دراسة للباحثة نهوند القادري عيسى
ثقافة الفضائيات العربية... ترفيه وبيع أحلام
موريس أبو ناضر
إذا كانت هناك وسيلة تصلح لتعطينا فكرة عن ثقافة اليوم، فإنها ستكون بلا ريب التلفزيون. فالتلفزيون بحسب تعبير الباحث الفرنسي بودريار هو وسيلة ما فوق واقعية، أي أنها واقعية أكثر من الواقع، بكلام آخر. نحن نستمد وعينا بالواقع من التلفزيون، فأي شيء لا يذاع في التلفزيون يبدو أقل واقعية، لأن القضايا السياسية تستمد أهميتها منه، وتكتسب السلع بريقها، من خلاله وتحظى الخدمات بجاذبيتها عبر شاشاته.
والتلفزيون يمتلك كل ما يذكره المفكر المصري إيهاب حسن من صفات تعبّر عن ثقافة اليوم، وهي: الاحتفاء بالصورة على حساب الكلمة، وإحلال الإشباع العاطفي محل العقل، والولع بالانطباع بدلاً من الإقناع، والتخلّي عن المعنى لمصلحة اللعب والتسلية.
على هذه الخلفية للتلفزيون تحاول الباحثة اللبنانية نهوند القادري عيسى في كتابها الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية بعنوان «قراءة في ثقافة الفضائيات العربية» أن تبحث عن الظروف التي نشأت في ظلها التلفزيونات العربية والرؤى التي استندت إليها، وموقع هذه الأخيرة من النظام العالمي، ومن الثقافة العالمية السائدة، ومن الثقافة الخاصة بمجتمعاتها، مروراً بالبحث في نوع العلاقة التي حبكتها مع الجمهور، ومع السلطات الحاكمة، ومع المجتمعات المدنية، وانتهاء بالبحث في طابع الثقافة التي تمظهرت في هذه التلفزيونات وهي: «أل بي سي، المستقبل، المنار، العربية والجزيرة»، ومن خلال نشرات الأخبار، والبرامج السياسية، والبرامج الاجتماعية الثقافية، والبرامج الترفيهية، التي تبثها هذه المحطات.
وتمرّ عبر بحث الكاتبة اللبنانية عن التلفزيونات اللبنانية والعربية، أو لنقل الفضائيات العربية أسئلة من أبرزها: هل استطاعت هذه الفضائيات من خلال برامجها أن تنتج ثقافة مستمدة من واقع المجتمعات العربية؟ وما هي مكونات الثقافة التي تحملها برامج هذه الفضائيات؟ وأي جانب طغى عليها، أهو المنحى التشاركي الإيجابي أم السلبي الانسحابي المعلّل بالتوجس والخوف؟ وهل تمكنت هذه الفضائيات من أن تنتج ثقافة ذات طابع بنائي، أم انها وقفت على تخوم الثقافة التفكيكية ذات الطابع التدميري للشخصية العربية والتراث العربي.
يعتبر التلفزيون اليوم، كجهاز حامل لثقافة الصورة، العمود الفقري للثقافة الجماهيرية، ثقافة الوجدان والانفعال والغرائز. ويعتبر التلفزيون الفضائي الذي يبحث عن النقاط المشتركة عند الناس في أقطار متعددة ليرسل لها كل ما يثير ويدهش ويذهل، بغض النظر عن الإفادة والمعرفة، الوسيلة الفضلى لترويج سلع اقتصاد السوق. هذه الوسيلة تتطلب السرعة والمباشرة والآنية، وتتطلب الصورة الجميلة كما يقول المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه، والأنوثة والإثارة والألوان الحية. وهو يدخل الانسجام في الأمور المتنوعة، ويحول الواقع الى خرافة، لأن وظيفته ليست التثقيف وإنما التسلية والترفيه.
لقد أصبح التلفزيون على ما يتفق خبراء الاتصال والإعلام آلة اقتصادية، وليس أنبوباً من الأفكار، وقسطلاً من الحواس. فالآلة تحمل أخلاق صيانتها منسجمة مع مجتمع الفردية «المتعيّة» والاستهلاك الفوري، وليس من طبيعة الآلة إثارة النقد ونقل الأفكار وإنتاج قناعة معينة، إنما الوصول الى شيء ما بين القبول السطحي والإشاعة الاجتماعية. وبذلك تبدو الثقافة البصرية، أي ثقافة التلفزيون ثقافة مجزّأة مفتتة سطحية واستهلاكية. وقد تساهم في تفكيك البنى الثقافية القائمة، وهي غير قادرة وحدها على تشكيل بنى جديدة، لأنها تقدم تصوراً للعالم يسوده التركيز الاعتباطي المفاجئ على قضية ما والإيقاف المفاجئ لها. إنه أداة مميزة لفرض الكثير من مفاهيم العصر، ولاختزال تعقيدات هذه المفاهيم كما يرى إدوارد سعيد الى صور بسيطة.
يأتي أثر الثقافة البصرية التي يروّج لها التلفزيون من أنها تدخل الى أذهان الناس من دون ضجة، وتحاول أن تسكن أنماط تفكيرهم، وتطوّر طرق وأساليب حياتهم اليومية والعملية، وذلك عبر بث أيديولوجيا ناعمة، كما يقول المفكر الفرنسي بيار بورديو، تتمثل في الجرعات اليومية من الصور التي يبثها التلفزيون، جرعات تُحلّ منطق الإغراء محلّ منطق الإقناع، وتدمج كل شيء بالترفيه والاستعراض. (وهل أجمل من استعراض الفتيات؟ وهل أسهل من استعراض الاختلافات والمشاكل؟ وهل أصدق من استعراض المشاعر والأحاسيس والعواطف).
قلما تختلف الثقافة التي تُشيعها الفضائيات العربية من محطة الى محطة أخرى، على صعيد انتقائها لبرامجها، فهي دائماً في عجلة من أمرها، لا مجال للتوقف والتفكير، والعودة الى الوراء، وهي تعمل على ضغط الزمن قدر الإمكان، لأن زمن البث سعره مرتفع، وكلما تمكنت من ضغطه استقطبت الإعلانات. وبذلك يعيش المشاهد العربي في حاضر أبدي واهتمامات اللحظة الحاضرة متناسياً قضاياه الحيوية، ومشاكله اليومية. إنها ثقافة الراهن، والديمومة وحسّ الاستمرارية يغيبان عن الوعي الاجتماعي، والأفق السياسي. وذلك ما يفرض البحث عن مُتع اللحظة الراهنة. إن ثقافة اللحظة الراهنة تعني نسف التاريخ والهوية لمصلحة الاستهلاك والإثارة. وتعني الاستغناء عن ثقافة الجهد والنفس الطويل، لمصلحة ثقافة تلعب الحظوظ دورها بامتياز، من خلال برامج الألعاب والمسلسلات والأفلام.
والثقافة التي تُشيعها الفضائيات العربية تتكل على تحويل شاشاتها الى مصنع للنجوم من مقدمين ومقدمات الى عارضات، والى فنانين وفنانات ورجال سياسة ونجوم رياضة. وهذه النجومية هي على صلة وثيقة بثقافة الربح، أما نجومية الجهد والإنتاج والعلم فتقبع في مكانها المتواضع في أسفل درجات العيش. فإثارة حماسة الجمهور مثلاً للألعاب الرياضية ليست بريئة، أو مجانية، فتحت شعار التسلية تخفي وسائل الإعلام ما تخططه الشركات العالمية للوصول عبر التأثير الى شمولية السوق.
إن ثقافة اللحظة الراهنة، وثقافة الربح السهل والسريع، والنجومية الإعلامية التي تروّج لها الفضائيات العربية تنطلق من وظيفة التلفزيون القائمة على التسلية والترفيه. وظيفة تكرست كثقافة قائمة بذاتها، وهو ما يبقيها على سطح الأحداث، ويجعل منها أداة للتمويه وتزييف صورة الواقع للإلهاء وتعليق الفكر والاستسلام للأحاسيس السهلة.
ان تكريس شاشات الفضائيات العربية لثقافة التسلية والترفيه جعل من هذه الثقافة نمطاً من الوجود يقوم على مجرد الاستهلاك، واقتناص مُتَع اللحظة الراهنة، مُتع يمثلها الشباب الفرح، المنطلق، المتملّك، من الأعباء والواجبات، والغارق في حال من اللهو واللذة حتى العبثية.
لقد اخترقت الفضائيات العربية سواء بنشرات الأخبار، والبرامج السياسية، والبرامج الاجتماعية الثقافية، والبرامج الترفيهية، عالم الشباب العربي وجعلته على درجة عالية من التبعية في ما يتعلق بمعرفة الواقع الاجتماعي المعروض أمامه من قبلها. بمعنى آخر، أصبح الإعلام الفضائي مساهماً أساسياً في تشكيل ملامح هؤلاء الشباب، بما يتلاءم مع التوصيف الذي تقدمت به مدرسة فرانكفورت للإنسان المعاصر (ذو بعد واحد، فاقد الهوية، صاحب نزعة استهلاكية، قليل الحساسية تجاه الغير، يعاني عزلة وضياعاً، أسير المرحلة الراهنة، والأمر الواقع، والتوقيت المخيف، والسرعة الفائقة، والوقائع السريعة الكفيلة بأن تُنسيه ما قبلها، وتتركه يتحفّز لما بعدها، أي تتركه يعيش في دوامة من النسيان والانبهار باللحظة الراهنة).
أكدت دراسات اليونسكو أن المحطات العربية تستورد من الدول الأجنبية، وبخاصة الولايات المتحدة، ما بين 40 و60 في المئة الأمر الذي يؤشر الى تسيُّد الثقافة الأميركية المعولمة الهادفة الى الوصول الى المجتمع الاستهلاكي الشامل، الذي قد لا يكون مكوناً من قبائل ومواطنين، لأن هؤلاء جميعاً هم من حيث الاحتمال زبائن سيئون، أما الزبائن الجيدون، فهم مكوّنون من هذا العرق الجديد.