مذكرات فدوى طوقان – سيرة حياة وصورة روح مرهفة
مذكرات فدوى طوقان
سيرة حياة وصورة روح مرهفة
شاكر فريد حسن
فدوى طوقان الشاعرة الراحلة والشخصية الادبية البارزة في الثقافة الفلسطينية والادب العربي الحديث ، كانت قد اصدرت مذكراتها ،التي حملت اسم "رحلة صعبة رحلة جبلية". وقد نشرت بعض فصول هذه المذكرات في مجلة "الجديد" الحيفاوية العريقة ، ومجلة "الفجر الادبي " التي كانت تصدر في القدس العربية المحتلة.
واهمية هذا الكتاب تنبع من كونه الاول من نوعه ، الذي كان قد صدر في الاراضي المحتلة وفي العالم العربي ، بعد "الايام" لطه حسين و"زهرة العمر" لتوفيق الحكيم .
لقد تساءل الشاعر الفلسطيني سميح القاسم في المقدمة التي كتبها للكتاب:" لماذا هذه السيرة الذاتية ؟؟! هل لمجرد المتعة الادبية ؟! ام لغاية التسجيل والتوثيق التاريخي؟ ام هي للامرين معا؟! . واجاب على هذا التساؤل قائلاً :"حين تنزاح السطور من امام القارئ فسيلقى نفسه منغمساً حتى اطراف اصابعه في مزيج رائع من وقائع التاريخ ونوازع الروح، مسبوكة برشاقة وشفافية وبوح اليف في كلمات شاعرتنا الكبيرة فدوى طوقان ، هذه الانسانة الشاعرة المنتصبة في حياتنا الثقافية والاجتماعية ظاهرة فريدة وتجربة رائدة على صعيدي الحياة والابداع معاً".
تسجل فدوى طوقان في هذا الكتاب ، بصدق واصالة وعذوبة، قصة حياتها المأساوية في ظل المجتمع البرجوازي المتخلف والمحافظ على التقاليد والعادات البالية ، الذي يسلب المرأة حريتها ويتعامل معها كحيوان جنسي خلق للذة والاطفال والمطبخ . وأول المحطات التي تستوقفنا فيها شاعرتنا هي طفولتها التعيسة وحرمانها من العطف والحنان الابوي، فتقول :"لم تكن الظروف الحياتية التي عاشتها طفولتي مع الاسرة لتلبي حاجاتي النفسية ، كما ان حاجاتي المادية لم تعرف في تلك المرحلة الرضى والارتياح . واذا كانت الطفولة هي المرحلة الحاسمة التي ترسم الشخصية وتقررها لما لها من اهمية في حياة الفرد، فان طفولتي – لسوء الحظ او لحسن الحظ – لم تكن بالطفولة السعيدة المدللة . لقد ظللت اتلهف للحصول على دمية تغمض عينيها وتفتحها وكنت استعيض عن دمية خرجت من مصنع بدمية تضعها لي خالتي ام عبداللـه او ابنة الجارة "علياء" من مزق القماش وقصاصاته الملونة . ولم اكن احب ملابسي لا قماشاً ولا تفصيلاً . فقد كانت امي تخيطها بنفسها ، ولم تتقن هذه الصنعة. وكانت ابنة عمي "شهيرة" تلبس دائماً اجمل مما البس بما لا يقاس. اذا كانت امها تبعث بملابسها الى خياط محترف. اما بنيتي فكانت عليلة منهكة بحمى الملاريا التي رافقت سني طفولتي . وكانت شحوبي ونحولي مصدراً للتندر والفكاهة واطلاق النعوت الجارحة علي "تعالي يا صفرا . روحي يا خضرا".
والمحطة الثانية هي اختلاجات الحب الاول لفتاة مراهقة لا تعرف عن الحب سوى انه احد المحرمات في المجتمع العربي. فتحدثنا عن الاثر الذي تركته اغاني محمد عبد الوهاب في نفسها خصوصاً "تعالي نفن نفسينا غراماً" و"النبي حبيبك ما تحرمش الفؤاد منك" وغيرهما. كما تحدثنا عن تجربتها الاولى مع الحب ، التي كانت مع غلام في السادسة عشرة من العمر، حمل اليها ذات يوم زهرة فل عبقت رائحتها وعلقت بجدران قلبها. وقد انكشف امر هذه العلاقة وعلم بها شقيقها "يوسف" الذي اصدر عليها الحكم بالاقامة المنزلية حتى يوم مماتها ، وهددها بالقتل اذا تخطت عتبة الدار!!.
ومما لا شك فيه ان هذه الامور سببت لها الصدمة والشعور الساحق بالظلم والاجحاف وولدت لديها الرغبة في الانتحار . وعن ذلك تقول فدوى طوقان : "احياناً كنت ادخل المطبخ واقف عند صفيحة "الكاز" وبيدي الثقاب. لكني كنت اخاف الالم الجسماني ولا اطيق تحمله وهكذا كنت انصرف دون تنفيذ الامر . وانا افكر بطريقة اخرى تكون اقل عنفاً من الاحتراق بالنار. وكثيراً ما خطر لي تناول السم، ولكن من يأتيني به؟ هذا بالاضافة الى كونه يسبب آلاماً شديدة، قبل الموت، وكان هذا كافياً لتحويل ذهني عنه. كان الانتحار هو الشيء الوحيد الذي يمكنني ان امارس من خلاله حريتي الشخصية المستلبة ، كنت اريد التعبير عن تمردي بالانتحار . الانتحار هو الوسيلة الوحيدة ، هو امكانيتي الوحيدة للانتقام من ظلم الاهل".
وبقيت فدوى طوقان على هذه الحال الى ان عاد شقيقها "ابراهيم" من بيروت في تموز عام 1929 حاملاً شهادته من الجامعة الامريكية . ومع وجه ابراهيم اشرق وجه اللـه على حياتها. فهو الانسان الوحيد الذي ملأ الفراغ النفسي الذي عانته واشاع الفرح وحب الحياة في قلبها ونفسها ، وذلك من خلال اصطحابه اياها في مشاويره وجولاته في جبال "عيبال" ، واصبح ابراهيم الهواء الذي تتنفسه رئتيها وحبل السلامة الذي تدلى وانتشلها من بئر نفسها الموحشة المكتنفة بالظلام ، والملاك الطاهر الذي انساها شقاءها وانسحاقها.
اما المحطة الاخرى فهي علاقتها مع الكلمة الشعرية ، فترصد الايام الاولى ، التي بدأت تتعلم فيها نظم الشعر على يدي ابراهيم، حيث احضر لها كتاب "الحماسة" لابي تمام واسمعها قصيدة " امرأة ترثي اخاها" وطلب منها كتابتها وحفظها غيباً . ثم مضت في المسيرة مع ابراهيم والشعر حتى تمكنت من كتابة اول قصيدة جادة موجهة الى الشاعرة العراقية رباب الكاظمي يقول مطلعها:
ارباب تاج الشاعرات ارباب فقت النابهات
واللـه انت خليقة بالمدح بين الآنسات
اخيراً، هذه بعض المحطات اردت التوقف عندها واترك بقية المحطات للقراء كي يستمتعوا بقراءتها، لانها حقاً مذكرات صادقة جميلة وتعبرعن هموم ومعاناة وكفاح تطلعات المرأة العربية.