مواجهة الإرهاب

بين التأصيل و التنظير

د. خالد القاضي

[email protected]

دأب العلامة الدكتور أحمد فتحي سرور منذ بواكير حياته العلمية ، ألا يقف عند المعهود والمألوف من الشروح الفقهية التقليدية لطروحاته القانونية ، بل اختط لنفسه منهاجًا خاصًا ، ومسلكًا مميزًا ، لم يسبقه إليه أحد ، سواء في ابتكاره مصطلحات جديدة في المؤلفات القانونية النمطية مثل " الشرعية الإجرائية " و " الشرعية الدستورية " وأخيرًا " الشرعية الثقافية " ، أو في استحداثه فروعًا جديدة في التقسيمات التي درج عليها الباحثون والدارسون للقانون ، فقد خرج علينا منذ عدة سنوات  بالقانون الجنائي الدستوري  الذي سار على نهجه من بعده المتخصصون والمعنيون ، فأكد أنه عميد فقهاء القانون الجنائي .

ومن ثم يأتي كتابه الجديد باللغة الإنجليزية  حول ( المواجهة القانونية للإرهاب ) ، ليبشر بمولد فرع جديد في القانون الجنائي التقليدي يمكن تسميته ( القانون الجنائي لمواجهة الإرهاب )، جمع فيه بين التأصيل العلمي لظاهرة الإرهاب ، والتنظير المنهجي لها على مختلف أصعدتها.

فالكتاب سِفر علمي  موسوعي , ودراسة عملية متكاملة الأركان صلبة البنيان , حدد فيه مقصده ومبتغاه من بداية بحثه إلى منتهاه : أطر قانونية, وسياسة جنائية , وأحكام دولية ووطنية ,  للمواجهة الجنائية , لطاعون الإرهاب المدمر الذي لا يعرف ديناً ولا ملة ولا يفرق بين وطن ولا نِحلة...  سبر الدكتور سرور أغواره , وكشف بعلمه أسراره , وصاغ بقلمه أفكاره .

وقد ارتضى الدكتور سرور لدراسته في هذا الكتاب خطة منهجية بالغة العناء والعنت في البحث والتنقيب, حيث جمع المنهج المتكامل في البحوث المكتبية والتطبيقية معا ًوهي أحدث الطرق.. وهذا المنهج مُستحدث لدراسة الظواهر الإنسانية والقانونية , ويستند على حقيقة وجود ارتباط وتلازم بين الإطار العلمي للبحث (أي الفكر النظري) وبين الواقع العملي (أي المجال التطبيقي) مما يسمح بالمزج بين النظريات التي تفسر الظواهر مع التطبيق العملي , ويحقق هذا المنهج مزايا عديدة منها : العمق باستخدام المنهج التأصيلي , والشمول باستخدام المنهج الوصفي التحليلي , والتوازن باستخدام المنهج المقارن.

وقد أنار الدكتور سرور للقراء و للباحثين طرائق العديد من أحدث وأندر المراجع والدوريات العالمية , مثل كتاب جان - كريستوف مارتن حول القواعد الدولية المتعلقة بمكافحة الإرهاب الصادر فى بروكسل عام 2006 , وكتاب روبرت كراير (وآخرين ) بعنوان مقدمة للقانون الجنائي الدولي والإجراءات الصادر عن جامعة كمبردج عام 2007  , والكتاب الأحدث لهنري ج.ستينر( وآخرين )عن حقوق الإنسان الدولية الذي صدر هذا العام 2008 , وكذلك مجلة العدالة الجنائية الدولية التي تصدرها جامعة أوكسفورد البريطانية في أعدادها المتتالية حتى نوفمبر 2007 , ومجلة القانون الدولي الصادرة عن جامعة هارفارد الأمريكية  , ومجلة القانون الجنائي الصادرة في لندن ونيويورك  , فضلا عن أحدث المؤتمرات و الاتفاقيات الدولية والإقليمية وإصدارات أكاديمية القانون الدولي في لاهاي وأحكام المحاكم الدولية والمجلس الدستوري في فرنسا ومحكمة النقض والمحكمة الدستورية العليا في مصر، وأحدث مناقشات مجلسي العموم واللوردات في بريطانيا حول اقتراحات بتعديلات جوهرية في قانون الإرهاب إلى الحد الذي تجد فيه مراجع صدرت في هذا العام 2010 .

وقد حدد الدكتور سرور في الكتاب الفرق بين الإرهاب كظاهرة إجرامية والإرهاب كظاهرة قانونية تخضع لضوابط القانون ، بأن الظاهرة الإجرامية تستمد طبيعتها من تأثيرها على المجتمع وتعالج بوسائل مختلفة منها الوسائل الأمنية أو الاجتماعية أو القانونية وترتبط بالبواعث أو الأسباب التي تؤدي إلى الإرهاب ، كما ترتبط بتأثيرها في الاستقرار والأمن الداخلي والأمن والسلم الدوليين ، فضلا عن مساسها بقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان ، في حين أن الظاهرة القانونية تتحدد في ضوء ما يراه القانون لضبط أحكام الظاهرة الإجرامية لكي تقع تحت طائلته وفقًا للضوابط التي يحددها .. ولا تطابق بين عناصر الظاهرة الإجرامية والظاهرة القانونية ؛ الأولى تحكمها نظرة جانب من المجتمع أو نظرة سياسية معينة ، فمثلاً  تعد ممارسات حركات التحرير إرهابًا  في نظر المستعمر أو المحتل ، دون أن تعد كذلك في نظر القانون الدولي وفق ضوابط معينة .

كما حدد الدكتور أحمد فتحي سرور العلاقة بين القانون الوطني الجنائي والقانون الدولي الجنائي وخلص إلى أن جريمة الإرهاب قد تقع تحت نطاق القانون الجنائي الوطني والدولي معاً , ولو كان ذلك تحت وصف قانوني مختلف .. كذلك عرج لتعريف الإرهاب – هذا المصطلح الذي كان ومازال وسيظل مجالاً فسيحًا للسجال والخلاف – فأشار إلى خلو عدد كبير من الوثائق الدولية من تعريف محدد وواضح للإرهاب , ولأهمية قرار مجلس الأمن غداة أحداث 11 سبتمبر سنة 2001 الإرهابية في مدينة نيويورك الأمريكية في تبيان ضرورة تعريف الإرهاب , ثم عرض للجهود الدولية والإقليمية و للاتجاهات المنهجية لتعريف الإرهاب , والنقاط المشتركة في محاولات التعريف والتي حسمها الدكتور سرور في ركنين : أولهما مادي ويتمثل في إلحاق الأذى بالحق في الحياة أو الحق في سلامة الجسم أو الحق في الملكية الخاصة , وحقوق ومصالح أخرى عامة تختلف من تعريف لآخر , والركن الثاني للإرهاب معنوي وهو أن يتوافر قصد خاص يتراوح مابين إحداث الرعب لدى الناس , أو حمل دولة أو منظمة دولية على القيام بعمل أو الامتناع عن عمل أو غير ذلك من النوايا. وفى هذا الإطار أكد الدكتور سرور على حقيقة مهمة وهي أن مصر كانت من أوائل الدول التي دعت إلى ضرورة تعريف الإرهاب حين اقترح السيد الرئيس محمد حسني مبارك أمام الجمعية البرلمانية لمجلس أوربا بمدينة استراسبورج في 28 من يناير سنة 1986 عقد مؤتمر دولي تحت رعاية الأمم المتحدة لإعادة النظر في جميع الاتفاقيات الدولية المعنية بالإرهاب بهدف التوصل إلى اتفاقية شاملة لمكافحته وردعه , ثم توالت وتتالت نداءات ودعوات الرئيس مبارك لتعاون المجتمع الدولي لمكافحة ظاهرة الإرهاب , وحذر – غير مرة – من المشاكل التي يمكن أن تقود إليها التصرفات غير المحسوبة والقرارات المتسرعة نظرًا للاختلاف الواضح بين الدول في تعريف الإرهاب.   

ومن بعد , دلف الدكتور سرور إلى بحث سياسة مكافحة الإرهاب في أبعادها الجنائية الدولية والدستورية , ثم للجهود الوطنية المقارنة لتلك السياسة في كل من الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة ( انجلترا) وفرنسا وإيطاليا وأسبانيا , وأخيرًا لأسس السياسة الجنائية لمكافحة الإرهاب في القانون المصري في قانون العقوبات ثم في التعديلات الدستورية التي استحدثت المادة 179 من الدستور لمكافحة الإرهاب في إطار قانون مستقل ينظم أحكامها وقواعدها.ثم كان رأس البحث وذروة سنامه وهو التوازن بين الأمن وحقوق الإنسان كأساس للسياسة الجنائية لمواجهة الإرهاب .. حيث أكد العالم الجليل الدكتور سرور أن المواجهة لا يمكن أن تكون بمنأى عن دولة القانون ومبادئ حقوق الإنسان وهو ما يجعل التحديات القانونية ركناً ركيناً في مواجهة الإرهاب على اختلاف أبعادها وأركانها بمراعاة معيار الضرورة والتناسب وهو ما كرسه الدستور المصري وأحكام المحكمة الدستورية العليا .وأخيرًا ضرب الدكتور سرور بالبحث عمقه , مفندًا ومحللاً أحكام المواجهة الجنائية للإرهاب , فتحدث عن وسائل منع وقوع جريمة الإرهاب بمراعاة الالتزامات الدولية ودعم قدرات الدول على المنع وبوسائل الضبط الإداري , ثم لأركان جريمة الإرهاب , ثم للنظام الإجرائي لمواجهة الإرهاب , وفيه عرض لقوانين عديد من دول العالم سواء إل Common Law   أو إل Civil Law   – فضلا عن مصر – في تقييد حرية الإرهابي المشتبه فيه , واختتم الدكتور سرور رائعته بتفصيل غير مخل أحيانا وإطناب غير ممل أحيانا أخرى حول أحكام التعاون الدولي الجنائي في مجال الإرهاب.