صدور كتاب "التراث الفلكي الأندلسي، مقاربة إبستمولوجية" لعبد الرحيم صادقي
عن دار الكتب العِلمية ببيروت صدر للباحث المغربي عبد الرحيم صادقي كتاب "التراث الفلكي الأندلسي، مقاربة إبستمولوجية" (1443هـ/2022)، وهو خلاصة بحث تناولَ بالدراسة والنظر تراثَ الأندلسيين في علم الفلك من زاويتين، تاريخية وإبستمولوجية، عُنيَ فيه الباحث بالإجابة عن السؤال المحوري: "هل أبدع الأندلسيون نظرية فلكية؟"، كما عُني بتقصي الأسس الإبستمولوجية التي حكمت اشتغالهم بهذا العلم إبان الازدهار العلمي للمسلمين في الأندلس، والمقصود بتلك الأسس الأفكارُ والرؤى الفلسفية التي حكمت مبادئ هذا العِلم، وقِيَمه، ومفاهيمَه، ونقودَه، وعوائقه... بشكل مباشر واعٍ، أو من وراء ستار، لا سيما أن هذا العلم الفلك كان حاضرا بقوة في الحياة العِلمية للأندلس الإسلامية، وذلك للحاجات الدينية والمعيشية للناس (الفلك التطبيقي)، كتحديد المواقيت والقبلة، ورؤية الهلال، وللحاجات النظرية الخالصة (الفلك النظري)، كمحاولة تصوُّر النظام الذي يقوم عليه الفلك بُغية فهمِه، ومحاولة فهم الظواهر الفلكية غير المنتظفة.
هكذا، وبعد أن تطرق الكتاب إلى جَرد قائمة الفلكيين الأندلسيين ومؤلفاتهم التي وصلتنا، سواء مؤلفات الأزياج، أم المؤلفات ذات الطابع التقني، أم المؤلفات التي اشتغلت بالفلك النظري، أم بالمراسلات الفلكية... وبعد أن تطرق كذلك إلى الآلات والمآثر الفلكية الموروثة عن علماء الأندلس كالإسطرلاب والصفيحة وذات الاعتدال وذات الحِلَق والمنقانة والمِزولة والقبة السماوية، علاوة على المراصد الفلكية، اختار الباحثُ للدراسةِ للإجابة عن سؤال البحث روادَ هذا العلم في الأندلس المتمثلين في المَجريطي والزرقالي وابن باجَّه وابن طفيل وابن رشد والبطروجي؛ فالمجريطي (ت 398هـ) هو من درس المجسطي، وأدخل الفلك البطليمي إلى الأندلس. والزرقالي (ت 480هـ) هو أول من تجاوز الدوائر الفلكية، وأدخل المنحنيات اللادائرية، كما أنه هو أول من قال بالشكل البيْضي لعطارد. وابن باجَّه (ت 533هـ) هو "أعجوبة دهره، ونادرة الفلك في زمانه" كما وصفه ابن أبي أُصَيْبعة. وابن طفيل (581هـ) هو مكتشف العلاقات البعيدة والصلات الوثيقة بين ما يُظن أنْ لا صلة بينه. وابن رشد (ت595هـ) هو ملخِّص مؤلفاتِ أرسطو (المعلم الأول): "الكون والفساد" و"مقالة اللام" و"الآثار العلوية" و"السماء والعالم"، باسطا من خلال تلك التلخيصات آراءه طيَّ آراء أستاذه. والبطروجي (ت 600هـ) هو منتقد النظام البطليمي القائم على القول بتعدد الأفلاك والمراكز الخارجة.
وبعد تناوله لكل ما سبق بالنظر، خلص الباحث إلى أهم القيم الإبستمولوجية التي حكمت الفلك الأندلسي من خلال النماذج المدروسة، وعلى رأسها "التنافر بين التحليل المنطقي والتحليل الفيزيائي" بسبب تغليب المنطق الأرسطي على الفيزياء، وهو المنطق الذي رهنَ العلوم عامة، وهذا العِلمَ خاصةً لقرون، إلى أن انتصرت الفيزياء في العصر الحديث مع ثورة كوبرنيك (1543م) ومن خلفه؛ وكذا "اعتماد مبدإ العمَلية" التطبيقي الذي يستجيب للحاجات الدينية والمعيشية كما سبقت الإشارة، مما أدى بالفلك النظري إلى التراجع والانحسار؛ وكذا "قداسة المرجع المعرفي" المتمثل خاصة في النموذج الفلكي الذي صاغه أرسطو الذي كاد يُرفع إلى درجة الكمال والسلامة من العيوب أو حتى الحاجة إلى الاستدراك! وكذا "رسوخ التمثلات القبْلية" كتمثل فكرة الطبيعي والبسيط، أو فكرة كمال الأجرام السماوية... وهذا كله يُعد من عوائق الإبداع التي حالت بين فلكيِّي الأندلس وإبداع نظرية فلكية خاصة بهم، فبقوا حبيسي الفلك الأرسطي والبطليمي، رغم براعتهم في مجالات الرصد وصناعات الآلات، وفي جزئيات فلكية أخرى مختلفة، مع العِلم أن بعضهم كان قاب قوسين أو أدنى من ذلك!
تُعد الفترة الإسلامية في الأندلس من أعظم أزمنة التاريخ عطاء على صعيد كل الفنون والعلوم، ولا تفتأ المكتبة الأندلسية ولَّادةً رغم مرور أزيد من خمسة قرون على سقوط الأندلس، وذلك لأسباب مختلفة أهمُّها أن اكتشاف تلك المكتبة لم يزل مستمرا بسبب بقاء كثير من أسرارها دفينَ المخطوطات، أو فقيدَ الضياع. وإن العناية المستمرة بالبحث والتنقيب عن ذلك التراث، ثم بتحقيقه ودراسته، لكفيلة بإعادة النظر في كثير من الأحكام التاريخية والعلمية التي ارتبطت بتلك الفترة وبتاريخ العلوم عامة؛ وذلك لأن أيَّ أحكام صدرت أو تصدر في هذا الشأن - في غياب هذا الاستقصاء والتحقيق – هي بالضرورة هي أحكام جزئية مؤقتة.
وسوم: العدد 997