دراسة في فقه المقاصد ليوسف القرضاوي
مصطفى عاشور
دراسة المقاصد ضرورة لمن يريد أن يتبحر في علم الشريعة، فهي تساعد في التوصل إلى الحكم الصحيح بعيداً عن التوقف عند حدود النص الظاهرية أو النظر إلى النصوص نظرة جزئية، فابن القيم يصف الشريعة بأن: "مبناها وأساسها مصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها".
ومقاصد الشريعة هي: "الغايات التي تهدف إليها النصوص من الأوامر والنواهي والإباحات" أو هي "الِحكم التي تطلب من وراء تشريع الأحكام".
وفي هذا الإطار جاء كتاب "دراسة في فقه مقاصد الشريعة: بين المقاصد الكلية والنصوص الجزئية" للعلامة الدكتور "يوسف القرضاوي" الصادر عن دار الشروق بالقاهرة عام (2006) في طبعته الأولى، ويقع في (288) صفحة، ويتكون من مقدمة وثلاثة فصول، بالإضافة إلى ملاحق بفتاوى عدد من علماء المنهج الوسطي.
كيف نحدد مقاصد الشريعة؟
يعد هذا السؤال مهماً للغاية، لأن القليل من العلماء هم الذين خاضوا غمار البحث في علم المقاصد، وكان على رأسهم الإمام "أبو حامد الغزالي" الذي وضع أساس "نظرية المقاصد" التي التزم بها العقل الإسلامي لقرون، حيث اعتبر المصلحة أصلاً موهوماً، وقسم مراتبها إلى ثلاث هي: الضروريات والحاجيات والتحسينيات.
ثم جاء الإمام الشاطبي، وقسم المقاصد إلى خمسة مقاصد هي: حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسل، ثم اجتهد آخرون مثل الإمام رشيد رضا فقسمها إلى عشرة مقاصد.
ورأى الشيخ القرضاوي أن هناك أكثر من طريق للوصول إلى مقاصد الشريعة وهي:
- تتبع النصوص التي جاءت بتعليلات في القرآن والسنة، مثل الآية الكريمة التي تشرع القصاص والتي اعتبرت تشريعه حفظاً للحياة.
- استقراء الأحكام الجزئية والتأمل فيها، وضم بعضها إلى بعض للوصول إلى المقصد النهائي من وراء التشريع.
ولكن.. هل مقاصد الشريعة محصورة في الكليات الخمس؟
الواقع أن بعض الفقهاء أدخلوا العرض كمقصد للشريعة، وربط هؤلاء بين الحدود ومقاصد الشريعة، والعرض مرتبط بعقوبة في الإسلام وهي حد القذف، لكن العلامة التونسي "الطاهر بن عاشور" رأى أن العرض لا يصل إلى تلك المرتبة، ولعل ذلك يرجع إلى أنه قصر المقاصد على الناحية المادية، غير أن القرضاوي رأى أن هناك مقاصد لم تستوعبها الأصول الخمسة ومنها ما يتعلق بالقيم الاجتماعية مثل الحرية والمساواة.
ورأى الشيخ أن عناية الفقهاء اتجهت قديماً إلى مصلحة الفرد المكلف، لكنها لم تتجه لإعطاء عناية مماثلة للمجتمع والأمة والعلاقات الإنسانية. ولعل العلماء القدماء لم ينظروا للأخلاق نظرة مستقلة فاعتبروها تدخل ضمن الدين.
وتحقيقاً لتطبيق فقه المقاصد لجأ الشيخ القرضاوي إلى استعراض ثلاث مدارس أساسية هي:
- الظاهرية الجدد: وهذه المدرسة تعنى بالنصوص الجزئية وتفهمها فهما حرفياً، بمعزل عما قصد الشرع من ورائها، وهؤلاء مثل قدماء الظاهرية الذين أنكروا تعليل الأحكام أو ربطها بأي حكمة أو مقصد، كما أنكروا القياس، بل قالوا إن الله تعالى كان يمكن أن يأمرنا بما نهانا عنه وتطرفوا فقالوا: "بل كان يمكن أن يأمرنا بالشرك وينهانا عن التوحيد".
وتتسم تلك المدرسة بحرفية الفهم والجمود، والجنوح إلى التشدد والتعسير، والاعتداد برأيها إلى حد الغرور، وتجريح مخالفيها.
- المعطلة الجدد: وهؤلاء يعطلون النصوص باسم المقاصد والمصالح، ويجترئون على النصوص الشرعية، بل جمدوها بحجة مراعاة مصالح الخلق، وكأن الشريعة جاءت ضد مصالح العباد، وحقيقة هؤلاء أنهم يتسترون تحت المقاصد لإلغاء الفقه الإسلامي كله وإلغاء علم أصول الفقه، ويفسرون الشريعة تفسيراً فضفاضاً، ولسان حالهم يؤكد أنهم يهدمون الشرع بالشرع، وأهم ما تتسم به هذه المدرسة: الجهل بالشريعة، والتبعية للغرب تفكيراً وسلوكاً ومناهج، والتصدي للحديث في الشريعة دون العلم بها. وترتكز هذه المدرسة على إعلاء منطق العقل على منطق الوحي.
- المدرسة الوسطية: وتقوم على الربط بين النصوص الجزئية والمقاصد الكلية، وتفهم الجزئيات في إطار الكليات، وتؤمن بأن أحكام الشريعة معللة، وأن عللها تقوم على رعاية مصالح الخلق، فهي لا تغفل المقاصد ولا تهمل النصوص، ولا تتصور أن يوجد تناقض بين الشريعة والمصلحة الحقيقية للبشر.
وتتميز بالنظرة المعتدلة لأمور الدين والدنيا، وتصل النصوص بواقع الحياة المعاصرة، وتتبنى منهج التيسير، وترتكز على البحث في مقصد النص قبل إصدار الحكم، وفهم النص في ضوء أسبابه وملابساته والتمييز بين المقاصد الثابتة والوسائل المتغيرة.
الكتاب: دراسة في علم المقاصد
المؤلف: د. يوسف القرضاوي
الناشر: دار الشروق – القاهرة