دعوتنا
رسائل الإمام الشهيد حسن البنا
الإمام الشهيد حسن البنا
بسم الله الرحمن الرحيم
مصارحة
نحب أن نصارح الناس بغايتنا. وأن نُجلِّي أمامهم منهاجنا، وأن نوجه إليهم دعوتنا، في غير لبس ولا غموض، أضوأ من الشمس، وأوضحَ من فَلقِ الصبح، وأبينَ من غرة النهار.
براءة
ونحب مع هذا أن يعلم قومنا – وكلُّ المسلمين قومنا – أن دعوة الإخوان المسلمين دعوة بريئة نزيهة، قد تسامت في نزاهتها حتى جاوزت المطامع الشخصية، واحتقرت المنافع المادية، وخلَّفت وراءها الأهواء والأغراض، ومضت قُدماً في الطريق التي رسمها الحق تبارك وتعالى للداعين إليه: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرةٍ أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين) يوسف. فلسنا نسألُ الناسَ شيئاً ولا نقتضيهم مالاً ولا نطالبهم بأجر، ولا نتزيد بهم وجاهة، ولا نريد منهم جزاءً ولا شكوراً، إنْ أجرنا في ذلك إلا على الذي فطرنا.
عاطفة
ونحب كذلك أن يعلم قومنا أنهم أحبُّ إلينا من أنفسنا، وأنه حبيب إلى هذه النفوس أن تذهب فداء لعزتهم إن كان فيها الفداء، وأن تزهق ثمناً لمجدهم وكرامتهم ودينهم وآمالهم إن كان فيها الغناء. وما أوقفنا هذا الموقفَ منهم إلا هذه العاطفة التي استبدت بقلوبنا، وملكت علينا مشاعرنا، فأَقضَّتْ مضاجعنا، وأسالت مدامعنا، وإنه لعزيز علينا جِدُّ عزيز أن نرى ما يحيط بقومنا ثم نستسلم للذل أو نرضى بالهوان أو نستكين لليأس، فنحن نعمل للناس في سبيل الله أكثر مما نعمل لأنفسنا، فنحن لكم لا لغيركم أيها الأحباب ولن نكون عليكم يوماً من الأيام.
لله الفضل والمنة
ولسنا نَمتنُّ بشيء ولا نرى لأنفسنا في ذلك فضلاً، وإنما نعتقد قول الله تبارك وتعالى: (بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين) الحجرات آية 17.
وكم نتمنى – لو تنفع المنى – أن تتفتح هذه القلوب على مرأى ومسمع من أمتنا، فينظر إخواننا هل يرون فيها إلا حب الخير لهم والإشفاق عليم والتفاني في صالحهم؟. وهل يجدون إلا ألماً مُمِضّاً مضنياً من هذه الحال التي وصلنا إليها، ولكن حسبنا أن الله يعلم ذلك كله، وهو وحده الكفيل بالتأييد الموفق للتسديد، بيده أزمة القلوب ومفاتيحها، مَنْ يهدِ الله فلا مُضلَّ له ومن يضلل الله فلا هادي له، وهو حسبنا ونعم الوكيل. أليس الله بكافٍ عبده؟.
أصناف أربعة
وكل الذي نريده من الناس أن يكونوا أمامنا واحداً من أربعة:
مؤمن
إما شخص آمن بدعوتنا، وصدق بقولنا، وأعجب بمبادئنا، ورأى فيها خيراً اطمأنت إليه نفسه وسكن له فؤاده، فهذا ندعوه أن يبادر بالانضمام إلينا والعمل معنا حتى يكثر به عدد المجاهدين ويعلو بصوته صوت الداعين، ولا معنى لإيمان لا يتبعه عمل، ولا فائدةَ في عقيدة لا تدفع صاحبها إلى تحقيقها والتضحية في سبيلها، وكذلك كان السابقون الأولون ممن شرح الله صدورهم لهدايته فاتبعوا أنبياءه وآمنوا برسالاته، وجاهدوا فيه حق جهاده، ولهؤلاء من الله أجزلُ الأجر، وأن يكون لهم مثل ثواب من اتبعوهم لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً.
متردد
وإما شخص لم يَسْتَبِنْ له وجهُ الحق، ولم يتعرف في قولنا معنى الإخلاص والفائدة، فهو متوقف متردد، فهذا نتركه لتردده، ونوصيه بأن يتصل بنا عن كثب، ويقرأ عنا من بعيد أو من قريب، ويطالع كتاباتنا، ويزور أنديتنا، ويتعرف إلى إخواننا، فسيطمئن بعد ذلك لنا إن شاء الله، وكذلك كان شأن المترددين من أتباع الرسل من قبل.
نفعي
وإما شخص لا يريد أن يبذل معونته إلا إذا عرف ما يعود عليه من فائدة وما يجره هذا البذل له من مَغْنم فنقول له: حَنانيكَ ليس عندنا من جزاء إلا ثواب الله إن أخلصتَ، والجنة إن علم الله فيك خيراً، أما نحن فمغمورون جاهاً، فقراء مالاً، شأننا التضحية بما معنا وبذل ما في أيدينا، ورجاؤنا رضوان الله وهو نعم المولى ونعم النصير، فإن كشف الله الغشاوة عن قلبه، وأزاح كابوس الطمع عن فؤاده فسيعلم أن ما عند الله خير وأبقى، وسينضم إلى كتيبة الله ليجود بما معه من عَرَضِ هذه الحياة الدنيا، لينال ثواب الله في العقبى و(ما عندكم ينفد وما عند الله باق)، وإن كانت الأخرى فالله غني عمن لا يرى لله الحق الأول في نفسه وماله ودنياه وموته وحياته، وكذلك كان شأن قوم من أشباهه حين أبوا مبايعة رسول الله صلى الله وعليه وسلم إلا أن يجعلَ لهم الأمر من بعده، فما كان جوابه صلى الله عليه وسلم إلا أن أعلمهم أن (الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين). (الأعراف: 128).
متحامل
وإما شخص ساء فينا ظنه، وأحاطت بنا شكوكه وريبه، فهو لا يرانا إلا بالمنظار الأسود القاتم، ولا يتحدث عنا إلا بلسان المتحرج المتشكك، ويأبى إلا أن يلج في غروره ويَسْدر في شكوكه ويظل مع أوهامه، فهذا ندعو الله لنا وله أن يُرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يلهمنا وإياه الرشد، ندعوه إنْ قبل الدعاء ونناديه إن أجاب النداء وندعو الله فيه وهو سبحانه أهل الرجاء، ولقد أنزل الله على نبيه الكريم في صنف من الناس (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) القصص: 56، وهذا سنظل نحبه ونرجو فيئه إلينا واقتناعه بدعوتنا، وإنما شعارنا معه ما أرشدنا إليه المصطفى صلى الله عليه وسلم من قبل: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".
نحب أن يكون الناس معنا واحداً من هؤلاء، وقد حان الوقت الذي يجب فيه على المسلم أن يدرك غايته ويحدد وجهته، ويعمل إلى هذه الوجهة حتى يصل إلى الغاية، أما تلك الغفلة السادرة والخطرات اللاهية، والقلوب الساهية، والانصياع الأعمى، واتباع كل ناعق فما هو من سبيل المؤمنين في شيء.
فناء
ونحب أن يعلم قومنا إلى جانب هذا أن هذه الدعوة لا يصلح لها إلا مَنْ حاطها من كل جوانبها، ووهب لها ما تكلفه إياه من نفسه وماله ووقته وصحته: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموالٌ اقترفتموها وتجارةٌ تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين) التوبة: 24.
فهي دعوة لا تقبل الشركة إذ إن طبيعتها الوحدة، فمن استعد لذلك فقد عاش بها وعاشت به، ومن ضعف عن هذا العبء فسيحرمُ ثوابَ المجاهدين ويكون مع المخلَّفين، ويقعد مع القاعدين، ويستبدل الله لدعوته به قوماً آخرين (أذلةٍ على المؤمنين أعزةٍ على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) المائدة.
وضوح
نحن ندعو الناس إلى "مبدأ"... مبدأ واضح محدود مسلم به منهم جميعاً، هم جميعاً يعرفونه ويؤمنون به ويدينون بأحقيته ويعلمون أن فيه خلاصهم وإسعادهم وراحتهم.. مبدأ أثبتت التجربةُ وحكم التاريخ صلاحيتَهُ للخلود وأهليته لإصلاح الوجود.
إيمانان
والفرق بيننا وبين قومنا - بعد اتفاقنا في الإيمان بهذا المبدأ - أنه عندهم إيمان مخدر نائم في نفوسهم لا يريدون أن ينزلوا على حكمه ولا أن يعملوا بمقتضاه، على حين أنه إيمان ملتهب مشتعل قوي يَقِظٌ في نفوس الإخوان المسلمين.
ظاهرة نفسية عجيبة نلمسها ويلمسها غيرنا في نفوسنا نحن الشرقيين أن نؤمن بالفكرة إيماناً يخيل للناس حين نتحدث إليهم عنها أنها ستحملنا على نسف الجبال، وبذل النفس والمال واحتمال المصاعب ومقارعة الخطوب حتى ننتصر بها أو تنتصر بنا، حتى إذا هدأت ثائرة الكلام وانفضَّ نظام الجمع نسي كلُّ إيمانه وغفل عن فكرته، فهو لا يفكر في العمل لها، ولا يحدث نفسه بأن يجاهد أضعف الجهاد في سبيلها، بل إنه قد يبالغ في هذه الغفلة وهذا النسيان حتى يعمل على ضدها وهو يشعر أو لا يشعر؟ أو لست تضحك عجباً حين ترى رجلاً من رجال الفكر والعمل والثقافة في ساعتين اثنتين متجاورتين من ساعات النهار ملحداً مع الملحدين وعابداً مع العابدين!
هذا الخور أو النسيان أو الغفلة أو النوم أو قُلْ فيه ما شئت هو الذي جعلنا نحاول أن نوقظ "مبدأنا" هو مبدأ المُسلَّمُ به من قومنا في نفوس هؤلاء القوم المحبوبين.
دعوات
وإذن سأعود إلى أول كلمتي فأقول: إن دعوة الإخوان المسلمين دعوة مبدأ، وفي الشرق والغرب اليوم دعوات ومبادئ وفكر ومذاهب وآراء ومنازع كلها تتقسم عقول الناس وتتنازع ألبابهم، وكل منها يزينه أهله، ويقوم بالدعاية له أبناؤه وأتباعه وعشاقه ومريدوه، ويَدَّعون له المزايا والمحاسن ويبالغون في هذا الادعاء ما يبرزه للناس جميلاً خلاباً رائعاً.
دعاة
والدعاة اليوم غيرهم بالأمس فهم مثقفون مجهزون مدربون أخصائيون – ولا سيما في البلاد الغربية – حيث تختص بكل فكرة كتيبة مدربة توضح غامضها وتكشف عن محاسنها، وتبتكر لها وسائل النشر وطرائق الدعاية، وتتلمس لها في نفوس الناس أيسر السبل وأهونها وأقربها إلى الاقتناع والاتباع.
وسائل
ووسائل الدعاية الآن غيرها بالأمس كذلك، فقد كانت دعاية الأمس كلمة تلقى في خطبة أو اجتماع، أو كلمة تكتب في رسالة أو خطاب، أما الآن فنشرات ومجلات وجرائد ورسالات ومسارح (وخيالات) وحاكٍ ومذياع، وقد ذلل ذلك كله سبل الوصول إلى قلوب الناس جميعهم، نساء ورجالاً في بيوتهم ومتاجرهم ومصانعهم ومزارعهم.
لهذا كان من واجب أهل الدعوة أن يحسنوا تلك الوسائل جميعاً حتى يأتي عملهم بثمرته المطلوبة.
وما لي ولهذا الاستطراد؟ سأعود مرة ثانية فأقول: إن العالم الآن في حالة تخمة بالدعوات ما بين سياسية وقومية ووطنية واقتصادية وعسكرية وسلمية، فأين دعوة الإخوان المسلمين من هذا المزيج المركب كله؟
سيدعوني ذلك إلى أن أتكلم في أمرين: أولهما: هيكل دعوتنا الإيجابي المجرد، ثم بعد ذلك موقفها من كل نوع من أنواع هذه الدعوات.
ولا تؤاخذني بهذا الاستطراد في القول؛ فقد أخذت على نفسي أن أكتب كما أتحدث، وأن أتناول موضوعي بهذا اللون من ألوان الكتابة في غير تكلف ولا عناء، وإنما أريد أن يفهمني الناس كما أنا ويصل كلامي إلى نفوسهم خالياً من التزويق والتقسيم.
إسلامنا
اسمع يا أخي: هيكل دعوتنا دعوة أجمع ما توصف به أنها دعوة (إسلامية)، ولهذه الكلمة معنى واسع غير ذلك المعنى الضيق الذي يفهمه الناس. فإنا نعتقد أن الإسلام معنى شامل ينتظم شؤون الحياة جميعاً، ويفتي في كل شأن منها ويضع له نظاماً محكماً دقيقاً، ولا يقف مكتوفاً أمام المشكلات الحيوية والنظم التي لا بد منها لإصلاح الناس.
فهم بعض الناس خطأ أن الإسلام مقصور على ضروب من العبادات، أو أوضاع من الروحانيات، وحصروا أنفسهم وأفهامهم في هذه الدوائر الضيقة من دوائر الفهم المحصور.
ولكنا نفهم الإسلام على غير هذا الوجه فهماً فسيحاً واسعاً ينتظم شؤون الدنيا والآخرة، ولسنا ندعي هذا ادعاء، أو نتوسع فيه من أنفسنا، وإنما هو ما فهمناه من كتاب الله وسيرة المسلمين الأولين، والقرآن بيننا وبين قومنا، (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحلق، وأنت خير الفاتحين) (الأعراف: 89). فإن شاء القارئ أن يفهم دعوة الإخوان بشيء أوسع من كلمة (الإسلامية) فليمسك بمصحفه وليجرد نفسه من الهوى والغاية ثم يتفهم ما عليه القرآن فسيرى في ذلك دعوة الإخوان.
أجل: دعوتنا (إسلامية) بكل ما تحتمل الكلمة من معان، فافهم فيها ما شئت بعد ذلك، وأنت في فهمك هذا مقيد بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة السلف الصالحين من المسلمين.
فأما كتاب الله فهو أساس الإسلام ودعامته، وأما سنة رسوله فهي مُبِّينةُ الكتاب وشارحته، وأما سيرة السلف الصالح فهم رضوان الله عليهم منفذو أوامره، والآخذون بتعاليمه، وهم المثل العملية، والصورة الماثلة لهذه الأوامر والتعاليم.
موقفنا من الدعوات
وموقفنا من الدعوات المختلفة التي طغت في هذا العصر ففرقت القلوب وبلبلت الأفكار أن نَزِنَها بميزان دعوتنا، فما وافقها فمرحباً به وما خالفها فنحن براء منه، ونحن مؤمنون بأن دعوتنا عامة محيطة لا تغادر جزءاً صالحاً من أية دعوة إلا أَلَمَّتْ به وأشارت إليه.
الوطنية
افتتن الناس بدعوة الوطنية تارة، والقومية تارة أخرى، وبخاصة في الشرق حيث تشعر الشعوب الشرقية بإساءة الغرب إليها إساءة نالت من عزتها وكرامتها واستقلالها، وأخذت من مالها ومن دمها، وحيث تتألم هذه الشعوب من هذا النير الغربي الذي فرض عليها فرضاً، فهي تحاول الخلاص منه بكل ما في وسعها من قوة ومنعة وجهاد وجِلاد، فانطلقت ألسنُ الزعماء وسالت أنهار الصحف، وكتب الكاتبون وخطب الخطباء وهتف الهاتفون باسم الوطنية وجلال القومية.
حسن ذلك وجميل، ولكن غير الحسن وغير الجميل أنك حين تحاول إفهام الشعوب الشرقية وهي مسلمة أن ذلك في الإسلام بأوفى وأزكى وأسمى وأنبل مما هو في أفواه الغربيين وكتابات الأوروبيين أبوا ذلك عليك ولَجُّوا في تقيلدهم يعمهون، وزعموا لك أن الإسلام في ناحية وهذه الفكرة في ناحية أخرى، وظن بعضهم أن ذلك مما يفرق وحدة الأمة ويضعف رابطة الشعب.
هذا الوهم الخاطئ كان خطراً بكلتا ناحيتيه على الشعوب الشرقية من كل الوجهات، وبهذا الوهم أحببت أن أعرض هنا إلى موقف الإخوان المسلمين ودعوتهم من فكرة الوطنية، ذلك الموقف الذي ارتضوه لأنفسهم والذي يريدون ويحاولون أن يرضاه الناس معهم.
وطنية الحنين
إن كان دعاة الوطنية يريدون بها حب هذه الأرض وأُلْفَتها والحنين إليها والانعطافَ نحوها فذلك أمر مركوز في فِطَرِ النفوس من جهة، مأمور به في الإسلام من جهة أخرى، وإن بلالاً الذي ضحى بكل شيء في سبيل عقيدته ودينه هو بلال الذي كان يهتف في دار الهجرة بالحنين إلى مكة في أبيات تسيل رقة وتقطر حلاوة:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلةً بوادٍ وحولي إذ خر وجليل
وهل أردن يوماً مياه مجنةٍ وهل يبدون لي شامة وطفيل
ولقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف مكة من "أصيل" فجرى دمعه حنيناً إليها وقال: يا أصيل دَعِ القلوبَ تَقِرّ.
وطنية الحرية والعزة
وإن كانوا يريدون أن من الواجب العمل بكل جهد في تحرير البلد من الغاصبين وتوفير استقلاله له، وغرس مبادئ العزة والحرية في نفوس أبنائه، فنحن معهم في ذلك أيضاً، وقد شدد الإسلام في ذلك أبلغ التشديد، فقال تبارك وتعالى: (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون) المنافقون: 8 ويقول: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) النساء: 141.
وطنية المجتمع
وإن كانوا يريدون بالوطنية تقوية الرابطة بين أفراد القطر الواحد، وإرشادهم إلى طريق استخدام هذه التقوية في مصالحهم، فذلك نوافقهم فيه أيضاً، ويراه الإسلام فريضة لازمة فيقول نبيه صلى الله عليه وسلم: "وكونوا عباد الله إخوانا" ويقول القرآن الكريم: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون". آل عمران: 118
وطنية الفتح
وإن كانوا يريدون بالوطنية فتح البلاد وسيادة الأرض فقد فرض ذلك الإسلام ووجَّه الفاتحين إلى أفضل استعمار وأبرك فتح، فذلك قوله تعالى: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنةٌ ويكون الدين لله" الأنفال.
وطنية الحزبية
وإن كانوا يريدون بالوطنية تقسيم الأمة إلى طوائف تتناحر وتتضاغن وتتراشق بالسباب وتترامى بالتهم، ويكيد بعضها لبعض، وتتشيع لمناهج وضعية أَمْلتها الأهواءُ وشكلتها الغايات والأغراض، وفَسَّرتها الأفهام وفق المصالح الشخصية، والعدو يستغل كل ذلك لمصلحته، ويزيد وقود هذه النار اشتعالاً، يفرقهم في الحق ويجمعهم على الباطل، ويحرم عليهم اتصالَ بعضهم ببعض وتعاون بعضهم مع بعض، ويُحِلُّ لهم هذه الصلة به والالتفاف حوله فلا يقصدون إلا داره، ولا يجتمعون إلا زواره، فتلك وطنية زائفة لا خير فيها لدعاتها ولا للناس. فها أنت ذا قد رأيتَ أننا مع دعاة الوطنية، بل مع غُلاتهم في كل معانيها الصالحة التي تعود بالخير على البلاد والعباد، وقد رأيت مع هذا أن تلك الدعوى الوطنية الطويلة العريضة لم تخرج عن أنها جزء من تعاليم الإسلام.
حدود وطنيتنا
أما وجه الخلاف بيننا وبينهم فهو أننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة وهم يعتبرونها بالتخوم الأرضية والحدود الجغرافية، فكل بقعة فيها مسلم يقول: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وطن عندنا له حرمتُه وقداسته وحبه والإخلاص له والجهاد في سبيل خيره، وكل المسلمين في هذه الأقطار الجغرافية أهلنا وإخواننا نهتم لهم ونشعر بشعورهم ونحس بإحساسهم، ودعاة الوطنية فقط ليسوا كذلك، فلا يعنيهم إلا أمر تلك البقعة المحدودة الضيقة من رقعة الأرض، ويظهر لك ذلك الفارق العملي فيما إذا أرادت أمة من الأمم أن تقوي نفسها على حساب غيرها فنحن لا نرضى ذلك على حساب أي قطر إسلامي وإنما نطلب القوة لنا جميعاً، ودعاة الوطنية المجردة لا يرون بذلك بأساً، ومن هنا تتفكك الروابط وتضعف القوى ويضرب العدو بعضهم ببعض.
غاية وطنيتنا
هذه هي واحدة. والثانية أن الوطنيين فقط، جُلّ ما يقصدون إليه، تخليص بلادهم، فإذا ما عملوا لتقويتها بعد ذلك، اهتموا بالنواحي المادية كما تفعل أوربا الآن، أما نحن فنعتقد أن المسلم في عنقه أمانة عليه أن يبذل نفسه ودمه وماله في سبيل أدائها، تلك هي هداية البشر بنور الإسلام، ورفع علمه خفاقاً على كل ربوع الأرض، لا يبغي بذلك مالاً ولا جاهاً ولا سلطاناً على أحد ولا استعباداً لشعب، وإنما يبغي وجه الله وحده وإسعاد العالم بدينه وإعلاء كلمته، وذلك ما حدا بالسلف الصالحين رضوان الله عليهم إلى هذه الفتوح القدسية التي أدهشت الدنيا، وأربت على كل ما عرف التاريخ من سرعة وعدل ونبل وفضل.
وحدة
وأحب أن أنبهك إلى سقوط ذلك الزعم القائل: إن الجري على هذا المبدأ يمزق وحدة الأمة التي تتألف من عناصر دينية مختلفة، فإن الإسلام وهو دين الوحدة والمساواة كفل هذه الروابط بين الجميع ما داموا متعاونين على الخير، (لا ينهاكم الله على الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين). الممتحنة، فمن أين يأتي التفريق إذن؟
وبعد فحسبنا أن يعلم الناس عنا أننا متفقون مع أشد الناس غلواً في الوطنية في حب الخير للبلاد والجهاد في سبيل تخليصها وخيرها وارتقائها، ونعمل ونؤيد كل من يسعى في ذلك بإخلاص، بل أحب أن تعلم أن مهمتهم إن كانت تنتهي بتحرير الوطن واسترداد مجده فإن ذلك عند الإخوان المسلمين بعض الطريق فقط أو مرحلة منه واحدة، ويبقى بعد ذلك أن يعملوا لترفع راية الوطن الإسلامي على كل بقاع الأرض، ويخفق لواء "المصحف" في كل مكان.
القومية
وأنا الآن سأتحدث إليك عن موقفنا من مبدأ القومية.
قومية المجد
فإن كان الذين يعتزون بمبدأ القومية يقصدون به أن الأخلاف يجب أن ينهجوا نهج الأسلاف في مراقي المجد والعظمة ومدارك النبوغ والهمة، وأن تكون لهم بهم في ذلك قدوة حسنة، وأن عظمة الأب مما يعتز به الابن ويجدُ لها الحماسَ والأريحية بدافع الصلة والوراثة، فهو مقصد حسن جميل نشجعه ونأخذ به، وهل عُدَّتنا في إيقاظ همة الحاضرين إلا أن نَحْدُوهم بأمجاد الماضين؟ ولعل الإشارة إلى هذا في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ما معناه: "الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا" فها أنت ذا ترى أن الإسلام لا يمنع من القومية بهذا المعنى الفاضل النبيل.
قومية الأمة
وإذا قُصدَ بالقومية أن عشيرة الرجل وأمته أولى الناس بخيره وبره، وأحقَّهم بإحسانه وجهاده، فهو حق كذلك ومن ذا الذي لا يرى أولى الناس بجهوده قومه الذين نشأ فيهم ونما بينهم؟
لعمري لرهطُ المرء خير بقية عليه وإن عالوا به كل مركب
وإذا قصد بالقومية أننا جميعاً مبتلون مطالبون بالعمل والجهاد، فعلى كل جماعة أن تحقق الغاية من جهتها حتى نلتقي جميعاً إن شاء الله في ساحة النصر فنعم التقسيم هذا، ومَنْ لنا بمن يحدو الأمم الشرقية كتائب كل في ميدانها حتى نلتقي جميعاً في بحبوحة الحرية والخلاص؟
كل هذا وأشباهه في معنى القومية جميل معجب لا يأباه الإسلام، وهو مقياسنا، بل ينفسح صدرنا له ونحض عليه.
قومية الجاهلية
أما أن يراد بالقومية إحياء عادات جاهلية درست، وإقامة ذكريات بائدة خلت، وتَعفيةُ حضارة نافعة استقرت، والتحلل من عقدة الإسلام ورباطه بدعوى القومية والاعتزاز بالجنس، كما فعلت بعض الدول في المغالاة بتحطيم مظاهر الإسلام والعروبة، حتى الأسماء وحروف الكتابة وألفاظ اللغة، وإحياء ما اندرس من عادات جاهلية، فذلك في القومية معنى ذميم وخيم العاقبة سيئ المَغبَّة، يؤدي بالشرق إلى خسارة فادحة يضيع معها تراثه، وتنحط بها منزلته، ويفقد أخص مميزاته وأقدس مظاهر شرفه ونُبْلهِ وهو دينُ الإسلام، ولا يضر ذلك دين الله شيئاً: (وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) محمد: 38.
قومية العدوان
وأما أن يراد بالقومية الاعتزاز بالجنس إلى درجة تؤدي إلى انتقاص الأجناس الأخرى والعدوان عليها، والتضحية بها في سبيل عزة أمة وبقائها، كما تنادي بذلك ألمانيا وإيطاليا مثلاً، بل كما تدعي كل أمة تنادي بأنها فوق الجميع؛ فهذا معنى ذميم كذلك ليس من الإنسانية في شيء، ومعناه أن يتناحر الجنس البشري في سبيل وهم من الأوهام لا حقيقة له ولا خير فيه.
دعامتان
الإخوان المسلمون لا يؤمنون بالقومية بهذه المعاني ولا بأشباهها ولا يقولون: فرعونية وعربية وفينيقية وسورية ولا شيئاً من هذه الألقاب والأسماء التي يتنابز بها الناس، ولكنهم يؤمنون بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الإنسان الكامل؛ بل أكملُ معلم علّم الإنسانية الخير: "إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناسُ لآدم وآدم من تراب، لا فضلَ لعربي على أعجمي إلا بالتقوى".
ما أروع هذا وأجمله وأعدله، الناس لآدم فهم في ذلك أكفاء، والناس يتفاضلون بالأعمال فواجبهم التنافس في الخير، دعامتان قويمتان قويتان لو بنيت عليهما الإنسانية لارتفعت بالبشر إلى علياء السموات، الناس لآدم فهم إخوان، فعليهم أن يتعاونوا، وأن يسالم بعضهم بعضاً، ويرحم بعضهم بعضاً ويدل بعضهم بعضاً على الخير، والتفاضل بالأعمال. فعليهم أن يجتهدوا كلٌ من ناحيته حتى ترقى الإنسانية، فهل رأيت سمواً بالإنسانية أعلى من هذا السمو، أو تربية أفضل من هذه التربية؟
خواص العروبة
ولسنا مع هذا ننكر خواص الأمم ومميزاتها الخلقية، فنحن نعلم أن لكل شعب مميزاته وقسطه من الفضيلة والخلق، ونعلم أن الشعوب في هذا تتفاوت وتتفاضل، ونعتقد أن العروبة لها من ذلك النصيب الأوفى والأوفر، ولكن ليس معنى هذا أن تتخذ الشعوب هذه المزايا ذريعة إلى العدوان، بل عليها أن تتخذ ذلك وسيلة إلى تحقيق المهمة السابقة التي كُلِّفها كلُّ شعب، تلك هي النهوض بالإنسانية، ولعلك لست واجداً في التاريخ من أدرك هذا المعنى من شعوب الأرض كما أدركته تلك الكتيبة العربية من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا استطراد اقتضاه السير في البحث، ولا أحب أن أتابعه حتى لا يشط بنا القول ولكن أعود بك إلى ما نحن بسبيله فأقول:
رباط العقيدة
أما إذ عرفت هذا فاعلم – أيدك الله – أن الإخوان المسلمين يرون الناس بالنسبة إليهم قسمين: قسم اعتقد ما اعتقدوه من دين الله وكتابه وآمن ببعثة رسوله وما جاء به، وهؤلاء تربطنا بهم أقدس الروابط، رابطة العقيدة وهي عندنا أقدس من رابطة الدم ورابطة الأرض، فهؤلاء هم قومنا الأقربون الذين نَحنُّ إليهم ونعملُ في سبيلهم، ونذود عن حماهم، ونفتديهم بالنفس والمال، في أي أرض كانوا، ومن أية سلالة انحدروا.
وقوم ليسوا كذلك ولم نرتبط معهم بعد بهذا الرباط، فهؤلاء نسالمهم ما سالموا، ونحب لهم الخير ما كَفُّوا عدوانهم عنا، ونعتقد أن بيننا وبينهم رابطة هي رابطة الدعوة، علينا أن ندعوهم إلى ما نحن عليه؛ لأنه خير الإنسانية كلها، وأن نسلك إلى نجاح هذه الدعوة ما حدد لها الدين نفسه من سُبلٍ ووسائل، فمن اعتدى علينا منهم رددنا عدوانه بأفضل ما يرد به عدوان المعتدين.
أما إذا أردت ذلك من كتاب الله فاسمع:
1- (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم) الحجرات: 10.
2- (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم) الممتحنة: 8 -9.
ولعلي أكون بذلك قد كشفتُ لك عن هذه الناحية من دعوتنا بما لا يدعها في نفسك ملتبسة أو غامضة، لعلك بعد ذلك عرفتَ إلى أي قبيل ينتسب الإخوان المسلمون.
أمام الخلافات الدينية
أتحدث إليك الآن عن دعوتنا أمام الخلافات الدينية والآراء المذهبية.
تجمع ولا تفرق
فاعلم – فقهك الله – أولاً: أن دعوة الإخوان المسلمين دعوة عامة لا تنتسب إلى طائفة خاصة، ولا تنحاز إلى رأي عُرف عند الناس بلون خاص ومستلزمات وتوابع خاصة، وهي تتوجه إلى صميم الدين ولُبِّه، وتود أن تتوحد وجهة الأنظار والهمم حتى يكون العمل أجدى والإنتاج أعظم وأكبر.
فدعوة الإخوان دعوة بيضاء نقية غير ملوثة بلون، وهي مع الحق أينما كان، تحب الإجماع وتكره الشذوذ؟ وإن أعظم ما مُنيَ به المسلمون الفرقة والخلاف، وأساس ما انتصروا به الحب والوحدة، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها؛ هذه قاعدة أساسية وهدف معلوم لكل أخ مسلم، وعقيدة راسخة في نفوسنا، نصدر عنها وندعو إليها.
الخلاف ضروري
ونحن مع هذا نعتقد أن الخلاف في فروع الدين أمر لا بد منه ضرورة، ولا يمكن أن نتحد في هذه الفروع والآراء والمذاهب لأسباب عدة:
منها: اختلاف العقول في قوة الاستنباط وضعفه وإدراك الدلائل والجهل بها والغوص على أعماق المعاني، وارتباط الحقائق بعضها ببعض، والدين آيات وأحاديث ونصوص يفسرها العقل والرأي في حدود اللغة وقوانينها، والناس في ذلك جد متفاوتين فلا بد من خلاف.
وأن منها: سعة العلم وضيقه، وإن هذا بَلَغهُ ما لم يبلغْ ذاك والآخر شأنه كذلك. وقد قال مالك لأبي جعفر: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار وعند كل قوم علم، فإذا حملتهم على رأي واحد تكون فتنة.
ومنها: اختلاف البيئات حتى إن التطبيق ليختلف باختلاف كل بيئة، وإنك لترى الإمام الشافعي رضي الله عنه يفتي بالقديم في العراق ويفتي بالجديد في مصر، وهو في كليهما آخذٌ بما استبان له وما اتضح عنده لا يعدو أن يتحرى الحق في كليهما.
ومنها اختلاف الاطمئنان القلبي إلى الرواية عند المتلقين لها، فبينما تجد هذا الراوي ثقة عند هذا الإمام تطمئن إليه نفسك وتطيب بالأخذ عنه، تراه مجروحاً عند غيره لما علم عن حاله.
ومنها: اختلاف تقدير الدلالات؛ فهذا يعتبر عمل الناس مُقدَّماً على خبر الآحاد مثلاً، وذاك لا يقول معه به، وهكذا.
الإجماع على أمر فرعي متعذر
كل هذه الأسباب جعلتنا نعتقد أن الإجماع على أمر واحد في فروع الدين مطلب مستحيل، بل هو يتنافى مع طبيعة الدين نفسه, وإنما يريد الله لهذا الدين أن يبقى ويخلد ويساير العصور ويماشي الأزمان، وهو لهذا سهل مرن هين لين، لا جمودَ فيه ولا تشديد.
نعتذر لمخالفينا
نعتقد هذا فنلتمس العذر كل العذر لمن يخالفوننا في بعض الفرعيات، ونرى أن هذا الخلاف لا يكون أبداً حائلاً دون ارتباط القلوب وتبادل الحب والتعاون على الخير، وأن يشملنا وإياهم معنى الإسلام السابغ بأفضل حدوده وأوسع مشتملاته؛ ألسنا مسلمين وهم مسلمون؟ وألسنا نحب أن ننزل على حكم اطمئنان نفوسنا وهم يحبون ذلك؟ وألسنا مطالبين بأن نحب لإخواننا ما نحب لأنفسنا؟ ففيم الخلاف إذن؟ ولماذا لا يكون رأينا مجالاً للنظر عندهم كرأيهم عندنا؟ ولماذا لا نتفاهم في جو الصفاء والحب إذا كان هناك ما يدعو إلى التفاهم؟
هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخالف بعضهم بعضاً في الإفتاء، فهل أوقع ذلك اختلافاً بينهم في القلوب؟ وهل فرق وحدتهم أو فرق رابطتهم؟ اللهم لا، وما حديث صلاة العصر في قريظة ببعيد.
وإذا كان هؤلاء قد اختلفوا وهم أقرب الناس عهداً بالنبوة، وأعرفهم بقرائن الأحكام، فما بالنا نتناحر في خلافات تافهة لا خطر لها؟
وإذا كان الأئمة وهم أعلم الناس بكتاب الله وسنة رسوله قد اختلف بعضهم مع بعض، وناظر بعضهم بعضاً فَلِمَ لا يَسَعُنَا ما وَسِعَهم؟ وإذا كان الخلاف قد وقع في أشهر المسائل الفرعية وأوضحها كالأذان الذي ينادى به خمس مرات في اليوم الواحد، ووردت به النصوص والآثار فما بالك في دقائق المسائل التي مرجعها إلى الرأي والاستنباط؟
وثَمَّ أمر آخر جدير بالنظر، إن الناس كانوا إذا اختلفوا رجعوا إلى (الخليفة) وشرطه الإمامة، فيقضي بينهم ويرفع حكمهُ الخلاف، أما الآن فأين الخليفة، وإذا كان الأمر كذلك فأولى بالمسلمين أن يبحثوا عن القاضي، ثم يعرضوا قضيتهم عليه، فإن اختلافهم من غير مرجع لا يردهم إلا إلى خلاف آخر.
يعلم الإخوان المسلمون كل هذه الحيثيات، فهم لهذا أوسع الناس صدراً مع مخالفيهم، ويرون أن مع كل قوم علماً، وفي كل دعوة حقاً وباطلاً، فهم يتحرون الحق ويأخذون به، ويحاولون في هوادة ورفق إقناع المخالفين بوجهة نظرهم، فإن اقتنعوا فذاك، وإن لم يقتنعوا فإخوان في الدين، نسأل الله لنا ولهم الهداية.
ذلك منهاج الإخوان المسلمين أمام مخالفيهم في المسائل الفرعية في دين الله، يمكن أن أجمله لك في أن الإخوان يجيزون الخلاف، ويكرهون التعصب للرأي، ويحاولون الوصول إلى الحق، ويحملون الناس على ذلك بألطف وسائل اللين والحب.
إلى العلاج
يا أخي: أعلم وتَعلْمُ أن مثل الأمم في قوتها وضعفها وشبابها وشيخوختها وصحتها وسقمها مثل الأفراد سواء بسواء، فالفرد بينا تراه قوياً معافى صحيحاً سليماً، إذا بك تراه وقد انتابته العلل، وأحاطت به الأسقام، وهَدَّتْ بُنْيته القوية الأمراض والآلام، ولا يزال يشكو ويئنُّ حتى تتداركه رحمة الله تبارك وتعالى بطبيب ماهر ونَطاسيٍّ بارع يعلم موطن العلة ويحسن تشخيصها، ويتعرف موضع الداء ويخلص في علاجه، فإذا بك بعد حين ترى هذا المريض وقد عادت إليه قوته ورجعت له صحته، وربما كان بعد هذا العلاج خيراً منه قبله. قُلْ مثلَ ذلك في الأمم تماماً، تعترضها حوادث الزمن بما يهدد كيانها ويُصَدِّعُ بُنيانها ويسري في مظاهر قوتها سريان الداء، ولا يزال يلح عليها ويتشبث بها حتى ينال منها فتبدو هزيلة ضعيفة يطمع فيها الطامعون، وينال منها الغاصبون، فلا تقوى على رد غاصب، ولا تمنع من مطامع طامح، وعلاجها إنما يكون بأمور ثلاثة: معرفة موطن الداء، والصبر على آلام العلاج، والنطاسي الذي يتولى ذلك حتى يحقق الله على يديه الغاية ويتمم الشفاء والظفر.
الأعراض
وقد علمتنا التجارب وعرفتنا الحوادث أن داء هذه الأمم الشرقية متشعب المناحي كثير الأعراض قد نال من كل مظاهر حياتها. فهي مصابة في ناحيتها السياسية بالاستعمار من جانب أعدائها، والحزبية والخصومة والفرقة والشتات من جانب أبنائها، وفي ناحيتها الاقتصادية بانتشار الربا بين كل طبقاتها، واستيلاء الشركات الأجنبية على مواردها وخيراتها. وهي مصابة من ناحيتها الفكرية بالفوضى والمروق، والإلحاد يهدم عقائدها ويحطم المثل العليا في نفوس أبنائها.
وفي ناحيتها الاجتماعية بالإباحية في عاداتها وأخلاقها والتحلل من عقدة الفضائل الإنسانية التي ورثتها عن الغر الميامين من أسلافها، وبالتقليد الغربي يسري في شؤونها سريان لعاب الأفاعي فيسمم دماءها، ويعكر صفو هنائها، وبالقوانين الوضعية التي لا تزجر مجرماً، ولا تؤدب معتدياً، ولا ترد ظالماً، ولا تغني يوماً من الأيام غناء القوانين السماوية التي وضعها خالق الخلق، ومالك الملك، ورب النفوس وبارئها، وبفوضى في سياسة التعليم والتربية تحول دون التوجيه الصحيح لنشئها ورجال مستقبلها وحملة أمانة النهوض بها.
وفي ناحيتها النفسانية بيأس قاتل، وخمول مميت، وجبن فاضح، وذلة حقيرة، وخنوثة فاشية، وشح وأنانية تكف الأيدي عن البذل وتقف حجاباً دون التضحية، وتخرج الأمة من صفوف المجاهدين إلى اللاهين اللاعبين.
وماذا ترجو من أمة اجتمعت على غزوها كل هذه العوامل بأقوى مظاهرها وأشد أعراضها: الاستعمار والحزبية، والربا، والشركات الأجنبية، والإلحاد، والإباحية، وفوضى التعليم والتشريع، واليأس، والشح، والخنوثة، والجبن، والإعجاب بالخصم إعجاباً يدعو إلى تقليده في كل ما صدر عنه، وبخاصة في سيئات أعماله.
إن داءً واحداً من هذه الأدواء يكفي لقتل أمم متظاهرة، فكيف وقد تفشت جميعاً في كل أمة على حدة؟ لولا مناعة وحصانة وجلادة وشدة في هذه الأمم الشرقية التي جاذبها خصومها حبل العداء من بعيد، ودأبوا على تلقيحها بجراثيم هذه الأمراض زمناً طويلاً حتى باضت وأفرخت، لولا ذلك لعفت آثارها، ولبادت من الوجود. ولكن يأبى الله ذلك والمؤمنون.
يا أخي: هذا هو التشخيص الذي يلمسه الإخوان في أمراض هذه الأمة، وهذا هو الذي يعملون في سبيل أن يبرئها الله منه ويعيد إليها ما فقدت من صحة وشباب.
أمل وشعور
وأحب أن تعلم يا أخي قبل أن أتحدث لك عن هذه الوسيلة أننا لسنا يائسين من أنفسنا،
وأننا نَؤَمِّلُ خيراً كثيراً، ونعتقد أنه لا يحول بيننا وبين النجاح إلا هذا
اليأس، فإذا قوي الأمل في نفوسنا فسنصل إلى خير كثير إن شاء الله، لهذا نحن لسنا
يائسين ولا يتطرق اليأس إلى قلوبنا والحمد لله.
وكل ما حولنا يبشر بالأمل رغم تشاؤم المتشائمين؛ إنك إذا دخلت على مريض فوجدته تدرج
من كلام إلى صمت ومن حركة إلى سكون شعرتَ بقرب نهايته وعسر شفائه واستفحال دائه،
فإذا انعكس الأمر وأخذ يتدرج من صمت إلى كلام ومن همود إلى حركة شعرت بقرب شفائه
وتقدمه في طريق الصحة والعافية. ولقد أتى على هذه الأمم الشرقية حين من الدهر جمدت
فيه حتى مَلَّها الجمود وسكنت حتى أعياها السكون، ولكنها الآن تغلي غلياناً بيقظة
شاملة في كل مناحي الحياة، وتضطرم اضطراماً بالمشاعر الحية القوية والأحاسيس
العنيفة.
ولولا ثقل القيود من جهة والفوضى في التوجيه من جهة أخرى لكان لهذه اليقظة أروع الآثار، ولن تظل هذه القيود قيوداً أبد الدهر فإنما الدهر قُلَّبٌ، وما بين طرفة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال، ولن يظل الحائر حائراً، فإنما بعد الحيرة هدى وبعد الفوضى استقرار، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
لهذا لسنا يائسين أبداً، وآيات الله تبارك وتعالى وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم وسنته تعالى في تربية الأمم وإنهاض الشعوب بعد أن تشرف على الفناء، وما قَصَّهُ علينا من ذلك في كتابه، كل ذلك ينادينا بالأمل الواسع، ويرشدنا إلى طريق النهوض الصحيح، ولقد علم المسلمون – لو يتعلمون - .
وإنك لتقرأ الآية الكريمة في أول سورة القصص: (طسم. تلك آيات الكتاب المبين. نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقومٍ يؤمنون. إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يُذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين. ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمةً ونجعلهم الوارثين. ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون). القصص: 1 – 6.
تقرأ هذه الآية الكريمة فترى كيف يطغى الباطل في صولته، ويعتز بقوته، ويطمئن إلى جبروته، ويغفل عن عين الحق التي ترقبه، حتى إذا فرح بما أوتي أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، وأَبتْ إرادةُ الله إلا أن تنتصر للمظلومين وتأخذ بناصر المهضومين المستضعفين، فإذا الباطل منهار من أساسه، وإذا الحق قائم البنيان متين الأركان، وإذا أهله هم الغالبون. وليس بعد هذه الآية الكريمة وأمثالها من آيات الكتاب المحكم عذرٌ في اليأس والقنوط لأمة من أمم الإسلام تؤمن بالله ورسوله وكتابه، فمتى يتفقه المسلمون في كتاب الله؟
لمثل هذا يا أخي - وهو كثير في دين الله - لم ييأس الإخوان المسلمون من أن ينزل نصرُ الله على هذه الأمم رغم ما يبدو أمامها من عقبات، وعلى ضوء هذا الأمل يعملون عمل الآمل المُجِدّ والله المستعان.
أما الوسيلة التي وعدتك الكلام عليها فهي أركان ثلاثة تدور عليها فكرة الإخوان:
أولها – المنهاج الصحيح: وقد وجده الإخوان في كتاب الله وسنة رسوله، وأحكام الإسلام حين يفهمها المسلمون على وجهها غضة نقية بعيدة عن الدخائل والمفتريات، فعكفوا على دراسة الإسلام على هذا الأساس دراسة سهلة واضحة مستوعبة.
وثانيها – العاملون المؤمنون: ولهذا أخذ الإخوان أنفسهم بتطبيق ما فهموه من دين الله تطبيقاً لا هوادة فيه ولا لين، وهم بحمد الله مؤمنون بفكرتهم، مطمئنون إلى غايتهم، واثقون بتأييد الله إياهم ما داموا له يعملون، وعلى هدى رسوله صلى الله عليه وسلم يسيرون.
وثالثها – القيادة الحازمة الموثوق بها: وقد وجدها الإخوان المسلمون كذلك، فهم لها مطيعون وتحت لوائها يعملون.
ذلك - يا أخي - مجمل ما أردت أن أتحدث إليك به عن دعوتنا، وهو تعبير له تعبير، وأنت يوسف هذه الأحلام، فإذا راقك ما نحن عليه فيدكَ مع أيدينا لنعمل سوياً في هذا السبيل، والله ولي توفيقنا وتوفيقك وهو حسبنا ونعم الوكيل، فنعم المولى ونعم النصير.
والله أكبر ولله الحمد.