ابن هشام في السيرة النبوية
أنور عبد الفتاح
السيرة النبوية العطرة كانت ولا تزال وستظل موضع اهتمام الكتَّاب والباحثين والمؤرخين على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم، بل على اختلاف دياناتهم وعقائدهم.
ومن المعروف أنه لم يكن للعرب قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم من مادة التاريخ إلا ما توارثوه بالرواية، مما كان شائعاً بينهم من أخبار الجاهلية الأولى، كحديثهم عن آبائهم وأجدادهم وأيامهم ومفاخرهم بالبطولات والشجاعة والكرم والوفاء وغير ذلك من المكارم، ثم حديثهم عن البيت وزمزم وجرهم وما كان من أمرهم، وما جرى لسد مأرب وما تبعه من تفرق الناس في البلاد، إلى غير ذلك مما قامت فيه الذاكرة مقام الكتاب، واللسان مقام القلم يعي الناس عنه ويحفظون ثم يؤدون.
ثم جاءت البعثة المحمدية لتمثل مورداً جديداً من موارد هذا التاريخ الشفوي غير المدون، فكان ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم وظهور دعوته محور أحاديث الصحابة والتابعين، كما كان الجهاد في سبيل الله والكفاح في سبيل نشر الدعوة الجديدة مادة للتاريخ أولاً ثم للسيرة ثانياً.
ومع ذلك لم يدون في تاريخ العرب أو السيرة النبوية شيء إلى أن مضت أيام الخلفاء، ولم يدون في هذه الفترة غير القرآن الكريم ومبادئ النحو التي حفز إليها اختلاط العرب بغيرهم عند اتساع الرقعة الإسلامية.
ولما كانت أيام معاوية أراد أن يدوَّن في التاريخ كتاباً فاستقدم عبيد بن شَرِيّة من صنعاء فكتب له كتاب الملوك وأخبار الماضين.
وبعد ذلك اتجه أكثر من واحد من العلماء إلى علم التاريخ من ناحيته الخاصة لا العامة، وهي سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ولعلهم وجدوا في تدوين ما يتعلق به عليه الصلاة والسلام شيئاً يحقق ما في أنفسهم من تعلق به، وحب لتخليد مآثره بعد أن منعوا من تدوين أحاديثه إلى أيام عمر بن عبد العزيز، خوفاً من أن يختلط الحديث بالقرآن الكريم، فجاء أكثر من رجل كلهم محدث فدونوا في السيرة كتباً.. وكان من بين هؤلاء الرجال: عروة بن الزبير بن العوام - الفقيه المحدث، ووهب بن منبه ـ اليمني المتوفى سنة مائة وعشرين للهجرة، ومحمد بن إسحاق - المتوفى نحو سنة مائة واثنتين وخمسين للهجرة، وجاء بعد هؤلاء غيرهم، منهم زياد الكبائي - المتوفى سنة 183هـ، والواقدي، ومحمد بن سعد صاحب الطبقات الكبرى، والمتوفى سنة 230هـ..
وقبل أن تستأثر المنية بابن سعد عَدت على ابن هشام سنة 218هـ، وابن هشام هو الرجل الذي انتهت إليه سيرة ابن إسحاق، فُعرفت به وشاع ذكره بها، وهو فقيهنا اليوم الذي نصحبه من خلال السيرة التي دونها وعرفت باسم السيرة النبوية لابن هشام.
وابن هشام هو أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحِمْيَري، ومن الرواة من يرده إلى معافر بن يعفر، وهم قبيل كبير، نزحت إلى مصر منهم جماعة كبيرة، ومنهم من يرده إلى ذَهْل كما يرده آخرون إلى سدوسي، فلا تكاد تجد فيه رأياً فاصلاً شأن كل رجل تنازعه أكثر من بلد، ولم يعش حيث نشأ بيته وقرت أسرته، ثم لم يكن بيته فوق ذلك من النسب بالمنزلة التي يحرص الناس على حفظها وروايتها.
نشأ فقيهنا ابن هشام بالبصرة، ثم نزل مصر كما يحدثنا الرواة، ولكن من المعتقد أن حياة ابن هشام لم تكن محصورة في هذين المصريْن لاسيما في عصرٍ كان العلم فيه يؤخذ سماعاً، فكانت الرحلة في طلبه ديدن العلماء.
والقول في وفاة ابن هشام غير مقطوع فيه برأي، فبينما يذهب فريق إلى أن وفاته كانت سنة 218هـ، إذا بفريق آخر يقول: إن وفاته كانت سنة 213هـ.
وأياً كان الاختلاف في ميلاده ووفاته فقد كان - رحمه الله - إماماً في النحو واللغة. ويحدثنا الذهبي وابن كثير أنه حينما جاء مصر اجتمع به الشافعي وتناشدا من أشعار العرب أشياء كثيرة.
ولابن هشام أكثر من مؤلف في أكثر من فن، فله في غير أثره في سيرة ابن إسحاق: شرح ما وقع في أشعار السير من الغريب، وكتاب التيجان لمعرفة ملوك الزمان.
وكما أشرنا من قبل فقد كان ابن هشام هو الرجل الذي انتهت إليه سيرة ابن إسحاق، وغلب اسمه عليها، فعُرفت به، وكان فضله فيها لا يقل عن فضل ابن إسحاق.
ويروى أن ابن إسحاق صنف كتاباً في التاريخ بدأه ببدء الخليقة، أي منذ خلق الله تعالى آدم عليه السلام، فقيل له لقد طولته، فاختصره، ثم قيّض الله تعالى لهذا المجهود - مجهود ابن إسحاق - رجلاً له شأنه هو ابن هشام فجمع هذه السيرة ودونها، وكان له فيها قلم لم ينقطع عن تعقب ابن إسحاق في الكثير مما أورد بالتحرير والاختصار، والنقد أو ذكر رواية أخرى، فات ابن إسحاق ذِكرُها، فضلاً عن تكملة أكلمها أو أخبار أتى بها.
وللتعرف على نهج ابن هشام ودستوره فيما كتبه في السيرة النبوية نورد هذه الفقرة التي صدّر بها ابن هشام كتاب السيرة:
(وأنا إن شاء الله مبتدئ هذا الكتاب بذكر إسماعيل بن إبراهيم، ومن وَلَدَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم من ولده وأولادهم لأصلابهم الأول، فالأول من إسماعيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يعرض من حديثهم، وتارك ذكر غيرهم من ولد إسماعيل على هذه الجهة للاختصار، إلى حديث سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتارك بعض ما يذكره ابن إسحاق في هذا الكتاب مما ليس لرسول الله صلوات الله عليه فيه ذكر، ولا نزل فيه من القرآن شيء، وليس سبباً لشيء من هذا الكتاب ولا تفسيراً له، ولا شاهداً عليه، لما ذكرت من الاختصار وأشعاراً ذكرها لم أر أحداً من أهل العلم بالشعر يعرفها، وأشياء بعضها يَشْنُع الحديث به، وبعض يسوء بعض الناس ذكره، وبعض لم يقر لنا البكّائي بروايته، ومستقص إن شاء الله تعالى ما سوى ذلك منه بمبلغ الرواية له والعلم به) ا.هـ.
من هذه الفقرة نرى أن ابن هشام استبعد من عمل ابن إسحاق تاريخ الأنبياء من آدم إلى إبراهيم، وغير ذلك من ولد إسماعيل ممن ليسوا في العمود النبوي، كما حذف من الأخبار ما يسوء، ومن الشعر ما لم يثبت لديه، ثم استقصى وزاد بما يملك من علم ويسترشد من فكره، فجاءت السيرة معروفة به، منسوبة إليه حتى ليكاد الناس ينسون معه ابن إسحاق.
وقد كانت السيرة النبوية لابن هشام ومن قبله لابن إسحاق موضع اهتمام كبير وعناية عظيمة من أصحاب الهمم شرحاً وتفسيراً وتعليقاً واختصاراً، ومن هؤلاء الذين تناولوها بالشرح والتعليق: أبو القاسم عبد الرحمن السهيلي - المتوفى سنة 581هـ في كتاب "الروض الأنف".
كما أن من بين الذين تناولوها بالاختصار أبو العباس أحمد بن إبراهيم الواسطي في كتابه "مختصر سيرة ابن هشام".
كما كان للسيرة النبوية لابن هشام حظها من مجهود النظّامين الذين صاغوها شعراً، ومنهم أبو محمد عبد العزيز بن محمد بن سعيد الدميري الديريني المتوفى سنة 607هـ، وكذلك الخضراوي، وابن الشهيد، وغيرهم ممن شَرُفوا بسرد السيرة النبوية في قالب شعري.
رحم الله فقيهنا ابن هشام جزاء ما أسداه لنا وللأمة الإسلامية على مر العصور من فضل في هذا المجال.