حياة الأستاذ عمر التلمساني في كتاب
صدر مؤخراً كتاب جديد بعنوان "سطور من حياة الداعية الرباني عمر التلمساني"، تم ترجمته للإنجليزية، للكاتب الصحفي الزميل بدر محمد بدر، يستعرض فيه ملامح من حياة المرشد الثالث للإخوان المسلمين (1904 - 1986م)، منذ نشأته في حي الأزهر بالقاهرة لأسرة ثرية لكنها متدينة، حيث كان جده لأبيه تاجراً من مدينة تلمسان الجزائرية، وهاجر واستقر في القاهرة بعد الاحتلال الفرنسي للجزائر عام 1830م.
ويستعرض المؤلف، الذي رافق الأستاذ التلمساني في سنواته الثماني الأخيرة، مراحل حياة مرشد الإخوان منذ نشأته ثم التحاقه بكلية الحقوق في عشرينيات القرن الماضي، ثم اشتغاله بمهنة المحاماة بمدينة شبين القناطر التابعة لمحافظة القليوبية (بعد استقالته من النيابة العامة)، ثم تعرفه بعد ذلك على دعوة الإخوان المسلمين في أوائل عام 1933م وبيعته السريعة للإمام حسن البنا.
ويتناول الكتاب جانباً من حياة وتجربة هذا الإنسان الذي عاش سني حياته الأولى مرفهاً، مع دعوة تجوب المدن والقرى والنجوع والأزقة للحديث إلى عموم الناس، وكيف تأقلم معها سريعاً حتى أصبح عضواً في مكتب الإرشاد العام في عهد الإمام المؤسس، ثم دخول دعوة الإخوان في مرحلة المحن وحل الجماعة في النصف الثاني من الأربعينيات، واستشهاد الإمام المجدد حسن البنا في فبراير عام 1949م.
وعقب قيام الجيش بانقلاب على النظام الملكي في يوليو 1952م لم تدم مرحلة الهدنة مع الإخوان طويلاً، وسرعان ما رتب "عبد الناصر" وأعوانه "حادث المنشية" في الإسكندرية في أكتوبر 1954م، ليتم القبض على الآلاف من قادة وأفراد الإخوان المسلمين، وكيف نصب "عبد الناصر" أعواد المشانق والإعدام لستة من هؤلاء القادة، واعتقال وتعذيب الباقين.
وفي هذه المحنة تم الحكم على الأستاذ التلمساني بالسجن لمدة 15 عاماً، ثم أعيد اعتقاله لعامين آخرين بعدها، حتى أفرج عنه الرئيس "السادات" في منتصف عام 1971م.
وعقب خروجه سعى التلمساني إلى جمع صفوف إخوانه مرة أخرى، ليضمد الجراح الغائرة بعد سنوات السجن والمعاناة، ويبدأ العمل الإسلامي الحركي على مستوى مصر من جديد، كما استجاب للحوار مع السلطة في أوائل عهد الرئيس "السادات"، مؤملاً في الوصول إلى توافق يسمح للجماعة بالعمل دون ملاحقات أمنية وسياسية مرة أخرى.
وعندما توفي المرشد الثاني المستشار حسن الهضيبي في نوفمبر 1973م، تولى التلمساني مسؤولية مكتب الإرشاد، وبدأ بإعادة اللحمة إلى الجماعة، وأصدر مجلة "الدعوة" لسان حال الإخوان، وفي أول فرصة خاض بالجماعة انتخابات النقابات المهنية، التي فازت بعد ذلك وحتى الآن بمعظم مجالسها، ثم انتخابات مجلس الشعب في عام 1984م متحالفاً مع حزب "الوفد" الجديد، وفاز الإخوان بـ 9 مقاعد، ارتفع عددها في انتخابات 1987م إلى 36 مقعداً، وهو ما يعتبره كثير من المحللين البداية الحقيقية لانطلاق الإخوان نحو أسلمة المجتمع.
لقد نجح الأستاذ التلمساني بتوفيق الله تعالى له وحسن بصيرته وإخلاصه في توظيف طاقات الإخوان المسلمين في الانفتاح السلمي على المجتمع المصري، وبالتالي إدماج هذه الطاقة المتوقدة الفتية في بناء مؤسسات المجتمع، وتحسين إدارته وإعطاء نموذج عملي للأخ المسلم الملتزم الذي يسعى لخدمة دينه ووطنه، وهذا الانفتاح السياسي والنقابي أفاد المجتمع المصري كثيراً، مثلما أفاد الإخوان المسلمين.
ويقول المؤلف: كان الأستاذ عمر التلمساني - يرحمه الله تعالى - عف اللسان، لين الجانب، رقيق المشاعر، وكان بطبيعته يميل إلى الهدوء، فلا تكاد تسمع صوته إلا إذا كنت بجواره، وكان شديد التواضع، لم أره يتقدم لإمامة الصلاة أبداً، حتى ولو كان عدد المصلين قليلاً وليس فيهم أحد من الإخوان القدامى، مع أنه كان الأكثر علماً وفضلاً وورعاً، ولكنه التواضع الجم.
هكذا كانت حياة هذا الداعية الرباني الكبير، وهكذا كانت مسيرته الدعوية والجهادية، وهكذا كانت بصيرته التي فتحت الأبواب أمام جماعة الإخوان إلى الآن، ليس في مصر وحدها، بل في العالم أجمع، ولا أظن أحداً سمع به أو رآه إلا وناله خير منه، وتأثر به وبمواقفه.
لقد ظل الداعية الكبير يكتب منافحاً عن الإسلام، وداعياً إلى الله على بصيرة، حتى بلغت منه الشيخوخة مبلغها، ولم يعد قادراً على حمل القلم، واحتفظ سكرتيره الأستاذ إبراهيم شرف بآخر ورقة كتبها في حياته، وسطر عليها: بسم الله الرحمن الرحيم.. لكنها خرجت مهتزة متعرجة، ولم يقو على الاستمرار في الكتابة، وكان يملي مقالاته الأخيرة وهو على فراش الموت لمن يكون حاضراً من الإخوان، وكانت من أقوى مقالاته.