صفحات من سيرة العلامة المربي عبدالرحمن الباني

محمود ثروت أبو الفضل

• اسم الكتاب: صفحات من سيرة العلامة المربي عبدالرحمن الباني.

• المؤلف: أيمن أحمد ذوالغنى.

• الطبعة: الأولى.

• سنة النشر: 1434 ه/2012م.

• دار النشر: دار السيد للنشر.

• إخراج الكتاب: دار الألوكة للنشر.

• صفحات الكتاب: 192.

يمضي كثيرٌ من أعلام أمتنا الإسلامية في صمت، قد عزف عن الشهرة في حياته، فعزفتْ عنه بعد مماته، لا يرى أرجى له في أخراه من دعوات المحبين وأعماله الصالحات فيهم، ونطالع نحن اسم هذا الراحل يتردَّد من قِبَل الأصدقاء والأقربين في مقالات تفيض بالحب والشجن على الراحل؛ تذكيرًا بعظيم ما قدمه لأمته ولتلاميذه، مخلصًا لله نيته لا يريد من وراء ذلك جزاءً ولا شكورًا، فنتعجب من خفوت الأضواء عن هذا العالِم الراحل، وعدم تصدره المشهد الثقافي والاجتماعي مثل كثير من الغثاء الذي يملأ حياتَنا السياسية والأدبية والتربوية، بل وربما نتحسر أننا لم نهتمَّ بالراحل الاهتمام اللائق به حال حياته، ولم نَستَزِد مما عنده من الخير، فنرتجي إحياء ذكراه بعد رحيله؛ لعل هذا يكون غفران ذنبنا الأزلي في نسيان أفضال المحسنين، وجهد الأولين السباقين.

يعد الشيخ العلامة "عبدالرحمن الباني" - رحمه الله وطيَّب ثَرَاه - من الرعيل الصالح من علمائنا المسلمين في القرن العشرين، ومن أوائل مَن قعَّدوا لمنهج التربية الإسلامية في مجال التعليم في حواضر بلادنا الإسلامية، وعلى الأخص في سوريا والمملكة العربية السعودية، فقد "قضى - رحمه الله - أكثر من سبعين سنة في ميادين التربية، طالبًا ومتعلمًا، ومدرسًا ومعلمًا، وموجهًا ومفتشًا، ومشرفًا ومنظرًا، وخبيرًا ومستشارًا"، وكان - رحمه الله - ذا ثقافة موسوعية، ذواقًا وخبيرًا بذخائر التراث العربي، عاصر الأحداث السياسية في البلدان العديدة التي تنقل بها؛ حيث لم يَنِ عن قول كلمة الحق والنصح للمسلمين، ولم يكن عالمًا منعزلاً عن الواقع، بل جرب محنة السجن مرتين في كل من مصر وسوريا، وظل طوال حياته العامرة - التي قاربت قرنًا من الزمان - وقافًا على خدمة الإسلام والمسلمين، بأسلوب رقيق يناسب سمته الهادئ وطبيعته السمحة، أفاد أجيالاً من الأدباء والعلماء والنجباء، الذين تخرجوا من تحت يديه، وأَثْرَوا الحياة العامة معترفين بفضل الشيخ "عبدالرحمن الباني"، الذي ظل طيلة سنوات حياته يكره الشهرة، ويكاد يمقتها مقتًا، بحكمة بالغة عزَّت في ذلك الزمان، ومن بين هؤلاء الأدباء ممن سعدوا بالتعلم من مَعِين علومه، والتتلمذ على يديه السابغتين، الأديب المترجِم "أيمن بن أحمد ذو الغنى"، الذي أراد من خلال ترجمته الجميلة تلك الوفاء ببعض حق شيخنا عبدالرحمن الباني عليه.

يقول الكاتب: ".. من نِعَم الله السابغة عليَّ أن سنَّى لي بفضله وكرمه تعرُّفَ الشيخ عبدالرحمن الباني في مدينة الرياض، عام 1422 ه، وملازمته والإفادة من علمه وفضله ونبله، ومن تمام نعمته - سبحانه - أن تبوأت عند الشيخ منزلة خاصة، فأفادني منه وقربني، وطوق عنقي بكرمه، وخصني بما لم يحظَ به كثيرون من قدامى أصحابه وطلابه، جزاه الله عني خير ما يجزي أبًا عن أبنائه، ومعلمًا عن طلابه، وشيخًا عن مريديه"؛ ص11.

وهذه الترجمة بعضٌ من كلٍّ، فقد اقتطف الكاتب هذه الأجزاء الطيبة من ترجمة موسعة يعكف على إنجازها في الوقت الحالي، محاولاً بها الإلمام بكل تراث الشيخ "عبدالرحمن الباني" وما قيل عنه، وفي جهوده التربوية الرائدة، وشهادات تلاميذه ومعاصريه، ومدى تأثيره في عصره، وتأثره بأحداث مجتمعه، وقد بادر الكاتب باجتزاء هذه الشهادة من بين صفحاته الكثيرة التي جمعها ورتبها - والتي بلغت مجلدًا كبيرًا زاخرًا بالشهادات والمشاركات - وذلك من أجل معاصرة حدث رحيل الشيخ "عبدالرحمن الباني" منتصف عام 2011، "ووفاء له وبرًّا به واعترافًا بأياديه البيض عليه".. والوفاء من شِيَم الكرام!

ولعلني قبل أن أدخل في عرض الكتاب، أحب أن أذكر نبذة عن المترجم الأديب "أيمن بن أحمد ذو الغنى"، وذلك من واقع مقابلة معه في أحداث معرض القاهرة الدولي للكتاب في مطلع العام الحالي؛ حيث وجدت شغفًا من جانب كاتبنا بموضوع التراجم، والحرص على اقتناء كل جديد فيها، والشغف بتتبع كل ما كتب في فن السير الذاتية والتراجم، حتى وصل شغفه بهذا الفن لتتبع الترجمات الغربية لأعلام الأدب والسياسة في الثقافات المختلفة الأخرى؛ وذلك بحثًا عن منهج عقلاني حديث محايد في فن التراجم العربية المعاصرة، يحقق له مشروعًا يرغب في البَدْء به بالتوسع في فن الترجمات لمعاصريه، وذلك عن معايشة حية للأعلام المترجم لهم، وقد وهب الله كاتبنا الأستاذ "أيمن" عينًا ذكية لاقطة وحسن معاشرة لكثير من أعلامنا المعاصرين في الأدب والاجتماع والعلوم الشرعية والدنيوية، تسمح له بإتمام شيء مميز في هذا الفن العزيز، إلى جانب اتصاف الكاتب بصبر من النوع الفريد يجعله يتأنَّى في إخراج ما لديه من كتابات طيبة تشهد بدربة قلم، وحسن تدقيق وتنقيح، وتعهد لكتاباته، وهذا الكتاب الجميل باكورة مطبوعات الكاتب رغم كتاباته الواسعة منذ سنوات في كبرى المجلات والصحف الأدبية، ومشاركته الطيبة في العديد من المنتديات العلمية والثقافية على الشبكة العنكبوتية.

وقد أخبرني الكاتب في حسرة أنه منذ تعهده بالبحث في فن التراجم تجمعت لديه العديد من الصور والشهادات واللقاءات بأعلام ظفر بمقابلتهم في سنواته السابقة، وبعض تلك المقابلات والصور نادرة فريدة من نوعها؛ حيث كان يأمل بأن يثري بها مشروعه المستقبلي في الكتابة في باب الترجمات، ولكن كلها ضاعت في النكبة السورية الأخيرة وسط ما ضاع ودمِّر من متعلقات منزله بسوريا، عسى الله أن يمنَّ بالفرج ولطف الحال على أهلها ومسلميها.

وقد أخرج الكاتب كتابه في حلة قشيبة، تشهد بتعهد الكاتب كتابه بالمراجعة أكثر من مرة، والإشراف على الإخراج الفني للكتاب بعناية بالغة؛ ليخرج لنا في هذه الصورة الطيبة، وقد جعله الكاتب مختصرًا موجزًا تستطيع أن تقرأه في جلسة واحدة في غير ملل أو تبرُّم، بل باستمتاع بالغ بتلك الوحدة الموضوعية بين موضوعاته المترابطة، إلى جانب ما يشع من بين صفحات الكتاب من ألق المحبة الصادقة لحسن سيرة شيخنا العلامة عبدالرحمن الباني، والذي لقب ب"أحمد بن حنبل العصر" (لحرصه على التزام السنة، والتأسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هَدْيه ولِينه ورِفْقه في النصح والدعوة)؛ ص15.

وقد جعل الكاتب ترجمته للشيخ الباني في عشرة أبواب منتقاة من مشروع ترجمته الموسَّع للشيخ عبدالرحمن الباني، والذي نوه بأن عنوانه سيكون "العلامة المربي عبدالرحمن الباني، شذرات من سيرته وشهادات عارفيه"، وقد اختار الكاتب هذه الأبواب لتكون عصارة جيدة لمن أراد التعرف على جهد الشيخ عبدالرحمن الباني في مجال التربية الإسلامية والأدب الإسلامي، موافقةً للغرض من الكتاب، وتثمينًا لتلك الشهادات التي حَوَتها تلك الأبواب المختارة، والتي جاءت على النحو التالي بعد مقدمة الكتاب:

1- سيرته العلمية والعملية.

2- أشهر شيوخه.

3- آثاره العلمية.

4- ثناء علماء عصره عليه.

5- خاتمته وجنازته.

6- من أقواله ووصاياه.

7- نسبه وأسرته.

8- صدى الوفاء بين الأجيال.

9- مقالات مختارة عن الشيخ (بقلم بناته وحفيداته ومحبيه).

10- نموذج من مقدماته.

وأرفق الكاتب بنهاية كتابه العديد من الصور والوثائق التي تؤرخ لسيرة الشيخ وأحداث حياته، ونماذج من مخاطباته مع علماء عصره ورفاقه وتلاميذه، إلى جانب عدة صور خص بها الراحلُ كاتبَ الترجمة، وذلك من نتاج المعاشرة الطويلة والرفقة الصالحة من جانب الكاتب لشيخنا العلامة عبدالرحمن الباني - رحمه الله - وقد زادت هذه الوثائق من ثراء الترجمة وعمقها، على إيجازها واختصارها، وساهمت في ربط قارئ الترجمة بالأحداث التي رواها الكاتب من سيرة الشيخ الباني وإسهاماته العلمية والعملية في عصره.

وبرز ولع الكاتب بالفنون الجميلة، أن تفضل بإتحافنا بالتمتع بجمال الخط العربي من خلال ريشة الفنان خطاط حمص المبدع "عدنان شيخ عثمان" إلى جانب مساهمة الأستاذ المبدع "عثمان حامد" في إخراج الغلاف وخطوط الكتاب.. في مبادرة جميلة من المؤلف في إحياء ذلك الفن الذي كاد يندثر للأسف في حياتنا الأدبية المعاصرة.

• جعل الكاتب بابه الأول في التعريف بالشيخ عبدالرحمن الباني، ووصفه، وبيان نسبه، وشمائله، وسيرته العلمية؛ حيث كان الشيخ عبدالرحمن الباني من النبغاء النجباء طوال دراسته، كيف لا؟! وقد ولد لأسرة دمشقية عريقة مشهورة بالعلم والفضل وحسن الأخلاق، فنسبُ الشيخ الباني يمتد إلى الحسن المثنى بن الإمام الحسن بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم جميعًا.

وقد برز الشيخ منذ بداياته التعليمية في مجال التربية الإسلامية التي استهوته، وأخذت بلبِّه، فقد التحق الشيخ بدار المعلمين الابتدائية فور حصوله على الشهادة الثانوية، حيث كان الأول على دفعته وحصل على شهادة أهلية التعليم سنة 1363ه - 1943م، ثم أتم دراسة الفلسفة ليحصل على شهادة (البكالوريا) الثانية؛ حيث كان الشيخ الباني نشيط الهمة منذ صغره في مجال العلم والتعلم - رحمه الله.

وبعدها من فرط شغفه بالتدريس وولعه به، درَّس سنتين في المرحلة الابتدائية باسم "معلم وكيل" في المدارس السورية في منطقته؛ حيث كان حريصًا منذ بداياته في حياته العملية على خدمة أبناء بلدته، وتعليمهم آداب التربية الإسلامية كما تشرَّبها هو من مَنْبَته الطيب.

ولعل رحلة الشيخ الباني إلى مصر؛ حيث ابتُعِث من قِبَل وزارة المعارف السورية إلى مصر للدراسة في كلية أصول الدين بالأزهر، كانت من أكبر الأحداث التي أثرت في حياة الشيخ عبدالرحمن الباني، وفي مسيرته العلمية والعملية، حيث قضى الشيخ الباني في مصر سبع سنين، كانت مصر خلالها تمر بمنعطفات تاريخية هامة، وتضطرم بالأحداث السياسية التي تعلقت بمستقبل المنطقة العربية ككل، بَدْءًا من حرب فلسطين عام 1948، وحتى قيام ثورة يوليو عام 1952م، وقد عاصر الشيخ الباني تلك الأحداث وتأثر بها، وشارك في بعضها مع إخوانه من أعلام عصره الذين تعرف بهم في مصر، حتى إن أول تجربة سجن للشيخ الباني كانت خلال عام 1949 في أحداث الإخوان المسلمين؛ حيث سُجنَ خلالها عامًا دراسيًّا كاملاً، وبعد خروجه راعت جامعة فؤاد الأول ظروف الشباب المعتقلين وامتحنتهم بصفة خاصة في نتاج العام الدراسي لسنة 1950م، ورغم تلك الأحداث، فقد "أبت همة الشيخ العالية إلا أن يعود بأربع شهادات بدل شهادة واحدة، فنال الشهادة العالية لكلية أصول الدين في الجامع الأزهر سنة (1365 ه - 1945م)، وشهادة العالمية مع الإجازة في الدعوة والإرشاد بالجامع الأزهر (1367 ه - 1947م)، وشهادة ليسانس في الفلسفة من كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليًّا) (1369 ه - 1950م)، وإجازة التدريس من المعهد العالي للمعلمين في القاهرة (1370ه - 1951م)"؛ ص19.

وقد تولَّى الشيخ الباني عقب عودته من مصر سنة 1951 التدريس في دار المعلمين بدمشق، ودار المعلمات، وفي كليتي الشريعة والتربية بجامعة دمشق عامين، إلى جانب تعيينه (مفتشًا اختصاصيًّا) لمادة التربية الإسلامية فترات طويلة بتوجيه من جانب مديري الهيئات التعليمية في سوريا، والذي كان اهتمامهم بتطوير التعليم وتوجيهه للجانب الإسلامي الأخلاقي، هو مطلبهم الرئيس في تلك الفترة، ولم يجدوا أفضل من الشيخ عبدالرحمن الباني في وضع اللبنة الرئيسية في مادة التربية الإسلامية للمناهج التعليمية في المدارس السورية.

ولقد كانت للشيخ الباني فلسفة خاصة في فن "التربية الإسلامية"، والتي أشرف على وضع مناهجها طيلة نصف قرن أو يزيد في العديد من الهيئات التعليمية في مصر وسوريا والمملكة العربية السعودية، فقد كان الشيخ الباني مؤمنًا إيمانًا يقينيًّا بأن "التربية الإسلامية هي التربية المتكاملة المنبثقة عن الإسلام، والموجهة لتربية الأبناء على قيم الإسلام، وغاية هذه التربية إنشاء جيل صالح يكون وليًّا لله وحده"، ولعل هذا بان أثره في الأعداد الكبيرة من أعلام الحياة المعاصرة التي تخرَّجت على يديه في سوريا والمملكة العربية السعودية، بل هذا بان أثره - أول ما بان - في أسرة الشيخ الباني - رحمه الله - حيث صارت بنات الشيخ الباني من الموفَّقات في دراستهن وحياتهن العلمية والعملية، وتقلَّدن مناصب مرموقة، كل واحدة في مجال تخصصها، وقد كان الشيخ الباني - رحمه الله - مربيًا من الطراز الأول، وتربيته كانت بالقدوة وبذل الجهد؛ حيث كان كثيرًا ما يقرن القول بالعمل؛ مما جعل أثر تربيته في نفوس تلاميذه وبناته وأحفاده أشد وقعًا وأمضى تأثيرًا، يقول الشيخ عبدالرحمن الباني: "من أسباب ضعف المسلمين وغفلتهم عن دينهم اليوم ضعفُ التربية الإسلامية، وإن أولادنا - ويا للأسف! - يُربَّون تربية علمانية تُبعِدهم عن الإسلام، وتنأَى بهم عن التفكير في الآخرة".

بل إن الشيخ الباني في لهجة صادقة وقوة صدع بالحق - لمحنا آثارها ومعالمها طول سيرة حياته العملية - يصرح بأن "واقع التعليم والتربية في مدارسنا الآن بعيد عن التربية الإسلامية الأصيلة، وإذا أردنا إصلاح أولادنا، فعلينا - معشر الملتزمين - أن نَعُدَّ أنفسنا أقلية في بلادنا! وأن نربِّي أبناءنا ونوجههم كما تربِّي الأقليات أبناءها وتوجههم؛ ليحافظوا على ثقافتهم وهُوِيَّتهم".

ويقول الشيخ الباني في التنبيه على ضرورة إعداد الكوادر التربوية اللازمة لتعليم أجيالنا من الناشئة التربية الإسلامية الصحيحة:

"لا بد للمعلم أن يجمع بين المعرفة والمهارة، وأكثر المعلمين اليوم - ويا للأسف - يملكون المعرفة، ولكنهم يفتقدون المهارة اللازمة لإيصالها إلى طلابهم".

وقد بانت مهارة الشيخ الباني فيما أسهم به في مادة التربية الإسلامية من وضع مقرراتها ومناهجها، واختيار وتدريب المعلمين الأكْفاء لتدريسها، والإسهام في تنقيح ما بثَّه الاستعمار من مفاهيمَ فاسدةٍ ومعلومات مغلوطة، قصد بها تضليل النشء الإسلامي عن تاريخه الإسلامي المجيد وتراثه الحضاري الحي.

ولعل اعتقال الشيخ الباني عام 1962م في دمشق بعد كلمةٍ ألقاها في جامع "المرابط" بحي المهاجرين عن فسادِ التعليم في سوريا، في ظل نظام حزب البعث الحاكم - خيرُ دليل على صدق الشيخ الباني في دعوته لمنهج تربوي إسلامي أصيل يُعِيد أمجاد أمتنا الإسلامية، ودليل على صراحة الشيخ الباني وجهره بالحق في سبيل دعوته الإسلامية؛ حيث مُنِع الشيخ الباني بعدها من التدريس في المدارس الحكومية السورية، وعُزِل عن التفتيش رغم مكانته الرائدة في حقل التربية؛ مما اضطر الشيخ الباني للتوجه إلى "معهد التوجيه الإسلامي"، والذي كان يشرف عليه الشيخ "صادق حبنَّكة الميداني"؛ حيث تولى التدريس في هذا المعهد إلى أن احتضنته المملكة العربية السعودية، وثمَّنت جهود الشيخ الباني وخبرته العميقة في مجال التربية الإسلامية، فاستعانت به في العمل والإشراف التربوي بوزارة المعارف السعودية، وفي إدارة معاهد إعداد المعلمين، كما شارك في تأسيس المعهد العالي للقضاء هناك، ووضع مناهجه؛ بتكليف من الملك "فيصل" - رحمه الله - وشارك بوضع سياسة التعليم بالمملكة، وكان عضوًا خبيرًا في اللجنة الفرعية لسياسة التعليم، والتي ضمت العديد من أعلام التربية الإسلامية، والذين وضعوا سياسة تعلُّمية شرعية لمناهج المملكة، ما زالت ثمارها ملحوظة حتى الآن في معاهد المملكة العربية السعودية ومدارسها التربوية.

كما أسهم الشيخ عبدالرحمن الباني في تأسيس مدارس تحفيظ القرآن الكريم في المملكة، إلى جانب تكليفه بالتدريس في كلية الشريعة، وكلية أصول الدين، وكلية اللغة العربية بجامعات الإمام محمد بن سعود الإسلامية والملك سعود، وإشرافه على العديد من الرسائل الأكاديمية مناقشة وتوجيهًا؛ حيث كان من أول مَن وجه طلاب الدراسات العليا إلى دراسة الفكر التربوي عند أعلام المسلمين، والاستفادة من النظريات التربوية المتناثرة في بطون كتب التراث الإسلامي لكبار علمائنا المسلمين؛ كابن حزم، والغزالي، وابن قيم الجوزية، وابن تيمية، وغيرهم.

وكان الشيخ الباني خلال تلك الفترة الطويلة من العمل في مجال التربية الإسلامية داعيًا إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة؛ حيث كانت له مشاركات فعالة في العمل الدعوي الإسلامي في الشام، إلى جانب أقرانه المبرزين، والذين كان من أبرزهم: د. محمد أمين المصري، ود. مصطفى السباعي، والأستاذ عصام العطار، والشيخ زهير الشاويش.

يقول الأستاذ "رامي بن أحمد ذو الغنى" في وصف الشيخ الباني:

"ومما تميز به الشيخ ولاؤه المطلق للحق، لا يماري ولا يداري، ولا يجامل ولا يلاين، مع عدل وإنصاف في التعامل مع المخالف ممن حاد عن جادَّة الصواب، فهو ينشر محاسنه، ويشير إلى صوابه قبل ذكر مساوئه وأخطائه، ويجتهد في الْتماس الأعذار، فإن لم يجد للعذر سبيلاً، اكتفى بتوضيح الخطأ برد علمي مفصَّل، أو تحذير مختصر مجمل، بألطف عبارة وأوجزها، مراعيًا في ذلك المقام والحال"؛ ص133.

• أما الباب الثاني، فقد أجمل فيه الكاتب ذكر أهم شيوخ العلامة عبدالرحمن الباني ومعلِّميه في مراحل التعليم المختلفة، مستقصيًا أسماءهم، تاركًا الاستفاضة في ترجمتهم إلى مؤلَّفه الجامع عن سيرة العلامة عبدالرحمن الباني، ولعل الجدير بالملاحظة من تتبُّع شيوخ العلامة الباني هو أن من كان يتصدر لتعليم النشء المسلم في بلادنا العربية أوائل القرن هم أعلام الأدب والفن والثقافة والدين، بل والسياسة أيضًا، والناظر اليوم إلى حال التعليم ومتصدِّريه في بلداننا العربية يتحسر إلى ما آل إليه الحال من تدمير ممنهج لقيمة المعلم في مدارسنا، ومن أشهر من درسوا للشيخ في جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليًّا) في قسم الفلسفة كل من: د. علي عبدالواحد وافي، د. عبدالرحمن بدوي، د. عثمان أمين، الشيخ محمود الخضيري، د. مصطفى حلمي، ود. محمد البهي.

أما من أشد من تأثَّر بهم الشيخ وأثروا في إثراء جانبه العقلي والعلمي، وإن كان بعضهم لم يشرف الشيخ الباني بالدراسة النظامية على أيديهم، فكل من:

حسن البنا، محمد الخضر حسين، محمود محمد شاكر، محب الدين الخطيب، عبدالوهَّاب خلاف، محمد ناصر الدين الألباني، أبو الحسن الندوي، محمد بهجة البيطار، وعلي الطنطاوي - رحمهم الله جميعًا.

• واعتنى باب "آثاره العلمية" باستقصاء أهم مؤلفات الشيخ، وبحوثه القليلة التي تولى الكاتب تجميع مصادرها بجهد ملحوظ، فالشيخ الباني لم يعتنِ - رحمه الله - بوضع الكتب؛ لانشغاله بالجانب التربوي والتعليمي في المقام الأول؛ فكأن آثار الشيخ الباقية هي تلك العلوم والآداب التي بثها في صدور الكثير من طلبته الذين صاروا أعلامًا يشار إليهم بالبنان في الوقت الحاضر، ورغم ذلك فقد وضع الشيخ الباني بعض مقررات وخطط مناهج التربية الإسلامية المفيدة في بابها، والتي تحتاج إلى دراسة جادة لاستقصاء فكر الشيخ الباني الرائد في تأطير فكرة المنهجية الإسلامية في مجال التربية المدرسية، ولعل من أهم تلك البحوث التي عُرفَت للشيخ الباني:

1- بحث "مدخل إلى التربية في ضوء الإسلام"، وهو جزء من منهج للتربية وضعه الشيخ، تولى نشره العلامة "أحمد راتب النفاخ"، بعد أن وجده جديرًا بالطباعة والاطلاع عليه.

2- ابن خلدون والأدب" بحث قدَّمه الشيخ الباني في سنته الأولى في دار المعلمين، ونُشِر جزء منه في مجلة التمدن الإسلامي واليمامة بعد ذلك.

3- فكرة وحدة الوجود عند ابن عربي" بحث قدمه في قسم الفلسفة بجامعة فؤاد الأول.

4- فن التراجم وحاجة الأمة إليه"، وهو بحث أعده لطلابه في دار المعلمين في أهمية فن التراجم وعلاقته بغيره من العلوم.

كما اعتنى الشيخ - رحمه الله - بالتقديم للعديد من الكتب لأقرانه من الأدباء والعلماء؛ حيث جاءت مقدماته غنية بالعديد من الآراء النقدية الحيادية، والتي تُعنَى في المقام الأول بخدمة الجانب البحثي، هذا إلى جانب إشرافه على العديد من الرسائل الجامعية التي لم تَخْلُ من توجيهاته السديدة ومراجعاته المتمعنة.

• أما الباب الرابع، والذي جاء تحت عنوان: "ثناء علماء عصره عليه"، فنجد عديدًا من الشهادات الصادقة من أعلام عصره وأقرانه في الإشادة بعظيم مآثر الشيخ الباني، وصدق دعوته وتجردها، إلى جانب طابع السماحة وحسن الخلق الذي صار سمتًا دالاًّ عليه؛ فهو العالم العابد، لطيف الطبع والتطبع دومًا، لا يغضب اللهم إلا لله، ولا يكاد يبصره تلاميذه وأحبابه إلا مبتسمًا هاشًّا باشًّا، كأن الله طبع على نفسه حسن الطوية، وطابع البساطة المتناهية، ولعل من أقوى ما يمكن قراءته في هذا الباب شهادة الأستاذ "عصام العطار"، والذي قال عنه: "لا أعرف أحدًا أفضل من عبدالرحمن الباني في هذه الدنيا، نعم أعرف مثله: محمد سعيد الطنطاوي وغيره، هذه الطبقة نادرة، لكني لا أعرف أحدًا أفضل منه، عبدالرحمن الباني رجل نادر المثال، ولكنه من الناس المتواضعين، هنالك ناس جواهر لا يكاد يعرفهم إلا القلة، وهناك ناس لا يساوون شيئًا تجدهم مالئين الدنيا وشاغلين الناس!"؛ ص 57.

• أما باب "خاتمته وجنازته"، فتناول ابتلاء الشيخ الباني في أخريات حياته بمرض تليُّف الكَبِد على كبر سنه، ووفاته به - رحمه الله - ومن أعجب مرويات الكاتب التي حازها من أسرة الشيخ الباني أنه كان في أخريات حياته عاقلاً مدركًا لما حوله، مشغولاً بهموم أمته، شغوفًا بالعلم والتعلم حتى وهو ابن التسعين، يذكر أقرباءُ الشيخ الباني أنه في الأيام الأخيرة من حياته نام نومًا عميقًا متصلاً في غير إغماءة، ثم صحا فجأة فوجد بجانبه صهره أبا حذيفة، فكلمه وكأنه لم يَنَمْ دقيقة واحدة، قائلاً له: كنت أفكر يا أبا حذيفة في معنى كلمة (مُقْرِنين) في دعاء الركوب، ((وما كنَّا له مُقْرِنين))، فهم يفسرونها ب: مطيقين، ولكن ما شأن الإقران بالإطاقة؟ لا بد من مراجعة أصل المعنى لهذه الكلمة!

وقبل وفاته بيوم نادى أبا حذيفة وأوصاه بأن يرسل مبلغًا من المال لمساعدة الأسر المنكوبة في أحداث الثورة السورية الأخيرة؛ ص64.

وقد شيع الشيخَ العديدُ من كبار أهل العلم والفضل، ممن يعرفه ولا يعرفه من أهل الدعوة في المملكة العربية والسعودية، وأرسلَ برقيات تعزية لأسرته العديدُ من العلماء والأدباء من شتى أنحاء الحواضر العربية، وقد شُيِّعت جنازته من جامع الراجحي، وكانت وفاته في ليلة الخميس 9 من جمادى الآخرة 1432ه (12/5/2011) - رحمه الله.

• وتناول الباب السادس بعنوان: "من وصاياه وأقواله" جملةً من درر كلام الشيخ عبدالرحمن الباني، والتي اقتطفها الكاتب من أحاديثه معه، ومن كلماته التي كان دومًا يردِّدها في مجالسه مع أحبابه وتلاميذه، ومن تلك الأقوال التي تبيِّن بُعْد نظر الشيخ الباني، وجميل نصحه لطلابه - قولُه: "مَن أراد أن يكون كاتبًا ماهرًا مُجيدًا، فعليه أن يكتب ويمزِّق، حتى يدرِّب قلمه على الكتابة وحسن التعبير".

ويقول الشيخ الباني أيضًا: "إذا اشتريت كتابًا فقلِّبه أولاً في المكتبة، وتيقَّن من خلوه من الصفحات البيضاء وغيرها من عيوب الطباعة، ثم سجل في صدره اسمك، وتاريخ شرائك له، وثمنه، ولا تدخله مكتبتك حتى تقرأ مقدمته وتطالع فهارسه".

ويقول أيضًا: "إذا كتبت، فأرِّخ واصنع نسختين".

ويقول الشيخ الباني: "من البلاء الذي عمنا في الشام أن الكبار منا أطبقت عليهم الصوفية، والصغار أطبقت عليهم العلمانية".

أما من عميق كلامه الذي كلما تمعنتُ فيه ازداد إلغازًا قوله - رحمه الله -: "تبين للباحثين بعد دراسات علمية، أن الرجال والنساء متقاربون في الذكاء، أما الرجال، فيكثر فيهم العباقرة ويكثر فيهم الأغبياء، وأما النساء، فيقل فيهن العبقريات، ويقل فيهن الغبيات"!

• وتناول الباب السابع نبذةً مختصرة عن أسرة الشيخ عبدالرحمن الباني؛ حيث بان حسن غرسه في بناته وأحفاده، فما من واحدة إلا كما وصفها الشيخ في قوله: "بناتي كلهن مستقيمات وتقيات وصالحات".. كيف لا؟ ﴿ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ﴾ [الأعراف: 58].

ومن أعمق ما يمكن قراءته في هذا الباب، هو حسن عشرة الشيخ الباني لزوجته الكريمة، وتأدبه معها، حتى صار الشيخ علمًا في حسن معاملة الزوج لزوجه، وكانت زوجُ الشيخ الباني سليلة أسرة اشتهرت بالأدب والعلم، فهي شقيقة العالم الداعية "عبدالحليم أبو شقَّة"، كما أنها درست الشريعة الإسلامية في جامعة دمشق بتوجيهٍ من الشيخ الباني، وكانت - رحمها الله - داعية ذات حماسة للعمل الإسلامي؛ حيث كان لها درس أسبوعي في بيتها طيلة ربع قرن تدرس فيه التفسير والحديث مع الوعظ، وكان لها درس في نادي أساتذة جامعة الملك سعود كل ثلاثاء لمدة تزيد عن عشر سنوات.

• وتناول الباب الثامن بعنوان: "صدى الوفاء بين الأجيال" حسنَ احتفاء أسرة الشيخ الباني به، وسنهم سنة حسنة بإهدائه مرتين درعًا تكريميًّا مقدَّمًا من أبناء الشيخ وحفدائه؛ تعبيرًا عن ودِّهم الصادق لأستاذهم ومربِّيهم العلامة عبدالرحمن الباني.

• أما الباب التاسع، والذي جاء تحت عنوان: "مقالات مختارة عن الشيخ"، فجمع فيه الكاتب ست مقالات عن الشيخ من زهاء أربعين مقالة كاملة، سطرها محبو الشيخ وبناته في العرفان بجميل الشيخ الباني، وفي الإشادة بذكراه وجميل تأثيره فيهم، وكلها تنضح بالودِّ الصادق والعاطفة الجياشة، ولعل من ألطف ما يمكن ملاحظته هو الذائقة الأدبية والدربة في الكتابة التي حظيت بها بنات الشيخ الباني وحفيدته؛ حيث جاءت مقالاتهن ذات أسلوب أدبي جميل للغاية، إلى جانب براعتهن في قرض الشعر، ولعل قصيدة الحفيدة "أروى سعيد أبو عشِّي المالكي" بعنوان "يا لَجَدِّي يا لَجَدِّي"، من أمتع ما قرأت في هذا الباب، ومطلعها:

جارفٌ حُزني كمَدِّ

حائرٌ في الخَطْبِ رُشْدِي

لا تَلُمْ وَجْدَ قلبي

قد فَقَدتُ اليوم جَدِّي

يا لَجَدِّي يا لَجَدِّي

نبل أخلاقٍ ومَجدِ

ومن أجمل ما يمكن قراءته تاريخيًّا من مقالات هذا الباب مقال يحكي موقفًا بين الشيخ عبدالرحمن الباني في حداثةِ عهده حينما كان طالبًا، وبين زعيم حزب البعث "ميشيل عفلق"، والذي كان وقتها يدرس للشيخ، ونلمح من خلال تلك القصة جهر الشيخ الباني بالحق منذ حداثة عهده، واهتمامه بالمنهج الإسلامي في التربية منذ أيام كونه طالبًا، وتأثير حزب البعث بقياداته فيما بعد في الحياة التعليمية والسياسية؛ حيث تولى "ميشيل عفلق" فيما بعد وزارة المعارف وزيرًا مسؤولاً عن التعليم في سوريا كلها؛ حيث مسخ التعليم مسخًا كاملاً لأغراض العملية السياسية الاشتراكية، البعيدة عن المنهج الإسلامي تمام البعد، إلى جانب حسن إنصاف الشيخ الباني لخصمه نهاية قصته، واعترافه له بالفضل في جانِب، وإن جانَبَ الصواب في جوانب أخرى!

• أما الفصل العاشر، فقد ضم نموذجًا من مقدمات الشيخ عبدالرحمن الباني، حيث اختار الكاتب مقدمة الشيخ الباني لكتاب الدكتور المهندس "حبيب بن مصطفى زين العابدين": "تقنية صناعة الخرسانة"، والتي نقرأ منها هذه الكلمات الرائعات:

"إن الكتاب الذي يؤلف بالعربية هو ملك لتلك الشعوب التي تتكلم العربية أولاً وبالذات، وهو تمليك المعرفة في ذلك الموضوع لكل واحد من أهل العربية شدا من العلم ما شدا، بله من يكون قد تخصص أو تعمق.

وإن تأليف من يعرف العربية من أهلها كتابًا باللغة الأجنبية هو حجب لذلك العلم عن أهل العربية، وحرمان للأمة من فوائده وثمراته.

فلننظر إلى هذا التاريخ الطويل البغيض الذي خلفناه وراء ظهورنا، منذ رَضِينا لأنفسنا ما رَضِيَه العدو لنا وفرضه علينا، وإنما فرضه أولاً بسَوْط الاستعمار وبقوة الحديد والنار، ثم بالمكر والدهاء وغزو الفكر والقلب، حتى زيَّن لنا أن ما يضرنا حقًّا هو الذي ينفعنا بعينه، وأن الذي ينفع عدوَّنا وحده هو ما يفيدنا.

يُقضَى على المرءِ في أيامِ محنتِه

حتى يرى حسنًا ما ليس بالحسَنِ

وما يفعل هذا الذي فعلنا إلا عدوُّ نفسِه، الغافل عن مصلحته، وأما إذا تطلعنا إلى استمرار هذا العيب فينا ومضائنا فيما يضرنا ولا ينفعنا، وتأتي الأجيال بعدها الأجيال، والغفلة شاملة، والمرض سارٍ سريان السلِّ في الرئتين والسرطان في الأعضاء.

أقول: إذا تطلعنا إلى هذا المستقبل الكريه البغيض الخطر، فالمصيبة أدهى وأمر"؛ ص148، 149.

وبعد:

فبعد اطلاعنا على هذا الكتاب، ومنتقيات الكاتب فيه، وحسن ترتيبه إياه، فإننا في أتم الشوق لرؤية ما الذي يمكن أن يحويَه كتابُه الجامع عن سيرة الشيخ العلامة "عبدالرحمن الباني"، والاستزادة من سيرة ذلك العالم الرباني الذي تزخر سيرته بالعديد من المواطن التربوية التي نحن في أمسِّ الحاجة إليها في وقتنا الحاضر، ولعل الكاتب بعد تشجعه بنشره باكورة أعماله، يقاوم شدة صبره وحسن تأنيه وبخله بما عنده من علم، بالمبادرة لنشر ما لديه من مشروعات مؤجلة في مشروعه العلمي الواسع في فن التراجم وتوليفها، فالمكتبة العربية المعاصرة في أمس الحاجة إلى الاستزادة من ذلك الفن، وإثرائها بالمزيد والمزيد من سير وترجمات علمائنا وأعلامنا المحدَثين الذين غفلت عنهم صفحات الذِّكر؛ وفاءً لبعض فضلهم علينا، واعترافًا بجميلهم علينا، إلى جانب الاتعاظ بما في سير هؤلاء الأعلام من دروس تاريخية مهمة في تقييم واقعنا المعاش.

يقول الأديب "عبدالله بن عبدالعزيز الهدلق" في كتابه "ميراث الصمت والملكوت":

"مَن لا يدرس التاريخ، يسخر منه التاريخ.. وإن مما يحير فلاسفة هذا الساخر ممن لا يدرسه، ما ينشأ عن العلة التافهة من نتائج عظيمة..

وإن كان هناك معنى يمكن أن يفهم منه "شيء" من الصلة بين تافه العلل وجسامة الأحداث، فأظن أنه يتمثل في: "ضعف اعتبار الواقع"؛ اه.