عندما يسقط العمالقة
بدر محمد بدر
الكتاب: عندما يسقط العمالقة
المؤلف: مايكل جيه. بانزنر
المترجم: طارق راشد عليان
الناشر: المركز لقومي للترجمة، القاهرة
عدد الصفحات: 340
الطبعة: الأولى 2013
يكشف هذا الكتاب بطريقة واضحة وحاسمة، وربما صادمة للكثيرين، عمق الأزمة الاقتصادية وشواهد الانهيار المالي التي تتعرض لها الولايات المتحدة الأميركية حاليًا، إلى الدرجة التي يتنبأ فيها المؤلف بقرب نهاية العهد الأميركي فيقول: "إن السنوات المقبلة لن تمثل بالنسبة لكثير من الأميركان شيئًا أقل من العصور المظلمة الحديثة، حيث يجلب كل يوم إليهم مخاوف جديدة، ومخاطر غير مألوفة، وإحساسًا عميقًا بهواجس الشر.."
صيحة تحذير
ومؤلف الكتاب هو خبير اقتصادي أميركي، يعمل أستاذًا بمعهد الدراسات المالية بنيويورك، وله العديد من المؤلفات الجادة في مجال الاقتصاد، ويحاول من خلال هذا الكتاب إحداث حالة من "الصدمة" أو "صيحة تحذير"، ربما تؤدي إلى الانتباه واليقظة لتصحيح المسار، ليس فقط في الجانب الاقتصادي، ولكن أيضًا في الجوانب السياسية والاجتماعية والثقافية والعلمية..إلخ.
وفي المقدمة يتحدث المؤلف عن "التغييرات الجيوسياسية التي حدثت في العالم في السنوات الأخيرة، والتي أدت إلى حدوث أزمة في الولايات المتحدة، ارتفعت نتيجة لها مستويات الديون بالقطاعين: العام والخاص إلى أعلى مستوياتها، وهبطت الأجور، واختفت فرص العمل المحلية، وارتفعت تكاليف المعيشة بشكل مفاجئ، لتخرج عن متناول طبقة العمال الأميركيين العاديين".
كما أن مشكلة الإغراء بشراء المنتجات الرخيصة من المصنّعين الأجانب، جنبا إلى جنب مع تدافع الشركات متعددة الجنسيات بالولايات المتحدة نحو نقل الإنتاج إلى مواقع خارجية، حيث تكون العمالة وتكاليف التشغيل الأخرى منخفضة، كل ذلك أدى إلى إضعاف القوة التصنيعية للدولة، وتقويض فرص النمو في المستقبل، وفي خلال ذلك أدت الاعتماد على الغير إلى تداعي الدعم للعملة، التي كانت لفترة طويلة عملة الاحتياطي الرئيسة في العالم.
وينقسم الكتاب إلى جزأين؛ الأول بعنوان: "خطوط تصدع إمبراطورية آخذه في الأفول" والثاني بعنوان: "الفرص والتهديدات", وفي الجزء الأول يؤكد المؤلف على أن هناك أدلة متزايدة على أن "ظروفنا ومواقف الآخرين هي في حالة تغير مستمر، وأن السلطة الأميركية أصبحت تقع تحت طائلة الشك على عدد من الجبهات".
أفغانستان والعراق
لقد كشفت الحروب الطويلة الباهظة التكلفة في العراق وأفغانستان عن حدود قدراتنا العسكرية، وأدت اضطرابات أمتنا الخارجية الكبيرة، والأزمة المالية المدمرة، إلى تقويض مسألة قبول قيادتنا في الأمور الاقتصادية، وكانت لدى الدول رغبة متزايدة في الوقوف في وجه الولايات المتحدة أو استبعادها من المائدة، عندما كانت تعتقد أن من مصلحتها القيام بذلك.. إن هذه العوامل وغيرها تشير إلى أن يوم الحساب الجيوسياسي قريب.
وهناك أمارة أخرى على زوال الإمبراطورية الوشيك، تنبع من وجود نمط للمسئولية المالية يبدو مستعصيا على الحل، مع تزايد المشكلات الاقتصادية، وانخفاض الناتج القومي بانتظام لأقل من المؤشرات التي كانت مرتفعة في العقود السابقة.
لقد كان من بين عوامل أفول الإمبراطوريات الماضية ما يمكن أن يوصف بأنه وباء التدهور الثقافي والأخلاقي والاجتماعي، على الرغم من أن هذا الجانب لا يمكن قياسه بسهولة من ناحية الكم، ولكن من الصعب أن يفوتنا الدليل، فقد أصبحت الولايات المتحدة "لينة" بكل بساطة.
لقد تراجعت المعايير الاجتماعية، وسقطت الأخلاق مع احترام الكبار على جانبي الطريق، وحلت محلها اللغة الخشنة، والبلطجة، وانتشار عدم الاحترام للسلطة، وفضائح "يوتيوب" وسيطرة الانتقاد اللاذع على الحجج السلمية، وإغراق الخطابة بخطب الهجوم اللاذعة، وطغيان الأحاسيس والخيال على الحقائق والأصول.
ويشير المؤلف إلى أن الوهن لم يصب فقط النفوذ والمكانة العالمية للولايات المتحدة، بل أيضًا القوة الأساسية أو "القوة الصلبة" التي تمثل القدرة العسكرية، وقد أثبت التاريخ أن الإمكانات المالية وإظهار القوة يسيران جنبا إلى جنب، وبدون الحصول على التمويل الرخيص، يستحيل على أي دولة أن تضمن تغطية تكاليف إبقاء إمبراطورية عالمية لفترة طويلة، من غير أن ينتهي الأمر بإفلاس الخزانة العامة.
إن انحطاط مكانة الولايات المتحدة النسبية لن يؤدي بالضرورة إلى الانقلاب أو الصراع، حيث أن دول العالم قد ازدهرت في ظل النظام الحالي، وعلى الرغم من ذلك فإن هناك عددًا من التطورات التي تشير إلى أن النجاحات السابقة، لن تكون كافية لضمان سهولة سير النظام الحالي أو حتى بقاؤه، مع ضعف نفوذ الولايات المتحدة.
تزايد العدوانية
إن النفوذ الأميركي المتضائل، والتجارة عبر الحدود المتراجعة, وآثار التدهور الاقتصادي المستمر، سوف تثير على الأرجح ادعاءات ملكية متزايدة العدوانية، تتجاهل القواعد الدولية المقررة، والالتزامات تجاه الدول الأخرى، وسوف يثير النفوذ الأميركي المنحسر، وتصاعد القلاقل الاجتماعية, وكثرة الضغوط الاقتصادية، الشكوك في النهاية حول سلطة المنظمات الدولية، كمنظمة التجارة العالمية مثلا، وعلى المدى القريب سوف نرى تصاعدًا حادًا في نداءات الإغاثة في ظل الأطر الموضوعة.
وسوف تشكل اتفاقية منظمة التجارة العالمية لمكافحة الإغراق، التي تفرض تعويضًا في القضايا التي يثبت فيها أن الشركات ألحقت ضررًا، ببيعها سلعًا بأقل من الأسعار التي سوف تجلبها في أسواقها الوطنية، أساس كثير من التحديات.
ويؤكد المؤلف أن الحربين الكارثيتين في العراق وأفغانستان، وفضيحتي سجن أبو غريب ومعسكر اعتقال جوانتانامو، والغطرسة والاستثنائية اللتين اصطبغت بها تعاملات الولايات المتحدة مع بقية دول العالم، وعلى الأخص في عهد جورج دبليو بوش، كان لها أثر مدمر باطراد، والحقيقة أن المشاعر المعادية لأميركا قد أصبحت فيما يبدو ومتأصلة في بعض المناطق المهمة.
وهناك حقائق أخرى مفزعة بالقدر نفسه يغض المتفائلون الطرف عنها، منها الانكماش الاقتصادي العالمي الآخذ في الانتشار، وتصاعد النفور من التجارة الحرة، ومبادئ الليبرالية، والتنافس الشديد على الموارد الرئيسة، ولعل المثير للسخرية أن عقودًا من العولمة المتزايدة هي التي وضعت الأساس للانقسامات المستقبلية.
وبحسب المؤلف فإنه في النهاية سوف يكون العالم مكانا مختلفًا تمامًا عما كان عليه قبل بضع سنوات فقط، وسوف يكون هناك مزيدا من التحديات والريبة الشديدة والغضب المتصاعد، عندما لا تعد الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة، وينعكس مسار العولمة، وتنقص الموارد الحيوية.
الفرص والتهديدات
وتحت عنوان: الفرص والتهديدات يتحدث المؤلف في الجزء الثاني من الكتاب عن امكانيات الإصلاح وضروراته، مؤكدًا أن على الأميركان أن يعيدوا توجيه أنماط حياتهم العملية، إن أرادوا حقًا أن يتجاوزوا المحنة، وبدلاً من البحث عن وظائف تنحصر ساعات دوامها من التاسعة إلى الخامسة، وبدلاً من السعي وراء الشركات الكبرى، يتعين عليهم استهداف الوظائف التي تخدم الاحتياجات اليومية بشكل أكثر مباشرة.
وبعد سنوات من العمل الشاق والعودة إلى البيت للاسترخاء، لن يجد كثيرون أن لديهم تلك الرفاهية بعد، بل سوف يتجهون من فورهم إلى وظيفتهم الثانية، وربما الثالثة، أو يبذلون قصارى جهدهم بأية طريقة أخرى، تعينهم على زيادة دخولهم.
يتعين على الأميركان إذن أن يضعوا قائمة بالأولويات والخيارات، التي ربما تكون في المتناول إذا ما ساءت الأمور، سوف يتعين عليهم الآن الوقوف على الأشياء التي يسعهم الاستغناء عنها، فقليلون هم الذين سيكون لديهم رفاهية امتلاك أشياء بعينها، لمجرد قدرتهم على اقتنائها.
وبعيدًا عن المصاعب الناجمة عن حالات العجز والأعطال, سوف يجد كثير من الناس أنفسهم عرضة لابتلاءات من طرق أخرى، لقد اعتاد الأميركيون في المقام الأول على نظام مالي، ظل ساريًا بسلاسة لفترة طويلة، لكن الظروف الاقتصادية المتدهورة، والنكبات المتلاحقة التي أصابت الدولار الأميركي واخفاقات البنوك، وسقطات آليات السداد، واضطرابات السوق المستمرة, وتخلف الأفراد والشركات والقطاع الخاص عن السداد. وحالات الإفلاس، كلها تفضي إلى احتمالات محدودية النقد القابل للصرف، أو حتى اختفائه كليا، وإذا حدث ذلك سوف يتعين على الناس بذل قصارى جهدهم، من استجداء أو اقتراض أو حتى سرقة، لسد احتياجاتهم واحتياجات عائلاتهم!.
وفي النهاية يقول المؤلف إنه من الصعب الطعن في فرضية المتفائلين، بأنه في مرحلة ما في المستقبل، سوف تخف حدة القيود والشكوك أو تتلاشى كليا من المشهد، أو أن الشقاقات والاضطرابات سوف تنتهي أو تهدأ، وسوف يتم تسوية حالات الإفراط والمغالاة والتعطل أو التخفيف من وطأتها، وأن الرماد المتبقي من الكثير من الأزمات التي اندلعت، سوف يدعم جذور العودة إلى فترات أفضل، سوف يعدل الناس من أسلوب حياتهم وتوجهاتهم وأفكارهم، بحسب منظومة جديدة تحكم الأشياء، وسوف يكون البشر على أهبة الاستعداد مرة أخرى، للمضي قدمًا باتجاه فترات أفضل للجميع.
حتى يتحقق الحلم
ولكن حتى يتحقق هذا الحلم على أرض الواقع، يحتاج الأميركان لأن يكونوا شديدي اليقظة، وعلى أهبة الاستعداد للتحرك, وسوف يتعين عليهم استيعاب الإفكار المتعمقة الواردة في هذا الكتاب، واتخاذ الخطوات اللازمة لضمان قدرتهم على تخطي الفترات العصيبة دون خسائر.
ويتحتم عليهم كذلك اكتساب أكبر قدر ممكن من الخبرات حول مجريات الأمور، ووضع خطة محكمة, وتعديل عاداتهم وتوجهاتهم، والتركيز على الأشياء التي تدعو الحاجة إليها للصمود والبقاء ـ وربما أيضًا التطور والازدهار ـ في عالم محفوف بالمخاطر، وحينئذ فقط يكونون على أهبة الاستعداد لتلك اللحظة المأمولة، عندما يلوح في الأفق ضوء في نهاية الدرب المظلم.