سوريا في قرن
سوريا في قرن
د.خالد الأحمد *
صدر في عام (2006) الكتاب التاريخي الهام بعنوان ( سوريا في قرن ) لفضيلة الدكتور منير محمد الغضبان ، المراقب العام الأسبق لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا ، ويقع هذا الكتاب في مجلدين يضمان (929) صفحة من القطع العادي ، فيهما خمسة أبواب وهي :
1- من بداية القرن العشرين الميلادي وحتى الاستقلال (1946م) .
2- العهـد الوطني من الاستقلال وحتى عهد الانفصال ، مروراً بالانقلابات العسكرية .
3- المحاولات الأولى للدولة الطائفيـة : بدأ بثورة الشيخ صالح العلي ، وانتهى بالطائفية تحت ستار حزب البعث ، مروراً بالحزب القومي السوري ...
4- العهـد الطائفــي الذي بدأ يوم (8/3/1963) ثم بدأت عملية الصراع بين اللجنة العسكرية المكونة من حافظ الأسد ومحمد عمران وصلاح جديد وأحمد المير وعبدالكريم الجندي ، وبين الضباط المستقلين والناصريين الذين نفذوا الانقلاب ، وبين في هذا الباب مراحل إقصاء :
أ- الناصريين والمستقلين في عام (1963)
ب- الصراع مع الاسلاميين في حماة (1964)
ت- الصراع بين البعثيين من الأقليات والبعثيين السنة حتى انتهى يوم 23/2/1966م بإقصاء البعثيين السنة بزعامة محمد أمين الحافظ .
ث- الصراع بين العلويين وباقي الطوائف من دروز وإسماعيليين حتى تفرد العلويون بالسلطة . ومن ثمار التفرد الطائفي بالسلطة مسرحية تسليم الجولان ..
ج- ومن ثمار التفرد الطائفي بالسلطة مقاومة الفدائيين الفلسطينيين ...
5- الباب الخامس : العهد الديكتاتوري ( تفرد حافظ الأسد بالسلطة ) منذ 16/11/1970 .
وفي هذا الباب ثلاثة عشر فصلاً منها :
أ- معركة الأسد مع الإسلاميين ( معركة الدستور ).
ب- حرب تشرين .
ت- الحلف النصيري – النصراني – اليهودي ( يقصد دخول الأسد لبنان )
ث- الصراع المسلح مع الاسلاميين ( مرحلة الاغتيالات ) .
ج- العقاب المتعطش للدم ( حادثة مدرسة المدفعية ) وهجوم السلطة على الإخوان المسلمين ..
ح- أحداث حماة وقمـة المأســاة .
خ- الصراع على السلطة ( بين حافظ ورفعت ) ..
د- تحطيم أمــة : من الصمود إلى السقوط ..
وزود الباحث كتابه بملحقين :
1- وثيقة الألف التي قدمت في بداية عهد بشار الأسد .
2- الميثاق الوطني في سوريا ، المنبثق عن المؤتمر الوطني الأول للحوار بتاريخ ( 23-25) آب / اغسطس (2002) في لندن ...والذي دعت له جماعة الإخوان المسلمون في سوريا ...
مـلاحظـات :
1- عاش الكاتب في وسط الأحداث ، كعضو فعال في جماعة الإخوان المسلمين في سوريا ، حتى كلف أميراً لها في الثمانينات الميلادية من القرن العشرين . لذلك يتضح أنه مضطلع على مجريات كثير من الأمور ، وخاصة صراع الإسلاميين مع الديكتاتور حافظ الأسد ...
2- استند الكاتب إلى وثائق هامة منها : كتاب باترك سل عن الأسد ، وهو المرجع الأول الموثق لتاريخ حافظ الأسد ، ومنها كتاب فان دام ( الصراع على السلطة في سوريا ) ، وهو أطروحة أكاديمية نال بها درجة الدكتوراة في التاريخ من هولندا ، وهذه الوثيقة مزودة بوثائق كثيرة جداُ عن تاريخ سورياخلال حكم البعثيين .
3- صحيفة الحياة اللندنية ، والثورة السورية ، والبعث السورية ، وتشرين السورية ، والقبس الكويتية ، ورابطة العالم الاسلامي ، ومجلة الأحد اللبنانية ، وجريدة الشعب الأردنية ، ومجلة المجتمع الكويتية ، وغيرها ...
4- مشاريع التسوية للقضية الفلسطينية ، لمنير الهور وطارق الموسى
5- كتاب الاقتصاد السوري لعبد الكريم حمودي .
6- كتاب محمد أحمد مهاجر ( حافظ الأسد والقضية الفلسطينية ) .
7- استفاد من كتابات الأستاذ محمد عبد الله الغريب مثل أمل والمخيمات ، ورؤية إسلامية للصراع العربي الإسرائيلي لمحمد عبدالغني النواوي ...
8- حماة مأساة العصر ، ومجلة النذيـر ، وتدمر المجزرة المستمرة ، من إصدار اللجنة الإعلامية لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا .
9- الثورة الإسلامية الجهادية في سوريا ، لعمر عبد الحكيم ، وهو أهم مرجع كتبته الطليعة المقاتلة .
10- كتاب الإخوان المسلمون والمؤامرة على سوريا لجابر رزق .
11- كتاب هذه وصيتي لكمال جنبلاط ..
12- كتاب سقوط الجولان لمصطفى خليل ...
13- كتب الدكتور سامي الجندي مثل البعث ، وكسرة خبز ..
14- الإسلام في مواجهة الباطنية لأبي الهيثم ( الأستاذ محمد المجذوب يرحمه الله ) .
15- تجربتي في الثورة للواء محمد عمران .
16- كتاب تاريخ حزب البعث العربي الاشتراكي ، لشبلي العيسمي ، ثلاثة أجزاء .
17- من مذكرات عبد الحق شحادة .
18- هكذا علمتني الحياة للدكتور مصطفى السباعي يرحمه الله ...
وهذه أهم الوثائق التي رجع إليها ، ولم أذكر الوثائق عن الفترة العثمانية ، وبداية الاستقلال ، والوثيقة الأكثر أهمية والتي رجع لها كثيراً كانت كتاب باترك سل عن الأسد ....حيث تكررت الإشارة إليه مرات كثيرة ، والكاتب محق في ذلك ، فهو المرجع الموثق من قبل حافظ الأسد نفسه ...
وكنت أتمنى لو أن الأخ الدكتور منير الغضبان ، وضع المراجع في قائمة مرتبة في آخر الكتاب ، لسهل استفادة الباحثين منها ، والعودة إليها ....
وهذا الكتاب يعتبر فريداً من نوعه ، من حيث التوثيق ، والموضوعية ، والبحث عن قضايا هامة أغفلها المؤرخون عن عمد ...
وسوف أقدم لقراء الشبكة الدولية ، مقاطع منتقاة من هذا الكتاب في حلقات ، وسوف أنتقي هذه المقاطع حسب أهميتها عندي ، وبالله المستعان ....
2
هذا الكتاب العظيم ألفه شيخنا الدكتور منير محمد الغضبان ، يتكون من (929) صفحة في مجلدين ، وسوف أنتقي منه بعض الفقرات التي أراها هامة جداً ,وأعرضها على القراء ...
من الباب الأول حيث غطى الفترة من بداية القرن حيث كانت سوريا تابعة للدولة العثمانية ، ثم قام فيها الحكم الفيصلي ، ثم دخلها الفرنسيون تحت اسم الانتداب ، فقامت الثورات الكثيرة منذ اليوم الأول ، بعد أن ضحى وزير الدفاع يوسف العظمة بروحه عند ميسلون ، وأصر أن لايدخل العدو دمشق إلا على جسده يرحمه الله ، وقد أثبت شيخنا منير الغضبان هذه الحادثة ، كما أثبتهاالأستاذ شوقي أبو خليل صاحب كتاب الإسلام وحركات التحررالعربية ... ثم قامت الثورة السورية الكبرى ، فلنستمع إلى شيخنا ( أبي عتبة ) يحدثنا عنها جزاه الله خيراً :
قصة الثورة السورية الكبرى: 1925ـ1927:
الأسباب القريبة لهذه الثورة كما حددها د. شهبندر هي ما لجأ إليه الفرنسيون من بذر بذور الشقاق بين الطائفة الدرزية في الجبل بعد وفاة الأمير سليم الأطرش، وما مارسوه من أعمال القهر والظلم والكبت ضد الفريق الوطني..
الشيخ بدر الدين يشعل الثورة:
لقدكان الشيخ بدر الدين الحسني رحمه الله موقد شرارة هذه الثورة وموجه قادتها، وقد أرخ لدوره فيها الأستاذ محمد رياض المالح، حيث يقول: "لقد رحل مولانا المحدث الأكبر ضمن المدن الشامية حاثاً على الثورة ضد الفرنسيين فما كاد يعود من رحلته حتى هبت الثورة السورية في جميع أنحاء البلاد. وكان لشدة هذه الثورة ما أقلق حكومة باريس. وهاهي جريدة الأحرار تنشر في العدد 678 السنة الرابعة، شعبان سنة 1345هـ نص التقرير للمندوب السامي الفرنسي يفيد بأن رحلة مولانا المحدث الأكبر هي الداعية إلى الثورة. وقد قدَّم هذا التقرير كشكوى من الحكومة الفرنسية إلى عصبة الأمم تشكو من أثر مولانا المحدث الأكبر على نشاط الثوار، وأنه هو المغذي الحقيقي للثورة مادياً ومعنوياً، وأن أثره في البلاد هو الذي فجر الثورة([1]).
وقد ساق الأستاذ المالح تعداداً للمقالات التي نشرت في الجرائد السورية عن جولته هذه التي امتدت من دمشق إلى حمص بتاريخ 7حزيران/يونيو1925، ثم حماة بتاريخ 11 حزيران، وتاريخ 28 حزيران حيث وصل إلى حلب، و 7 تموز حيث زار إدلب، ثم بعلبك في 17تموز، وبيروت في 18 تموز، ثم وصوله إلى مشارف الشام في 19 تموز وإشراف مدير الشرطة العامة بنفسه على تنظيم الناس لاستقبال المحدث الأكبر، ثم يقول بعدها:
"وبعد عودة مولانا المحدث الأكبر من هذه الرحلة، اندلعت الثورة السورية من أقصى البلاد حتى أدناها، وهب الفرنسيون بقواتهم المدججة يضربون دمشق، ويحرقون أكثر البيوت، وثارت المظاهرات في الوطن العربي تأييداً للشعب السوري، واجتمعت لجنة لمناصرة سورية في القاهرة، وألقى أمير الشعراء أحمد شوقي قصيدته المشهورة:
سلامٌ من صبا بردى أرقُّ ودمع لا يكفكف يا دمشق
وأجابه المرحوم الزركلي بقصيدته المشهورة:
الأهل أهلي والديـار دياري وشعار وادي النيربين شعاري
وهنا قام الثوار بتهديد القوات الفرنسية بأنه إذا لم توقف السلطات الفرنسية ضرب دمشق. فإنهم سيقتحمون دمشق ويأخذون مولانا المحدث الأكبر بالقوة ويبايعونه بالخلافة الإسلامية، ويدعون جميع مسلمي الأرض إلى الجهاد المقدس تحت لوائه([2])، وستكون دمشق مقبرة للفرنسيين. وقد ألمحت لذلك بعض الجرائد كجريدة الرأي العام البيروتية في 17 شباط 1926 وجريدة الأحرار.
وأكد العلامة علي الطنطاوي، رحمه الله في مذكراته هذا المعنى بقوله:
"وكانت هذه الجولة هي الشرارة التي أشعلت الثورة، لا أقول هذا من عندي، ولا نقلاً عن الثقات العارفين مشايخي وصحبي، كلهم يعرف هذا، ويعرفه كل من أدرك تلك الأيام، ولكن أنقله عن تقرير رسمي لمندوب المفوض السامي الفرنسي، نشرته جريدة الأحرار في بيروت العدد 678 الصادر في الثاني من شعبان 1354هـ. فقد بدأت الثورة عقب عودة الشيخ من حلب.
قال الشيخ علي الطنطاوي في مذكراته وقد وضعت كلامه كما كتبه بين قوسين (وصار تشكيل جماعات لأجل أن تقوم البلاد بمساعدة بعضها البعض على الفرنسيين. وأنا العبد الفقير، كانت وظيفتي أن أحمل مصحف وخنجر، ونحلف الناس، والله حلَّفت مقدار أربعة آلاف من صنف الزكرتية، والرجال المشهورة، مثل ديب الشيخ، وأبو شاكر القلعجي من العمارة، ومن الشاغور حسن الخراط. وأبو حامد الفحل، وأبو عنتر.. ومن الميدان أبو كمال عرار، و... ومن سوق ساروجا عبد الوهاب الرجلة والأغواني.. ومن حارة الأكراد أبو داود الشيخاني وأبو عمر ديبو..).
هؤلاء الذي سماهم وأمثالهم فتوات الأحياء كما يقال في مصر أو القبضايات. (وندعوهم نحن الزكرتية) والأولون منهم كانت لهم مزايا الفرسان، ينجدون الضعيف، ويمنعون الظلم، ويحمون أعراض النساء"([3]).
وكانت مهمة حزب الشعب الذي تشكل حديثاً أن ينسق مع الدروز لتكون الثورة عامة، بعد اشتداد الأزمة في الجبل، وكان للدكتور عبد الرحمن الشهبندر زعيم الحزب الدور الأول في ذلك.
بداية الثورة
وما كاد ينقضي يومان على معركة الكفر، أي في 23 تموز/يوليو1925 حتى كان رسول سلطان الأطرش الضابط محمد كيوان في طريقه إلى دمشق يحمل رسائله إلى رجالها، وعلى رأسهم نسيب البكري والدكتور عبد الرحمن الشهبندر، وقد عقد الاجتماع للتداول في القابون.. ومع أن حزب الشعب كان منذ أيام قد اختار في اجتماعاته أن يسلك سبيل الدعوة إلى الثورة الفكرية، فإن الحماس بلغ مداه عندما سألهم الدكتور شهبندر رأيهم من جديد في الأمر، فأجابوا أنهم مستعدون جميعاً للموت في سبيل الوطن، وأنهم يرون الاشتراك بالثورة والالتحاق بها في الجبل لتكون المخابرات باسم سورية عموماً.. كذلك يستدل من الضبوط التي نظمت بشأن المظاهرات التي قامت بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف، اشترك بها مسيحيون ومسلمون، تهتف لا إله إلا الله، محمد رسول الله، الفرنساوي عدو الله، يا ساراي ارحل عنا، ثم أحيلت إلى المجلس العدلي، وصدرت فيها الأحكام على المتهمين بالاعتقال لمدة عشر سنوات، أن تلك المظاهرات لم تكن إلا تعبئة للثورة والفرق الثائرة([4]).
الثـورة في الـذروة:
الحلقة المفقودة : لقد بقي الخط الوطني في كل كتاباته عن سورية يتجاهل الدور الإسلامي في الثورة، ويعيدها كلها إلى القادة الوطنيين ، حتى جاءت الكتابات عن عالم الأمة الشيخ بدر الدين الحسني ، وأسندت إليه رحمه الله تفجير الثورة كما ذكرنا من قبل . وبقي خط الصلة بين هذين التيارين مفقوداً حتى صدرت سيرة المجاهد الشيخ محمد الأشمر رحمه الله ، وقدمت الحلقة المفقودة بين هذين التيارين .
"قام علماء دمشق الشيخ بدر الدين الحسيني والشيخ علي الدقر يطوفون في المحافظات ، ويدعون الناس لجلب السلاح والتمرين عليه والاستعداد لمواجهة العدو ، وكانت كلمة الشيخ بدر الدين والشيخ علي الدقر : "اللص دخل داركم ليسرق مالكم ودينكم ، استعدوا وتمرنوا على السلاح"، وبهذا يكون العلماء أول من دعا للثورة ، وحرَّض الشعب لقتال العدو.
خرج بعض المجاهدين ثائرين إلى الغوطة بقيادة أبو عبده سكر والدرخياني وخنشور وخيتي من دوما ، وحسن الخراط وغيرهم وطلبوا من قرى الغوطة السلاح والمال والطعام ، فطلب الشيخان من قادة الثورة الحضور للاجتماع في دار آل غبور ، والتفاهم معهم ، فجرى في هذا الاجتماع تشكيل لجنة من رجال الغوطة والمجاهدين لتأمين طلبات المجاهدين بدون أن يتعرض أحد لرجال الغوطة ، وأُنيط بهذه اللجنة وحدها مهام جمع السلاح والمال والذخيرة وتوزيعها على قادة الثورة"[5].
وتكونت اللجنة من السادة التالية أسماؤهم : الشيخ محمد عيسى الكردي، والشيخ محمد القشمر (الأشمر) من تلاميذ الشيخ بدر الدين المحدث المشهور ، ومحمود حمدي بك أخو مصطفى بك وصفي، وشفيق أفندي عمر باشا، والأمير نسيب شهاب، وهؤلاء جميعاً من أهل الثقة المعروفين ، ويمثلون المنطقة تمثيلاً حسناً، وقد نالوا استحسان المجلس الوطني بالإجماع.."
السويداء 21 نيسان 1926"[6]
لقد كان التنسيق بين الثوار في الشام وفي الجبل في شهر آب ، إذ كانت معركة المسيفرة أول معارك الجبل مع الفرنسيين في 17 أيلول ، وقد شارك فيها الثوار من الشام إضافة إلى ثوار الجبل ، وكان الفضل للشيخ الأشمر ورفاقه في فك الحصار عن الثوار الدروز .
معركة المسيفرة :
"مع إشراقة صباح 17/9/1925م مالت الكفة إلى جانب الفرنسيين وخاصة بعد تدخل طائراتهم التي قامت بسبع وعشرين غارة على الثوار وألقت 4700 كغم من القنابل و5000 قذيفة ، حتى إذا جاءت الساعة السادسة عشر من اليوم المذكور بدأ المجاهدون بالإنسحاب بعد أن خسروا (210) شهداء ، وأما الفرنسيون فقد سقط منهم (51) قتيلاً أحدهم ضابط، ومايقارب (100) جريح منهم أربعة ضباط، وقد قتلت كل حيوانات الجر الموجودة في الحامية تقريباً"[7]
"وفي هذه المعركة وقع الثوار ضمن طوق من القوات الفرنسية حيث أصبحوا محاصرين من الأمام ومن الوراء ، ويروي الأخ محمد محمد الأشمر نقلاً عن والده محمد الأشمر أنه وصله مرسال بطلب النجدة لفك الحصار ، فهب للفور متوجهاً إلى منطقة القتال ومعه رفاقه من مجاهدي حي الميدان، وانضم إليهم عدد من أهالي حوران، وتمكنوا من محاصرة القوات الفرنسية التي كانت تحاصر قوات الجبل بقيادة عز الدين الحلبي ، وأصبح الفرنسيون محاصرين من الأمام بثوار الجبل ومن الخلف بمجاهدي حي الميدان بقيادة الأشمر مع عدد من أهالي حوران ، وأخذ القتال يشتد ببسالة ، وقد ترك الأشمر للفرنسيين مجالاً واحداً للهرب من الحصار وهو من الشرق ، حيث كان يرابط كثير من المجاهدين ، يتلقونهم فرداً فرداً ، وقد انقلبت المعركة نصراً للثوار الذين كسبوا غنائم من السلاح والذخيرة ، وقد أرخ سلطان باشا الأطرش لهذه المعركة في مذكراته وأشار إلى أن الشيخ محمد الأشمر هو الذي فك الحصار بعد وقوع كثير من القتلى بين الطرفين"[8].
دخول الثوار لدمشق :
"في 18 تشرين الأول 1925م دخل الزعيم السيد نسيب البكري على رأس قوة المجاهدين من بني معروف ( الدروز ) دمشق على طريق الميدان، وهاجموا المخافر التي تمركزت فيها قوات الأمن والجيش ، فقضوا على من فيها واستولوا على أسلحتهم، وزحفوا بطريقهم إلى شوارع المدينة، ودخل السيد حسن الخراط ومن معه من الثوار دمشق عن طريق بساتين الشاغور واحتلوا الأزقة والشوارع وضربوا حصاراً على القشلة العزيزية التي يتمركز فيها قوة من رجال الدرك ، ومنعوا عنهم الطعام والشراب ، واستنجدت هذه القوة بالأمير سعيد الجزائري ، والأمير طاهر الجزائري ، والأمراء خالد وجعفر، فأنجدوهم وبسطوا حمايتهم عليهم وأحضروهم إلى دار الأمير طاهر"[9]
وعودة إلى الحلقة المفقودة :
"وبعد الاجتماع الذي حصل في الغوطة بدار آل غبور وفي دار الحديث ، استدعى الشيخ بدر الدين تليمذه الشاب محمد الأشمر وسلمه كتاباً مغلقاً ، وطلب إليه السفر إلى الجبل وتسليمه إلى سلطان الأطرش، فقام بأداء المهمة على أحسن وجه، وعندما عاد كلفه الشيخ بدر الدين بأن يخرج إلى الغوطة ثائراً وأن يعمل على جمع رجالات الثورة فيها وتوحيد كلمتهم ، ووضع حد لخلافاتهم، ومنع التعديات على الناس بالقوة ، وفعلاً تم عقد اجتماع في قرية الست في حوش الشعير وتمت تسوية الخلاف الذي كان قائماً بين سكر والدرخباني ومن والاهما ، وقد حضر الشيخ الأشمر ، واجتمع مع الجميع وسوى الخلافات وأعطى كل إنسان حقه ومكانه ، وتوزع الرجال على أربعة محاور. وقد حضر هذا الاجتماع الأمير الشيخ طاهر الجزائري"[10].
وفي كتاب "العرب وراء اللهب ، مذكرات المجاهد عبد الغني الإسطواني" يحدثنا بما يلي:
"المحدث الأكبر الشيخ بدر الدين الحسني: خرج هذا العالم الكبير والأستاذ العظيم من دمشق لجولة في المدن والمحافظات السورية ، وألقى فيها دروسه ، وحث الناس على التمسك بالدين الحنيف وشرح لها سورة الجهاد ، وقد استقبله الشعب أينما حل وأينما ذهب بالترحاب والتهليل، وكان الناس يخرجون لملاقاته خارج القرى والمدن باستقبال منقطع النظير لم يستقبل فيه أي ملك أو قائد في البلاد من قبله أو من بعده ، وكانت هذه الرحلة قد هيأت النفوس وأيقظتها للمعركة ونفخت فيها روح الحمية والجهاد والقيام بالثورة .
عاد العالم الشيخ بدر الدين من رحلته وبرفقته جميع العلماء البارزين في ذلك العصر ، وخرج الشعب الدمشقي لاستقباله بجيمع فئاته ، إن الوطنيين قد لفت نظرهم ماقام به الشيخ بدر الدين فاجتمعوا إليه وتحدثوا معه في جلسة سرية عن الجهاد ومايفعله المستعمر من أعمال في تقسيم البلاد وإذلال أبنائها. وخرجوا من الجلسة مقتنعين بوجوب الوقوف في وجه رجال الانتداب"[11]
كانت عودة الشيخ بدر الدين من جولته في 19 تموز ، وابتدأت الثورة في جبل الدروز في 21 تموز عام 1925م ، وفي 17 أيلول عام 1925م ، تجمع بنو معروف (الدروز) في بلدة المسيفرة من أعمال حوران قاصدين إثارة المواطنين الحوارنة معهم وضرب الحامية الموجودة في القاعدة التي أنشأها الفرنسيون إضافة للجيش الذي حشد لإنقاذ السويداء ، فعزم المجاهدون مجابهة الحملة والقضاء عليها ليلقوا الرعب في قلب الجنرال غاملان ، فهاجموها وقتلوا عدداً كبيراً من أفراد حاميتها ، وبعد أن أصبحت المدينة في أيديهم طلع الصباح ، وهاجمتهم الطائرات الحربية ، وألقت الكثير من قنابلها فاضطرتهم إلى الانسحاب .
حسن الخراط قائد ثورة الغوطة :
وكان يتلقى أوامره يومياً في صلاة الفجر بمسجد بني أميه من الشيخ بدر الدين الحسني، وهو الذي كتب رسالته المشهورة إلى الجنرال (ساراي) بعد معركة مرج السلطان قال فيها: لحضرة الجنرال ساراي: لقد أرسلتك فرنسة لتقاتل الثوار ، فخرقت بعملك اللاإنساني القيم الإنسانية، فحرقت الشام وقتلت أبناءها ولم تحافظ عليهم ، وقد لطخت بالعار اسمك واسم دولتك فرنسة . أما أنا فإني كللت شرف العرب بما هو أهله ، واستحسن فعلي العالم بأجمعه الذي يعترف بحسن إدارة رجالي ومحافظتهم على إخواننا المسيحيين والأجانب خصوصاً وعلى الضعفاء عموماً ، أما أنت فقد نحرت شرف فرنسة ، وصوبت قنابلها إلى قلبها ، ياممثل فرنسة . وأنا حارس دمشق ، أسرتُ جندك أسراً شريفاً ، وأنت ضربت النساء والأطفال والشيوخ ضرباً دنيئاً ، حافظتُ على الآثار القديمة وأنت هدمتها يا(جننار) ياممثل فرنسة، كان بودك أن تجعلها حرباً دينية إسلامية وتفرق بيننا وبين إخواننا ، ولكن الله أبى فضيعت رشدك ، وضربت الأحياء الإسلامية على رؤوس أهلها البريئين ، أملاً بأن أقابلك بالمثل وقد فاتك أننا عرب ونحافظ على الجوار
إنـا لقوم أبـت أخلاقـنا شرفـاً أن نـبتدي بالأذى من ليـس يؤذينا
أنت (جننار) وقائد الفرق والجيوش ، وأنا حارس جمعت عقلي ، وأنت ضيعت رشدك ، وإني أنذرك إذ أقدمت على إعدام الرجال الثلاثة ، فخري الخراط ، وشريف اللباد ، ومحمد عبدو الشواف، فإني سأعاملك بالمثل فأقتل كل رهينة عندنا وأذبح كل أسير ، فأعذر من أنذر. والسلام على من اتبع الهدى
قائد ثورة الغوطة : حسن الخراط"[12]
كان حسن الخراط متمسكاً بأهداب الدين، يؤدي فرائض الصلاة بأوقاتها ، كان كثير التسبيح ، يذكر الله كثيراً ، ويقرأ ما حفظ من كتاب الله غيباً ، يصوم شهر رمضان ، لم يخرج إلى ميدان القتال من أجل مال أو منصب ، أو فرض نفوذ أو جاه ، بل لوجه الله تعالى والجهاد في سبيله ، أكرمه الله ، ونال الشهادة برضاه ليسكنه فسيح جناته ويسبغ عليه من رحمته ورضوانه ،إن شاء الله تعالى .
وعلى كل حال لم ينقض عام على انطلاق الشرارة الأولى في الثورة إلا وكانت قواها بشكل أو بآخر تسيطر سيطرة تكاد تكون كاملة على جبل حوران واللجاة ومدينة دمشق نفسها وغوطتها وجبال القلمون وحمص وحماة حتى المعرة وإقليم البلان الذي يضم وادي العجم والقنيطرة ومجدل شمس وحاصبيا ومساحات واسعة من قضاء بعلبك والهرمل، ولا يسيطر الفرنسيون إلا على بعض المراكز المتحصنين بها كثكنات دمشق الحصينة وثكنة حماة، وقلعة راشيا بعد أن أخلاها الثوار، وعلى سكة حديد دمشق – درعا ـ بصرى الشام، ودرعا ـ إزرع ولكن بصعوبة بالغة، ولئن كان الثوار لم يستطيعوا التمركز في الأقضية الأربعة، إلا أن ما قوبلوا به من ترحيب الأهالي باستثناء قلة من المنتفعين بوجود الفرنسيين كان استفتاء صريحاً على خطأ غورو باقتطاع هذه الأقضية وضمها إلى لبنان.
[ملاحظات :
1- من البدهي عند من لاينكر ضوء الشمس أن العلماء المسلمين هم طليعة المجاهدين ضد الاستعمار ، وضد الطغيان والاستبداد ، في الماضي والحاضر ....
2- من الملفت للنظر تلاحم العلماء المسلمين مع الدروز ، ممايؤكد تلاحم الشعب السوري ، ونمو الروح الوطنية فيه ، التي تجمع أبناء الوطن ، من أجل مصلحة الوطن ...
3- ومن الملفت للنظر أيضاً تلاحم المواطنين المسيحيين مع المسلمين في الجهاد ضد المستعمر الفرنسي ، الذي حاول بث الفرقة والطائفية بين أبناء الوطن الواحد ، ولكنه فشل ...]...
4- ألا يمكن أن يقوم الشعب السوري ( مسلموه بشتى طوائفهم سنة وعلويون ودروز وإسماعيليون ، ومسيحيوه ) ضد الديكتاتور المستبد الذي يهون المستعمر الفرنسي أمامه ، وكل مافعله الفرنسيون لايعادل جزءاً من ألف مما فعله الديكتاتور ( أســد) ... وهل تكون جبهة الخلاص الوطني رايـة يلتقي خلفها السوريون من أجل تحرير سوريا من الديكتاتور .... أليس ذلك ممكناً ...ومعقولاً ...وعسى أن يكون ذلك قريباً ...ولابد من التذكير بأن جبهة الخلاص تريد تغييراً سلمياً ...والله أسأل أن يعينها على ذلك التغيير ...
*كاتب سوري في المنفى باحث في التربية السياسية
([1]) عالم الأمة. بدر الدين الحسني للأستاذ محمد رياض المالح/292،303 باختصار.
([2]) عالم الأمة. بدر الدين الحسيني للأستاذ محمد رياض المالح، ص292ـ303 باختصار.
([3]) ذكريات الشيخ علي الطنطاوي 1/219ـ221 باختصار.
([4]) ذكريات الشيخ علي الطنطاوي1/219ـ221 باختصار.
[5] من كتاب المجاهد الصامت محمد الأشمر ، إعداد لجنة الدراسات التاريخية ، ص77.
[6] من مجموعة رسائل الشهبندر ، الوثيقة (2) من كتاب المجاهد الصامت محمد الأشمر، ص 229.
[7] كفاح الشعب العربي السوري 1908-1949م . الرائد إحسان الهندي ، إدارة الشؤون العامة والتوجيه المعنوي في الجيش السوري ، ص122-124.
[8] المجاهد الصامت محمد الأشمر ، لجنة الدراسات التاريخية ، ص 87-88.
[9] العرب من وراء اللهب ، مذكرات الإسطواني ، ص 135، 136
[10] المجاهد الصامت الشيخ محمد الأشمر ، ص 77
[11] العرب من وراء اللهب ، مذكرات المجاهد عبد الغني الإسطواني ، الطبعة الأولى ، دمشق ، 1407هـ -1986م ، مطبعة خالد بن الوليد بدمشق
[12] العرب من وراء اللهب ، للمجاهد الإسطواني ، ص 179، 180