحت عنوان (وداعاً أبا الجهاد) كتب الأستاذ عبد الله الطنطاوي مقالة في الرابع من آب 2007 مقالة حزينة ينعي فيها الأخ الشاعر والصحفي الأديب والبرلماني الوزير يوسف العظم، أحد قادة العمل الإسلامي في أرض الحشد والرباط يقول فيها:
وأخيراً، اعتامك الذي هو غاية كل حي.
ورحلت عن دنيانا، طيّب النفس، طيّب الذكر.
وكنت تتوقع مصيبة الموت منذ زمن.. قبل صدور ديوانك الحزين (قبل الرحيل) وقد وضعت له عنواناً آخر (بعد الرحيل) إذا حُمَّ القضاء، ونزل بساحتك ملك الموت، قبل أن يرى النور.
ترى هل يكون الرحيل بهذه البساطة؟؟؟
وهل يكون الوداع يسيراً على من عرفك منذ أكثر من نصف قرن؟؟
هل تذكر -أبا الجهاد- أول تعارفنا، عندما أنشأت –مع أخوين من إخواني- (رابطة الوعي الإسلامي) فبادرت – من عمان الخير-إلى قلمك وأوراقك، لتخط أول رسالة تهنئني بهذه الرابطة، وتطلب الانتساب إليها،وأنت شاعر الإخوان وخطيبهم ورجل التربية والإعلام فيهم؟
وهكذا كنت أول أربعة انتسبوا إلى الرابطة من أردن الرباط..
أما الأدباء والشعراء والكاتبون الآخرون، فهم: الشاعر المبدع: حيدر محمود، والأستاذ الكبير حسن التل – طيب الله ثراه والشاعر الدكتور سفيان التل...كان ذلك عام 1955.
وكان لقاء الأشباح –بعد لقاء الأرواح – في مخيم اللاذقية الذي أقامه الإخوان السوريون، ودعيت لتشاركنا وتحاضرنا وتنشد أشعارك، كنت المجلي بين شعراء الدعوة.
وعندما أنشأت جريدتك الأسبوعية المجاهدة (الكفاح الإسلامي) أرسلت تدعوني أنا وإخواني أعضاء الرابطة، لنكتب فيها، وقد نشرت لي كلمتين في بابك الأثير (شهد وعلقم) تركته ليحل قلمي الصاعد، -وأنا في المرحلة الثانوية– محل قلمك الراسخ، تواضعاً منك، وتشجيعاً للشباب من أبناء الدعوة.
وعندما غادرنا بلادنا الحبيبة، وهاجرنا منها، وجدنا في مهاجرنا (عمان الخير)، كل الدفء من أحبتنا في الأردن، وكان عريناك في جبل التاج، ملتقانا الأدفأ... نصراً، وإيواء، ومناصحة..
وكم حزّنا عندما علمنا بمرضك المفاجئ، وأنت تحاضر في بلاد (برّة) عام 1991.. حزّنا لأننا رأيناك تتوارى إلى الظل، تمهيداً لعودة السيف إلى غمده، وما كان ينبغي له ولك، وأنت المناضل في شتى الميادين.. تذود عن إسلامك، وعن جماعتك، وعن أرضك وشعبك، وأنت تصل الليل بالنهار، ولا تعرف شيئا عن استراحة المحارب.. وأنّى لك ذلك، والدعوات تطرق بابك، فتطير من بلد إلى بلد، ومن قارة إلى قارة، داعياً إلى الله ومبشراً بأن المستقبل لهذا الدين، ونذيراً للمتقاعسين، وتنديداً بالمتخاذلين وأصحاب المصالح الضيقة..
وهكذا كانت حياتك ليست لك وحدك، ولا لأهلك وحسب، بل كانت لهذه الدعوة، لهذا الإسلام العظيم، ولفلسطين، وللأقصى المبارك، حتى دُعيتَ بحق: (شاعر الأقصى).. فقد كانت -فلسطين- وكان –الأقصى- همَّك الكبير، إلى أن لقيتَ الله على ذلك، ونحن –على هذا- من الشاهدين..
تُرى.. هل – في وسعي ووسع هذه الافتتاحية- أن أكتب شيئاً ذا بال، عن الميادين التي صلتَ فيها وجُلْتَ- يا أبا جهاد؟- فهل تتسع لكلمات عن الصحفي البارع، والخطيب المفوّه، والمربي الفاضل، والسياسيّ المحنّك، والبرلماني الناجح، والوزير القدير، والمفكر الكبير، والشاعر المبدع، والمحاضر المبرِّز؟
هيهات.. هيهات.. إنْ هي إلا كلمات من ذوب عطائك، أنعى بها نفسي ونفوس التسعة والتسعين من الإبل المئة التي لا تكاد تجد فيها راحلة مثل أبي جهاد.. يوسف العظم؟
وداعاً، وسلاماً، وشآبيب رحمة.. أيّها الأخ الكبير.
* * *
الطنطاوي والشاعر يحيى الحاج يحيى*
ولمّا فرغ الشاعر يحيى حاج يحيى من نظم ديوانه (نفثات شاميّة) خفق له قلب أستاذنا الطنطاوي، وتلقاه بكل سعادة، وخطّ بيراعه الجميل مقدمة تفيض بالمشاعر القلبيّة، عدّد فيها القيم الفنيّة والشعوريّة التي يذخر بها الديوان، وفي مقدمتها: اقتفاء الأسلوب القرآني وبلاغته، وتوظيف التاريخ في خدمة موضوع القصيدة، واقتفاء الشاعر آثار كبار الشعراء، وابتعاده عن الغموض، وعنايته بالقصّة الشعريّة، والتمسّك بعناصرها الرئيسيّة.
وتحدث الطنطاوي الناقد عن ظاهرة الحزن والقلق التي تلوّن شعر الإسلاميين في أوطانهم، وعن ظاهرة الشوق والحنين إلى الأوطان في مهاجرهم البعيدة، وأثنى على صاحب الديوان الشاعر الفذ يحيى الحاج يحي، أحد شهود مجزرة جسر الشغور البشعة، التي راح ضحيتها 97 رجل وامرأة، أخرجتهم الوحدات الخاصّة الطائفيّة من بيوتهم، وقتلتهم بدم بارد، في العاشر من آذار عام 1980، والمتفائل بمجد الإسلام وانتصاره، رغم السجن والتعذيب والقهر والمعاناة التي ذاقها في سجون الطغاة.
وكتب يعدد مزايا صاحب الديوان ومآثره:
الأستاذ يحيى حاج يحيى شاعر مطبوع، وقاص ماهر، وروائي، وكاتب مقالة، يكتب للأطفال كما يكتب للكبار، فهو متعدد المواهب، ومواهبه كلها تمسّ هموم أمته، فهي شغله الشاغل، شغله إنسانها وقضاياه، في الأسرة، والحي، والبلدة، والمدرسة، والجامعة، والمدينة، والوطن الصغير، والوطن العربي، وصولاً إلى الأمة الإسلامية، وإلى الفرد المسلم حيث كان، في جسر الشغور وحلب، أو في عمان وبغداد، أو في المدينة المنورة ومكة المكرمة، أو في أفغانستان والشيشان.. وتهمه قضايا التحرر من الاستبداد والفساد، كما تهمه قضايا التحرر من الاحتلال الأجنبي، هذا هو مفتاح شخصية هذا الشاعر المتميز بروحه الجهادية، وقد خاض العديد من ميادين الجهاد بالقلم وبالبندقية، وإذا أردت أن تتحقق من صحة هذه الدعوى، فاسأل عنها من يعلمها ويؤكدها، من إخوانه، ومن كتاباته المترامية الأطراف، وهذا الديوان شاهد عدل من جملة الشهود على صحة هذا الزعم.. إنه مجاهد، بكل ما تعنيه هذه الكلمة الجليلة من المعاني القريبة والبعيدة..
وإن كنت في عجالة من أمرك، فاقرأ في هذا الديوان: " في ليل المناجاة ـ نعمة الإسلام ـ مع الحق ـ بكاء لست أسمعه (قالها عندما أحرقوا بيته، وشرّدوا أسرته الكريمة) ـ يوم التلاقي ـ شموخ (وقد دارت بها الألسنة في سورية الحبيبة وسواها) ـ أمان (في رثاء ابنته) ـ حنين (في نداء أمه التي غاب عنها) ـ لا عشت بعدك هانئاً (ردّ بها على زوجته التي شكت من كثرة غيابه عن أهله وأطفاله) ـ مهاجر (على خطاهم سار.. خطا المجاهدين الأبرار، والشهداء الميامين الأطهار) ـ أتيت إليك (إلى المدينة المنورة التي ألقى فيها عصا الترحال في غربته القسرية (إلى عمان، وبغداد، وسواهما من بلاد الله الواسعة) ـ مشاهد اغتراب (رآها وهو يعبر من قطر إلى قطر).
هذه تنبئك الكثير عن صاحب هذا الديوان، وإن أردت أن تستزيد، لتعرف المزيد، فاقرأ:
" يا غارس الآس (في رثاء أستاذه الحسناوي الشاعر المجاهد، فهو لا ينساه، ومن ينسى أبا محمود الحبيب. ولا ينسى إخوانه الذين قضوا شهداء وأمواتاً في وطنه، وفي أصقاع الأرض، تحت كل نجم، في بغداد، وعمان، ومكة والمدينة واستانبول، بل في كثير من البلاد التي هاجروا إليها:
قالت (هزار) أتبكي ؟ قلت إخواني |
قد خلفوني لأشجان وأحزان |
|
قد طال ليل الأسى، واغتال فرحتنا |
الجهالات من أحفاد شيطان |
واقرؤوا ـ إن شئتم ـ:
أطلقوا البلبل (أبا راتب) ـ تهفو إليك الشام (في رثاء الداعية محمد عوض) ـ لوحة حزن (إلى الأحبة الراحلين) ـ أيها الثاوي بأرض الرافدين (في رثاء الأخ الدكتور أحمد مصطفى بيطار) ـ أقول غابت (في رثاء أمه وكثير ممن فقد) ـ عدنان تبكيك الرجال (في رثاء الأخ الداعية عدنان سعد الدين الذي قضى شهيد الغربة والدعوة في عمان في 1 / 8 / 2010.
هذه القصائد وأخواتها في هذا الديوان، تعبير صادق عن العنوان (نفثات شآمية) ذي الدلالات على ما يعتمل في نفس الشاعر وعقله.. على آلامه، وأحزانه، على القهر والقلق على مصير الوطن أرضاً وشعباً وقيماً، بعد أن ضرب فيها التخلف أطنابه، حتى صارت في مؤخرة الشعوب العربية، بعد ما كانت في الطليعة.
وإذا كان العنوان ينبئ عن المضمونات، فالإهداء طريق لاحب للولوج في أعماق الشاعر، ومعرفة توجهاته، وما يكنّه القلب، وتضطرب به المشاعر..
أهدى ديوانه هذا:
" إلى الأحبة الذين سلكوا طريق حمزة بن عبدالمطلب، رضي الله عنه، جهراً بالحق، وأمراً بالمعروف، ونهياً عن المنكر، واستشهاداً في سبيل الله، فكانوا وديعتنا عند الله الذي لا تضيع ودائعه."
هذا هو شاعرنا المجيد، فهل عرفت من يكون ؟
موضوعاته:
من هموم أمته، من هموم الإنسان المسلم كانت انطلاقته.. قام بعملية فرز، وانحاز إلى الخير والخيرين، وتصدّى للشرّ والأشرار في الداخل وفي الخارج، فالشر هو الشر حيث كان، والأشرار أشرار، سواءٌ أكانوا من أبناء الشعب أم من الأغراب، من الصهاينة والمتصهينين.. أو كانوا في الداخل حكاماً مستبدين، يتعاملون بذلة وانحطاط مع (الخواجات) في الخارج، ومع الأعوان من السفلة في الداخل، أم كانوا من الشبان المائعين المتعلقين بكل غريب، من دون أن يميزوا بين الخير والشر.. المهم (الموضة) الوافدة، كالخنفسة والخنافس الذين نسوا مشكلات شعبهم، ولم يخجلوا من أن يكونوا (خنافس) وهم طلاب في الجامعات تنتظرهم أمتهم...
نظم (الخنفوس) عام 1970 وهو طالب في الجامعة، فتلقفها الطلاب والطالبات، وسار بها من سار، حتى غدت على ألسنة الكثيرين، وهم لا يعرفون صاحبها:
بكى الخنفوس لمّا جندوه |
وساقوه إلى ساح الجهاد |
|
فأعطِ الخنفسَ المخبول مشطاً |
ومرآة، فذاك من العتاد |
ويا بؤس أمةٍ فيها هؤلاء المنحرفون، وقصيدته (اللص) من جملة الخنافس، ونظمها عام 1969.
وتصدى، في عدد من قصائده وقصصه الشعرية لموضة (المينو جيب) في قصيدة بهذا العنوان، ولظاهرة النفاق والمنافقين في (منافق) وتصدى لمصّاصي دماء الفقراء من المرابين وسواهم..
وقدّم في قصيدته القصصية (صورة) قصة شاب انحرف عن الجادة، بعد أن ترك إخوانه وصحب السفهاء الذين أغرقوه بالخمرة وما يتبعها من ألوان العهر والفجور..
قصة شعرية متكاملة الأركان...
وما يلفت النظر قوله:
نحن لا نرجو عقابه |
إنما نرجو مآبه |
يا سلام.. هذا هو التفكير الدعوي السليم، فالداعية ليس جلاداً، بل هو ناصح أمين، ويرجو عودة الشاردين، لا عقابهم..
بل إنه يرجو الخير للناس جميعاً، مسلمين وغير مسلمين، فها هو ذا يرد التحية للشاعر المسيحي جاك صبري شماس الذي تفيض قصائده حباً للعروبة، وتمجيداً بالإسلام:
يا مرحباً بالشاعر النصراني |
وبكل حرّ صادق الوجدان |
|
ذكّرتنا بجميل صنعك (فارساً) |
لله ـ يا خوريُّ ـ في الفرسان |
إنه يتذكر رئيس وزراء سورية المقدام: فارس الخوري ـ رحمه الله تعالى ـ الذي عاش ومات على ولائه للعروبة والإسلام.
وفي (صرخة في المأساة) يرى أن أعداء هذه الأمة كثر، ونحن منها، نحن أعداء أنفسنا بتفرقنا وتمزقنا، حتى كدنا نذهب أدراج الرياح:
أنرجو عندهم عدلاً |
وقد جاروا وقد ظلموا |
|
فآه من تفرقنا |
حديثاً ليس ينكتمُ |
|
وآهٍ من تناحرنا |
به الآمال تنهدم |
إن موضوعات هذا الديوان البديع، تتوزع على القضايا الوطنية، والعربية، والإسلامية، والاجتماعية، والإنسانية، وخاصة ما يلقاه هو وإخوانه في الغربة.
ومن قصائده الوطنية أحيلك إلى (القضية والملف) و(مأسارية) وهي منحوتة من: مأساة وسخرية، وتحكي قصة مناضل من العالم الثالث عشر، يعيش في قطر مناضل بعيد عن كوكب الأرض.
ومنها: (دعاء من أجل الوطن والإنسان) و(أنا وجاري وسهر الليالي) و(إليه في غربته) و(لا للإرهاب) و(قالوا اعتذر)و(على أسوار الوطن السجين) أهداها إلى الحقوقي الكبير الأستاذ هيثم المالح في سجون الظالمين.
ومنها: (هذي الدماء من أطيب العطر) حكى فيها قصة تلك المرأة الدمشقية ابنة السبعين عاماً، التي قتلها الآثمون في تشرين الثاني سنة 1981 في أحد شوارع دمشق الأمويين، لأنها أصرّت على أن تموت دفاعاً عن حجابها... وسواها كثير..
وتناول في العديد من قصائد هذا الديوان، القضية الفلسطينية، وغزة المحاصرة المقاومة، وأبطال الشيشان، والأفغان، والأتراك، والبوسنة والهرسك وسيراييفو...
وما أروع هذا الكلام:
حيفا كمكة، والخليل كطيبة |
والكل كالبلد الحرام |
|
معك الكتاب وسنة الهادي الأمين |
فانهض بهمة صحبه |
وحذار من سوق المقايضة الذليلة
متفائل:
وشاعرنا متفائل بأن المستقبل لهذا الدين، مهما اشتدّ الظلام:
إسلامنا للنصر قائدنا |
وله، وليس لغيره، الغَلب |
|
فسيعلم الإجرام إن عصفت |
هممُ الرجال، ودمدم الغضب |
|
في أي هاوية نهايته |
وبأي منقلب سينقلب |
(الأسلوب القرآني صاحب أثير للشاعر لا يكاد يفارقه: (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب سينقلبون) ولهذا نراه يستنهض بني دينه:
بني ديني ألا هبّوا |
أماتَ القلبَ نومُكمو |
|
ففيكم ألف معتصم |
إذا شُدّت حبالكمو |
قيم فنية وشعورية:
نلاحظ الكثير من القيم الفنية في شعر الأستاذ يحيى، في هذا الديوان، لعل من أبرزها:
ـ عينه على القرآن الكريم وأساليبه البلاغية، وكلماته التي لا تغني عنها كلمات.
ـ توظيف التاريخ، فهو يستحضر (في قلعة جنكي) حادثة (ماء الرجيع) فالغدر بأسرى المسلمين في قلعة جنكي، كالغدر الذي تعرض له المسلمون عند ماء الرجيع.. غدر المشركين الجدد، كغدر المشركين القدامى..
ـ وقد نرى بعض المعاني والصور مأخوذة من بعض الشعراء المشهورين، وهذا عائد إلى الخزين الكبير الذي تحتويه ذاكرته الحية، وثقافته التراثية.. ولكن.. تبقى له خصوصيته فيما استفاد وصاغ.
ـ له احتفال بالصور التي تحمل المعاني على أجنحة لطيفة من خياله الذي لا يجمح به بعيداً عن الواقع المعيش.
ـ بُعده عن الغموض الذي أزرى بذويه من الحداثيين.
ـ له اهتمام بالقصّة الشعرية، بأركانها وعناصرها.
ـ ظاهرة الحزن واضحة في الديوان، كوضوحها على وجوه المغتربين منذ ثلاثة عقود.
وأنت تقرأ هذه النفثات، لابد أن تتجرع الغصص.. فحال الشعب السوري، وحال الشعوب العربية، وحال الأمة الإسلامية، لا تسر صديقاً، ولا تغيظ عدواً، وهذا ما يجعل الأحزان تلمّ بالشاعر، فيضطرب، ويفضي بما في نفسه وقلبه من مشاعر الحزن، والقلق، حتى تصير حالة تشمل الديوان كله، ليكون ـ بحق ـ نفثات شاعر شامي رأى ما رأى، وعانى ما عانى، في وطنه وفي مغتربه، ففاضت آلامه، وجأر بالشكوى من هذه الشعوب البئيسة التعيسة، ومن الذين ساطوها بسياط الذل والقهر، ودفعوها دفعاً إلى أودية التخلف والهلاك..
ـ ولكن الشاعر، برغم كل هذا الظلم والظلام، يبقى متفائلاً بانتصار هذا الدين، وانتصار معتنقيه عقيدة وسلوكاً، ولو بعد حين، فالأمل في جيل الصحوة كبير، ولابد أن يبقى كبيراً، من أجل أن يعلو هذا الدين، ويستعلي أحباؤه على هذا الحطام الذي يختصم الناس حوله.
للشاعر بصيرة نافذة، وعيون بصيرة، وآذان سميعة، وعقل حصيف، يعي ما يدور حوله في وطنه الأصيل، وفي الوطن العربي، وفي العالم الإسلامي، إنه يقرأ الحوادث بوعي، ويدلي بدلوه لاستنقاذ كل (يوسف) ألقاه الظالمون في (الجبّ) بوعي وتآمر، أو بجبن ومصالح.. إنه يجوب بلبه الآفاق، ويستقري التاريخ، فقد يعيد التاريخ نفسه مرة أو مرات، ولا ينبغي للمثقف الملتزم إلا أن يكون ذا رأي ثاقب، وإحساس شفيف، وما يكون هذان إلا بتلك..
إنه برغم اغترابه القسري ينهض بواجبه، جهد المقل، وكلنا مقل في غربتنا القاسية التي سيحاسب التاريخ مجترحيها، وما عند الله ـ الذي نسوه وجحدوا يوم الدين ـ أشدّ وأنكى، لو كانوا يعقلون، أو كانوا مؤمنين.
وختاماً:
أدعو الدارسين إلى الكتابة عن غربة الشاعر وإخوانه، وعن المأساة والكوارث التي نزلت بوطنه، فألجأته وكثيراً من إخوانه إلى الهجرة، ففيها أنفاس وطنية، وإنسانية نادرة.. ليس في هذا الديوان الذي نظم قصائده ما بين 1969 و 2010 فحسب، بل في سائر ما كتب الشاعر.
صدر هذا الديوان عن دار الضياء في عمان ـ الأردن، في 216 صفحة من القطع الكبير.
وصلى الله على سيدنا الرسول القائد محمد، وعلى آله الطاهرين، وصحبه الغرّ الميامين، وزوجاته الطاهرات العفيفات أمهات المؤمنين، وعلى الدعاة العاملين إلى يوم الدين.
* * *
ولمّا نشر الأديب الشاعر يحي الحاج يحيى مجموعته القصصيّة (البرتقال يزهر على ضفاف العاصي) كانت سعادة الأستاذ عبد الله الطنطاوي لا توصف، فكتب يقول: كاتب هذه المجموعة القصصيّة، شاعر مطبوع، وقاص متفنن، وكاتب مقال متميز، أمدّ المكتبة العربية بالعديد من الكتب، في الأجناس الأدبية كلها، وهو كاتب جاد، وأديب ملتزم، وينتمي إلى المشروع الإسلامي الهادف إلى إقامة دولة العدل والحق والحرية، لاستئناف الحياة الإسلامية من جديد، لتأخذ أمة الإسلام مكانها الريادي في ميادين الحضارة الإنسانية الشاملة.
ولهذا كانت الموضوعات التي تناولها، في كل ما كتب، ليست كذلك الغثاء الذي يسوّد صفحات الكتب والمجلات والإنترنت.. غثاء الجنس والفحش والفجور، يكتبه كتاب وكاتبات لا يخافون الله، ولا يستحيون من الناس، ولا يشعرون بما يجري حولهم من مآسٍ تشمل أوطانهم وشعوبهم وأرضهم، وأعراضهم.. لا يفكرون إلا بما بين الأفخاذ، فتنضح أقلامهم قذارات تشمئز منها النفوس السوية..
يا ويحهم.. كأنهم لم يسمعوا بما يجري في فلسطين ولأحبتنا الفلسطينيين فيها.. لم يسمعوا بالفسفور الذي أحرق أهلنا في غزة، لم يسمعوا بالصواريخ وأطنان القنابل التي سوّت البيوت بالأرض..
لم يسمعوا بما جرى ويجري في أفغانستان، ولا بما جرى ويجري في العراق الحبيب الذبيح..
لم يسمعوا بما يجري لشعوب هذه الأمة على أيدي حاكميها، جلاديها..
همهم الجنس، وليس شيئاً آخر سوى الجنس..
وبعض (القراء) يقبلون على شراء تلك الروايات والقصص الهابطة بأثمان باهظة، ويدفعون من حرّ أوقاتهم ما يقرؤون ويستمتعون، وتخدرهم كما المخدرات وزيادة.. فهي تنشر العهر، وتروّج للخيانات الزوجية، وللشذوذ من الجنسين، وما إلى ذلك من بذاءات وإسفاف وسقوط أخلاقي، يخدمون به أعداء الله، وأبالسة الأرض، من صهاينة ومتصهينين بأردية فيها زخرف وبهرج فيما يبدو للناس، وباطنها يعمل على قتل الروح المعنوية لدى الشباب، ويصرفهم عن العمل الجاد للنهوض بأمتهم التي تكاثر عليها الأعداء من الداخل والخارج..
موضوعات أديبنا (يحيى) تتسامى بقرائها، وتغرس فيهم الفضائل ومكارم الأخلاق، وتستنهض هممهم ليكونوا أبناء هذه الأمة بحق، يجاهدون لتخليصها من الانحراف العقدي، والانحراف الفكري، والانحراف السلوكي، ومن الاستبداد الداخلي، ومن الاحتلال الخارجي، ومن كل ألوان العدوان التي تنصبّ عليها صبّا، ومن كل أشكال التخلف في شتى المجالات والميادين..
اقرأ هذه المجموعة بقصصها الستَّ عشرة، ودقق في موضوعاتها جيداً، وحاول أن تجد فيها ما نعيب أطنان الروايات والقصص، فإنك لن تجد إلا الجدّ، والفكر، والدعوة إلى الأخلاق الفاضلة، إلى أن يكون أبناء الأمة روائد النهوض، يتحدون الصعاب، من أجل هذه الأمة، وقيمها الروحية والإنسانية الرفيعة..
تقرأ كل هذا وأكثر منه، مكتوباً بقلم كاتب متمرس بمعالجة موضوعاته بأسلوب فني جميل، عرف صاحبه كيف يتغلغل إلى نفس قارئه باقتدار عذب، عبر لغته الفصيحة، وعباراته وحواراته التي تقصر حيناً، وتطول حيناً آخر، حسب الحاجة، شأن من امتلك ناصية اللغة، بنحوها، وصرفها، وبيانها، وشأن من امتلك عناصر الفن القصصي ومقوماته، وليس بدعاً أن يكون القاص يحيى هكذا، وهو الذي كتب وكتب في هذا الفن الجميل، للصغار وللكبار، فكان المبدع الذي يلامس شغاف القلب، ثم يستقر فيه، بما أوتي من إخلاص وصدق، استقاهما من إيمانه بهذه الأمة، ووجوب العمل من أجل أن تستأنف حياتها وحضارتها من جديد...
يحيى الحاج يحيى كاتب، شاعر، وداعية إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، بهذه الريشة الصناع، بالكلمة الشاعرة، بالعبارة المجنّحة، وبواقعية بيضاء بيضاء بيضاء، برغم كل الظلم والظلام والظالمين، برغم كل الظلمات التي يتراكب بعضها فوق بعض..
إنه البشر وأبو البشر، الوفي لدينه ودعوته وأمته، لأنه يعي جيداً، أنه يحيا في عالم يزخر بالخير والشر، ولهذا توزعت موضوعاته في هذه المجموعة إلى عدة محاور، اجتماعية، وسياسية، ووطنية، وعربية، وتربوية، وجهادية، وكلها تلتقي حول الخير، والذياد عنه، وتحاصر الشر وتفضحه..
وكثير من هذه القصص تتحدث عن وطنه الجريح: سورية الحبيبة التي احتلها الأغراب في غفلة من الشعب، وبفضل مؤامرة داخلية خارجية، وأضع مئة خط تحت كلمة مؤامرة، لأفقأ الأعين العمي التي لا تبصر الحريق حتى لو مسّها، وتطاول لهبه.. مؤامرة على الشعب والأرض والتاريخ والقيم معاً، نفّذها الأغراب بلؤم، فارتكبوا المجازر المريعة بحق الشعب، وفرّطوا بأرضه..
ونستطيع ملاحظة الخيط الذي يشدّ القصص التي تؤرخ للحوادث الرهيبة، لتتشكل منها رواية، كما فعل الأستاذ الحسناوي في مجموعته القصصية (بلد النوابغ)..
تحدث عن الاعتقالات والسجون الرهيبة، وما فيها من تنكيل وتعذيب للأحرار، وقتل لصفوة من قادة الشعب وأطبائه، وضباطه، ومهندسيه، ومن رجال التربية والتعليم من أساتذة الجامعات، والثانويات، ومن رجال القانون، من محامين، وقضاة، ومن علماء وأدباء وشعراء وكتاب ووجهاء..
هذا وأضعافه من الاهتمامات، تطالعه في العديد من القصص، في: (امرأة من الريف ـ لكم دفاتركم ـ لقيمات الخبز ـ الحوار يبدأ من تحت السرير ـ شدّ الحزام في أوقات الزحام ـ رسالتان ـ حزب البحر ـ أعرابي في برلمان ـ المعلمة الأولى ـ هدية محمود ـ براءة الطفولة ـ على الحدود) وغيرها، مما يمكن إجراء بعض التعديلات عليها، وتجسير ما بينها، لتتشكل منها رواية فنية تقدم صوراً من بؤس الوطن السوري المهيض الجناح..
موضوعاته كلها هادفة.. تلك التي تتحدث عن سورية والكوارث التي حلت بها، وتلك التي تتحدث عن فلسطين: (البرتقال يزهر على ضفاف العاصي) والتي تتحدث عن العقيدة في إسلام الروسي: (بر السلامة).. والتي تتحدث عن الجوانب الاجتماعية: (ثوب العيد ـ المرابي ـ لابد أن تعتذر يا مسيو) والتي اقتبسها من الحديث النبوي الشريف: (خطأ المرة الثالثة) والتي تتحدث عن الحدود التي مزّق سايكس وبيكو الملعونان ـ الدول العربية، بحيث صار العربي السوري إذا انتقل إلى بلد عربي آخر، دُعي أجنبياً: (على الحدود).
هكذا يكون المثقف، ليكون ابن أمته، أما أصحاب ذلك الغثاء، فأولاد الهوى المردي، والشهوات المنحطة، يعبرون هذه الحياة على متن الغرائز المنفلتة، يخرجون منها كما دخلوا إليها.. ألا ساء ما فعلوا ويفعلون.
صدرت هذه المجموعة عن دار الضياء في عمان ـ الأردن. في 106 صفحة من القطع الوسط.
1 ـ مجلة رابطة أدباء الشام 4/6/2011 البرتقال يزهر على ضفاف العاصي، عبد الله الطنطاوي.
2 ـ مجلّة رابطة أدباء الشام 11/11/2011 نفثات شآميّة، عبد الله الطنطاوي.
* * *
قراءة في
مؤلّفات عبد الله الطنطاوي
الأديب ومسؤوليته نحو أمته
من خلال إصدارات عبد الله الطنطاوي
محمد حسن بريغش رحمه الله
لا تحتاج إلى طويلِ وَقْتٍ حتى تدركَ أنَّهُ أديب، عندما تستمع حديثه أو تقرأ شيئاً من كتابته. والأدب معه شيء من فطرته، فهو متغلغلٌ في أعماقه، كما هو واضحٌ في إهابه لا يكادُ يفارقه في سَفرٍ أو حضَر، وفي حديث عابر، أو أثر مكتوب، وهو المرْكَبُ المريحُ الذي تستقرُّ به نفسه، وتهدأُ له خواطره التي لا تجدُ سبيلاً لكي تصبح واقعاً جميلاً إلا حينما تتحول إلى صورة من صوره المختلفة في حياته.
إذا قرأت له أي لون من ألوان الكتابة ترى الأسلوب الأدبي الجميل بكل ما تعني كلمة الأدب، وتشعر أنه الأسلوب الذي يصدر عن طبع وأصالة، ويتسم بالعفوية والجمال والسلاسة، ولا يعجز أبداً أن يقرّب إليك المعنى البعيد، أو يغوص وراء الفكرة الشاردة، أو يصل بينك وبين نجمة تحاكيك في المعاناة، وتبعث لك بشعاعها الآسر، فهو يحمل ما يريد وأكثر مما يريد.
لقد جَذَبَتْهُ السياسة حيناً، والدعوة أحياناً، ولكنه لم يستطع سوى الاستجابة إلى دواعي فطرته القوية، فيعود طائعاً راضياً إلى دنيا الأدب ليعيش من خلاله الحياة الفاعلة، وليحمل من خلال دروبه وقنواته، هموم الداعية، وعناء الباحث، وشفافية الناقد بالكلمة الطيبة، والصورة الجميلة، والأسلوب الذي يتحدث للقلوب والعقول معاً.
* * *
ولعبدالله الطنطاوي آفاق أدبية واسعة، ومساهمات متعددة ومتنوعة، حيث كَتَبَ القصة والمسرحية والبحث والنقد، والتراجم، والمقالة وغيرها، وكانت مطامحه دوماً، تتجهُ إلى الأجيال المسلمة التي باتت وسط أمواج عاتية من الأفكار والمواقف، والفلسفات، والمغريات والأخطار، تتلقى الزلازل المدمرة من جميع الجهات، وتعاني مرارة الواقع في شتى الصور، وتعيشُ حالة من البُؤسِ والإحباط لا مثيلَ لها، هذه الأجيالُ تنتظر من يعطيها شيئاً من الأمل، أو يمدّها ببعض الصبر والصمود والتفاؤل، أو يضيء لها في هذه الظلمات سبيل النجاة، ويفضح أمامها صورَ المكر والشرِّ والخديعة، حتى تعود إلى عزتها وكرامتها الضائعة.
ولم تكن هذه المطامح رهينة لظرف أو قطر أو فكرة، وإنما تبدت شاملة، تجوبُ القرون، وتجتازُ الحدود الأرضية، وتتحدثُ بلسان القرآن لكلِّ الذين يقرؤون القرآن، وهذا ما رأيناهُ مُتَرجماً في مشروعاته الطموحة التي يتوجه بها إلى الأجيال المسلمة: إلى الفتيان ذكوراً وإناثاً ليُنير لهم الدروب حيث ادْلَهَمَّ الخَطْب، فبدأ بمشروع كبير أسماهُ "مِنْ نُجُومِ الإسلام" ضمن سلسلة يطمح أن تصلَ إلى مئة ترجمة من هذه النجوم التي "تتحدث عن تلاميذ مدرسة الرسول القائد محمد صلى الله عليه وسلم، هذه المدرسة التي تخرَّجَ فيها آلافُ العُظماء منذ تأسيسها يوم انْبَثَقَ فجرُ البعثةِ النبويةِ، حتى يوم الناسِ هذا... والجامعُ المشتركُ لهؤلاء النجوم الذين اخترناهُم من بين آلاف النجوم، هو الجهادُ بمعناه الواسع، لأننا نحيا أو نعيش ظرفاً دقيقاً فيه من ألوان الإحباط ما يُقعدُ بالهمم، ويُوهِنُ العزائمَ إلى درجة التيئيس، والعياذ بالله تعالى.
لهذا أردنا.. أن نحيي ما توارى فينا من مروءات ونخوات وأريحيات، تشدّ الشباب إلى ماضي أمته ليرفدَ حاضرهُ، من أجل مستقبل مُشرق خال من الأمراض التي انتهت بنا إلى ما نحنُ فيه من بُؤس وتعاسةٍ وضنك، نُريدُ أن نُزَوِّدَ الأجيال بزاد الرجولة، ونعيد بناءها العقلي والنفسي بما حفل به الزادُ من قيمِ العروبة والإسلام...".
* * *
ابتدأ الكاتبُ الأديب سلسلته بالحديث عن عدد من الصحابة رضوان الله عليهم متعمداً في اختياره ألا يتحدث عن المشهورين كالخلفاء الراشدين الأربعة، حتى لا يظنّ الناس أنه ليس هناك غيرهم، ممن يستحق الذكر، فأخذ عدداً آخر، ليدلل أن كل رجل من الصحابة كلهم يستحق أن يكون نجماً، وأن يكون موضع الإعجاب... لذلك ابتدأ بالصحابي "محمد بن مسلمة" ثم "عبد الله بن رواحة" ثم "سعد بن أبي وقاص"، ثم "حمزة بن عبد المطلب"، ثم "مصعب بن عمير"، ثم "جعفر بن أبي طالب".
واستمرت السلسلة تعرض نماذجَ من هؤلاء النجوم، من مختلف العصور، وشتَّى الطبائع، وفي العديد من المواقع والبلدان لتتحقق بذلك الصورة التي يطمح لها الكاتب من رسم الدرب الطويل الذي بدأه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولن ينتهي إلا بانتهاء الحياة على الأرض، إذ ستظل هذه الدعوة إن شاء الله تنيرُ للعالمين سُبُلَ الخير، وتدلهم على معالم الحق، وتحفظ لهم قيمَ الإنسانية المكرمة، وبهذه التراجم يرى الشاب الصورة الواقعية لأجداده، في شتى أحوالهم: في الجهاد والقتال، والدعوة والإرشاد، والعلم والابتكار، وفي كل شأن ولون.
ومن هذه الجهود المباركة لتحقيق بعض مطامحه، ما نشره تحت اسم "سلسلة أطفال الحجارة" هذه السلسلة التي عكست صورة الفتى الفلسطيني والفتاة الفلسطينية المؤمنين بالحق، والمساهمين في حماية المقدسات ولا سيما في القدس، أولى القبلتين، ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولعل الكاتب أراد أن يرسم صورة البطولات التي صنعت الانتفاضة في فلسطين ضد قوة عاتية ظالمة، وضد الطغيان الإسرائيلي المدعوم بالقوة العالمية الباغية، المتمثلة بأمريكا وحلفائها، وكانت صورة الفتى الفلسطيني هي الرمز للبطولة، هذا الفتى الذي يقف أمام الرشاش والمدفع والدبابة بلا خوف، ويقاوم الاحتلال بثباته وشجاعته وصموده، ويقذف بالحجارة التي أصبح لها وقع القنابل المحرقة في قلوب الأعداء من اليهود وغيرهم، ليُزيلَ هذا الاحتلال المجرم.
والكاتب الذي لم يرَ بعينه هذه البطولات، إلا من خلال شاشات الرائي، وروايات الإعلام والناس، أراد أن يكتب حقاً عن هذه المشاهد في الواقع والنتيجة، فعمد إلى الحكايات الواقعية التي نقلها الفلسطينيون فصاغها بأسلوبه البارع، فكان الحدث، وإشراقاته وإيحاءاته، رافداً له وأساساً لموضوعه، ليستطيع إبرازه بالصورة التي برزت من خلال هذه السلسلة.
وضمَّت السلسلة عشرة كتب هي "منصور لم يَمُتْ"، و"محمود عز العرب"، و"القدس لا تؤمن بالدموع"، و"السيّاج"، و"الأصدقاء الثلاثة"، و"ذبيح القدس"، و"رحلة إلى جبل النار"، و"أبطال من جَباليا"، و"البركان الإسلامي".
وكل هذه الصور الواقعية استوحاها مما قصَّهُ عليه أبناءُ فلسطين وغيرهم، ممن سجَّلَ أسماءهم على هذه الكتُب وهم: "محمد جمال عمرو، ومحمود الرجبي، ونزيهة محمود، وباسل الخطيب، وسمير محمود، وسليم عبد القادر، وحسين حمدان العودات، ورانية جعفر عبد الفتاح، ورائدة أبو الرب".
لقد كانت هذه القصص، تصوّر حكايات البطولة لأبناء المدارس الصغّار، أبناء فلسطين، وتصور بطولاتهم وأحلامهم، تصور حياتهم وآمالهم، وتصور الطريق الوحيد للأجيال التي تقاوم العدو وتجعله عاجزاً أمام هؤلاء الأبطال بحجارتهم وتصميمهم، وشجاعتهم وإيمانهم.
كما أنها تضع هذه الصُّوَر أمام شباب الأمة وفتيانها "ذكوراً وإناثاً" ليروا كيف يصنع الإنسان مستقبله، وكيف ينالُ حريته الحقيقية، وكيف يتخلص من أعدائه، والظلم الذي ينزل به، وكيف يحقق كرامته، ويعيد أمجاد أمته، وهي تبيّن لهؤلاء الشباب أيضاً في طول البلاد الإسلامية والعربية وعرضها أنَّ عدوهم المتمثِّل في إسرائيل، لن يرضى بفلسطين وحدها، وإنما يهدف إلى احتلال الكثير من بلدانهم، وتدمير كيانهم، والسطو على ثرواتهم، واستباحة أرضهم وعرضهم، وأن موقف المتفرج، لن يمنعَ عدوهم من تنفيذ مخططاته الواسعة، التي يرونها متمثلة في قتل الأطفال والشيوخ، وهدم البيوت، والقضاء على كل مظاهر الحياة، وأن الخوف من هذا العدو، سيدفعه إلى استمرار الطغيان، وتوسيع العدوان، وابتلاع الحقوق والأرض.
إن أبناء فلسطين سطَّروا لأبناء المسلمين في هذا العصر أروعَ البطولات، ورسموا لهم طريق النصر، وأقاموا جسراً من الفداء والجهاد يربط الحاضر الذي نشهده في فلسطين، بالماضي الذي قرأنا عنه في حطين واليرموك والقادسية وبدر.
ومثل هذه الكتب الموجّهة إلى الشباب والفتيان، إسهامات جيدة في تحريك المشاعر، وحثّ الهمم، وإيقاد الأحاسيس لرفد الجهاد بكل السُّبُل، والعودة إلى طريق الإسلام، لاسترداد الحق، والعزة والنصر، وهي مثلٌ لإحساس الأديب بمسؤوليته وواجبه نحو أمته ودينه ومستقبله، وترجمة لما ينبغي أن يكون عليه الأدب، ليكون تجربة صادقة، وصورة حية، بعيدة عن الأحلام الشيطانية، أو الصُّورِ المعربدة، أو الفلسفات التائهة. وهذا ما ينبغي أن يكون عليه أدبنا في هذا العصر، وأن يكون عليه أدباؤنا، ليكونوا حقاً أبناءَ هذه الأمة، وروَّادَ المستقبل، وحَمَلَةَ الأقلام المُخلصة، والكلمة المعبِّرة.
ولَكَمْ يتمنى المرءُ أن يكون هناك مؤسسات ثقافية خيرية تعنى بنشر مثل هذه الروايات وترجمتها إلى العديد من لغات البلدان الإسلامية وغيرها، ونشر الأعمال الأدبية والفكرية التي تؤثّر في صياغة أبناء المستقبل، وإيقاظ الأجيال المختلفة، ولا أظنّ أن شاباً أو فتى أو فتاة يقرأُ هذه الروايات إلا ويتمثَّل الصورة الحقيقية، وتتوقّدُ في نفسه مشاعر الفداء والتضحية، والبحث عن سبيل النصر القادم إن شاء الله.
فجزى الله أخانا الأديب عبد الله على هذه الروايات والطموحات وبارك بعطائه الأصيل، الذي يدلُّ على شعور صادق بالمسؤولية، ووفَّقَهُ لكلِّ خير.
رابطة أدباء الشام 28/9/2012 بقلم: محمد حسن بريغش
* * *
قراءة في رواية القسّام
للروائي عبد الله الطنطاوي
عرض: محمد علي شاهين
مؤلّف هذه الرواية أديب ناثر، واسع الثقافة، متوقد الجنان، أدرك في مطلع شبابه جيل الرافعي والعقاد والزيات، وشهد معركة السفور والحجاب، وقضيّة الشعر الجاهلي، والدعوة إلى العاميّة، والإسلام وأصول الحكم، وقرأ ردود مصطفى كامل على قاسم أمين، في صحيفة اللواء، وأحمد أمين على طه حسين في مجلّة الثقافة، ومحمد الخضر حسين ويوسف الدجوي على علي عبد الرازق، في الصحف المصريّة التي كانت تصل إلى الديار الحلبيّة من دون رقابة، وعرفته منابر الشهباء في الأمسيات الأدبيّة خطيباً مفوّهاً، وقرأ له المثقّفون السوريّون مقالات لا تحصى في الأدب والنقد الاجتماعي، وعرفه عشّاق الكتاب في العالم العربي بمؤلّفاته القيّمة في ميدان القصّة والرواية والمقالة السياسيّة، والتراجم، واستطاع بأسلوبه الرصين، وفكره النظيف، أن يلقى المحبّة والتقدير.
ولا يعرف قدر هذا الرجل إلاّ من أدرك دوره في تجديد الخطاب الإسلامي وتطوير أساليبه، وعاش محنته الطويلة بسبب أفكاره الحرّة وجرأته ونقده للظلم وانتهاك حقوق االمستضعفين.
وهو في هذه الرواية معجب بالبطولة والفروسيّة، عاشق للنضال وحب التضحية والاستشهاد في سبيل الله، والدفاع عن المقدّسات.
ولأن بلاد المسلمين واحدة وقضيّتها واحدة رغم تآمر الأعداء، والدفاع عنها واجب شرعي دونه المهج والأرواح، فقد اختار الطنطاوي بطل روايته من الساحل السوري وجعل ميدان بطولته يمتد في بلاد الشام من جبال طوروس إلى العقبة.
أراد المؤلّف أن يحيي هذه الشخصيّة إحياءً جديداً لتعيش معنا روحاً جديدة تنبض بالحياة، مذ كان القسّام في عالم الذرّ يردّد أوراد الطريقة القادريّة في ظهر أبيه الشيخ عبد القادر، وبعد أن أصبح رضيعاً بين يدي أمّه حليمة، وطفلاً يحبو نحوّ الكتّاب ليتعلّم مبادئ اللغة والدين، وشاباً يبحر في قارب صيد نحو ثغر الإسكندريّة محطته الأولى نحو الجامع الأزهر.
وفي القاهرة يجد الاحتلال متمثّلاً بالمباذل التي أتى بها، وانحراف مقلديه، ويشاهد تمادي جنوده وتعاليهم، فتمتلئ نفسه نقمة عليهم، ويتذكًر دور الفتى سليمان الحلبي في رحيل الفرنسيين، فيجعله قدوته في الجرأة والتضحية، ويلتقي هناك بتلاميذ الأفغاني فتمتلئ نفسه بتلك الشحنة التي منحها جمال الدين لمريديه، وتمضي الأيام مسرعة ويعود القسّام إلى جبلة بعد ثماني سنوات بجبّة وعمامة أزهريّة وعلم شرعي ووعي سياسي قلّ نظيره.
لم تمض فترة طويلة على وصوله إلى جبلة البلدة الغافية على صدر الساحل السوري، حتى جذبته الآستانة عاصمة دولة الخلافة، بأضوائها وضجيجها، وقعقعة سلاحها، فقرّر السفر، لكنّ ما شاهده في المدن والأرياف التي مرّ بها من فساد في العقيدة وجهل في الدين واللغة جعله يعود إلى بلده مسرعاً ليقوم بدور المعلّم الداعية.
وفي جبلة أخذ على نفسه تعليم الصغار في النهار والكبار في الليل، وامتد نشاطه إلى بلدات الساحل ومدنه، فكان إذا خطب في مساجدها يلهب المشاعر، ويشحن العواطف، ويدعو للجهاد ضد الفرنسيين الذين احتلّوا الساحل السوري.
وعندما ادلهمّ الخطب قام فباع بيته ليشتري بثمنه سلاحاً للمجاهدين، وبعث بزوجته إلى أهلها لتكون في مأمن، ونظّم المتطوّعين ونصب الكمائن، وقام بعمليّات جريئة دوّخت الجيش الفرنسي، وكان يتنقّل في المدن السوريّة متنكّراً بزي شيخ صوفي، لكنّه اضطرّ بسبب الخيانة والحصار، والحكم عليه بالاعدام إلى مغادرة الساحل مع عدد من إخوانه إلى فلسطين لمواصلة الدفاع عن حصن آخر من حصون الإسلام لم يسقط بعد.
وصل إلى حيفا، واستقرّ في بيت بسيط، وهناك التقى بالشيخ الدمشقي كامل القصّاب، وتدارس معه الأطماع الصهيونيّة، وتبايعا على الجهاد.
وما لبثت أسرته حتى التحقت به قادمة من جبلة، وكذلك بقيّة أسر إخوانه، وسرعان ما قام يدعو للجهاد، ويوسّع شبكة علاقاته مع مجاهدي حيفا ومناضليها، ويتخذ من جامع الاستقلال مركز نشاطه التنظيمي السرّي والتعليمي العلني، وأخذ يتخيّر لتنظيمه العناصر القادرة على تحمّل أعباء المرحلة القادمة، ويلقنها حب الاستشهاد ودروس الكتمان، ويقسمها إلى مجموعات مستقلّة، وأوكل مهمة التدريب العسكري واستخدام السلاح إلى الضابط التركي (جلادت).
وكان القسّام ينأى بعناصره عن العبث واللهو، ويدعوهم ليعمروا قلوبهم بالقرآن، وينصحهم بعدم الالتفات لما يجري في الساحة العربيّة بين القادة والأمراء من تنافس وتناحر.
كانت المؤامرة ضد عروبة فلسطين مستمرّة، وهجرة قطعان المستوطنين متواصلة، والإنجليز يقطعون اليهود الأراضي الخصبة، ويمدونهم بالمال والسلاح، ويمنحونهم المناصب الرفيعة في الدولة، ويتستّرون على جرائمهم، ويمنوهم بوطن قومي يمتد من النيل إلى الفرات.
وأمام المحقّق يقف الشيخ عز الدين شامخاً كالطود، لم ينكر ماقاله في خطبة الجمعة، ودرس العصر، وقال بجرأة: يبدو أنّكم لا تعرفون شيئاً عن تاريخ الإسلام، ومواقف علماء المسلمين، نحن ليس لدينا علماء دين بالمعنى الذي عندكم، وعالم الدين عندنا يعلّم الناس أمور دينهم ودنياهم، ويقاتل المستعمرين والأعداء معهم.
قال المحقّق: أنت لاتعلّمهم إلاّ كره الإنجليز واليهود، علّمهم كيف يتطهّرون ويتنظّفون.
الشيخ: أين أنتم من نظافة الإسلام والمسلمين ؟
هناك أولويات أسير بموجبها، وقد رأيت أنّ للجهاد أولويّة على سائر الشؤون الأخرى.
ويحتدم الجدال بين الشيخ عز الدين والمحقّق، فيقول المحقّق وقد انتفخت أوداجه: يجب أن تسجن، يجب أن تموت.
فمسك الشيخ بتلابيبه وهو يقول: الويل لكم أيّها الجبناء.
المحقّق يستنجد بحارسيه المسلّحين: خذا هذا الشيخ المجرم إلى السجن.
وتسامع أهل حيفا باعتقال الشيخ، فتنادوا للتظاهر، ولم تمض ساعات قليلة على اعتقاله حتى أضربت حيفا برمّتها، فأغلقت الأسواق، وخرج الطلاب من مدارسهم، والموظّفون من دوائرهم، وسار الجميع في تظاهرة صاخبة، كادت تنقلب إلى ثورة عارمة، لولا الدهاء الإنجليزي الذي أمر بالإفراج عن الشيخ، وتهدئة خواطر المتظاهرين.
وتتحدّث الرواية عن نشاط (الشبّان المسلمين) وعهدهم للشيخ بالكفاح، وعن دوره وقد تبوّأ وظيفة المأزون الشرعي في المدينة، وكيف اتجه في النهاية إلى التحريض السافر، والدعوة للمواجهة، والدفاع عن المقدّسات غير عابئ بجواسيس الإنجليز.
وينقل لنا الطنطاوي هذا الحوار الرائع:
حاكم حيفا: يا شيخ إنّك مشبوه وذو نشاط مناوئ لنا ونحن نرصد حركاتك ونحذّرك.
الشيخ عز الدين وهو يلوّح بمصحف أخرجه من جيبه: اسمع أيّها الحاكم، إنّ هذا الكتاب العظيم يأمرنا بالجهاد ونحن لا نخالفه.
الحاكم: هذا إنذار أخير لك أيّها الشيخ.
وخرج الشيخ في شموخ المسلم وعزّته ليواصل مسيرة نضال أمته.
ويتحدّث الطنطاوي عن باخرة رست في ميناء يافا تحمل الأسلحة والقنابل لليهود، فيشعر أهل فلسطين بالخطر القادم وبتواطؤ الإنجليز مع اليهود، ويسارع الشيخ إلى إعلان الثورة والجهاد المقدّس، ليقطع الطريق على المشروع الصهيوني، قبل أن يهاجمهم اليهود في عقر دارهم.
واختار الشيخ عز الدين منطقة جنين منطقة لحشد المجاهدين، ووضع خطّة تقضي بالسيطرة على حيفا، وخطب آخر خطبة له في جامع الاستقلال، دعا فيها إلى الجهاد وأعلن استقالته من جميع وظائفه، ودعا إخوانه ليستودعوا الله أهليهم، ويحملوا مصاحفهم.
وقال على منبر المسجد في صوت كالرعد: قد قرّرنا إعلان الجهاد المقدّس.. فلم يعد في قوس الصبر منزع.. وسوف أتوجّه مع إخواني المجاهدين إلى الجبال.. فمن شاء أن يكتبه الله في المجاهدين.. فليحمل سلاحه.. وليعلن غضبه.. وليلحق بكتائب المجاهدين.. هنا وهناك وهنالك.. فكل المدن والقرى الفلسطينيّة ساحات للقتال..
وقبل أن يرفع كفيه للدعاء، سكت هنيهة ثم قال: أنا خارج من هنا، ولن أعود إلى هذا المسجد إلا منتصراً أو شهيداً ليصلّى علي.
وقرّرت السلطات البريطانيّة تصفية القسّام وعصابته، فأخذت تشيع أنّ الشيخ الشامي وإخوانه السوريين هاربون من حكم العدالة والقانون في سوريّة بعد قيامهم بسرقات وأعمال قتل ونهب.
وجاءت الطائرات البريطانيّة فقصفت أحراش (يعبد)، وأحاطت السيّارات العسكريّة بالمجاهدين من كل جانب، وطوّقتهم خيول الأعداء، وتقدّم الخونة العرب وكانوا في المقدّمة، فأصلوهم بوابل من النار، فلم يستسلم الشيخ وإخوانه، وأخذ يقاتل قتال الشجعان، حتى سقط صريعاً على تراب (يعبد) مضرّجاً بدم الشرف والبطولة.
رواية إسلاميّة وطنيّة ناصعة الأسلوب جريئة الطرح، جاءت وقد أثمرت حركة القسّام ثمارها الطيّبة، لتملأ حيّزاً في الفراغ الذي أهمله الإسلاميّون في عصر الصحوة في ميدان الأدب الإسلامي.
* * *
رواية عينان مطفأتان وقلب بصير
للروائي عبد الله الطنطاوي
1 ـ الإصدار الأدبي والفني "إسهام" المحددات والأهداف:
إذا تأكّد أن خير ما يتقوّم به الشيء هو هويته ووظيفته، فإن الأدب يتخذ، هنا، قيمة كبرى، ويحتل أعلى درجات الأهمية والجدوى، ذلك أنه، من حيث الهوية، يرتد إلى معنى الأخلاق والآداب، ومن عجيب الموافقات أن العلاقة بين الأدب والآداب ظلت وطيدة حتى في لحظات الضعف الحضاري والركون إلى قيم فاقدة لدورها في تهذيب القيم وتوجيه النفس الإنسانية في تفردها أو في علاقتها بمحيطها الاجتماعي والسلوكي، ومن يقرأ تاريخ الأدب العربي، قديمه وحديثه، يدرك هذه الصلة الحميمية بين الأدب والآداب والقيم، إلى درجة أنه يمكن الانتهاء إلى خلاصة جوهرية وهي أن الأدب لم يخرج، في يوم من الأيام، عن التبشير بقيمة أو التنفير من قيمة.
وهذا ينقلنا إلى المقوم الثاني من مقومات الأدب، ونقصد به وظيفته، فمنذ مقولة "هوراس": "الشعر ممتع ومفيد" وإلى أحدث الاتجاهات الأدبية، فإن الأدب له وظيفة، حتى ولو كانت وظيفته في أن يخرج عن وظائفه الأصيلة أو "التقليدية" بتعبير بعضهم، أو يتحداها، فالوظيفية قدر الأدب ومحدده الواقعي وضامن وجوده وبقائه واستمراريته.
والرسول عليه السلام عندما قال: "إن من البيان لسحراً، وإن من الشعر لحكمة" وعندما أعلن المبدأ النقدي العام: "إنما الشعر كلام مؤلف، فحسنه حسن وقبيحه قبيح" إنما كان، عليه الصلاة والسلام، يؤكد حقيقة أن الأدب له رسالة ووظيفة.
فمن وظائف الأدب، والفن بدرجة موازية، أنه يسهم في تشكيل رؤية الإنسان إلى الوجود والكون والحياة بمختلف مفرداتها وعلاقاتها، وقبل أن يقرأ الناس كتب الفلاسفة والمفكرين، فإنهم تلقوا القيم الوجودية المبثوثة في ثنايا القصائد والأعمال الروائية والمسرحية والإنتاجات الفنية.
كما أن الأدب والفنون عامة، لغوية وغير لغوية، تسهم في تهذيب النفس، والارتفاع بذوقها وإحساسها بالجمال، وهي مخزن الأخلاق الفاضلة وداعيتها الأصدق، وهي التي تتغنى بفضائل الأخلاق وتسجل مآثر القيم، وتصوغ من بيانها حكماً خالدة تحتفي بالصدق والوفاء والكرم وحزم الرأي والحب والخير والجمال، وتنفر من نقيضها.
وقد اعتور الأدب والفنون، في العصر الحديث، نوازل وأزمات، وخضعت، في بعض جوانبها، لتأثيرات المذاهب التي تدعو إلى التحرر من القيم والآداب، وجعل الأدب ميداناً لسيطرة النزوع نحو إفراغ الإبداع من محتواه القيمي، وتم استدعاء مقولات إلى ساحة النقد الأدبي، من مثل مقولة الإعلاء من الوظيفة الأسلوبية على حساب الوظيفة التهذيبية، وتم محاصرة الداعين إلى قيمية الأدب والفن في زاوية الدعوات الماضية التي لم تعد صالحة لـ "حداثة" اليوم، وكأن هناك تنافياً وتنابذاً قدريين بين "الحداثة" و"القيم" في حين أن الأدب والفنون، كما أشير إليه سابقاً، لا تتقوم إلا بهويتها ووظيفتها اللتين مضى معنا بيان أمرهما.
وإيماناً من قطاع الشؤون الثقافية بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة الكويت بأهمية الأدب والفنون ودورهما في نشر القيم الفاضلة والدعوة إلى الذوق الرفيع والجمال المنتج، فإنه جعل من آكد أدواره: الإسهام في تجديد النظر إلى هذا الميدان، ووضع إطار يجتمع فيه أصحاب الريادة الأدبية والمواهب البيانية والفنية، يقدمون للأمة خير ما تخطه أقلامهم في ميادين الشعر والقصة والرواية والمسرحية والدراسة الأدبية والفنون.
وقد تبلور ذلك الإيمان في إنجاز إصدار أدبي وفني دوري ضمن مشروع روافد، يحمل اسم "إسهام" وذلك لإثراء الساحة الأدبية والفنية، وجعله منتدى لتوظيف مختلف الآداب والفنون في إشعاع القيم البناءة وتنمية الذوق والوجدان بأسلوب أدبي وفق الرؤية الوسطية، ولتأكيد أن الدين الحنيف لم يعارض الكلمة الموحية المشعة والأشواق الجميلة المعبرة، ولم يقيد الإبداع الأدبي والفني الراقي، وإنما وضع الأسس والمعايير، وأفسح المجال للأدباء والفنانين للتعبير عن أشواقهم وطموحاتهم النفسية والاجتماعية، وذلك كله من أجل أن يكون الأدب والفن شعبة من شعب الإيمان، إذ لما كان الحياء شعبة من شعب الإيمان، ولما كان إماطة الأذى شعبة من شعب الإيمان، فكيف لا يكون الأدب شعبة من شعب الإيمان، وهما دعوة إلى قيم متساوقة مع قيم الحياء، وهما دعوة إلى إماطة أذى التصورات والمفاهيم والقيم السلبية من طريق الإنسان في رحلته إلى الله.
ويتوخى الإصدار الأدبي والفني "إسهام" العمل على تحقيق الأهداف التالية:
- إبراز دور الأدب (الشعر والقصة والرواية والمسرح والدراسة الأدبية) والفنون (خط، زخرفة، عمارة..) في التحصين الثقافي في زمن يتميز بالانفتاح والتحولات القيمية.
- إبراز دور الأدب والفنون في تنمية الذوق وتطوير مهارات الإدراك الجمالي لدى القراء والمهتمين.
- استثمار هذا الميدان الحساس لتمكين القيم الإسلامية في نفوس المهتمين والناشئة وعموم القراء والمتذوقين للأدب.
- الاستجابة لمنظور الإسلام الذي يغطي مختلف مناحي الحياة الإنسانية، ومنها جانب الذوق والوجدان والشعور، تلك الجوانب التي تعد، بحق، المحاضن الراعية للقيم والرؤى والأفكار.
- الاستجابة للتنوع الذوقي عند المتلقين، إذ يوجد من المتلقين من لا يتفاعل مع الأطروحات الفكرية المتطلبة لطاقة كبيرة من التركيز وإجالة النظر، ويجد نفسه مستجيباً للتفاعل مع الكتاب الأدبي، شعراً أو قصة أو مسرحية أو رواية، والعمل الفني.
- اكتشاف المواهب الأدبية والفنية في المجتمع الكويتي ابتداء، والمجتمع العربي الإسلامي انتهاء، ثم رعايتها وتأهيلها لاستيعاب القضايا الإسلامية الفاعلة في الساحة، ومعالجتها وفق منظور الوسطية والحوار الحضاري.
- الإسهام في تنشيط الخطاب الإسلامي حول الأدب والفنون.
- تشجيع الأدباء والفنانين على تجسيد مقتضيات مسؤوليتهم في التوجيه والتحصين والترشيد.
- توفير تراكم أدبي وفني يمثل دليلاً عملياً على قوة المرتكزات الفكرية والفنية للإسهام في ميدان الأدب والفنون.
إن السعي إلى نشر قيم الوسطية والتسامح والحوار الحضاري يعتمد أساليب ووسائل، ولاشك أن ميدان الأدب والفنون يعد أرحب الوسائل وأضمن الأساليب، لأنها، بطبيعتها، تخاطب وجدان المتلقي وتستثير فيه مكامن الاستجابة، وتستحث فيه قوة ذاتية للتأمل والنظر والمقارنة والاختيار، وتلك قيم يسهم الأدب والفنون في تنميتها إسهاماً فعالاً.
والأمل معقود على أدباء الأمة وفنانيها لأن يسهموا بإنتاجهم الأدبي والفني، وذلك من أجل إبراز دور الأدب والفنون في رعاية قيم الأمة ونقل طموحاتها ورؤيتها إلى العالم، تلك الرؤية القائمة على الفهم والتفاهم، والرغبة في التواصل وإشعاع قيم الحب والخير والجمال.
-2-
تقديم
تقدم الرواية "عينان مطفأتان وقلب بصير" تجربة شاب لم تمنعه إصابته بالعمى من أن يحقق أمنيته ويؤدي رسالته على الوجه الأمثل، نموذجاً يعكس تجربة أحد الذين انتصرت إرادتهم القوية على الإعاقة، فتحول إلى نموذج يقتدى به في المحافل والمجالس ويسعى الناس إلى استشارته والأخذ برأيه، من العامة والخاصة، ومن الأسرة والمحيط القريب والبعيد على حد سواء.
ويختار الكاتب والروائي عبد الله الطنطاوي لبطل روايته، الشاب أعمى العينين بصير القلب ثاقب النظر، حاد البصيرة، اسم "صالح" ويسعى، على طول الرواية، إلى أن يترجم معاني هذا الصلاح من خلال كثير من المحطات، سواء فيما تعلق بعلاقته بأمه وأبيه والمحيط القروي القريب منه أو بالمحيط العلمي الذي انتسب إليه، أو بالمحيط السياسي الذي حصل منه على الدعم النفسي والمادي لإتمام مسيرته العلمية والاجتماعية.
وتشير أحداث الرواية إلى أن الذكاء الذي تميز به البطل ورجاحة العقل وحسن البصيرة جعلته يتبوأ مكانة عالية بين أهله ومحيطه، أولم يقل الشافعي:
تعلم فليس المرء يولد عالماً |
وليس أخو علم كمن هو جاهل |
|
وإن كبير القوم لا علم عنده |
صغير إذا التفت عليه الجحافل |
|
وإن صغير القوم إن كان عالماً |
كبير إذا ردت إليه المحافل |
هكذا كان حال البطل الشيخ صالح، الذي استطاع الروائي -من خلال الوقوف عند أحداث ومواقف- أن يقدم رؤيته لعدد من القضايا الاجتماعية كالإعاقة مثلاً التي لم تكن حائلاً دون الوصول إلى الهدف المنشود بفضل الإرادة القوية والعزيمة الصلبة اللتين تسلح بهما الشاب صالح لمواجهة الحياة بقوة، ولتحقيق الاندماج الإيجابي في المجتمع انطلاقاً من مراحل دراسته الأولى مزوداً بفلسفة رفض اليأس والفشل والتشاؤم، وانتهاءً بالزواج الذي جعله منطلقاً نحو آفاق أخرى جديدة وبنفس جديد نحو تحقيق الهدف وإثبات الذات، مروراً بمخالطة الناس والنصح لهم ومد العون لهم، والإحسان إلى الوالدين، وغير ذلك، من مظاهر شبكة العلاقات الاجتماعية.
هما رسالتان اثنتان يسعى رئيس رابطة أدباء الشام، الروائي عبد الله الطنطاوي إلى إبلاغهما إلى القراء من خلال روايته "عينان مطفأتان وقلب بصير" تتعلق الأولى بشرط توافر الإرادة عند كل من يرغب في التطوير والتقدم نحو الأفضل، وهذا ما يعكسه كلام الشيخ صالح حين قال: "أنا لست عاجزاً يا أبي، العمى ابتلاء من الله، ولن أكون عاجزاً بسببه" فهي جملة تعكس الإرادة القوية لهذا الشيخ الشاب، الذي آمن بالقدر وآمن بالفرار من قدر إلى قدر آخر، فقرر مواصلة درب التحصيل العلمي حتى أدرك ما أدرك، رافضاً أن يُنظر إليه نظرة استعطاف وشفقة، فهب يقوم بما عجز عن القيام به كثير من المبصرين من أقرانه وممن هم أكبر منه، وأما الرسالة الثانية فهي واجب الأمة ومسؤوليتها في الاعتناء بالطاقات والمواهب والسهر على توجيهها وإزاحة ما يعترضها من مشاكل تحد من عطائها، وهو الدور الذي تولاه الشيخ فاتح، أحد أصدقاء أبي صالح الأغنياء، الذي فتح الله على يديه للشاب صالح طريق دراسة العلم الشرعي، ليكمل الوزير هذا المشوار ويعتني بهذا الشيخ الضرير عناية جعلته محط أنظار أهل القرية والمجتمع.
وتقدم الرواية بطلها الشيخ صالح نموذجاً للشاب الفعال المخلص الغيور على وطنه وقريته، الذي يحب الخير للناس ويسعى لإسعادهم نموذجاً لصاحب رسالة حضارية تعليمية يؤديها نظير ما حصل من علم، وما قدمت له من مساعدات لتحقيق ذلك، نموذج من آمن بسلاح العلم والكلمة فطفق يعلم أهل قريته ساعياً إلى الانتقال بهم من عالم الجهل والأمية إلى نور العلم والمعرفة، نموذج من يسخر كل الإمكانيات المتاحة إليه في تحقيق هدف أسمى، فقد سخر هذا الشاب الرجل الغنيَّ الحاج فاتح من خلال خدماته، وإنفاقه المادي، وسخر الوزير، ذا النفس الطيبة الخيرة، كرمز للسلطة، وسخر والده صالح، كرمز للرجل الفقير المكافح الذي لا يحبّ أن تفوته مشاركة في عمل خيري، فهو لهذا، نموذج من يحسن فن التعامل مع المحيط ويسخره لتحقيق خير الأمة.
ومن الناحية الشكلية يمكن القول إن الرواية "عينان مطفأتان وقلب بصير" انبنت في أحداثها وفق خط تصاعدي في الزمن، فأحداث الرواية تبتدئ منذ أن كان البطل يافعاً إلى أن هاجر طلباً للعلم، إلى حين الزواج، إلى أن قارب على مناقشة الماجستير، وقد عمدت الرواية إلى نقل هذه الأحداث متوالية في الزمن، بعيداً عن تقنية الاسترجاع والتذكر إلا في ما ندر، كتقنية ترجع بالقارئ إلى أحداث من الماضي، أو تقنية التضمين، بمعنى تضمين مشهد من الرواية مضامين وأحداثاً أخرى، وهذا الخيار أتاح للقارئ فرصة أن ينشدَّ إلى الرواية في تسلسل أحداثها ومواقفها الإنسانية وحسن التصوير... كل ذلك يجعل القارئ لا يترك الرواية إلا بعد أن يتم قراءتها ويحصل له التعاطف المطلق مع البطل متمنياً تعميم هذه التجربة لتكون مثالاً يحتذى.
وقد ازدادت الرواية جمالية وإحكاماً بفضل الحبكة الفنية في التصوير والدقة في نقل التفاصيل والجزئيات، والبناء التسلسلي للأحداث، والبساطة في التراكيب والعبارات، هذا فضلاً عن حرص واضح على تعميق معنى كثير من الأخلاق السامية في نفوس القراء من قبيل البذل في سبيل العلم، وخدمة أهله، وبناء المدارس والتعاون مع الغير في المعروف، والإيثار، والتضحية.
وتتقدم الرواية بشكل عام بمشروع ذي شعبتين:
شعبة استثمار الإعاقة وجعلها عنصر تحفيز وفعالية نحو العطاء، وهو ما تم من خلال تقديم نموذج الشيخ صالح، أعمى العينين بصير القلب.
شعبة تفسير مفهوم الإعاقة، بمعنى أن الإعاقة ليست نتيجة مرض عضوي يصيب عضواً من أعضاء الجسد، وإنما الإعاقة في الركون إلى الكسل والخمول واليأس.
والقارئ الكريم مدعو إلى ولوج فضاء الرواية والاستمتاع بعالمها الفني والقيمي".
موقع رابطة أدباء الشام 11/8/2007
* * *
قراءة في رواية
عينان مطفأتان وقلب بصير
بقلم: السيّدة غرناطة الطنطاوي
عقّبت الأديبة السيّدة غرناطة عبد الله الطنطاوي، على رواية (عينان مطفأتان وقلب بصير) فكتبت تقول:
عندما كنت أقرأ هذه الرواية شعرت بشخصية الكاتب تحاكي شخصية بطل الرواية، إذ إنّ كل السجايا والصفات الرائعة تنطبق تماماً على شخصية الكاتب، بدءاً بطريقة تناول بطل الرواية لطعامه، وذوقه الرفيع الذي يشدّ إليه القلوب والعقول، فقد كان ينبّهنا دائماً ونحن صغار كي نهتمّ بطريقة تناولنا للطعام والشراب، وحتى طريقة الضحك والحديث، ولا تفلت منه شاردة ولا واردة إلا وينبّهنا إليها، وهو يردد دائماً:
-أريدكم شمعة في المجتمع.
وأما قلب بطل الرواية الكبير فقد وسع جميع أبناء قريته، ولم ينس أبداً أهله وأبناء قريته، بل مدّ لهم يد المساعدة مع أنه الأحوج إلى المساعدة، ولكن إرادته القوية جعلته يتجاوز إعاقته، ويبصر بقلبه أكثر من المبصرين، ويرفض نظرات العطف والشفقة والإحسان من أحد، حتى من والديه.
وكذلك قلب صاحب الرواية، فقلبه كبير حنون لا يستطيع رؤية الدم ولو كان من جرح بسيط، ولا يتحمل رؤية فقير إلا وساعده ما أمكنه ذلك، وأما اليتيم والأرملة والعجوز فلهم مكان كبير في قلبه الكبير، بل ويحضّنا على مساعدة كل متسول حتى وإن كان كاذباً، ويقول:
-أن تخطئ بالعطاء خير من أن تخطئ بالمنع.
ولن أنسى تلكم الليالي التي خلت، عندما كنا في بلدنا الحبيب حلب، في ليلة الثانوية العامة، وهو يدور على طلابه في بيوتهم، أو مجتمعين في بيت أحدهم، أو ينتظرونه على مدخل البيت، ليسألوه عما استعصى عليهم في مادة اللغة العربية، حتى تشرق شمس صباح الامتحان.
أعلم أن شهادتي مجروحة في حق هذا الأديب الكبير، لأنني ابنته القريبة منه جداً، ولأنني أحبه أكثر من حبي لنفسي، ولكن لو سألتم عنه كل من يلوذ به من قريب أو بعيد سيؤيد كلامي هذا.
وأما الوزير الرائع الذي تتحدث عنه الرواية، فقد توقعت أن يكون حلماً فقط، إذ أنه ليس في الوجود وزير بهذا الكرم والأخلاق العالية، ولكن الوزير كان حقيقة وليس خيالاً، وهذا يعطينا أملاً جميلاً في هذه الدنيا أنها لا تزال بخير، وأن هناك وزراء طيبين خلوقين قريبين من الناس، وليسوا في قصورهم العاجية، لا يهمهم إلا أنفسهم وملذاتهم.
وأما أبناء القرية فككل الناس الطيبين، الذين لديهم بذرة خير ولكن تحتاج هذه البذرة إلى من يرعاها ويأخذ بيدها، فقد هبّ الجميع لمساعدة بعضهم البعض كلٌ حسب إمكانياته، دون أن ينتظروا الشكر من أحد.
وقد نجح مشروع الشيخ الشاب صالح –أعمى العينين بصير الفؤاد- بالرغم من ضيق ذات اليد، ولكن النجاح دائماً حليف الإخلاص، وهذا ما يريح نفوسنا المتعبة التي ترى الجحود في كل مكان، فالدنيا بخير والحمد لله.
أتمنى أن يقرأ هذه الرواية الكبار والصغار، كي يروا الجمال في الأسلوب، والعبرة في المعنى، وسلاسة الأفكار وتدفقها دون جهد يُذكر، والبعد عن المترادفات التي كثيراً ما نراها في بعض الروايات، والبعد عن الإسفاف في التعابير كي يأتي الكلام منمقاً، كما يفعل بعض الكتّاب، ولكي يروا الحوار الذي يدور بين أبطال الرواية، وهو حوار مختصر مفيد، وقد يكون فيه بعض العظات ولكن بشكل غير مباشر، أي أنه بعيد عن التقريرية والوعظ والإرشاد، حتى لا يؤذي مسامع الناس وينفّرهم.
ولكن أديبنا الكريم جعل من هذا الوزير ملاكاً رائعاً، وأظن أن صفات هذا الوزير مبالغ فيه، ولكنني أكاد أسمع صاحب الرواية وهو يقول:
-يا ابنتي.. تفاءلوا بالخير تجدوه.
موقع رابطة أدباء الشام 25/8/2007 غرناطة عبد الله الطنطاوي
دراسة في رواية (عينان مطفأتان وقلب بصير)
بقلم: محمد حمدان السيّد
في كتابه القيّم (كيف تصبح كاتباً) لفت الأديب الإسلامي محمد حمدان السيّد نظر القارئ الكريم إلى مكمن الإضافة الفذة في رواية (عينان مطفأتان وقلب بصير) ووصف كاتبها بالأديب الأريب المبدع الأستاذ عبد الله الطنطاوي، واعداً قارئ الدراسة بالبعد عن إدخاله في مماحكات الترجمات الرديئة للنقاد الحداثيين عندنا، الذين يعتاشون على موائد الغموض، وترجمة المصطلحات النقدية التي ولدت و ترعرعت في تربة مغايرة لتربتنا، وانتشت بيراع لا تَمُتُ جميعها بأي سبب لفكرنا و لثقافتنا ولحياتنا، وأنّه سوف يعبّئ كلماته بدفء و بساطة ديباجات الرواية الجديدة للحبيب عبد الله الطنطاوي، دون محاباة ولا مراعاة لما بينه وبين مؤلّف الرواية من علاقة عضوية حميمة.
"إنها الرواية التي تنقلك للعيش في مجتمع تتمنى على الله أن تكون عضواً فيه، تتمتع بدفء أحضانه، و روعة علاقاته، و سمو تعاملاته، دون الحاجة إلى الخوض في الصراعات المقيتة، التي بنى عليها السرد الغربي، والسرد المقلد له في ديارنا أساساته و تقنياته، بعيداً عن كون الحياة مليئة بالسرد المشوق ذي الفن العالي، وهو في الوقت نفسه لا يثير غرائز الحيوان بين الناس، بل هو يصوغ الواقع بالمعاني السامية، التي جعلت من الإنسان إنساناً، عن طريق السرد الهادف النابذ للتفرد التسلية و التهريج، المبتعد عن صياغة واقع يتناول في الأغلب الأعم قاع المجتمعات و أقبيتها، و يبرزها على أنها هي سيرة الإنسان.
هذه الرواية :
أيها القارئ الكريم.. اسمح لي الآن أن أقول كلمتي في هذه الرواية، ذات الإضافة الجديدة في تقنيتها، و هي كلمة تحمل رأياً نقدياً، أرجو له أن يكون لافتاً منبهاً إلى قضية تقول : إنه من الممكن بناء سرد ناجح قائم فوق قيم الخير وما تصوغه من علاقات في المجتمعات و حسب. كما أن الدراما يمكن لها أن تخلو من ( أيدلوجيا الصراع )، التي نسجت كل مقومات الحياة الغربية، لدرجة أن محاولة الإنسان الاستفادة من المسخرات المادية التي خلقها الله له في الكون سموها صراعاً مع الطبيعة، و امتد الأمر ليقولوا : مات فلان بعد صراع مرير مع المرض، إلى آخر المصطلحات التي عبأوها بالصراع و الصرعات.
و ها أنذا تحتلني متابعة الرواية حتى الثمالة، لم أستطع مغادرتها حتى نفضت الغِلافَين، فلم أُبق على حرف فيها إلا و قد تأملته بعينين فاحصتين، و قلب واعٍ، و عقل حاضر، فتبرجت الرواية لي بتقنية لم أعهدها قبل في أية رواية قرأتها، و ما أكثر ما قرأت، و كان عجبي الكبير يقول : كيف استطاع الكاتب أن يصرف في روياته هذه تذكرة سفر لها دون دفع أتاوات تقنية الصراع، التي تهيمن على كل السرد الراوائي الحاضر، و مع ذلك فقد ظل الكاتب الموهوب صامداً في لجة لم يخضها أحد قبله، و ذلك من خلال الجملة البسيطة و اللغة السهلة، و الحوار الموظف، و التشويق المستوفي تقنياته، و الغاية السامية التي رافقت القص، من أول حرف حتى آخر نقطة خضراء ختمت العمل المتقن بإشارة تعجب و إعجاب و الفخر بالإمكانية الطيبة، التي وفقت للحصول على تجربة، هي إضافة تحاول الخروج من زمن الهزيمة أمام مواضعات تقنية كرمها غيرنا، و سرنا خلفها دون محاولة من تأمل و نظر يفضيان إلى تقديم جديد. إنني لا أريد أن أتكلم عن صاحب الرواية ( عبد الله الطنطاوي ) الأديب الناقد القاص الروائي المبدع، فهو أشهر من تقديمي له في كلماتي هذه.
و لا أريد أن أتكلم عن أسلوبها و بساطة لغتها و عظيم مراميها، فهذه كلها مبذولة في كل أنحاء الرواية، فما عليك أيها القارئ الكريم إلا أن تطالع الرواية، لتجد مصداق ما أقوله لك، فهي تمتعك بالأسلوب السهل الممتنع، الذي يتجلى بأروع و أغدق مما تتصور، واقرأ معي إذا شئت هذا المقطع من الرواية و تأمل ما قلته لك : ( مرت الأيام و السنون و الشيخ صالح يحقق نجاحاً تلو نجاح... كان دائماً الأول على صفه، كان جسمه ينمو نمواً عجيباً، حتى صار فارع الطول، مديد القامة، و كان نظيف اللباس، أنيق الهندام، يصفف شعره بيده، و يلمع حذاءه، و يكوي ملابسه، و يتعطر، و لا يخرج من المهجع إلا في كامل أناقته، و كان يخدم نفسه و أساتذته و زملاءه، تدفعه مروءته و ذوقه الرفيع إلى تقديم العون إلى من يعرف و من لا يعرف، حتى غدا علماً في المعهد الشرعي (من الرواية ص 53).
انظر إلى هذه الكلمات من هذا المقطع : ( يلمع، يكوي، يتعطر... ) و تأمل بساطتها و قربها من جميع الناس، مهما كانت ثقافتهم، لكنها كلمات بسيطة تدخل في سياق من المعاني السامية : ( الأناقة، النظافة، النجاح الدائم، التفاؤل الجميل )، و كذلك فإنها تشارك في بناء خلق عظيم هو التواضع، الذي يجعل هذا العملاق (الكفيف ) الفتى صالح المشهور بالشيخ صالح، يخدم الجميع، و يحب الجميع، رغم جسمه العملاق، ونجاحه الكبير، و أناقته الفذة، و إنها لمفارقة لا تستوعبها سوى نفس عالية، خلت من دواعي الصراع على عروض هذه الدنيا الفانية..!!
و مع أن شخوص الرواية بدأوا خيرين و ظلوا خيرين حتى النهاية، و ذلك تجاوزاً لتقنية غربية في تطوير الشخوص، أقول : رغم ذلك فقد وجدنا الأشخاص يطورون وسائلهم في الخير الذي تبنوه ولم يحيدوا عنه، بما يشعرك أنهم يتطورون و بتشويق جميل دون أن يشعرك ذلك بأن هناك جموداً في حركة السرد، و هذه بدعة رائعة أخرى في فن السرد تضاف إلى البدعة الإضافة الحسنة التي ابتدعها الكاتب المبدع في هذه الرواية، و هي التخلي عن عُقَد الصراع التي تلف حياة الغربي في كل مناحيها، ذلك الصراع الذي أوجد لديه التطلع الدائم إلى ما بين أيدي الآخرين من أملاك وثقافات وخصوصيات و حياة، ليستلبها و يستأثر بها.
إننا أمام قصٍّ بتقنية جديدة لأدب إسلامي خالٍ من عقدة الصراع، لديه وعي بواقعية حياتية تمد اليد بالخير للجميع، و تنسج من مروءاتها خيوط وصل مع الإنسان، لمجرد أنه إنسان، تستحق حياته و خصوصياته وممتلكاته الاحترام و التعاون و التعاضد، لا العدوان و الانقضاض و الهيمنة و الغطرسة التي صنعتها جميعاً خصوصية الصراع.
إن الله الذي خلق الإنسان العليم بما يصلحه قد بين لنا خطيئة منهج الصراع، عندما حاول أحد المخلوقين الاعتداء على أخيه و سلبه ممتلكاته و حياته، فجعله يندم، ويتعرف على مدى ما اقترفته يداه نتيجة انطلاقه من فكرة الصراع ( فأصبح من النادمين ). إن الحياة في الإسلام فكرة خيرة، يقابلها الظلم، و فيه يكون التغلب على النزعة غير الخيرة بالحوار و الإقناع و تقديم الحياة القدوة و حسب. أما امتشاق الأدوات الأخرى فلا تكون إلا للدفاع عن النفس تجاه من لم تنفعه حروف الحوار، فراح يضرب يمنة و يسرة غير موظف لخطوط الخير التي خلقها الله فيه.
و في خضم هذه العطاءات الفذة في صفحات هذه الأمثولة السردية الخيرة، لم ينس الكاتب الذي يكتب ليفيد و ينفع، أقول : لم ينس الإشارات اللماحة الرائعة التي زخرت بها نصوص الإسلام، و ذلك دون أن يشعرك بافتعال الموقف السردي أو الخروج عن سلاسة المرور بين السطور، ومن أمثلة ذلك ما جاء في الصفحة ( 44) من الرواية، حين وجه الروائي ذهن القارئ إلى عادة منتشرة بين الناس هذه الأيام، عندما يجلسون في المساجد و في المحافل يستمعون لقارئ القرآن، فيهتفون عند نهاية كل وصلة تلاوة من القارئ، الله... اللـ.. ه...
في ضجيج غير لائق بالمناسبة، و اقرأ معي كيف كانت رشاقة التوجيه إلى هذه القضية، و كيف جاءت ضمن السياق، دون أن تشعر بافتعال أو خروج عن النص و المناسبة.
(( أخذ الأستاذ مصحفاً و فتحه على سورة المائدة، و على الآية الثانية و التسعين، و أمر الشيخ صالحاً بالقراءة، فتلا الشيخ صالح صفحة كاملة بصوته العذب، و ترتيله الجميل، و كان كلما توقف عن القراءة، هتف الطلاب : الله. فنبه الشيخ تلاميذه إلى أن هذا الذي يفعلونه غير وارد، و الأولى بهم أن يستمعوا وينصتوا و يتأملوا و يتفكروا و يخشعوا، فلزم الطلاب الصمت... )).
و في الصفحة نفسها من الرواية تقع إشارة مهمة، هي ثقافية و تتعلق بالأخلاق والسيرة الذاتية الملتزمة، و قد تطرق إليها الكاتب باقتدار المتمكن من أدواته أولاً و من لغته ثانياً، إذ كانت الإشارة محببة متقنة داخلة ضمن السرد بلا صناعة أو افتئات على سياقه في هذه الجزئية من الرواية، و لنقرأها معاً :
(( استوقف الأستاذ تلميذه صالحاً عن التلاوة، ثم قال له : سيكون لك شأن يا شيخ صالح فاتق الله و لا تبطر. قال صالح في ثقة : لن تبطرني نعمة يا أستاذ، فأنا أعرف نفسي، أنا ولد أعمى، رزقه الله هذا المعهد العظيم، و هيأ له شيوخاً فضلاء، و زملاء نجباء، أنا لن أبطر.
قال غسان : حتى لو صرت وزيراً كطه حسين ؟ أجاب صالح : حتى لو صرت وزيراً يا أخي، فسوف أبقى أذكر نشأتي الأولى في قريتي الفقيرة و أسرتي المستورة الحال ))، و هنا يحق لي أن أقول : ألا تلاحظ أخي القارئ هذا التخلص الرائع في هذه المداخلة، بأن أخرجها الكاتب المقتدر من سياق السرد إلى سياق الحوار، وذلك كي لا تأتي مفتعلة، و كأنها داخلة على النص بقصد الإشارة إلى قضية ثقافية أخلاقية، هي تغير طه حسين عن نهجه الأزهري، بعد إذ بهرته زائفات غربية فرنسية و غير فرنسية، و كأنه لم يكن ذلك الدارس في معاهد العلم و معاهد الأزهر، مفارقاً لأماني والده بأن يكون نبوغ ابنه الكفيف في بناء متجدد فوق الأساسات الحضارية الإسلامية النصية و العملية..!!
و هكذا جاءت هذه المداخلة سهلة سلسلة مقبولة، بل معطية للسرد أبعاداً ثقافية و أخلاقية محترمة. إنها إذن القدرة على استعمال التقنية المناسبة، و الاستحواذ الرائع على اللغة. إنها رواية ناجحة بجدارة بالإضافات الماثلة في إدارة دفة مئتي صفحة من السرد دون استخدام تقنية الصراع، متجاوزاً صاحبها فيها كل عوامل الوهن التي كان من الممكن أن تستحوذ عليها بسبب نبذ آلية الصراع ( الغربية )، بل جعل الرواية كلها قائمة على تقنية التسابق في الخير، فهي خير و خير أشد، مقترباً الكاتب القدير فيها من كل عناصر النجاح لرواية رائعة مشوقة هادفة ذات توظيف إنساني عالٍ، توازن بين الحراك الخارجي و الحراك الداخلي لأحداث الرواية، ففيها الصبر ثم الصبر و التسليم، و فيها حراك الخارج بشكل ( دراماتيكي )، من أجل إخراج الداخلي للشيخ ( صالح ) مما كان يحيطه من عناصر مثبطة، و هنا كان صبر الشيخ المتحرك لتغيير أوضاعه، مساعداً عظيماً على حراك الخارج ( من الذين يحيطون به )، لإخراجه للناس بالصورة الرائعة التي رسمها كاتب الرواية، التي طرحت قضية الخير و الحراك به في كل اتجاه، و كأنها هي المحرك الماثل للبناء والنجاح و النهوض، بعيداً عن كل الترهات التي تطرح الآن في مجتمعاتنا مبنية على الصراع و التضاد وإقصاء الآخر، وجعل النتيجة في إنتاج التقدم ( صفرية ) لأنها تراوح بين الفعل ورد الفعل.
أخي القارئ : إني أدعوك إلى التقدم باتجاه مطالعة الرواية بنفسك ؛ لترى بعقلك و ذاكرتك صدق ما أوردته في هذا الاستعراض لهذه الرواية التي يحق لي أن أطلق عليها : ( رواية الواقعية الإسلامية ) و هي مدرسة تستلهم الصور المجتمعية الراقية التي صنعها الإسلام و كرسها على مدى الزمان، صيغة تصنع المجتمعات الآمنة الخيرة".
كتاب (كيف تصبح كاتباً) ص 100 ـ 107 محمد حمدان السيّد طبعة دار المأمون.
الطنطاوي وفن القصّة
استطاع الطنطاوي أن يجسّد الوقائع اليوميّة التي عاشها بين مختلف الطبقات الاجتماعيّة في سوريّة، وأن يدوّنها بقلمه الجميل في نصوص أدبيّة بسيطة الشكل، عميقة المضمون، تظهر من خلالها حكمة الكاتب وفلسفته.
وكان قد نشر معظم قصصه القصيرة على فترات متفاوتة في المجلاّت الأدبيّة، ثم جمعها بناء على طلب إخوانه في مجموعات نذكر منها:
ـ المجموعة القصصيّة (ذرية بعضها من بعض) صدرت الطبعة الأولى في عام 1977 في مدينة حلب، عن المكتبة العربية، وصدرت الطبعة الثانية عن دار الفرقان بعمّان سنة 1982.
ـ المجموعة القصصيّة (أصوات) (بالاشتراك) صدرت طبعتها الأولى في 1974، والطبعة الثانية في عام 1982، عن دار الفرقان في عمّان.
ـ المجموعة القصصيّة (رماد السنين) وصدرت عن الدار الشاميّة في بيروت عام 2007.
ـ المجموعة القصصيّة (السابحون في السماء) وصدرت عن الدار الشاميّة في بيروت عام 2007.
* * *
قراءة في المجموعة القصصيّة
السابحون في السماء
للأديب الكبير عبد الله الطنطاوي
بقلم: محمد علي شاهين
منذ أن فتح الأدب الإسلامي المتجذّر في ثقافتنا صدره للفنون الأدبية الحديثة، برز عدد من الأدباء الإسلاميين في ميدان القصّة والرواية والمسرحيّة والمقالة والقصيدة الشعريّة والنقد الأدبي، في مقدمتهم الأديب الكبير عبد الله الطنطاوي، المعروف بإبداعاته القلميّة الفنيّة الراقية.
وتأتي مجموعته القصصيّة (السابحون في السماء) إضافة جديدة إلى الأدب العربي عامّة، وفن القصّة القصيرة خاصّة.
وتضم المجموعة أربعاً وعشرين قصّة قصيرة مبتكرة أو واقعيّة، مستوحاة من البيئة المحليّة، والشخصيّات الشعبيّة، أو من التراث الإسلامي الغني بهذا الفن.
يشعر قارئ قصص الطنطاوي وهو يقلّب صفحات المجموعة، بصدق العاطفة، وسلامة المنهج، ودقّة التعبير بلغة فصيحة وكلمات منتقاة.
ويتلقى دروساً أخلاقيّة وتربويّة في الحب في الله، والإخاء، والأمانة، والإيثار، من خلال السرد الأدبي للقصّة، تلك الدروس التي افتقدناها في مناهجنا النظريّة، وحياتنا الاجتماعيّة.
وللمرأة في أدب الطنطاوي عامّة حضور لا يمكن إغفاله، لكنّها في هذه المجموعة تبدو أشد حضوراً، فهي التي تنجب الرجل الصالح من الزوج الأمين، وهي التي تأخذ بيد زوجها القاسي نحو الخير، وهي التي تأبى أكل المال الحرام فتكون وراء استقامة زوجها، وهي التي تعجب بأمانة شاب مسلم فتتزوّجه وتعلن إسلامها.
أمّا قصّة (السابحون في السماء) التي سميت المجموعة باسمها، فهي حوار بين زوجين تقيين حول حلم رآه بطل القصّة في منامه، حيث رأى فيما يراه النائم أنّه يسبح بين شهيدين في السماء، وما لبث الحلم أن تحقّق والتحق الزوج بقافلة الشهداء لتسبح روحه في الفردوس الأعلى
تحن قصص الطنطاوي إلى الماضي بكل ما فيه من أصالة وصدق ووفاء، فيمجّد المواقف الحميدة ويحيي ذكراها، ويبرز هذا الحنين في قصّة (هكذا أفهم الآية).
ويتحدث في قصّة أخرى عن الإبداع والمبدعين الذين يعيشون على هامش الحياة مغمورين، وكيف تنطلق طاقاتهم بقليل من كلمات التشجيع في قصّة (النظر الثاقب).
ويروي لنا قصّة نقل طفل يتيم موهوب من دكان الفوّال إلى المدرسة، حيث تفجّرت طاقات العطاء عند الصغير بسبب هذه النقلة، في قصّة (أجير الفوّال).
يستلهم الطنطاوي الدروس التربويّة من سيرة الإمام الشهيد في قالب قصصي جميل فيحدثنا عن نقلة التكروري من الضياع إلى الشهرة، ثم يفسّر سرّ هذا التحوّل على لسان التكروري: إنّها الكلمة الطيّبة التي أصرّ عليها الإمام، حتى قهر بها جهلي وتخلّفي وقلّة ذوقي.
والقصة القصيرة عند الطنطاوي ميدان فسيح للتعبير عن السيرة الذاتيّة، فكيف بها إذا كانت تتحدّث عن جدّته لأمّه التي يكنّ لها فضل تربيته وتوجيهه وهو طفل صغير، ثم يختم (جدّتي..) فيرسم صورة حزينة لموكب وداعها فيقول: وعندما ماتت جدّتي رحمها الله، خرجت نساء البلدة لتشييعها وهنّ يبكين، والرجال أمامهن يحملون النعش في تأثّر، ولا يكادون يمسكون دموعهم.
وأجمل ما في المجموعة قصّتان الأولى: (لا يذهب العرف بين الله والناس) التي تمنيت أن تكون عنوان المجموعة، وإن كان العنوان الذي اختاره الكاتب أكثر جاذبيّة وسحراً، لأنّ قارئها لا يتمالك نفسه وهو يرويها حتى ينفجر باكياً، بسبب حشد المواقف الإنسانيّة الحميميّة بكثافة، وتوزيع المشاعر العاطفيّة بين ثنايا القصّة، وهذه سمة الأديب الإنسان، وروعة الأداء الفني..
أمّا القصّة الثانية: (عرس في الشارقة) فهي قطعة من الأدب الرفيع في قالب قصصي جذّاب، تحكي قصّة ثلاثين عاماً من المشاعر الحبيسة لشاب وفتاة، كانا قد كتما حبّهما، التقيا صدفة، وقد شاب الزمان، فتقدمت الأرملة الجدّة على استحياء، كأنّها الفتاة العذراء ابنة السبعة عشر عاماً، وجمع الله الشتيتين، وزفّ العاشقان.
ولأدب الحريّة الذي أطلقوا عليه أدب السجون ـ بسبب تفشي ظاهرة سجن أهل الفكر والأدب ـ مكانة بارزة في قصص الأستاذ الطنطاوي، حتى أنّه يتخذ هذا الأدب مدخلاً للقصّة ففي قصّة (أخت الرجال) يتحدّث الرجل الثمانيني الذي انضمّ إلى الزنزانة الكبيرة عن حياة اليتم التي عاشها في كنف أمّه، وقد ألقوه جثّة مدماة، ثم أغلقوا الباب خلفهم وخرجوا كالوحوش الكاسرة.
ويختم مجموعته القصصيّة الرائعة بقصّة طريفة من أدب الحريّة بعنوان: (قم يا حسين) عرض فيها التناقضات العجيبة، والصور المخيفة لما يجري في سجون الأنظمة بأسلوب رشيق ووصف دقيق، وهذه ميّزة الأديب الطنطاوي الذي يملك مخزوناً كبيراً من الذكريات الحلوة والمرّة.
وهكذا تنساب القصص بين يدي القارئ كأنّها جدائل الحرير، وتذوب في الوجدان، كما تذوب قطع السكّر، الواحدة تلو الأخرى، فيشعر بالمتعة والفائدة.
صدرت المجموعة عن دار عمّار في مئة وخمسين صفحة من القطع العادي في غلاف جميل.
موقع رابطة أدباء الشام ـ مجلة الغرباء 23/8/2008 محمد علي شاهين.
* * *
قصّة بلا بيروت بلا سان جورج
وفي ميدان القصّة القصيرة تبوّأت قصص الأديب السوري عبد الله محمود الطنطاوي مكانة مرموقة في ميدان الدراسات الأدبيّة العالميّة، وطبّقت عليها الدراسات التحليليّة السيميائيّة*، ومنها قصّته المنشورة (بلا بيروت بلا سان جورج).
وتقدمت الطالبة الأندونوسيّة نور فضيلة في 17 نوفمبر 2017 ببحث تحت عنون (القصّة القصيرة بلا بيروت بلا سان جورح لعبد الله الطنطاوي دراسة تحليليّة سيميائيّة لتشارلز ساندرز بيرس) إلى كليّة الآداب والعلوم الثقافيّة بجامعة سونان كاليجاكا الإسلاميّة الحكوميّة جوكجاكرتا لإتمام بعض الشروط للحصول على اللقب العالمي في علم اللغة العربيّة وآدابها.
تقول الباحثة: في هذه القصّة القصيرة: ينقل المؤلّف الفكرة بوضوح بشكل غير مباشر يسهل على الأفهام إدراكها، مرفقة برسائل خفيّة تغني القارئ عن شرحها، ويكفي القارئ اللبيب الإشارة.
وتبدو من خلال القصّة شخصيّة المؤلّف وصديقه إبراهيم المنخرط في أجهزة المخابرات الفلسطينيّة، وصراعه مع الأحداث الفظيعة التي عايشها في العاصمة اللبنانيّة، حتى يصل إلى قناعة مفادها أنّه يسير في الطريق الخطأ، وتنتهي القصّة بالعودة إلى مدينة الخليل بلا بيروت بلا فندق سان جورج.
وأخذت الباحثة تنقّب عن العلامات, وتبحث عن العناصر الجوهريّة في هذه القصّة القصيرة مطبقة النظريّة البنيويّة لإظهار كل عنصر بالمعنى العام، وإظهار العلاقات بين العناصر.
وقالت: وكعمل أدبي لا يمكن فصل هذه القصّة عن خلفيّتها الاجتماعيّة والثقافيّة والتاريخيّة، إذا تمّ تحليل القصّة القصيرة باستخدام نظريات البنيويّة.
وذكرت الباحثة في الإطار النظري أنّها استخدمت في دراستها نظريّتين: النظريّة الرئيسيّة، والنظريّة الداعمة.
النظريّة الرئيسيّة لهذا البحث هي نظريّة سيميائيّة تشارلز ساندوز بيرس*، واستخدمت بالنسبة للنظريّة الداعمة نظريّة الخيال البنيويّة روبرت ستانتون.
وواصلت الباحثة خوضها في المصطلحات النظريّة، ثم تحدثت عن نظام البحث بالنسبة للقصّة موضوع الدراسة، فتحدثت عن التحليل البنيوي الذي يتضمن المواضيع والوقائع والمؤامرات والخصائص، ووجهات النظر، وتحليل المعنى السيميائي للقصّة القصيرة (بلا بيروت بلا سان جورج) للأديب الكبير عبد الله الطنطاوي، باستخدام النظريّة السيميائيّة لتشارلز ساندرز بيرس.
مجلة الغرباء 1/4/2019 محمد علي شاهين.
* * *
عناية الطنطاوي بالأشبال
أحبّ الأستاذ عبد الله الطنطاوي الأطفال لأنّهم شباب المستقبل وعدّته، واهتمّ بفئة الأشبال اهتماماً خاصّاً في إنتاجه الأدبي, وأعطاهم ما لم يعطه أحد من أدباء عصره لهم، فكتب لهم القصّة والحوار، وترأس تحرير عدد من مجلات الأطفال الورقيّة والإلكترونيّة، ولا يزال بعضها متواصلاً، وكتب لهم التراجم.
وكان في كل ما كتب شديد الحرص على نشر الفضائل، والأخلاق الكريمة، واستدعاء القصص من كتب الأدب العربي الزاخر بالدروس والعبر التاريخيّة والمواقف البطوليّة، والثناء على أهل الكرم وأصحاب المروءة والشهامة والإيثار، وغيرها من مفاخر العرب.
وكتب بلغة عربيّة فصحى بعيدة عن الركاكة والعاميّة، لأنّه يؤمن بأنّ الفصحى من شعائر الإسلام، ولينشأ الطفل سليم اللغة صحيح النطق قادراً على التعبير واستدعاء الكلمة المناسبة من المخزون اللغوي الذي يملكه،
ألّف الطنطاوي للأشبال عشرة كتب في تراجم الإسلاميين المعاصرين، صدرت طبعتها الأولى عن دار النذير للأشبال سنة 1984 وهي:
الإمام الشهيد حسن البنا (الطبعة الثانية في لاهور 1985).
الدكتور الشيخ مصطفى السباعي.
الأستاذ الشهيد سيد قطب.
الإمام حسن الهضيبي.
الإمام أبو الأعلى المودودي.
العالم المجاهد الشيخ محمد الحامد.
القائد الشهيد المجاهد مروان حديد.
الأستاذ الداعية محمد المبارك.
المجاهد الشهيد عبد الغني البكّار.
وكتب للفتيان عشرة كتب (بالاشتراك) صدرت طبعتها الأولى عن دار عمّار بعمّان في عام 1987، وهي:
وحكايات الآنسة إعراب
وكتب ستة كتب للفتيان (بالاشتراك) صدرت طبعتها الأولى في عام 1991، صدرت عن دار ثقافة الطفل ببغداد، ثمّ طبعت طبعة ثانية في الجزائر وهي:
أكل وشرب على مائدة القرآن الكريم
وكتب ستة وعشرين كتاباً في سلسلة (من نجوم الإسلام) جُمعت في أربعة مجلدات، وصدرت طبعتها الأولى في عام 1994 عن دار القلم بدمشق، والطبعة الثانية عن الدار الشامية في بيروت.
ورأس إدارة مركز (يمان) للإنتاج الفني والأدبي بعمّان،
ورأس تحرير مجلّة (الروّاد)، التي تصدرها مدارس الروّاد في الرياض، والمهتمّة بأدب الناشئبن.
ومجلّة (فراس) الواسعة الانتشار بين الأطفال العرب، التي يصدرها أسامة خليفة (مركز آلاء) في جدّة.
ومجلة (سلام) الكويتيّة للأطفال سنة 1998م.
وقد توقفت هذه المجلات الثلاث لأسباب تتعلّق بالجهات التي أصدرتها.
ويرأس الأستاذ الطنطاوي تحرير مجلة (الفاتح) الإلكترونية، الواسعة الانتشار، والتي اطّلع عليها حتى الآن 131 مليون طفل.
ونشر في هذه المجلاّت عشرات السيناريوهات، والمسلسلات، والقصص الشيّقة القصيرة المصوّرة للأطفال، وفي عدد من المجلات العربية.
وكان يحرص فيما يكتبه من نصوص، وما ينشر في مجلاّته من مشاركات أدبيّة على جودة النص من الناحية الأدبيّة والفنيّة والقيميّة، وسلامة اللغة، واستكتاب خيرة الأدباء والأديبات، واختيار أفضل الرسّامين، وابتكار شخصيّات محبّبة للأطفال.
والملاحظ أنّ أكثر مجلات الأطفال التي ترأس تحريرها قد توقفت، بسبب نقص التمويل.
ولمّا انتشرت المجلات الإلكترونيّة، جعل للطفل العربي نصيباً منها، فترأس تحرير مجلّة (الفاتح) للأطفال، الواسعة الانتشار، سنة 2002م، وشعارها (مجلّة الفتيان والفتيات..... مجلة بناة المستقبل)، وصدرت في لندن، نصف شهريّة، ولا أعلم لماذا يكتب اسمه كرئيس للتحرير باسم مستعار: سامي الحلبي.
وتضم المجلّة عدداً من الأبواب الشيّقة الثابتة ومنها: الافتتاحيّة، منارات علميّة، صفحات جهاديّة، بطولات ولا أروع، حكايات ولا أجمل، بالإضافة إلى الأناشيد والألعاب، والمسابقات، والمشاركات، والرسائل.
* * *
كيف يربي اليهود أبناءهم؟
كان أستاذنا عبد الله الطنطاوي شديد الحرص على حماية فكر الأطفال والشباب من التيارات العلمانيّة، والخطط الصليبيّة واليهوديّة، وإعدادهم ليكونوا أبناء بررة لأمتهم ودينهم، وسعى لتحصينهم من هذا الوباء القاتل، وفضح المشاريع التخريبيّة للمجتمع العربي.
ولم يكتف الطنطاوي بالمواقف على أهميّتها، فذهب أبعد من ذلك إلى صنع البدائل ونشر الفضائل.
ولمّا قرأ الطنطاوي بحث الدكتورة سناء عبد اللطيف (كيف يربي اليهود أبناءهم) المنشور سنة 1997، الذي استقت معلوماته من المصادر العبريّة التي أتقنت لغتها، هاله حجم الخطر المحدق بأطفالنا.
فعرض الكتاب ولخّصه وقدّمه في وسائل الإعلام، ودعا دور النشر لإعادة طبعه لفتح أعين العرب على خطط اليهود تعميماً للفائدة، فصدر الكتاب عن دار القلم، ودار يمان.
فمن هي مؤلّفة الكتاب الدكتورة سناء عبد اللطيف؟
يعرّف الطنطاوي مؤلّفة الكتاب بأنّها ولدت بالإسكندرية عام 1951م، وأتقنت اللغة العبرية إتقاناً تاماً، وقد مكنتها دراستها العبرية من تعرية اتجاهات اليهود التربوية إزاء الأطفال، مستفيدة من قراءاتها الكثيرة للأعمال الشعبية والأدبية في اللغة العبرية.
العرض العام:
يقع الكتاب في 224 صفحة من القطع المتوسط، وهو رسالة علمية مهمة، نالت به كاتبته رسالة الدكتوراه، وتؤكد المؤلفة في البداية أن أدب الأطفال له أهمِّيَّة قصوى في عمليَّة تنشئة الأطفال؛ لأنَّهم في هذه المرحلة من العمر يكونون بِحاجة إلى ما يُساعدهم بطريقةٍ واعيةٍ ومدروسةٍ على تَحقيق النُّمو السَّليم المتكامِل من مختلف النَّواحي، مشيرة إلى أن الكيان الصهيوني لديه كثير من هذا الأدب، ومنحَه الاهتمام والدَّعم المادي والمعنوي والبشري، حتى تصدَّر قائمة أعلى إصدارات أدب الطفل تأليفًا ونشرًا.
إسرائيل وتربية النشء:
تعد (إسرائيل) أكثر دول العالم إنتاجاً لكتب الأطفال لأن تلك الدولة تعتبر نفسها في حرب مستمرة وأنه لا وقت لديها تضيعه، فهم يتعاملون مع الأجيال الصغيرة كما لو كانت شابة مسؤولة وعليها واجبات.
وترى المؤلفة أن سياسة التربية لدى إسرائيل تحتل مكانة ليس لها مثيل بين دول العالم، لأنه ليس لدى أفرادها سوى الحدّ الأدنى من عوامل الوحدة التي تشكل منهم شعباً متجانساً.. فهي دولة شتات مؤلّفة من أكثر من سبعين قومية، ويتكلمون أكثر من سبعين لغة.
وقد قام الباحث الأستاذ عبد الله الطنطاوي بعرض وتلخيص هذا البحث العلمي في 222 صفحة من القطع العادي، محاولاً الحفاظ على عبارة المؤلفة في بحثها الأصلي.
أطفالهم ضحية أدبائهم:
أشارت المؤلفة إلى أن أطفال اليهود وقعوا ضحايا لأدباء اليهود، وتساءلت: "أي روح حاقدة تقودهم، وتدفعهم لبناء نفوس أطفالهم، على أسس من الأحقاد التاريخية والعقدية. ولكي نحمي أبناءنا وإسلامنا، يجب أن نعرف كيف يربي اليهود أولادهم، بواسطة الأدب الذي يكتبه كاتبوهم لهم، لعل أدباءنا وسياسيينا يخططون بما يمكّن أولادنا من وعي طبيعة الصراع العقدي الحضاري بيننا وبين اليهود."
التربية العقدية:
تعد العقيدة أو الأيديولوجية الصهيونية هي المحرك للمناهج التربوية لأطفال اليهود وهي تكرس مواصفات محددة للشخصية اليهودية فمثلاً يتم إبراز تلك الشخصية على أنها أذكى عقلاً، وأقوى بدناً من سائر الأمم غير اليهودية، وأن التيه (الشتات) لم يكن عقاباً لليهود، بل كان بزعمهم قدراً من الرب للقضاء على ضعفاء اليهود حتى لا يدخل أرض كنعان سوى الأصحاء الأقوياء فقط!!.
ويتم في تلك المناهج تعظيم الشخصيات اليهودية المستوحاة من التوراة، والتي تلهم الأطفال قيماً حية، تلهب حماسهم لبناء دولة جديدة على أنقاض الدولة اليهودية القديمة، لوصل تاريخ اليهود، ماضيهم بحاضرهم.
التربية العسكرية:
تحتوي المناهج التربوية للأطفال على تربية عسكرية تناسب أعمارهم ويتم تثقيفهم بمعلومات عن الحرب، والثقافة العسكرية والمصطلحات الحربية، والخطط القتالية؛ لأن الحروب عندهم حتمية وضرورة للوجود حيث أنهم محاصرون بالأعداء، ولا خيار لديهم إلا القتال.
النظرة الدونية للعرب:
تكرس المناهج اليهودية الشخص العربي كشخص جبان وليس كاليهودي الشجاع العبقري الذي لا يُهزم، ولذلك لم يتطرق كتب أدب الأطفال العبري لحرب رمضان (أكتوبر) 1973م حتى لا يكتشف الأطفال زيف الادعاءات الصهيونية.
الخاتمة: اعرف عدوك:
ختمت المؤلفة كتابها بالترغيب في قراءته وأنه جدير بالاهتمام والقراءة، بل والدراسة، من باب (اعرف عدوّك) ومن تعلّم وعرف لغة عدوّه، وأساليب تفكيره، أمِنَ مكره وكيده.
وأشارت إلى أن القصص الديني يحتل الصدارة من الناحية العددية من قصص الأطفال في إسرائيل.. ويستند إلى فقرات من العهد القديم وقصص التوراة كما استخدمت فيها الرموز الدينية كالشمعدان ودرع داود وغيرهما، لتعميق القيم التوراتية والتلمودية في نفوس الصغار.
* * *
قراءة في كتاب (من نجوم الإسلام)
كتب الأستاذ نبيل شبيب قراءة نقديّة عن سلسلة (من نجوم الإسلام)، أثنى فيها على أسلوب الأديب المحقّق عبد الله الطنطاوي، وأشاد بجهوده، ووصفه بالمؤرّخ الأمين والأديب القدير، الذي لا يخرج قلمه عمّا وثّقه المؤرّخون، فلا يجمّل ولا يجامل، ولا تعوقه متطلّبات الأدب القصصي أن يصبّ الأحداث في قالب حيّ.
وجاء في المقال: "كيف لي أن أكتب شيئاً حول نجم من نجوم الأدب العربي عبر وقفة قصيرة عند مؤلّفه الموسوعيّ "من نجوم الإسلام"؟
أكثر من خمسين عاماً مع القلم، وأكثر من سبعين كتابا مؤلّفا، وعدد كبير من المقالات والأقاصيص والمسرحيات، عرفتْ بعضَها شاشاتُ التلفاز وأجهزة المذياع في أكثر من بلد عربيّ، واعتلى بعضها خشبة المسرح، لا سيّما في حلب شمال سورية.
كيف لي أن أكتب شيئاً عن مثل ذلك النجم من نجوم الأدب العربي من خلال وقفة قصيرة عند مؤلّفه الموسوعيّ "من نجوم الإسلام"؟
تلتمس جرأتي عذرا في أمرين، أوّلهما أنّ صاحب المؤلّف، الأستاذ عبد الله الطنطاوي، أكرمني مؤخّراً بإهداء ثلاثة مجلّدات منه، والأمر الثاني أنّي لا أزعم محاولة النقد الأدبي في السطور التالية، وليس لي في ذلك باع، إنّما هي خواطر تواردت عليّ وقد وجدت نفسي ألتهم الصفحات تباعاً، قصّة بعد قصّة، ومجلّداً بعد آخر، وفي كل منها بضع تراجم بأسلوب قصصي، وازدادت رغبتي في الاطلاع على المزيد، فقد علمت من الأستاذ الطنطاوي أنّ المشروع الذي حمل على عاتقه تنفيذه كبير، ويريد أن يصل به إلى ألف نجم من نجوم الإسلام أو أكثر، من عهد الصحابة رضوان الله عليهم إلى عصرنا الحاضر، وكان قد صدر عدد كبير من هذه التراجم على امتداد سنوات عديدة، ويجري جمعها في مجلّدات ممّا يزيد إمكانات الاستفادة منها.
" من نجوم الإسلام" كما يقول صاحبه يستهدف طلبة المرحلتين الإعداديّة والثانوية، ويتحدّث كثير ممّن اطّلعوا عليه وتجاوزوا المراحل الدراسية والجامعية عن إقبالهم عليه واستفادتهم منه، ينافسون بذلك الناشئة من الفتيان والفتيات.. وقد تذكّرت حالي وأنا ألتهم الصفحات أيضا عندما أمسكت ذات يوم بكتيّب يحمل عنوان "ذريّة بعضها من بعض" فلم أتركه إلاّ بعد أن أوصلني إلى الصفحة الأخيرة من صفحاته، وقد ضمّ مجموعة أقاصيص ومشاهد قصصية، وصدر بقلمه عام ١٣٩٧هـ و١٩٧٧م وها نحن في عام ١٤٢٥هـ و٢٠٠٤م ساعة كتابة هذه السطور، وما زال القلم يتدفّق إبداعاً وعطاءً، وما زال الإخلاص يشرق في حروف الكلمات مسبوكا في عبارة أدبيّة راقية، تستهوي المدمن على آداب العربية، قديمها وحديثها، فيحلّق به ومعه، كما تستهوي الفتى الناشئ وهو يتلقّى ما ينساب إليه انسيابا من فِكَر أراد الكاتب إيصالها إليه، أو من معالم شخصيّة يحثّه على الاستفادة منها قدوة له، أو من حوافز تسري من الورق عبر البصر إلى الفؤاد، فيقرأ القارئ ليستوعب، ويستوعب ليفكّر ويقرّر، ويحدوه الإحساس تلقائياً بالإخلاص والعزم ليعمل وينجز.. وقليل من الكتابات ما يصنع ذلك بالقارئ من حيث لا يدري.
قد يزعم بعض أهل النقد الأدبي أنّ كتابة قصّة تاريخية توفّر لقلم الأديب الحدث وأشخاصه، أسهل من كتابة قصّة يبدعها خيال مؤلّفها وإن استوحى شيئا منها من الواقع حوله.
كيف؟ ونحن هنا لا نقرأ لكاتب اطّلع لِماماً على حدث تاريخي، أو عرف سير بعض رجالاته ونسائه معرفة سطحية، فخلط بقلمه بين ما وثّقته الروايات وما أحبّ إضافته لغرض أدبي أو لحبك نسيج قصصي أو لابتداع عنصر إثارة للقارئ، وربّما لغرض آخر يتناقض مع ما تقتضيه أمانة القلم ومسؤوليّة الكلمة.. إنّما نحن هنا بين يدي مؤرّخ أمين وأديب قدير، لا يخرج قلمه عمّا وثّقه المؤرّخون فلا يجمّل ولا يجامل، ولا تعوقه متطلّبات الأدب القصصي أن يصبّ الأحداث في قالب حيّ، يضع قارئه أمامها كما وقعت، ويُشعره بتفاعل النفوس البشرية معها آنذاك، ويزوّده بخلفيّات اجتماعية وتاريخية، وما يكمن فيها من قيم عقدية وخلقية، وجميعُ ذلك في مزيج لا يطغى فيه جانب على آخر، فإذا بها قصص حافلة بالحركة، نابضة بالحوار، تشدّك إليها وتنقلك إلى عالم الحدث وأهله وصانعيه.. وكأنّ الطاقة الإبداعية الكبيرة المعروفة عن الأديب المسرحي عبد الله الطنطاوي انصبّت في تأريخه القصصيّ الشيّق عن نجوم الإسلام، فوضعت القارئ في مقعد من مقاعد الصفّ الأوّل أمام خشبة المسرح، فلا تفوته شاردة أو واردة، ولا يخفى عليه تعبير انفعالي على وجوه أبطال القصّة، أو حركة يصنعها تأثّرهم الوجداني أو اقتناعهم العقلي.
كاتب القصة الخيالية قادر إذا وجد عائقاً وهو يكتبها أن يعدّل شيئاً في مجرى أحداثها، أو أن يضيف إلى شخوصها ما يكمل له فكرة عنّت له، أو يصطنع حواراً يحيي جموداً طارئاً على سرده لها، وجميعُ ذلك يفتقده كاتب القصّة التاريخية، إذا ما كان أميناً على توثيقها، حريصاً على الصدق فيها، فلا يظهر إبداعه في اختلاق فصل من فصولها بل في قدرته على الجمع بين نتاج قلمه وما ينقل من كلام صانعي الحدث ومؤرّخيه، في سبيكة أدبية ممتعة، دون أن يغلب على من يتابع الحدث أنّ الكاتب يحشره حشراً في القالب الأدبي، أو من يستمتع بالعبارة الأدبية أنّها تنطوي على مبالغة أو تقصير في نقل الحدث نفسه.
ويفتش القارئ في (حدود المجلّدات الثلاثة التي وصلتني من) موسوعة "من نجوم الإسلام" باحثاً عن موضع يوحي باصطناع عبارة لتأكيد فكرة، أو بتجاوز عقبة طارئة لاستكمال نقص في المشهد، وعبثا يبحث.. فكأنّك في قارب يحملك موجة بعد موجة، حتى إذا وصلت إلى نهاية المطاف، وجدت نفسك كالمبحر إذا بلغ الشاطئ، ولا يحسّ بتعب ليستريح، فسرعان ما يتوق إلى الإبحار من جديد مع القصة التالية عن حياة نجم آخر من نجوم الإسلام.
وما أصعب أن يضع من يطّلع على "من نجوم الإسلام" تصنيفاً له، هل هو تاريخ في قالب قصّة، أم موسوعة من التراجم لمشاهير الأعلام، أو قصص للناشئة تربطهم بهويتهم الحضارية التاريخية منطلقا لبناء حاضرهم ومستقبلهم بأيديهم، أم هو جميع ذلك وزيادة!
وددت لو أسترسل بالوقوف عند بعض أسماء مَن عرفتُهم عبر ما قرأت في مؤلّف "من نجوم الإسلام" معرفةً متجدّدة، من الصحابة مثل حمزة وطلحة ومصعب وسلمان والزبير رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، أو عند أسماء آخرين ممّن قرأت لهم أو عنهم من قبل، مثل عبد الرحمن الكواكبي وسليمان الحلبي وعزّ الدين القسّام ومحمد الحامد، ولا أزعم أنّني عرفت عنهم حدّ الكفاية كما كان بعد الإبحار في هذا المؤلّف، وقد جعلني كالأسير الذي لا يريد الفكاك من قيوده.
لا أسترسل إذ لا أملك ما أستطيع التعبير به كما أودّ عن كثير ممّا أثارته القراءة الأولى للمؤلّف، ولا أحسبني سأكتفي بها، ولكن أكتفي هنا بذكر أمرين اثنين في خاتمة هذه الخواطر، أوّلهما إعجاب نادراً ما أحسست بمثله، أن أجد الكاتب الأديب يتحدّث في هذا المجلد عن الشيخ الداعية المجاهد مصطفى السباعي رحمه الله بأسلوب قصصي رائد، ويتحدّث عنه في كتاب آخر بإبداع المؤرّخ فيروي سيرته رواية منهجية علمية، وتمنّيت لو اطّلعت أيضا على كتابه الثالث يتحدّث عنه "شاعرا".. فأقول كيف لا يَعجب ويُعجب من لا يستطيع الاستغناء بما قرأه بقلم كاتب القصّة، عمّا قرأه بقلم كاتب الترجمة.. وهو هو المبدع هنا وهناك على السواء.
والأمر الثاني الذي يُعجزني التعبيرُ عنه هو شكري وامتناني لأخي الأستاذ الأديب الكبير عبد الله الطنطاوي، جزاه الله خيراً في الدنيا والآخرة".
مداد القلم، قراءة - عبد الله الطنطاوي: من نجوم الإسلام، نبيل شبيب.
* الدكتور مصطفى حسني السباعي: (1915 ـ 1964): أول عميد لكلية الشريعة بجامعة دمشق سنة 1955، أول مراقب عام لجماعة الإخوان المسلمين في سورية سنة 1945، مفكر، مجاهد، داعية، ولد في حمص من أسرة علمية، كان أبوه وأجداده يتولون الخطابة في الجامع الكبير بحمص، بدأ يحفظ القرآن الكريم ويتلقى العلوم الشرعية على أبيه، أتم دراسته الشرعية الثانوية سنة 1930 بامتياز، سافر إلى مصر لإكمال دراسته بالأزهر وعاد إلى الشام سنة 1941 وقد كسب علماً والتهب حماسة بعد اتصاله بالإمام حسن البنا، وتولى مسؤولية الحركة الإسلامية، وأعلن قيام جماعة الإخوان المسلمين سنة 1945 قاد المقاومة المسلحة ضد الفرنسيين في حمص سنة 1945 وكتائب الجهاد في فلسطين سنة 1948 وشارك في الحياة السياسية وانتخب نائباً لرئيس مجلس النواب السوري سنة 1950، أنشأ جريدة (المنار) (1947 - 1949) ثم (الشهاب) السياسية الإسلامية الأسبوعية، وأصدر مجلة (المسلمون) وجددها باسم (حضارة الإسلام)، تولى رئاسة موسوعة الفقه الإسلامي، ألف ثمانية عشر كتاباً مطبوعاً وسبعة كتب مخطوطة منها: أطروحته (السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي) و(المرأة بين الفقه والقانون) و(أخلاقنا الاجتماعية) و(الأحوال الشخصية) ثلاثة أجزاء و(المرونة والتطور في التشريع الإسلامي).
* محمد محمود الحسناوي: (1938ـ 2007): شاعر إسلامي، ولد في مدينة جسر الشغور، بمحافظة إدلب، أتم دراسته الثانويّة في مدينة اللاذقيّة، ثم التحق بكليّة الآداب بجامعة دمشق، ونال درجة ليسانس في الآداب عام 1961، ودبلوم في التربية عام 1962، ونال درجة الماجستير في كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بالجامعة اللبنانيّة في عام 1972، وموضوع أطروحته (الفاصلة في القرآن الكريم)، وكان ضمن هيئة تحرير مجلة (حضارة الإسلام) لمدّة عام 1961، واشتغل بالتدريس في محافظة حلب بين عامي: (1962 ـ 1980)، نظم الشعر، وكتب القصّة القصيرة بفنيّة عالية، وكتب المقالات النقديّة، وكانت له مشاركات في عدد من المؤتمرات الأدبيّة، أصدر عدداً من المجموعات الشعريّة: (ربيع الوحدة) و(عودة الغائب) و(في غيابة الجب) و(ملحمة النور)، وفي القصّة (الحلبة والمرآة) و(بين القصر والقلعة) و(وبلد النوابغ) ورواية (خطوات في الليل)، وكتب في الدراسات الأدبيّة: (في الأدب والأدب الإسلامي) و(في الأدب والحضارة) و(صفحات في الفكر والأدب)، تولّى في جماعة الإخوان المسلمين مناصب قياديّة، وهاجر إلى العراق في عام 1980، وأقام في الأردن. وتوفي بعمّان.
* أحمد مظهر العظمة: (1909ـ 1982): مفكر إسلامي، رئيس جمعية التمدن الإسلامي، وزير سوري، ولد في دمشق، نشأ في أسرة متدينة محبة للعلم، أنهى دراسته الثانوية سنة 1932، وتخرج من معهد الحقوق ومدرسة الآداب العليا سنة 1935، وكان يتردد في دمشق على حلقات محدث الشام بدر الدين الحسني، والشيخ أبي الخير الميداني والشيخ خالد النقشبندي، سافر إلى العراق وعمل مدرساً في مدارسها حتى نهاية ثورة الكيلاني، ثم عاد إلى حلب مدرساً للغة العربية، وشارك في تأسيس دار الأرقم، ثم عاد إلى دمشق وتقلد عدة وظائف حكومية، دعا إلى تأسيس جمعية التمدن الإسلامي سنة 1934، وأصدر مجلة (التمدن الإسلامي) سنة 1935، انتخبه مواطنوه نائبا في البرلمان السوري، تولى وزارة الزراعة ثم التموين سنة 1963، كتب في اللغة والدين، ونظم الشعر ونشر العديد من الكتب والمقالات.
* وليد بن عبد الكريم بن إبراهيم الأعظمي: (1349/1930 ـ 1425/2004): شاعر الحقائق، وشاعر الشباب، شاعر إسلامي ملتزم، أديب خطاط، ولد في الأعظميّة ببغداد ونسب إليها، انتسب إلي جمعيّة (الآداب الإسلاميّة) ثم جمعيّة (الأخوّة الإسلاميّة) ببغداد، وكان يلقي علي منابرها أشعاره، وينشر في جريدتها قصائده، وأسهم في تأسيس (الحزب الإسلامي العراقي) سنة 1379/1960 اعتقل في عهد الرئيس عبد الكريم قاسم، أما عن الجانب الفني من شخصيّته فقد تخرّج من معهد الفنون الجميلة سنة 1385/1965 وعمل في تصحيح وكتابة مخطوطات المجمع العلمي العراقي، ترك آثاراً فنيّة في جوامع بغداد، ولوحات خطيّة في غاية الأناقة، وأصدر عدّة مجموعات شعريّة منها: (الشعاع) 1959، و(الزوابع) 1962 وأهداه إلي الشهيد سيّد قطب تقديراً وحبّاً، و(أغاني المعركة) 1966، جمع الطنطاوي أعماله الشعريّة في مجلّد، وأعماله النثريّة في ثمانية مجلّدات، توفي ببغداد.
* عماد الدين خليل: من رموز الأدب الإسلامي، ولد في الموصل عام 1939 نال درجة البكالوريوس من قسم التاريخ في جامعة بغداد والماجستير في التاريخ الاسلامي، ونال درجة الدكتوراه في التاريخ الإسلامي من جامعة عين شمس، كتب العديد من الإصدارات الادبية منها (المأسورون) و(مسرحية ذات اربعة فصول) في النقد الاسلامي المعاصر، و(الإعصار والمئذنة) و(فوضى العالم في المسرح الغربي المعاصر) و(الطبيعة في الفن الغربي والإسلامي)، و(في النقد التطبيقي) و(جداول الحب واليقين) شعراً، وعدد كبير من المسرحيات والدراسات النقدية في الفن والعقيدة والتفسير الاسلامي للتاريخ.
* محمود شيت خطّاب: (1919 ـ 1998): مؤرّخ التاريخ العسكري الإسلامي، كاتب واسع الاطلاع، رئيس لجنة توحيد المصطلحات العسكرية بالجامعة العربية، عضو المجمع العلمي العراقي 1403/1983، ومجمع اللغة العربية بدمشق، وأستاذ الدراسات العسكريّة العليا، ولد في الموصل بالعراق، تخرّج من كليّة الضبّاط العظام البريطانيّة عام 1955 خاض غمار حرب فلسطين ضابطاً في الجيش العراقي، شارك في ثورة 1958 التي أطاحت بالنظام الملكي، كتب في التاريخ العسكري العربي صفحات مشرقة، بلغت مؤلّفاته نحو 126 كتاباً تناول فيها التاريخ العسكري، والسياسة العسكريّة، واللغة العسكريّة، وتاريخ الحرب، وله نحو 320 بحثاً منها كتاب: (الرسول القائد) و(معجم الألفاظ العسكريّة في القرآن الكريم) و(درس في الكتمان من الرسول القائد) و(العسكرية العربية الإسلاميّة) ومجموعة كتب (قادة الفتح الإسلامي).
* أحمد عبد اللطيف الجدع: (1941 ـ 2012): عضو رابطة الأدب الإسلامي، كاتب مهتم بتراجم الإسلاميين، مدير دار الضياء للنشر بعمّان، ولد في مدينة جنين، إحدى مدن شمال فلسطين، وبها أنهى مراحل تعليمه الثلاث، نال الشهادة الثانويّة الأردنيّة سنة 1377/ 1958، والثانويّة المصريّة من كلية النجاح بنابلس سنة 1378/ 1959، نال شهادة ليسانس في الآداب، قسم اللغة العربيّة، من جامعة بيروت العربيّة سنة 1390/1970، ودبلوم عام وخاص في التربية وعلم النفس من جامعة قطر، اشتغل بالتدريس بين عامي: (1959 ـ 1994) في فلسطين والسعوديّة وقطر، ألّف: (دواوين الشعر الإسلامي المعاصر)، و(أناشيد الدعوة الإسلامية) أربعة أجزاء، و(فدائيون في عصر الرسول) و(شعراء معاصرون من الخليج والجزيرة العربية)، و(ألقاب الصحابة ـ مصادرها وقصصها وهدفها) و(شعراء العرب المعاصرون) أحد عشر جزءاً، و(نساء حول الرسول) و(فلسطين في فكر سيد قطب وأدبه) و(معجم الأدباء الإسلاميين المعاصرين) وغيرها، توفي بعمّان.
* يوسف العظم: (1350/1931- 1428/2007): شاعر إسلامي مطبوع، رئيس تحرير صحيفة (الكفاح الإسلامي) نائب في البرلمان الأردني، أديب، ولد في معان، تلقى دراسته في عمان وبغداد ثم توجه إلى القاهرة فنال شهادة في اللغة العربية 1372/1953 من الأزهر وتخرج من جامعة عين شمس سنة 1373/1954 في التربية، تأثر بفكر الإمام حسن البنا، شارك في تأسيس مدارس الأقصى بالأردن، شغلته القضية الفلسطينية، أصدر ديوان (في رحاب الأقصى) و(رباعيات فلسطين) و(السلام الهزيل) ومجموعة قصصية (يا أيها الإنسان) وله (الأدب رسالة حياة) و(الإيمان وأثره في نهضة الشعوب) وسلسلة المنهزمون.
* يحيى بن بشير الحاج يحيى: ( /1945 ـ معاصر): شاعر إسلامي، عضو رابطة الأدب الإسلامي، وعضو رابطة أدباء الشام، ولد في بلدة جسر الشغور، درس المرحلة الثانويّة في حلب، ثم التحق بكليّة الآداب بجامعة حلب وتخرّج منها في عام 1970، اشتغل بعد تخرجه بتدريس اللغة العربية، أقام في الأردن ثم انتقل إلى السعوديّة، وأقام في مدينة (ينبع) على البحر الأحمر، كتب الشعر الإسلامي في سن مبكرة، وكتب القصّة والمقالة الأدبيّة والنقديّة، له عدد من الدواوين الشعريّة منها: (في ظلال المصطفى) 1977، و(أناشيد الطفولة) 1984، و(على أبواب كابل) 1990، وسلسلة (من الحكايات الشعرية للأطفال) 1987، ومسرحية شعرية للناشئين 1990، و(أسمعني حكاية) قصص للأطفال في خمسة أجزاء 1986، و(قاضي الجيران وحكايات أخرى) قصص للأطفال 1991، و(حبتان) قصة للأطفال 1993، وكتب: (دليل القصة الإسلامية المعاصرة) و(المرشد إلى القصص الهادف) و(المرأة وقضايا الحياة المعاصرة) و(حروف على دروب الخلود).
* السيميائية: (السيميوتيك): يعرّف "شارلز موريس" السيميائيّة بأنها: ’’العلم الذي ينسق العلوم الأخرى، ويدرس الأشياء أو خصائص الأشياء في توظيفها للعلامات، ومن ثم فالسيميائيات هي آلة كل العلوم (علم العلوم)، لأن كل علم يستعمل العلامة، وتظهر تالياً نتائجه طبقا للعلامات، إذن هي العالم الواصف أو علم العلوم، مما يستوجب استعمال السيميائيات بوصفها أورغانوناً (أي آلة العلم ووسيلته للوصول إلى الصواب).
* تشارلز ساندرز بيسرس: ولد في كامبريدج ماساشوستس في عام 1839م، تلقى تعليمه في جامعة هارفارد، ألقى محاضراته في المنطق والفلسفة في جامعة جونز هوبكنز وجامعة هارفارد.
وسوم: العدد 945