إنها الثورة يا مولاي
القرن الواحد والعشرين قرن الثورة العربية
محمد سيد بركة
المؤلف : منصف المرزوقي
الطبعة : الأولى - 2011م
عدد الصفحات :242 صفحة من القطع الكبير
الناشر : الدار المتوسطية للنشر- أريانة – تونس
انتخب مؤخرا محمد المنصف المرزوقي رئيسا جديدا للجمهورية التونسية، وأدى بعد انتخابه القسم القانوني وقال واضعا يده على القرآن الكريم : أقسم بالله العظيم ان أحفظ المصالح الوطنية ودولة القانون والمؤسسات وأن اكون وفيا للشهداء وأهداف الثورة . وتولى مهامه بشكل رسمي ، وبذلك يعد أول رئيس منتخب انتخاب حر ونزيه في عالمنا العربي ..
والمنصف المرزوقي هو في الأصل طبيب، وهو أيضا مناضل سياسي اعتقل وسجن في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، كما أنه مفكر وكاتب، وقد نشر العديد من الكتب باللغتين الفرنسية والعربية - وقد نشرنا في هذا المكان منذ عامين عرضا لكتابه "حتى يكون للأمة مكان في هذا الزمان" - وها نحن نقدم إطلالة في أخر كتاب صدر له حديثا تحت عنوان إنها الثورة يا مولاي..
لكل ثورة ثمن باهظ
يرى المنصف المرزوقي في كتابه إنها الثورة يا مولاي أنه من الثوابت التي تتردد عبر التاريخ حتى تكاد تكون قوانين أنه لا تقوم ثورة إلا و قامت لها ثورة مضادة ، وأن لكل ثورة ثمن باهظ، وأن الثوار ليسوا من يجنون ثمار الثورة ، وأنه لا بد أحيانا من زمن طويل حتى تحقق الثورة أهدافها .
يروي المنصف المرزوقي علاقته بديكتاتورية الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي منذ ان كشفت الديكتاتورية عن وجهها ابتداء من العام 1991 والقمع الذي وقع عليه كآلاف التونسيين وأن هذا الاضطهاد لم يتوقف يوما، وكم كانت شرسة وخطيرة تلك المواجهة مع الاستبداد في إطار الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان التي ترأسها من 1989 الى 1994 والمجلس الوطني للحريات من 1998 الى 2000 أو المؤتمر من أجل الجمهورية الذي أسسه مع نخبة من أكثر المناضلين صلابة في العام 2001.
كما يتعرض في الكتاب لتجربة السجن ورسائل التهديد بالقتل، التي تلقاها، إضافة إلى طرده من منصبه الأكاديمي كأستاذ في الطب بكلية سوسة ومنعه من السفر والحكم عليه بالسجن لمدة عام مع تأجيل التنفيذ، إضافة إلى محاصرته في بيته مع إقامة جبرية غير معلنة.
يقول المنصف المرزوقي : بعد شهرين من المحاصرة التامة اكتشفت عبث الصراع غير المتكافئ فقررت العودة الى المنفى ، وانتظار تحرك الساحة ، ثم وبمناسبة انعقاد قمة الامم المتحدة للمعلومات في تونس أواخر العام 2005، خلت ان الفرصة سانحة فأعلنت اضراب الجوع الشهير الذي انبثقت عنه حركة 18 أكتوبر ، ثم تكرر السيناريو ذاته : محاصرة وشلل تام وعودة الى باريس بعد شهرين وأنا أجر أذيال الخيبة.. ورغم اقامته في فرنسا رفض المنصف المرزوقي طلب اللجوء السياسي من باب التمسك بالوطن..
البوعزيزي.. شرارة الثورة
اغتنم المنصف المرزوقي دعوته للمشاركة في أحد برامج قناة الجزيرة القطرية ليعلن يوم 24 أكتوبر 2006 عن عودته الى تونس، داعيا في الآن نفسه كل التونسيين إلى الانخراط في المقاومة المدنية بهدف إسقاط الديكتاتورية، والنتيجة قرار الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي بقطع العلاقات الدبلوماسية مع الدوحة لمدة استمرت عامين، وعشية العودة الي تونس وصل إلى المرزوقي عن طريق شقيقه استدعاء إلى حاكم التحقيق، يقول: كان واضحا ان السلطة تهددني بالاعتقال حال نزولي من الطائرة. لكنني أصررت على رفع التحدي وكلمت من مطار باريس المحامين ليزورونني في السجن. كانت المفاجأة في انتظاري حيث لم يستقبلني إلا الأصدقاء وبعض الصحافيين ومنهم من سألني بخبث عن مشاعري تجاه رحابة صدر السلطة التي لم تعتقلني. وكان واضحا انها فهمت إنني لا أخشى السجن، ولكن انتقامها سيتخذ شكلا قد يكون أخطر من السجن. وهذا ما تم فعلا ففي أول يوم خرجت فيه من بيتي في سوسة لقضاء شؤوني فوجئت بمائة شخص على الأقل يحيطون بي في الشارع ويهددونني ويشتموني ويبصقون علي ولم ينقذني منهم إلا حماية إبن أختي رياض البدوي وتدخل الأخ إبراهيم بن حميدة الذي اختطفني من بين أيديهم ورماني بسيارته وشق صفوفهم ليحميني من شرهم.
لقد اعترف المنصف المرزوقي في كتابه انه أحس بخيبة أمل، فالنظام يعتمد على أساليب قذرة وخسيسة في الرد على معارضيه، حيث قال : كنت أتصور بسذاجة أن إطلاق نداء المقاومة المدنية والعودة إلى البلاد للانخراط فيها، سيفجر الوضع فتنزل الجماهير للشارع وتطرد الديكتاتور الفاسد، بالطبع لا شيء من هذا حدث، وبقيت الناس تتفرج علي والمنحرفون الذين أطلقهم النظام ضدي يهاجمونني في كل مرة أخرج فيها إلى الشارع ، ويروي المنصف المرزوقي في كتابه باستفاضة ما كان يحدث له من مضايقات ..
خيبة الأمل هذه جعلته يعود إلى الكتابة في محاولة لتعميق مفاهيم عديدة مثل الاستقلال الثاني ، ترسيخ المواطنة لا الوطنية، تقوية الانتماء العروبي لا للقومية، وأن الاتحاد العربي للشعوب الحرة هو الحل وليست الوحدة العربية في صيغتها القديمة، وأن الديمقراطية آلية للافتكاك والتحسين وليست وصفة جاهزة للنقل، والديمقراطية التي لا تضمن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لا تساوي شيئا ..
يقول : كان الحطب اليابس مكدس في كل مكان، لكن الشرارة لم تكن الدعوة التي أطلقتها ولا كانت حتى حالات الانتحار الكثيرة ومنها إضرام النار في النفس... كان علينا أن ننتظر جميعا استشهاد محمد البوعزيزي لتلتهم النار الحطب وأن ينتشر الحريق إلى كافة أرجاء الوطن العربي..
ثورة عربية .. لا ثورات عربية
يتساءل المنصف المرزوقي ما الذي جعل حادثة استشهاد محمد البوعزيزي دون سواها هي التي تفجر الأمر؟ ويجيب قائلا: مؤكد أن السؤال سيعرف آلاف الأجوبة ولا واحدة قادرة على أن تفرض نفسها. كان هنالك كيمياء غريبة في الثورات تجعل حادثا يبدو بسيطا في لحظة تبدو كمثل كل اللحظات هو الذي يطلق مفاعلة جاهلة الإدارة الواعية بدفعها ولم تنجح. كان هنالك داخل الوعي الجماعي لهذا الكائن الجبار المسمى الشعب حس يقدر متى يجب الانتفاض. قد لا نعرف أبدا السر أي كيف تفاعلت كل المعطيات داخل الوعي الباطني للتونسيين، ثم للعرب لكي ينفجر البركان. كنا قلّة ممن كانوا ينددون لا يغرنكم صمت البركان هناك أكثر من مؤشر يدل على انّه سينفجر عاجلا أم آجلا. أخيرا انفجر وحصلت الثورة التي تعصف هذه الأيام مشرقا ومغربا ولا أحد قادر على التنبؤ بما ستؤول إليه. يا لمشاعر الاعتزاز والفخر التي داهمتني وأنا أحط على أرض المطار في تونس الذي عوملت فيه طيلة ثلاثة عقود كشخص مشبوه فإذا بي أحمل على الأعناق.
ولقد كتب أحد الصحافيين مقاله عن الاستقبال الرائع للمرزوقي قائلا : عاد ورحلوا. نعم عدت ورحلوا عنه بل قل فروا منه أو قل طردوا منه شر طردة أو قل تقيؤهم الشعب ، هم الذين كانوا يتأهبون للتمديد والتوريث.
ويرى المنصف المرزوقي أن ثمة من يستعملون مصطلح الثورات العربية أمر لا يجوز، حيث لا مجال للحديث إلا عن الثورة العربية بالمفرد، ويتساءل ما الذي يمكن أن نقوله عنها –أي الثورة العربية - في هذه اللحظة بالذات وهي منتصرة في تونس ومصر، وهي تتعثر في ليبيا واليمن والبحرين، وتتهيأ في باقي أقطار الوطن لكنس نظام سياسي مات في العقول والقلوب منذ سنوات ونحن ندفنه اليوم هنا، وهناك غير مأسوف عليه..
ومما لا جدال فيه كما يبين المنصف المرزوقي أن أسباب الثورة العربية واحدة وهي تسلّط الفرد وفساد أهله، وحكم الأجهزة البوليسية وخصخصة مؤسسات الدولة لخدمة الأفراد والعصابات بدل خدمة الوطن والشعب ، كما أن أهدافها واحدة، حيث لم يرفع أحد مطلب بناء دولة العمال والفلاحين أو إقامة الخلافة، وإنما اتفقت كل الشعوب على الشعار الذي رفع في تونس وصنعاء والمنامة والقاهرة وبنغازي .. الشعب يريد إسقاط النظام .. وعلى مطلب مجلس تأسيسي ودستور يضمن بناء الدولة المدنية والمجتمع الحر ويقطع نهائي مع الاستبداد. أيضا كانت الوسائل واحدة فكل الانتفاضات كانت سلمية حتى وإن ووجهت برصاص المجرمين ، وإن طبيعتها واحدة.. شعبية، مدنية، شبابية، بلا قيادة مركزية ولا أيدولوجيا.
يرى المنصف المرزوقي أنه أمام هذه القواسم المشتركة يجب أن يكف البعض عن استعمال مصطلح الثورات العربية واستعمال مصطلح الثورة العربية بالمفرد ، فالأمر إما خطأ غير مقصود وإما موقف وإصرار واع على تجزئة أمتنا ولو على صعيد التسميات، كما تفعل الإدارة الأمريكية عندما ترفض للأمة وجودها متعاملة مع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على حد تعبيره .
منجزات الثورة العربية
كما يرى المنصف المرزوقي أن للثورة العربية، وهي لم تتجاوز بعد شهرها الثاني وقت إعداد هذا الكتاب منجزات ثلاث عظمى هي : إعادة بناء الإنسان العربي والشعوب العربية والأمة العربية.
ويقول : هذا ما سيعيد ترتيب شؤون العالم بكيفية لم يحسب لها كبار المخططين حسابا منذ ثلاثين سنة وتحديدا منذ سنة 1981، صدر لي في تونس أول كتبي وعنونته لماذا ستطأ الأقدام العربية أرض المريخ تحديدا لكل من يحتقرون أمّتنا سواء أكانوا من أبنائها أو من أعدائها ودعوة للإيمان بما تزخر به من طاقات جبارة ستنفجر عاجلا أو آجلا. صحيح إننا معرضون لأخطار الفوضى والثورة المضادة وعودة الاستبداد مرة أخرى وطول الآجال لتحقيق أهدافها لكن صحيح أيضا أننا اليوم قاب قوسين أو أدنى من هذا المريخ الذي بدا لنا يوما أملا حتى الحلم به جسارة مضحكة: مريخ الحرية والديمقراطية، والتقدم، ولما لا في يوم من الأيام، المريخ الكوكب نطأه بأقدامنا وليس فقط بأحلامنا، وقد أصبحنا كما كنا، أمة لا تضحك من جهلها الأمم. قد يحلو للبعض من السذج أو الخبثاء أن يطلعوا علينا بنظرية الديمقراطية الاستبدادية. عدا صعوبة التوفيق بين الماء والنار فإنه علينا مواجهة الواقع لا محاولة التحايل عليه. والمواجهة تقتضي أن نقبل بكل الفوضى الحالية إذ لا مناص منها. لنثق إذن في خيارنا الديمقراطي ولنقبل بكل وعي بنواقصه وعيوبه وحتى بأخطاره، لأنها ثمن بخس لأثمن ما يطمح له إنسان ومجتمع: الكرامة للمواطن والسيادة للشعب والشرعية للدولة. حتى وإن كانت الثورة لا تشمل لحظة كتابة هذا النص إلا ثلث الأمة ..
مستقبل الثورة العربية
إلى أين تتجه الثورة وماهو مآلها على الأمد القصير والمتوسط والبعيد؟ .. يرى المنصف المرزوقي أنه يمكننا التوقع بان أثارها ستنتشر خارج حدود الوطن وما عصبية الحكومة الصينية إلا الدليل على توسع دائرتها إلى حيث لا نتوقع. الثابت أنها ستمتد إلى كل أقطار الوطن، ولكل من يحاول مغالطة نفسه في المغرب وسوريا أو الجزائر باستقرار نظامه إن يتذكر أن النظام التونسي والمصري والليبي، كان كل منهم هو الآخرمستقرا.
يقول المنصف المرزوقي : كم صدقت هانا ارندت الفيلسوفة الألمانية عندما قالت خاصية الديكتاتورية أن كل شيء فيها يبدو على ما يرام إلى حد الربع الأخير من الساعة الأخيرة.
ويوضح المنصف المرزوقي أن بعض الثوابت التي تتردد عبر التاريخ حتى تكاد تكون قوانين. قرابة قرن قبل أن تحقق أهداف الثورة الفرنسية والأمر ليس شاذا وإنما قاعدة وان تباينت مدة الجزر وتوقيت عودة المد. لا تقوم ثورة إلا وقامت لها ثورة مضادة. ومن يفقدون السلطة لا يتبخرون ولا يذوبون كالسكر في الماء وإنما يتراجعون خلف الستار للتآمر على قلب النظام الذي انقلب عليه، وإن عجزوا عن الأمر بذلوا كل ما في وسعهم لعرقلة المسار الثوري وتشويهه... ولكل ثورة ثمن باهظ.وبغض النظر عن القوى الهدامة التي تحركها الثورة المضادة، فإن هنالك في الثورة نفسها قوى جبارة تدفع للفوضى والعنف وعدم الاستقرار. فلا بد بالنسبة للثوريين من مجابهة الأعداء بالمقاصل والمشانق والسجون وآنذاك تعود الآلة الجهنمية للقمع السياسي إلى العمل مع كل مضاعفاتها الكلاسيكية ومن أولها الالتفاف على الثوريين أنفسهم..
ندعو الله أن تحقق الثورة العربية أهدافها وينعم الإنسان العربي بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية وليس ثمة شك أن هذه من أصول ديننا العظيم الذي عبر عنه سلفنا الرائع ربعي بن عامر رضي الله عنه بقوله : جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن ضيق وجور الدنيا إلى سعة وعدالة الإسلام ..