في القاع
سنتان في سجن تدمر
لخالد فضل
نذير علمدار
(... أخي يا من قرأت مذكراتي وذكرياتي عن سجن تدمر العسكري.. ترى ما هي أحاسيسك ومشاعرك تجاه عشرات الآلاف من المعتقلين من أبناء شعبنا السوري المصابر.. وما هي أحاسيسك ومشاعرك تجاه القرامطة الجدد الذين يحكمون سورية بالحديد والنار في هذه الحقبة العربية الرديئة من الزمن العربي الأسود...) بهذه الكلمات السهلة المعبرة يختتم المواطن السوري خالد فاضل الذي تمنى الموت في لحظة من اللحظات من شدة الهول الذي عاناه – كتابه المنشور تحت عنوان:
(في القاع.. سنتان في سجن تدمر العسكري).
يقع الكتاب في (208) صفحات من الحجم الكبير.
ويحتوي على مقدمة وتوطئة ثم صلب الموضوع الذي لم يقسم إلى أبواب أو فصول بل ترك كما هو.
وفيه يتحدث الكاتب عن أخبار المعتقلات وما لاقاه فيها من شتى صنوف التعذيب والإهانات، كما يتحدث عن أخبار المعتقلين وحالات الصفاء والسمو الروحي العالية التي يعيشونها داخل أقبية السجون، على الرغم من كل الذل والهوان الذي يواجهونه من قبل سفاحي ومجرمي السلطة.
المقدمة: وفيها يقول صاحبها:
"إننا بإصدار هذه الذكريات عن سجن الموت في تدمر، ونقل معاناة أولئك الأحرار الأسرى، نريد أن نشهد العالم أجمع.. نريد أن نشهد الدنيا بأسرها على جرائم هذا الملعون ابن الأفاعي، لعل الحس الإنساني يتحرك فيهم، فيبادروا إلى فعل حاسم يجتث هذا السرطان من جسم أمة العرب. لينقذوا العرب والمسلمين من خبائثه وجرائمه..".
ويضيف: (وقد نتج عن حالة الصفاء والسمو الروحاني ثبات الفتية الشباب كثبات قاسيون ورجولة بزت رجولة الفحول إلى جانب التقوى الحقيقية والإيثار الذي علم الكبار، إنهم فتية آمنوا بربهم، وارتضوا أن يكونوا جيلاً استشهادياً فريداً..) ثم يختتم صاحب المقدمة مقدمته الشاملة بالقول الحاسم الجامع فيقول:
(هيه صواعق السماء.. هيه براكين الأرض.. تفجري حمماً، وطهري الأرض من هؤلاء الأوباش.. يا ثارات الله تحفزي.. يا استغاثات الأعراض استوفزي.. ويا لوعات المكروبين في سجن الموت قد جئناك...).
أما الكاتب الذي كتب هذه الذكريات إثر خروجه من السجن فيقول في البداية:
(أخي القارئ الكريم يمكنك أن تقول: أن هذه الصفحات إنما هي عصارة روح أضها ظلم فادح، ونزل بها بغي فاجر، وأحاطت بها محن وأهوال ومهالك بكل ما في هذه الكلمات من معان. وهكذا فإن صاحبها عاجز عن نقل كل ما عاناه وعاشه هو وزملاؤه المعتقلون من صنوف البلاء، ولكنه يرغب من صميم قلبه أن ينقل إلى الملأ.. وإلى كل ذي همة ومروءة وشهامة، خير ما عاناه وعاينه في تلك الفترة من أهوال وأحداث رهيبة).
ثم يقول: (إنها صرخة أرجو أن لا تذهب في واد.. وإنه استعراض لأصحاب الضمائر الحية والقلوب الخيرة علهم يتحركون ضمن حدود طاقتهم وقدرتهم لفضح هذا النظام الفاجر.. القائم على الحديد والنار)..
يذكر السيد خالد فاضل في البداية نماذج – مما جرى معه قبل اعتقاله - مستمدة من واقع الشعب. للتعبير عن حالة الخوف والهلع والقلق التي وقع فيها الشعب جراء ممارسات السلطة الباغية في الاعتقال والتعذيب والتنكيل الذي فاق كل حدود التعسف والطغيان، والذي لم يكن بإمكان أي مواطن سوري أن يخرج نفسه من دائرة هذا البلاء العام. ذلك أن هذه الممارسات الهمجية لم تكن محدودة في طبقة معينة من طبقات المجتمع، بل إنك تستطيع أن تدخل أي سجن في هذه الأيام من سجون النظام المنتشرة في كل أرجاء سورية لترى أن هذا السجن قد ضم بين جنباته في وقت واحد سائر الشرائح الاجتماعية الموجودة في المجتمع من الطبيب إلى الأستاذ إلى المفكر إلى المهندس إلى العامل إلى الموظف.. إلى آخر ما هنالك في السلسلة الطويلة التي لها أول وليس لها آخر.
كانت أفواج المعتقلين تتوالى إلى معتقل (كفر سوسة) حيث كانوا يتعرضون لبرنامج طويل عريض من التعذيب والضرب الرهيب، ثم تجري لهم محاكمات صورية يجبرون بعدها على التوقيع على وريقات دون أن يسمح لهم بقراءة حرف واحد فيها.
كان شاب صغير اسمه إسماعيل يصرخ متألماً باكياً شاكياً مستغرباً يقول: ايش بتريدوا دخيلكن؟ وهم يضربونه بالكرابيج ويلكمونه ويرفسونه ثم يلقونه أرضاً ويوسعونه ركلاً حتى تسيل الدماء من وجهه وشفتيه ويغيب عن الوعي أو يدخلونه في الدولاب ويذيقونه مر العذاب ثم يقومون بعد أن يتعبوا ويكلوا بتوجيهه إلى الجدار حيث العصا الرهيبة في الانتظار، تفلق الرؤوس وتحطم الظهور وتدفع من انتهى أجلهم إلى القبور.
وذات مرة أمسك أحدهم بشعر لحيتي ينتف منه، ومن شعر صدري الخصلة والخصلتين، ولما تأوهت لكمني على وجهي.. صبرت قليلاً على الضرب والتعذيب ولكن رجلي أصبحتا وكأن فيهما جمر نار يحرق العظام فنفذ الصبر وضاق بي الأمر وكدت أغيب عن الوعي وصرخت مرة ومرات ثم انفتح فمي بالزعيق فما شعرت إلا وحذاء ضخم يصك أسناني ويكاد يسد حلقي ولكني كنت في شغل عنه وغبت عن الوجود.
كيف سيكون موقف الجيل الناشئ في سورية الحزينة، الذي عذب عدد كبير منهم وهم دون سن الخامسة عشرة؟ كيف سيكون موقفهم عندما يخرجون من السجون والمعتقلات والحقد قد ملأ عليهم قلوبهم؟
لقد كانوا يأتون المساجين بالطعام.. وأي طعام هذا الذي تنفر القلوب منه وتشمئز!! أي بشر هؤلاء الذين يزيدون من تعذيبهم إذا علموا أن السجين الذي بين أيديهم مصاب بداء في القلب أو بمرض الربو.. أو ما إلى ذلك!! وأي ثلة طائفية حاقدة متسلطة هذه التي تضاعف من تعذيبها وتزيد من إهانتها إذا علمت أن المعتقل طالب هندسة في الجامعة أو طالب طب..! وهل أخبركم عن مجزرة تدمر الأليمة.. لقد شاهد الكاتب آثار هذه المجزرة بعينيه ولمسها بنفسه.. وأما بالنسبة لعموم المعتقلين في القطر، فيحدثكم الكاتب عن الآلاف منهم الذين سيقوا إلى وراء القضبان بدون تهمة معينة إلا ما تسول للمتسلطين أنفسهم المليئة بالحقد..
كانت هناك مجموعات كبيرة من المعتقلين يقدر عددها ما بين (30) إلى (80) معتقلاً يجري إعدامهم كل بضعة أيام وبصورة منتظمة. كانت تمتزج أصوات قراء القرآن والمؤذنين المنبعثة من مساجد (تدمر) العامرة بالإيمان مع أصوات ضرب الكرابيج وصراخ المعذبين واستهزاء الفسقة بكل ما يمت إلى الله والإسلام الحنيف بصلة.. فيا غيرة الله..
كان الزبانية المنحطون من معدومي الضمائر وحثالات الشعب يغرسون أعقاب السجائر في الرقاب والوجوه، ويحرقون الأصابع والآذان بـ... بقداحات الغاز..!! في نفس الوقت الذي كانت فيه الأمراض بشتى أنواعها وأشكالها تغزو مهاجع وأجسام المعتقلين وتفتك بها أشد الفتك، فوق كل ما هم عليه من الفتن والمحن والبأساء والضراء.
كما كان هؤلاء الأوباش يقومون بعمليات النهب والسلب لجيوب المعتقلين بشكل مستمر. ويفرضون عليهم مبالغ معينة تجمع منهم بانتظام.. والويل كل الويل لمن ينفد ما معه، أو يرفض الدفع.
كان ثمة مهجعان مخصصان للأحداث لفتا الأنظار وجذبا الاهتمام إليهما بسبب أخلاق الإيثار والتضحية والبذل التي عمتهم جميعاً. وبالطبع فإن هذا ليس بمستغرب – البتة - على من نشأ على موائد القرآن وترعرع في ظلال الإيمان. كما كان هناك العديد من النساء المعتقلات اللاتي أنجبن وولدن وسط ظلمات سجن تدمر.
في يوم 26 (حزيران) 1980م وبعد محاولة الاغتيال التي تعرض لها السفاح الأكبر حافظ أسد من قبل بعض عناصر الحماية الخاصة به، جرت عمليات إبادة واسعة في السجن. فكان الفسقة يقومون بإلقاء القنابل إلى داخل المهاجع المكتظة بساكنيها لتقتل من تقتل وتمزق من تمزق، ومن لم يمت فإنهم يقتلونه ذبحاً أو يطعنونه بحراب البنادق.. وهكذا قتل قرابة (1000) إنسان في خلال ساعة واحدة من الزمن البائس.
كانت أفواج المعتقلين تتوالى من كل أنحاء سورية إلى سجن تدمر، وكان معظمهم من طبقة المثقفين وحملة الشهادات الجامعية بمختلف أنواعها. وقد كانت تجري لهؤلاء حفلات استقبال.. رهيبة فيموت بعضهم منذ البداية ويستريحون من الموت المنتظر القادم ببطء قاتل.
وبسبب كثافة نزلاء السجن وضخامة عددهم كان من المحتم أن تنتشر الأمراض بينهم مثل (الكوليرا والإسهال والقيء والدوار والدوخة) وقد ذهب العديد منهم صرعى هذه الأمراض. ويجب أن لا ننسى هنا أن عمليات التعذيب الوحشية التي تستهدف قلب المعتقل وروحه ونفسه.. وجسده.. مستمرة لم تتوقف قط لأي سبب كان. ويجب علينا أن نتذكر أن عدداً كبيراً من حفاظ القرآن الكريم كانوا من بين هؤلاء المعتقلين.. وقد أعدم أكثرهم..!!
في يوم 7/7/1980م صدر قانون العار الذي يعتبر الانتماء إلى الإخوان المسلمين خيانة عظمى عقوبتها الإعدام. ولم يكن يكفي حافظ أسد، قانون الطوارئ التعسفي الذي يحكم به سورية طوال الـ 15 عاماً الماضية، فأصدر هذا القانون.. الذي يعد الأول من نوعه في العالم الذي يقضي بالإعدام بسبب الانتماء السياسي.
كانت هناك مسرحيات مأساوية أو محاكمات هزلية تتم للمعتقل وسط حالة من التعذيب الجسدي. وكان يوقع المعتقل على تهم زائفة ملفقة تؤدي به إلى الموت المحقق، وهو إذا فعل ذلك فإنه إنما يفعله بارتياح داخلي كامل حتى يتخلص من التعذيب الوحشي الهائل الذي يصبه الفسقة الماجنون على الجسد الضعيف.
هل الصلاة جريمة..!؟ نعم. وفي عرف آل الأسد أصبح كل شيء جائزاً، وأن اعتداء هؤلاء الفسقة على المعتقلين أثناء الصلاة حتم ومقرر.
كان النظام الرهيب المطبق في السجن يهدف إلى تحطيم المعتقلين فكرياً وثقافياً وجنسياً ونفسياً. وكان السلاح الوحيد للمعتقلين الذين يلجؤون إليه ويحتمون به هو الالتجاء إلى الله تعالى.
وعن عمليات الشنق والإعدام التي كانت تتم للمعتقلين يحدثنا صاحب الكتاب أنهم عندما كانوا يريدون تنفيذ عملية الشنق بأحد المعتقلين فإنهم يجيئون به ويقولون له على سبيل التعمية: (بدنا ننقلك إلى سجن آخر) فإذا وصلا به إلى المشنقة قالا له: هذه هي السيارة، ويضعان الحبل في عنقه ويكون اثنان من رجال السجن قد أمسكا بالمشنقة الثلاثية الأرجل وأمالاها جهة المعدم، فإذا وضع الحبل في عنقه أقاماها بقوة حتى تقف على قوائمها الثلاث ويرتفع الأخ المعلق بها وهو يهتف: الله أكبر، وكثيراً ما كان يعاجله الحبل فلا يتمها، فيزفر ويحشرج حشرجات الموت، ثم يسلم الروح.
أيها الناس في كل مكان وزمان..
اقرؤوا هذا الكتاب لتعرفوا واجبكم تجاه الشعب السوري المجاهد.