الباب المغلق بين الأقباط والمسلمين
إذا عم الظلام !
كتاب "الباب المغلق بين الأقباط والمسلمين"
أحمد بهاء الدين شعبان
لا يدافع «د. أحمد الخميسي»، في كتابه، الصادر عن «مؤسسة الهلالي للحريات» والمعنون: «الباب المغلق بين الأقباط والمسلمين في مصر»، عن أقباطها، كما قد يظن البعض، إنما يدافع، وفي الأساس، عن مصر، بمسلميها ومسيحييها : مصر التي لا تفرق بين أحد من بنيها، ولا تميز في عطائها بين أبيض أو أسمر، صاحبة الارث الأخلاقي والحضاري العظيم، الشعب الذي منح البشرية جمعاء فيضاً لا يتوقف من المبادئ الإنسانية الهادية التي ظلت نبراساً للكون كله، منذ «فجر الضمير»، وحتي الآن، ودفاع د. الخميسي عن مصر، هو دفاع بليغ، لأنه مكتوب بذوب القلوب لا بحبر الأقلام ولأنه يصدر عن محب ولهان، يري حبيبه في مهب العواصف، تكاد تذهب به رياح السموم، وتقتلعه «بولدوزرات» الجهل، والتعصب، والعنصرية وكراهية الفكر، وروح الانتقام، فيصرخ صرخة التنبيه والتحذير، يوجهها إلي كل المخلصين لهذا الوطن، يستصرخهم حتي يغادروا سكونهم المطمئن، ولكي يتحركوا قبل فوات الأوان!
وعلي تعداد ما قرأته في الآونة الأخيرة من إبداعات فكرية وأدبية، أعترف بأن قصة «الباب المغلق» التي يفتتح بها الدكتور أحمد الخميسي كتابه، قد مست وجداني بشكل عز نظيره قرأتها أكثر من مرة، وفي كل قراءة تتبدي لي أعماقها الدفينة، فتمنحني شجناً رفيفاً حتي لتكاد الدموع تطفر من مآقي، وأنا أتصور حال الأستاذ موريس وزوجته مدام جانيت، في جهة باب شقتهما، والطفلة البائسة، اليائسة هدي في الجانب الآخر، وهم يبكون، هنا وهناك، علي طرفي «الجدار العازل»، والذي صنع من قساوة البشر، ومن غلاظة القلوب، ومن سوء فهم لسماحة الدين ونبله وسمو غاياته، وتكاد أيديهم تسابق أفئدتهم لاقتلاع هذا الجدار، لولا خشية جيوش الظلام التي صورت ائتناس الأسرة القبطية، المحرومة من الانجاب، ببنت «البواب» الطفلة، التي مات عائلها وتركها -في الدنيا وحيدة، بأنه اعتداء علي الدين لا يجب القبول به، ففرقوا بين القلوب المحبة، مع أن «الله محبة»، وهو «الرحمن الرحيم»، وتنتهي القصة بهذه «اللقطة» التي لا تنسي أبداً: «البنت ملتصقة بالباب المغلق تخمشه كالقطة وتبكي أنا زعلتك في حاجة ياعم موريس؟ والنبي دخلني دخلني والنبي وفرت دموع عم موريس وراء الباب المغلق «وهو» يقول: ما أقدرش يا بنتي.. والعدرا ما أقدر والنبي والعدرا والنبي والباب مغلق وخلف كل ناحية شخص وحيد بحاجة للآخر!».
قصة بديعة، شديدة التكثيف، تستدعي إلي الذهن- ومالي أتحرج في أن أقول هذا- رائعة «تشيكوف»، «موت موظف».
لكن كتاب «د. أحمد الخميسي»، ليس عملاً أدبياً خالصاً، فهو يتضمن -إضافة إلي هذا البعد- مجموعة دراسات مهمة للغاية، تتناول مشكلة العلاقة المأزومة بين أقباط مصر ومسلميها، وتحاول أن تتلمس سبل الخروج من هذه الأزمة الممتدة، التي تحترم المجتمع كله، وتزرع الريب والشكوك في ثناياه، وتشي بترسبات خطرة تنتشر في خلاياه، وتجري في مجري دمائه، فتشل قدرته علي الفعل والحركة.
يرصد الكاتب تحولات العلاقة بين المسلم والمسيحي في مصر، منذ عهد «محمد علي» وإلي الآن!
فحتي بعد خمسين عاماً من تسلمه السلطة، عام 1855، كان الانخراط في سلك الجندية محرماً علي الأقباط، يستبدل به دفع «الجزية»، رغم أنه ألغي تمييزهم بزي خاص، معلناً أن القبطي والمسلم يستطيعان أن يقدما للبلاد أفضل الخدمات» وقد ألغي سعيد باشا الجزية، لكن انخراط الأقباط في حميا ثورة 1919 كان ميلاداً جديداً للوطنية المصرية الجامعة، تحت الشعار الخالد «الدين لله والوطن للجميع»، وتردد في آفاق مصر هتاف الثورة الأعظم: «يحيا الهلال مع الصليب»، مجسداً أروع صور الانصهار في البوتقة الوطنية، والوحدة خلف قضية استقلال الوطن وتقدمه، وهو ما تبلور في بنود دستور 1923 الذي كفل مساواة المصريين جميعاً.
وفي ظل هذه الروح الجديدة التي غمرت البلاد، لم يكن مفاجئاً أبداً أن ينتخب المصريون، مسلمين ومسيحيين، «ويصا واصف»، رئيساً لمجلس النواب، دونما تبرير أو علامة!، وهي ذات الروح التي ظلت سارية في أركان مصر المحروسة في ظل مشروع «الدولة الناصرية» الوطني، رغم أي سلبيات، حتي أتي «السادات» بانقلاب مايو 1971، لكي يستدعي من أضابير فترات الانقلاب علي الدستور وحكم الاقليات، شعارات التفرقة بين المصريين علي أساس الدين، واستخدامه كسلاح لمواجهة خصومة من اليساريين والناصريين، فأصبح فهم الدين، الذي هو للاله الواحد، سلاحاً لتمزيق الوطن الواحد، وتشكلت فرق الترويع في الجامعة، باسم الإسلام، علي أيدي أجهزة الأمن للاجهاز علي أعداء النظام، وبدأت موجات أحداث «الفتنة الطائفية» المتواترة: «الزاوية الحمراء، الكشح، سوهاج، عين شمس... إلخ»، ثم وصلت هذه الأحداث ذروتها في أحداث الإسكندرية الشهيرة.
وعلي مدي أكثر من ثلاثة عقود تبدلت مصر السمحة المتعايشة إلي صورة مختلفة، جافة وبائسة.. وانقسم المجتمع إلي مجتمعين، اندار كل طرف منهما علي ذاته دون ضرورة موجبة تقتضيها الطبيعة أو شروط الحياة، وانكفأ الأقباط علي انفسهم يجترون أوجاعهم إزاء عملية الشحن الطائفي المستمرة، بل وربما لجأ بعضهم إلي ذات السلاح، ويدمي به جسده قبل أن يدمي جسد الشقيق في الوطن، الذي أصبح «آخر» ينظر إليه بشكل وتوجس.. وتآكلت اللُحمة الجامعة لنسيج الوطن الواحد واعتراها العطب، فيما كان الوطن ذاته ينهب، وتجرف منابع الثروة والابداع فيه، وتستنزف قدراته وترحل إلي خارجه، في عملية قرصنة منظمة جعلته عارياً، مكشوفاً، هشاً، عاجزاً، في مواجهة الآخر الحقيقي، المغاير الفعلي، الذي يتربص به، ويسعي لوراثة دوره التاريخي الكبير.. وبهت صوت «سيد درويش»، فنان الشعب، وهو يصدح: «اسمع اسمع مني كلمة/ إن كنت صحيح بدك تخدم/ مصر أم الدنيا وتتقدم/ لا تقول نصراني ولا مسلم/ اللي أوطانهم تجمعهم/ عمر الأديان ما تفرقهم!
لكن «أحمد الخميسي» لا يتركنا في حيرتنا أو يدعنا نهباً لليأس وفقدان الأمل، ولشعار «مافيش فايدة» الشهير، بل علي العكس، يضع علي كاهلنا مسئولية جسيمة.. مسئولية الدفاع عن روح مصر، عن «الضفيرة» الوطنية التي تجمع مكوناتها في «نسيج» واحد، في مواجهة «هذا المناخ المشحون بالبغضاء والتربص، وتقديس الشكل الديني دون الجوهر».. وفي ظل غيبوبة الدولة «وربما تواطئها»، وغياب الأحزاب السياسية وهزال التشكلات المدنية، يهيب الكاتب بالمثقفين أن يتحركوا للدعوة إلي مؤتمر، «وأكثر من مؤتمر» ليضعوا بعد نقاش مطول توصياتهم صراحة بهذا الشأن، مع طرح المشكلة كما هي في واقع الأمر، بدون تمويه علي أوضاع الأقباط، أو تجميل للواقع القبيح الذي يولد التعصب فيه من رحم الجهل والفقر والتخلف».
وبعد، فهذه الاطلالة السريعة علي كتاب «د. أحمد الخميسي» الجميل، لا تغني عن مطالعته، والتمعن في سطوره، وقراءة كل حرف فيه بتمعن وبعمق، يكافئ ما كابده الكاتب في تسطيره من جهد وكمد، وماحواه من بكارة وابداع، وما طرحه من قضايا، وما فتحه من آفاق.
إنه نداء للحياة في مواجهة الموت، وللسماحة في مواجهة «الطائفية التي سوف تتغذي علي الفقر والجهل المتزايدين، «وعلي التسلط والاستبداد المتفشيين»، وتصبح وحشاً، تطعمه قوي داخلية وخارجية، ليصبح قادراً علي ابتلاع ما تبقي من مصر!»، وهو انحياز للنور في مواجهة الظلمة، ولروح الوطن التي تجاهد للانعتاق!
وقي الله أرض مصر الغالية من القوي التي تتربص بها، وحماها شعبها مما يحاك لها من مؤامرات وفتن، ومن سيادة «ثقافة الكراهية العامة» التي تنتشر في ربوعها «بفعل فاعل»، وحفظ لها وحدتها النفيسة، حتي لا يبقي الباب مغلقاً «وخلف كل ناحية شخص وحيد بحاجة للآخر»!