مفاخر القضاء الإسلامي
د. محمد علي الهاشمي
"مفاخر القضاء الإسلامي كما يجليها الإسلام في الكتاب والسُّنة".. كتاب جديد لـ د. محمد علي الهاشمي، يطالعنا بأهم معالم القضاء الإسلامي، وفي مقدمتها التسوية بين الخصوم في مجلس القضاء، إذ نلمح الخلفاء يجلسون مع خصومهم في مجلس القضاء دون ترفُّع أو استثناء، وقد زها تاريخنا الإسلامي بمواقف مشرفة، منها:
خاصم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يهودياً رأى درعه عنده، فقال له: إنها درعي، فقال اليهودي: هي درعي وفي يدي، ثم قال: بيني وبينك قاضي المسلمين.
فأتيا شريحاً، فقال علي: هي درعي سقطت مني، فقال شريح لليهودي: ما تقول؟ فقال: هي درعي وفي يدي، فقال شريح لعلي: لابد من شاهدين، فدعا علي ابنه الحسن وقنبراً مولاه، فقال شريح: لقد أجزنا شهادة مولاك، ورددنا شهادة ابنك، فقال علي: ثكلتك أمك، أما بلغك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة؟ قال: اللهم نعم؟ غير أني لا آخذ بشهادة الولد لوالده، فقال علي رضي الله عنه لليهودي: خذ الدرع، فليس عندي بينة غير ذلك، فقال اليهودي في نفسه متعجباً: أمير المؤمنين جاء معي إلى قاضي المسلمين فقضى عليه ورضي! صدقت والله يا أمير المؤمنين، إنها لدرعك، سقطت عن جمل لك فالتقطتها، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فدفع علي الدرع لليهودي فرحاً بإسلامه(1)!!
ثم يشيد الكتاب ببساطة الإجراءات القضائية وتيسيرها على صاحب الدعوى، كما يلزم القاضي بتحري عدالة الشهود واختبارهم.
ويطالعنا بعد هذه السمات المتميزة للقضاء الإسلامي بما استحدثه المجتمع الإسلامي من قضاء المظالم، وهو قضاء مستعجل، الغرض منه وقف تعدي ذوي الجاه والسلطان، وإنصاف المظلومين، والنظر في القضايا التي يعجز عنها القاضي، لذا كان يتولى قضاء المظالم الخلفاء أنفسهم، وقد أخذ شكلاً منظماً في العصرين الأموي والعباسي، وفي ذلك وقائع لنماذج باهرة، رواها التاريخ عن جل الخلفاء الأمويين والعباسيين، لاسيما سليمان بن عبد الملك، وعمر بن عبد العزيز والمهدي، والرشيد والمأمون.
يروى عن الخليفة المأمون أنه جلس يوماً للمظالم، فجاء رجل يدعي أن له في ذمة الخليفة المأمون ثلاثين ألف دينار، فأنكر المأمون ذلك، فاحتكما إلى القاضي يحيى بن أكثم في جلسة علنية متساوين في القدر.
قال يحيى للمدعي: ما تقول؟ فقال: لي على هذا ثلاثون ألف درهم، فأنكر المأمون دعواه، ولم يكن للمدعي بيِّنة، فطلب القاضي من المأمون أن يحلف، فحلف المأمون، وحكم يحيى بن أكثم على المدعي وطلب حبسه، ولكن المأمون قال: أرفقوا به، وطلب من غلامه إحضار المال، ودفعه إلى المدعي كي لا تظن الرعية أنه استطال على المدعي، وتناوله من وجه القدرة، وهكذا حلف المأمون اليمين وأعطى المال(2).
بهذه السمات فرض القاضي احترامه على الحاكم والمحكوم، وألزم المتخاصمين التأدب في مجلس القضاء، وقوم المسيء ولو كان من الأسرة الحاكمة.
الهوامش
(1) البداية والنهاية لابن كثير.
(2) البيهقي في المحاسن والمساوئ، ص 498.