زمن الفتن
د. خالص جلبي
بين يدي كتاب مثير لهشام جعيط بعنوان الفتنة (جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر)؟ ينقلك إلى جو الاضطراب السياسي والفتنة الدينية بين الانتقال من نظام الخلافة الراشدة على يد الانقلاب المرواني إلى وضع جديد يمكن وصفه بثلاث كلمات: انتهاء المثالية وتحطمها، و"بناء الاستبدادية والسلالية" على حد تعبير جعيط، والذي جعلني أغرق في هذا الكتاب حوالي أسبوع أقلِّبه من اليمين والشمال، من الأمام للخلف ومن الخلف للأمام دون التقيد بسيره، وأحيانا الوقوف أمام بعض الجمل وتلوينها بالفوسفور الأصفر، كما في قصة قطام والخارجي ملجم الذي نزل بالسيف المسموم على جبهة علي كرم الله وجهه، وعشت في هذا الأسبوع حقيقة في جو مشع، كما سماها جعيط إلياذة العرب وتبادل أدوار الأبطال، وصار عندي تصور عن الثورة التي أشعلها محمد ص في التاريخ، في تحريك شعوب وأمم من رقدة العدم والصعود بالأرواح إلى ذرى القمم، كما أشار جعيط نقلا عن هيجل أنه جواب الشرق على الغرب؟
وهي نفس كلمات توينبي عن صدام الحضارت كل ألف عام؟
ليس هذا ما أريد نقله للقاريء، ولكن ذلك الشعور الحزين عن جو الفتن التي نقلت الأمة من وضع لوضع، وفي هذا الصدد قلبت صحيح البخاري لاجتمع بحديث عجيب مروي عن حذيفة بن اليمان عن تبادل أدوار الشر والخير، في تسلسل ينتهي أخيرا بتراجيديا من دعاة على أبواب جهنم يقذفون فيها من أجابهم إليها وأنهم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا؟
وما حرك عندي هذا الهاجس عن زمن تنتشر فيه الفتن ما أسمع من اتجاهين الأول تطور الوضع بين الشيعة والسنة، يضاف له التوتر في مصر بين الأقباط والمسلمين.
ويبدو أن وضع المنطقة يمر في تفسخ متتالي مثل تفسخ الجثة في القبر؟ فهل أصبح العالم العربي في وضع الجثة المتفسخة؟
إننا نعرف عن موت الفرد يقينا ونراه كل يوم ولكن لايزعم أحد أنه رأى موت أمة ما إلا قراءة في التاريخ بشكل خيالي!!
كنت في كندا حين سمعت للمرة الأولى مايقوله بعض متطرفي الشيعة وما كنت أعرف من أين يتكلم؟ ومن هو؟ ولكنها كانت لي مفاجأة أن أسمع مثل هذا الغلو لقضايا انتهت منذ أكثر من ألف سنة؟ حيث تبنى العقائد على معارك تاريخية؟ حقيقة كان ينقل لي بعضا من هذه الأقوال؟ هذه المرة سمعتها تماما وصدمت بشدة؟
لقد أحزنني ماسمعت، وتساءلت لمصلحة من إثارة هذه القضايا التي دفع ثمنها قوم في يوم ضريبة فادحة من دم مهراق؟ وتذكرت كتاب العواصم من القواصم لكاتب قديم لايحضرني اسمه؟
ثم دفعت التفكير في اتجاه آخر أعلى درجة من مستوى الصراع المذهبي، فوق حلقة التصادم الداخلية، وهو لماذا تثار هذه النزاعات في وقت ما على لسان رجل ما؟
إنها كما يصفها مالك بن نبي المفكر الجزائري (لعبة الصراع الفكري)، وأن من يحرك هذه الدمى حريص مثلا على تقديم الملائكة ساعة في صورة أنثى، وساعة على شكل ذكر، ثم تغيير الجنس دوما، وإثارة الصراع حول جنس الملائكة ذكورا هي أم إناثا؟؟
وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا؟ أشهدوا خلقهم؟ ستكتب شهادتهم ويسألون؟
وحاليا فإن الصراع حول عائشة رضي الله عنها زوج النبي ص من طرفين، يجعلنا ندرك إحياء أجواء من الصراع مشحونة، وكأننا متوقفين في وقعة الجمل والنهروان وصفين؟ وكأن الزمن متوقف عندنا..
والله يقول مرتين بشكل متوالي في صفحتين متعاقبتين من سورة البقرة: تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون..
إن مشكلة الصراع المذهبي أو الديني أو القومي حين يقاد بالكلمات؛ فتثار قضايا قديمة بكلمات جديدة، قضايا أكل عليها الدهر وشرب، يجعلنا نتجمد في وحدة الزمن لانملك منها فكاكا وخلاصا أو تقدما إلا في اتجاه التعقيد والوقوع في فخ الملابسات اللفظية، والمناحرات والنقاشات غير المجدية، ولا خلاص لنا إلا بزحزحة موضع النقاش، بمعنى رؤية الحدث التاريخي بأدوات جديدة في وسط جديد من عدم التشنج بل الرؤية العلمية النقدية المدروسة..
إذا أمكن تحقيق هذا الشرط في البحث فلربما فهمنا طرفا من الصراع على نحو أقرب للموضوعية، وجعيط في كتابه الفتنة بذل الجهد مشكورا في رؤية ظروف الصراع القديمة بنور جديد.