سوريا ... لا خبز ... ولا حرية 8

آلن جورج

ترجمة: د. حصيف عبد الغني

الفصل الثامن

"خلق جيل قومي اشتراكي"

التربية

وراء كلية الفنون والعلوم الاجتماعية في جامعة دمشق حديقة بهيجة... رغم البركة الجافة في وسطها. المقاعد الخشبية – الطويلة – الملونة بالأحمر والأخضر تصطف على جوانب الممرات التي تحف بها أشجار البلح والصنوبر.

كان صباحا مجيداً ذلك اليوم المشمس في أواسط شباط حيث تشدو العصافير، وتخطو بتؤدة قطة برتقالية اللون على الحشيش الأخضر المتألق الطري. وبعض الطلاب المسترخين يتمشون في تلك الواحة الهادئة. والنشاز الوحيد هو زئير العربات المارة بأوتوستراد المزة، أحد أهم شوارع المدينة على مسافة 50 متراً خلف بناء الكلية.

والجو مسترخ كذلك في النفق غير الطبيعي المخصص للمشاة تحت الأوتستراد على مسافة بضع مئات الأمتار ربما كان طوله ثلاثين متراً وعرضه خمسة أمتار وفي طرفيه سلم قصير على كل طرف وعلى جدران السّلمين ملصقات وإعلانات عن أحداث آتية اجتماعية وغير ذلك. وعلى جهة واحدة كشك للسندويشات ثم صفٌّ طويل من الدكاكين الصغيرة ككوى أو جحور في الحائط تبيع الكتب والقرطاسية. ومعظم الدكاكين في الجهة المقابلة فارغة أو مغلقة الأبواب والنوافذ، ومقابل كشك السندويش مقاعد بلاستيكية صغيرة مصفوفة حول دستة من المقاعد الأكبر البنفسجية اللون وتستعمل كطاولات. إنه مكان مناسب لرشف فنجان من القهوة التركية المكثفة (بدون حليب كما يفعل الأوروبيون). أو كأس من الشاي الساخن لدرجة يصعب معها لمسه – قبل الدخول إلى صفوف الدراسة-.

أكثر المارين هناك هم طلبة يعرضون الموديلات الحديثة لدمشق العصرية. فتاة ربما في العشرين من العمر بشعر طويل أسود وأقراط ذهبية وكعب عالي ترتدي (الجينز من المخمل) وكنزة رمادية اللون بياقة تغطي العنق وثنائي شاب وشابة في أوائل العشرينات يمشيان سوياً هو يرتدي سترة طويلة بلون (بيج) وبنطال واسع والأخرى ترتدي معطفاً للمطر داكن اللون فوق (جينْزِها) الأزرق.

ولم أر امرأة تغطي وجهها بمنديل. وبينما رأيت عدداً غير قليل من الشباب بلحى خفيفة فليس معنى هذا أنه إشارة إلى أنهم من (الأصوليين) قد تعني اللحية هوية إسلامية بالتحديد ولكن قد تكون (موضة) فحتى ابن حافظ الأسد الأول الراحل باسل الأسد كان ملتحياً، وآخر ما يمكن اتهام عائلة الأسد بالأصولية الدينية.

وهناك أزياء تقليدية أيضاً. كان هناك جدة طولها كعرضها تقريباً ترتدي رداء أسود من الرأس إلى الساقين مع جراب رمادي وصندل خفيف. تعبر بخطى قوية النفق... لا ترى منها إلا وجهها. أحد الريفيين يرتدي عباءة سوداء وكوفية ملونة بالأبيض والأحمر يسير في الطريق ووراءه على بعد عدة أمتار زوجته برداء طويل نبيذي اللون.

الجو في النفق تحت أوتستراد المزة وفي حديقة الكلية (كلية الفنون والعلوم الاجتماعية) هو جو خادع. فخلف الهدوء مع ذلك، حكاية أخرى. الجامعات السورية مثل كل المؤسسات في البلد يجب أن تعمل كأجزاء متكاملة لنظام يقدر الولاء له أكثر من كل شيء آخر – وبخاصة أكثر من المستوى الأكاديمي – وهو يعاقب بلا رحمة (عدم الطاعة). وكما لاحظت لجنة مراقبة الشرق الأوسط M.E Watch:  "المعارك الفكرية في سورية كانت الأكثر تنظيماً وشدة في الجامعات"(1)

وليس من الصعب رؤية هذا الواقع التحتي الأساسي – في آخر الحديقة – الجامعية – لوحان معدنيان للإعلان كل واحد هو بمساحة متر مربع تقريباً. أحدهما يطري فضائل الرئيس بشار الأسد والآخر يشيد بمدح والده. وعندما يخرج الطلاب من النفق ويمرون عبر المدخل الرئيسي للكلية يواجهون تمثالاً بارتفاع أربعة أمتار "للزعيم الخالد" يجثم على مفترق صغير. وعلى جدار من بناية الكلية يقع بين الحديقة وأوتستراد المزة بالأحرف الكبيرة – وبطول متر، وبالدهان الملون شعار نحن نحبّ حافظ الأسد. ويبدو أن عمر الأحرف الملوّنة بضع سنوات إذ بهت فيها اللون الأسود، ولكن متطلبات الولاء... لم تبهت.

تربية البعث

على شبكة الحاسوب في وزارة التربية مقتطفات من كلمات للراحل حافظ الأسد – دون تأريخ – يعلن فيها أن من أهداف التربية "تعزيز عبادة الوطن وغرث القيم القومية في أذهان المواطنين والطلاب... على الأقل لم يماري بذلك. وكذلك دستور عام 1973، فالمادة (21) تؤكد "النظام التربوي والثقافي يهدفان إلى خلق جيل اشتراكي قومي عربي علمي مرتبط بتاريخه ومعتز بتراثه ومملوء بروح النضال لإنجاز أهداف أمّتة في الوحدة والحرية والاشتراكية، ليخدم الإنسانية وتقدمها، والمادة (23) تؤكد، مع أشياء أخرى، الدولة تتعهد بتشجيع وحماية هذه التربية.

الأنظمة البعثية التي حكمت سورية منذ العام 1963 كانت ملتزمة بقوة بتوسيع مجالات التعليم وفرصه. وكانوا ملتزمين في الوقت عينه باستغلال النظام التربوي وإمكاناته الغنية للضبط السياسي والتوجيه العقائدي وأعلى مستوى لهذا الالتزام والاستغلال السياسي والحزبي – كان في عهد الأسد. وأربك وعقّد التوسع في مجال التربية النمو السكاني السريع ونسبته كانت أكثر من3 % في الثمانينات ولا تزال النسبة حوالي 2،5% والتعليم إلزامي ومجاني للاولاد من سن 6 إلى 11 سنة. ست سنوات من التعليم الابتدائي وثلاث للمدارس المتوسطة ثم ثلاث سنوات في المدارس الثانوية والمهنية. وما بين عامي 1970 إلى 1976 زادت نسبة التلاميذ في المدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية بنسبة 43% و52% بالتتابع.

وفي عام 1984 كان هناك مليون صبي و(818000) فتاة في المرحلة الابتدائية. أما الطلاب في المرحلتين المتوسطة والثانوية فكان مجموعهم تلك السنة (700000) سبعمئة ألف – من الجنسين.

ورابع الخطّة الخمسيّه للتنمية (1980-1976) كان هدفها أن يكون كل الصبية في سورية بالمدارس الابتدائية بحلول عام 1980. وكل البنات في سورية بالمدارس الابتدائية بحلول عام 1990. ولقد وصلوا للهدف الأول بالنسبة للصبية في أوائل الثمانينات أما النسبة للبنات فلم تسجّل إلا 85% مِنْهُنّ في المرحلة الابتدائية في تلك الفترة. وعام 1996 كانت نسبة المسجلين في المرحلة الابتدائية 91،3% للصبية و87،3% للبنات(2).

ونسبة تسجيل البنات تتغير من منطقة إلى أخرى. ففي الأرياف البعيدة تكون النسبة أقل من المعدل العام. ففي عام 2000 كانت نسبة البنات المسجلات في المدارس الابتدائية الريفية هي 46،5% من معدل التسجيل العام على  مستوى القطر أما في محافظة (وادي الفرات) فكانت 42،3% وفي محافظة الحسكة 44،1%. وأكثر أولاد سورية لا يكملون إلا المرحلة الابتدائية. وفي عام 1996 كان فقط 38،1% منهم مسجلين في المتوسطة والمدارس المهنية. بالنسبة للبنات كانت النسبة 36،1% (3). وفي عام 2000 ارتفع عدد التلاميذ والطلاب من الجنسين إلى ما مجموعة (3,430212) منهم 2,77,922. في المدارس الابتدائية، و(783565) في المدارس المتوسطة و(171725) في المدارس الثانوية (4).

وبينما هناك مدارس خاصة (أغلبها دينية) ومدارس للاجئين الفلسطينيين، تديرها وكالة الأنروا وتلعب دوراً مهماً، تبقى مدارس الدولة مسيطرة وتغطي (98%) من المدارس الابتدائية و(96%) من المدارس المتوسطة والثانوية.

في إحصاء عام 2000 بالإضافة لطلاب التعليم العالي الذين يتخصصون في الزراعة والتجارة والصناعة ومجموعهم 139,344. وكان هناك 92,592 طالباً يتدربون في المعاهد التقنية التابعة للوزارات الأخرى.

التخلص من الأمية واستئصالها كان هدفاً دائماً. في أوائل السبعينات كان حوالي 60% من السكان من الأميين (5).

وفي سنة 2000 قدر البنك الدولي أن نسبة الامية في الرجال من عمر خمسة عشر وما فوق – أكثر من 11،7% وفي النساء 39,5% (6) وكان النظام الحاكم دائما على علم بأن التعليم هو سلاح ذو حدين. فبينما التنمية الاقتصادية تحتاج لعمال مهرة متدربين، الناس المتعلمون هم أيضاً وعلى الأغلب من يثير التساولات والتحديات للنظام. وعلى كل حال كثير من قيادات النظام وأبرزهم حافظ الأسد نفسه بدأوا عملهم السياسي كطلاب ناشطين في الثانويات، لذلك السيطرة السياسية ونشر المبادئ كانا النقطة المركزية في نظام التعليم. ولاحظ (بطاطو):  "الأهمية التي يعلقها النظام على الاحتواء السياسي للطلاب، يمكن استنتاجها من حقيقة أنهم يشكلون أحد عنصرين من العناصر البشرية – والثاني هو الجيش – التي يمنع فيها النشاط السياسي على المنظمات غير البعثية المشتركة – والمتحالفة – في الجبهة الوطنية التي أنشأها الأسد(7).(راجع الفصل الخامس).

في المدارس الابتدائية على التلاميذ الانخراط إجباريا (في طلائع البعث). والشعارات التي ينشرنوها بانسجام تام هي "بالروح بالدم نفديك يا حافظ" وفي عمر تسع سنوات يحضرون المعسكرات الصيفية حيث التدريب العسكري الأساسي. وفي المدارس المتوسطة والثانوية ينضمون إلى اتحاد شبيبة الثورة – اختيارياً – لأنهم يحصلون في الاتحاد على امتيازات هامة بما في ذلك علامات إضافية في امتحانات الشهادة الثانوية".هذه تشبه تماما الشبيبة النازية" هكذا يتذكر صبحي حديدي الكاتب والناقد السوري المنفي الذي مر في هذه الفترة الطلابية وتخرج من جامعة دمشق بليسانس أدب إنكليزي عام 1974. كل هذه التوجيهات والتدريبات – من أجل الولاء للزعيم وللحزب إلى درجة أنّه يصبح من واجباتك أن تبلغ السلطات عن أي سلوك سياسي مخالف يقوم به زملاؤك (8).

الجامعات

توسعت الدراسة الجامعية أيضاً بشكل مثير وأكبر الجامعات اطلاقاً في سورية هي جامعة دمشق. وكان عدد الطلاب المسجلين فيها عام 2000 (75,678) طالباً، 65% منهم من الذكور. ولقد تأسست رسمياً عام 1923 إلا أن أقدم كلية هي كلية الطب  قد تأسست عام 1903 بإسم المعهد الطبي التركي. وجامعة حلب التي تأسست عام 1958 كان عدد طلابها عام 2000(37410) طالباً. جامعة تشرين في اللاذقية وسميت هكذا بعد حرب تشرين 1973، كان بها عام 2000 (25660) طالباً. وأصغر وأحدث جامعة هي في حمص جامعة البعث التي فتحت أبوابها للتدريس عام 1979 وكان بها عام 2000 (16389) طالباً (9).

التسجيل في الجامعات يتوقف على نتائج امتحان البكالوريا الموحدة، إلا أن العوامل السياسية قد تلعب دوراً كبيراً. بخاصة وأن ربع المقاعد فيها محفوظ لأعضاء اتحاد شبيبة الثورة. وفي الماضي كان للبعد السياسي تأثير أكبر على ما يبدو. في عام 1975 عين المؤتمر القطري السادس لحزب البعث أخا الرئيس الأسد رفعت الأسد، وكان ثاني أقوى رجل في سوريا، رئيساً لمكتب الدراسات العليا في القيادة القطرية والذي يشرف على كل الدرجات العليا و احتفظ بالمنصب حتى عام 1980. وكان من ضمن مشاريعه:  مشروع لتدريب الشباب والفتيات كمظليين ومِظلّيات لتحضيرهم لمعارك المستقبل، دفاعاً عن وطنهم. وكتعويض عن فترة التدريب أعطي هؤلاء علامات إضافية في علامات الشهادة الثانوية. وبما أن التسجيل في كليات الطب وطب الأسنان (وهما الكليتان الأكثر طلباً لحملة الثانوية) يعتمد على علامات امتحان الشهادة الثانوية، كان لهذه العلامات الإضافية تأثير حاسم على القبول في هاتين الكليتين. وفي الجامعات، عضوية اتحاد شبيبة الثورة وهي اختيارية مع عضوية الحزب تساعدان بالتأكيد. وكلاهما يوفر للعضو لائحة من الفوائد بما فيها السكن الرخيص والسفر والبعثات. ومثل طلائع البعث واتحاد شبيبة الثورة يلعب اتحاد الطلاب دوراً هاماً في القهر والإكراه. ولقد امتدح الاتحاد لاكتشافه "القوى المعادية للحزب وللثورة". وكان من مهامه المتوقعة التقييم السياسي للطلاب السوريين الذين يدرسون خارج سورية ومراقبة العناصر المعادية بينهم". النظام التعليمي هو فقط أداة أخرى من أدوات النظام هذا ما ذكره صبحي حديدي "وبخاصة على المستوى الجامعي، لأن التعليم (الابتدائي والمتوسط والثانوي) مجاني بينما لائحة الفوائد المتاحة في الجامعات توفر أساليب أخرى للتلاعب بالطلاب" (11).

ولقد عرض البروفسور هاني مرتضى، وهو عميد سابق لكلية الطب في جامعة دمشق، واستلم في نيسان عام 2000 رئاسة الجامعة صورة أكثر اشراقاً إذ قال لي:  "إن سياسة هذا البلد في الدراسات العليا منذ تسلم حزب البعث السلطة، انّها متاحة للجميع وهي ليست مجانية فقط بل هناك دعم كبير لشراء الكتب وللسكن. عندنا مساكن لـ 17 ألف طالب في جامعة دمشق، يدفع الطالب السوري فيها 25 ليرة سورية (أي دولار أميركي) بالشهر (12).

وعلى أساس أن إمكانيات الجامعات الأربع تصبح مصدراً لإثارة الاضطرابات ضد النظام، عمد الحزب لإنشاء فرع كامل للحزب في كل جامعة. ورغم أن عدد أعضاء الحزب في كل جامعة قد لا يتعدى بضعة آلاف فالتنظيمات الحزبية فيها توازي فرعاً من فروع المحافظات أو الأقضية حيث يبلغ تعداد الأعضاء عشرات آلاف. ورغم أن هذا هو أقل مما كان في الماضي، إلا أن لدى فروع الحزب في الجامعات الأربع نفوذ مثل السلطات الرسمية في الجامعة. ومسؤولياتها بلا حدود ومن ضمنها الموافقة على تعيين المدرسين.

والجامعات مشبعة بالمخبرين والمخابرات والبوليس السري حتى أكثر من المؤسسات الرسمية الأخرى. ولدى فرع الطلاب للأمن السياسي، مسؤولية خاصة هي مراقبة مؤسسات التعليم العالي. والضغط شديد على كل الكليات للتكيف والتطابق كما تقول لجنة مراقبة الشرق الأوسط في تقريرها، ورغم أنه صدر عام 1991 يبقى صحيحاً إلى حد كبير، اليوم حيث الشروط أخف ظلماً وقهراً".وإذا فشلت الكليات في التكيف والتطابق فسيخسر إداريوها وظائفهم. ويذكر الطلاب باستمرار أن أي فكر مستقل هو أمر خطير والتعاون هو أفضل الطرق للوصول إلى الوظيفة والى النجاح الاقتصادي (13).

كان طلاب جامعة دمشق هم أول من تظاهر ضد الحركة التصحيحية لحافظ الأسد في تشرين الثاني 1970 وهم يهتفون لتسقط الديكتاتورية "لتسقط الأنظمة العسكرية".

وتقول التقارير أن خمسين طالباً منهم قد اعتقلوا (14) وكانت الجامعات المراكز الأهم للمعارضه وتبعاً لذلك القمع في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات عندما واجه النظام مداً معارضا كان من ضمنه التمرد المسلح للإخوان المسلمين.

وفي خريف 1979 عندما مشى طلاب جامعة حلب إلى رئاسة أركان المخابرات في ناحية السبيل فتح رجال الأمن النار فقتلوا ثلاثة وجرحوا الكثير منهم. وأوقف مئات المتظاهرين واستمرت الاحتجاجات مما جعل السلطات ترفع درجة القمع فاحتل الجيش جامعة حلب. وفي دمشق واللاذقية اعتقل مئات الطلاب وتعرضوا للتعذيب وبعضهم مات في الاعتقال.

وتعرضت كذلك الهيئات التدريسية للضغوط. ومن أواخر عام 1979 إلى أواسط عام 1980 سرح أكثر من مئة محاضر انتقدوا النظام علناً، أو اتهموا بعدم الولاء فتقلوا لوظائف بيروقراطية. وآخرون اعتقلتهم المخابرات. وتفتت برنامج التدريس في كلية الطب (بجامعة دمشق) لمدة سنتين كما لاحظت لجنة مراقبة الشرق الأوسط M.E Watch  "لم يبق أي أستاذ يدرس مادة التشريح... مع أنه لم يكن هناك بالتأكيد نقص في  الجثث" (15).

وكان يمكن قياس المزاج الرسمي في تلك الفترة الحالكة من قرار المؤتمر القطري السابع لحزب البعث الذي عقد ما بين 22 كانون الأول 1979 و7 كانون الثاني 1980. اتفق على أن "يعهد للرفيق وزير التربية باستئصال كل أثر للأفكار المعادية في قطاعه وتعديل البرامج التربوية للتطابق مع مصلحة الحزب والثورة" (16).

والجامعات مثل بقية سورية روّعت وأرهبت. ولكن حتى عام 1989 كان النظام يبدو شديد التوتر. ففي حرم كلية الفنون لجامعة دمشق، ذكرت لجنة مراقبة الشرق الأوسط أن رجال الأمن يحرسون المدخل مع أربع مصفحات واقفة تحت غطاء مشمع خارج قاعة المحاضرات (17).

تلْيين المزاج

أكد رئيس جامعة دمشق الدكتور هاني مرتضى أن الجو الحالي الأكثر ليبرالية بدأ قبل وفاة حافظ الأسد في حزيران عام 2000".كانت سياسة حزب البعث غير متوترة في السنوات الثلاث الأخيرة قبل وفاته" كان يسأل كل واحد أن يعبر عن رأيه(18). كان رئيس فرع حزب البعث في الجامعة السورية بدمشق عادل صفا، عميد سابق لكلية الزراعة. وكان يترأس لجنة مكونة من سبعة أعضاء تجتمع شهرياًَ لمراجعة التطورات. وقبل كل اجتماع كان مرتضى يستشار بدقة.

"إذا كانوا يفكرون باتخاذ أي قرار، فهم على اطلاع دقيق مسبق على موقف ورأي إدارة الجامعة". هكذا قال مرتضى وهو ليس عضواً في الحزب.

وأكد أن  الحزب كان أكثر ميلا من الماضي لقبول تعيينات المدرسين التي تقترحها إدارة الجامعة".لم تعد الإدارة تحت سيطرة الحزب". 95% مما نقترحه يعمل به أما باقي أل (5%) فيستشيرني الحزب قائلا:  "لدينا هذه وتلك على الشخص المقترح فهل تصر عليه؟" إذا كان هناك نواقص حقيقية أقول (لا). إلا أنه اعترف بأن القرار النهائي يبقى للحزب:  "إذا أراد تغيير أمر ما فهو قادر على ذلك".

نشطاء حركة المجتمع المدني – ومن ضمنهم أساتذة جامعة مثل عارف دليلة الذي حكم عليه بعشرة أعوام سجن – استغلوا الليبرالية الحديثة. والذين كانوا يحضرون ندوات حركة المجتمع المدني هم "إما من المهتمين بالسياسة وإما يريدون خلق المشاكل" هذا كان رأي البروفسور مرتضى.

"من كان يريد حقاً تنمية وتطوير التعليم العالي في هذا البلد يعبر عن آرائه في اجتماعات الهيئة التدريسية على مختلف المستويات الجامعية". وتابع قائلا:  "لقد سمعت، كرئيس للجامعة في اجتماعات الهيئة أشياء لم تكن تذكر قبلاً".

في منتصف عام 2000 سرح دليله من منصبه كرئيس لكلية الاقتصاد ولكن مرتضى نفى أن يكون الأمر على علاقة بآرائه السياسية".لقد فقد منصبه ولكن ذلك لم يكن بسبب ما جرى". كنا في طور تغيير رؤساء الأقسام وأنا مسؤول عن ذلك، منذ فترة قصيرة بدلت أربعة من خمسة رؤساء أقسام لقد جاء الأمر مني ولا حتى من حزب البعث".

طلبت من البروفسور مرتضى إذا كان باستطاعتي حضور محاضرة – كلاسيكية- فقال يجب أن تقدم طلباً خطياً بذلك. يمكنك كتابة الطلب الآن، وأنا أحيله إلى رئيس فرع حزب البعث في الجامعة".

البروفسور شكري... يتذكر

إذا أصبح النظام أكثر مرونة فليس الأمر واضحاً الآن لكبار المسؤولين في الجامعة. فبالنسبة لهم الصورة البارزة تبقى غياب الاستقلال الذاتي. البروفسور محمد عزيز شكري رئيس قسم القانون الدولي في الجامعة وأحد أبرز السوريين المعتبرين كخبير قانوني، يتذكر أنه لما كان طالباً في الجامعة كان اختيار كل المناصب الأكاديمية و الادارية يجري في انتخابات داخلية. فأساتذة كلية الحقوق مثلاً ينتخبون عميد الكلية وتعمد الحكومة إلى تثبيت المنتخب في منصبه. وبدورهم ينتخب العمداء ثلاثة مرشحين لرئاسة الجامعة تختار الحكومة أحدهم(19).

"ومنذ ذلك الحين تسيّستْ الجامعات إلى درجة كبيرة جداً جداً. فالآن كل المناصب الأكاديمية و الإدارية تقررها الحكومة بطلب من الحزب" هذا ما قاله البروفسور شكري مؤكداً أن علاقة الأكاديمي بالحزب أصبحت محددة لمهنته ومنصبه. وتوسع دور اتحاد الطلاب بصورة درامية أكثر مما كان عليه لما كان هو طالباً".إنهم يتدخلون في كل شيء إنهم يتدخلون في البرامج وفي أوقات الامتحانات وأحياناً يقفون إلى جانب كسالى الطلاب ضد المدرسين المتشددين".

إذا دخل بعض الضوء للأجواء السياسية واتسع هامش التعبير منذ بداية العقد، إلا أن نظام التعليم بقي في قبضة تراث مرير.

فالتوسع السريع بإمكانيات ومصادر محدودة أثر على نوعية التسهيلات والتعليم. ورغم حملات التطهير المستمرة، يبقى الفساد والمحسوبية السياسية مستوطنين هنا مثل بقية مفاصل النظام.

وتتعقد المشاكل بالخوف من إزعاج السلطات والخوف من اتخاذ المبادرات، وبعادةِ التعلم بالإستظهار الذي يعوق ويثبط التفكير المستقل والخلاق.

"جامعة دمشق كانت واحدة من أفضل الجامعات في الشرق الأوسط" هكذا أكد البروفسور شكري. كانت جامعة قوية ورزينة مما وفر لزبدة المثقفين العرب التخرج منها – طلابها ليسوا من سورية فقط بل أيضاً من لبنان والأردن والعراق وفلسطين".لقد هبط المستوى في بقية الجامعات السورية كنتيجة مباشرة للسياسة التي بعثها حافظ الأسد بضمان مقعد جامعي لكل من حمل الشهادة الثانوية. وسلم شكري "إن هذه فكرة نبيلة من حيث المبدأ" ولكن الأماكن والهيئة التدريسية لم تستطع أن تحتوي هذه الزيادة الكبيرة في أعداد الطلاب. وكلية الحقوق التي أسست عام 1919 لا تزال تحتفظ ببنائها شبه المتهدم وصفوفها المنهارة تقريباً. هناك خمسون أستاذاً (بروفسور) لسبعة عشر ألف طالب (17000)".

طلاب وهيئة تدريسية... دون المستوى اللازم

الدكتور عمرو العظم محاضر نشط درس في انكلترا، يعمل في دائرة الاثار في الجامعة، وهو ابن (الفيلسوف) السوري صادق جلال العظم (راجع الفصل الثاني)، كان منتقداً بشدة نوعية الطلاب الذين يخرجهم النظام التربوي المدرسي. رغم المحاولة الآن لرفع المستوى برفع معدل العلامات المطلوب من حاملي الشهادة الثانوية لدخول الجامعة، إلا أن ذلك يُلْغى بغياب أي تحسن في المعيار المستعمل لتقدير أثر الامتحانات. كل ما يطلب الآن هو التشدد بالتمسك بالنص الأصلي الذي يعطى للطلاب في المدارس". يقول (العظم):  "كلما كنت قادراً على استظهار النص الذي تحفظه غيباً كلما زاد معدل علاماتك في الامتحانات – لذا نحن نتسلم ببغاوات وعدد الطلاب الببغاوات في ازدياد.

أي شكل من أشكال التفكير المستقل، أي شكل من أشكال الذكاء يشتم من إجابات الطالب يعاقب بإعطائه علامات أقل"(20).

أضف إلى ذلك، العديد من الطلاب يتدبر أمر دخوله الجامعة لأنه حصل فقط على علامات إضافية في الشهادة الثانوية أعطيت له مكافأة على ولائه السياسي".هناك أنواع من العلامات الإضافية التي لا يستطيع الطالب تحصيلها – باجتهاده-". هكذا فسّر لي العظم الموضوع "إذا أجرى الشاب أو الشابة تدريباً مع المظليين ينال 15 نقطة إضافية على ما حصل عليه من علامات في الفحص النهائي الثانوي (البكالوريا)، إذا كنت عضواً في الحزب تحصل على علامات إضافية، إذا كنت في (شبيبة الحزب) تنال علامات إضافية وجمع تلك العلامات الاضافية قد يصل إلى (30) نقطة زيادة على علامات (البكالوريا) وهو الفارق المطلوب لتدخل الجامعة وهو المطلوب أساساً لدخول الكليات المهنية التي تدرب لسنتين فقط".

الحفظ –عن ظهر قلب– والاستظهار هو أيضاً المعيار المطلوب على المستوى الجامعي. والامتحانات هي في الغالب مقياس للذاكرة".يحفظون عناوين وعناوين فصول ثم ينتظرون أسئلة عن عناوين فصول يستطيعون حينئذ تقيؤها وأضاف العظم "اسألهم أي سؤال ذكي أو منطقي أي نوع من التحليل أي سؤال عام يحتاج لربط الأفكار من مصادر مختلفة فتراهم عاجزين تماماً عن فعل ذلك".

ونوعية الكثير وربما الغالبية من المحاضرين هي موضوع تساؤل، كثير منهم نتاج برامج متضاربة بدأت عام 1985 حين أرسلت دفعة من حوالي (3500) مساعد محاضر للتدريب في الكتلة الشرقية بخاصة ألمانيا الشرقية. وكانت النتيجة كارثية. كثير من المحاضرين اختيروا لبعثات تدريب في الخارج ليس بسبب قدراتهم الذهنية بل بسبب ولائهم السياسي فعادوا بمستوى أكاديمي ناقص بشكل مريع".كانت الخطة حينئذ هي لإعلاء مستوى التعليم العالي كما قال مرتضى".وتدريب بعض الشباب في الكتلة الشرقية لم يكن على المستوى الذي توقعناه. لم نكن ندري حينئذ أن النتيجة ستكون كهذه. وعندما عرفنا ذلك بدأنا نبعث الطلاب إلى الغرب، إلى المملكة المتحدة، ألمانيا وفرنسا. وعاد بعضهم الآن وهم يقومون بعمل جيد جداً" (21).

مشكلة أخرى لأسباب قومية كان التركيز على اللغة العربية كلغة للتعليم على حساب الإنكليزية والفرنسية وهما اللغتان المسيطرتان في الحوارات الأكاديمية الحديثة. ونتيجة لذلك هُمّش الطلاب السوريون عن المجرى الرئيسي الأكاديمي العالمي.

الدكتور سمير التقي الجراح الذي هو أيضاً عضو المكتب السياسي لجناح يوسف فيصل في الحزب الشيوعي السوري لاحظ أن لكثير من البلدان مشاكل تربوية "ولكن الطبيب المصري مثلا ودراسته للطب باللغة الانكليزية يستطيع أي وقت أخذ كتاب بالإنكليزي ويجدد معلوماته ويعرف ماذا يدور الآن في العالم" (22). لذا هو يحث على تحسين النظام التعليمي بحيث يستطيع الطلاب السوريون الوقوف بمستوى غيرهم في العالم العربي – وذكر لي أحد الأطباء الأكاديميين ذوي الخبرة، وطلب مني عدم ذكر اسمه، أن عيوب برامج التدريب في الغرب، والتي حابت وفضلت الموالين سياسياً على الامتياز الأكاديمي أنتجت سلطة من الأطباء واحد من الاتحاد السوفييتي وآخر من الصين وثالث من كوبا.

والكثير منهم نالوا شهاداتهم (الدبلوم) حسْبَ خلفيتهم السياسية(23). واشتكى قائلا:  "أنا أوافق إذا قالوا:  "نعم نحن لا نعرف كثيراً ونريد الاستزادة" – في العلوم الطبية – فهذا أمر مقبول، الآن إنهم يدافعون عن جهلهم". ونتيجة لبرامج التدريب غير المتماسكة للأطباء لا يوجد الآن إجماع، داخل سورية، على طريقة معالجة الأمراض".لا أستطيع القول الآن ما هو البروتوكول لمعالجة هذا المرض أو ذاك في سورية" هذا ما قاله هذا الأكاديمي".لا شيء هناك، ليس هناك مرجع، لا هرمية ولا تقاليد. إن الأمر شخصي".

الكتب القديمة الناقصة باللغة العربية منتشرة في كل نظام التعليم. والدكتور عمرو العظم الذي بالإضافة لتدريسه في جامعة دمشق هو أيضاً مدير المختبرات العلمية وحفظ الآثار في دار الآثار الوطنية، لاحظ أن قوانين الجامعة تلح عن أن 80% من كل موضوع يجب أن يستمد من كتاب التدريس باللغة العربية (24).إذا كان كتاب التدريس قد ألف قبل خمس وعشرين سنة، علي أن أتمسك به، إذا كان الكتاب مليئاً بالأخطاء – كالعديد من كتبي الكلاسيكية التي درستها علي أيضاً التمسك بها. فإذا أصلحت خطأً والطالب كان مقتبساً من الكتاب الكلاسيكي للتدريس إذن تقنياً عليّ الموافقة على ما كتب ولو أنه خطأ".

واعترف لي (العظم):  "لقد وصلت إلى آخر الشوط". وذكر لي أن أحد كتب التدريس الرسمية أكد بصورة غريبة ومعاكسة لكل الإثباتات العلمية. إن الإنسان الأصلي تطور من (النيندرثال) وكان ذلك في الشرق الأوسط... فجعله (عربيا)! كل هذا غير صحيح ولقد أثبت علمياً إنه غير صحيح كما قال لي العظم. هذه تفاهات والأسوأ من ذلك أن في الكتاب شرط. يعني أن الذين يختلفون مع هذا الطرح عن أصل الإنسان العصري هم (الإمبرياليون)". وروى العظم كيف واجه مؤلف الكتاب وسأله "كيف لي أن أقنع هؤلاء الطلاب المساكين أنني على حق عندما تقول في كتابك إنني من خدام الإمبريالية إذا لم توافقني؟

وبغض النظر عن استحقاقها الأكاديمي، على هذه الكتب أن تكون (ايديولوجيا) صحيحة، إلا أن ذلك كان مشكلة في سنين القمع في الثمانينات أكثر مما هو الآن. ومؤلفو الكتب هذه يعلمون أن خصومهم بين زملائهم أو بين الطلاب سيكونون تواقين لإبراز (الأخطاء) السياسية في الكتاب وعندها يُعرّضون المؤلفين لتحقيقات في الحزب وحتى في المخابرات.

الفساد

رغم أفضل الجهود لسلطات الجامعات، الفساد منتشر. أحد كبار الموظفين الذي طلب عدم ذكر اسمه قدّر أن ما بين 20% إلى 30% من كل الشهادات الممنوحة من جامعة دمشق حصل عليها أصحابها بالرشوة. الدكتور العظم يعتقد أنه ربما 10% من الناجحين في امتحانات دائرته نتيجة الرشوة. هناك كليات أكثر استعداداً للفساد من غيرها قال كبار العارفين من داخل الجامعة".في بعضها مثل كلية الطب وكلية الهندسة، يمكن حدوث الفساد (الرشوة) ولكن الفساد عام في كلية الاقتصاد وكلية الحقوق وكلية الآداب.

أنا أكره أن أقول ذلك "ولكن الفساد منتشر" والشيء المتناقض هو أن للفساد بعداً أخلاقياً "أطن أن هناك وجهة نظر تقول إنه لا يمكننا الاستهتار واللعب بحياة الناس". هذا ما قاله لي العالم ببواطن الأمور:  أعني إذا خسرت قضية من قضايا الناس في المحاكم فهذه مشكلة ولكن إذا خسرت إنساناً فهذه كارثة. لذا حتى هذه الساعة لم نجد أي حادثة فساد في كلية الطب وكلية الصيدلة ولا حتى في كليات الهندسة الثلاث ولا في كلية الشريعة بالطبع.

وللفساد أشكال متعددة. يضمن الطلاب نجاحهم في الامتحانات برشوة المحاضر إما مباشرة أو عن طريق وسيط أو (مفتاح)! وثمن شهادة هو (100000) مئة ألف ليرة سورية أي (2000 دولار) لكل سنة من السنوات الأربع. أكثر المواضيع تحتاج لأربع سنوات دراسية. وهي خمس في الهندسة والصيدلة وطب الأسنان وست سنوات للطب". ويختلف الأمر من موضوع لآخر كما قال الدكتور العظم ويتوقف الأمر:  في أي كلية أنت وفي أي دائرة وسواء أردت علامات عالية أم منخفضة" (25).

وقد تكون الرشوة بتوفير البضائع أكثر من النقد وفي حادثة جديدة ظهر أن أحد المحاضرين في كلية الحقوق قبل طاقما جديداً لغرفة نوم. أحيانا ربما يكون الأمر في محاباة أو منّة أو فضل... قد تكون تحصيل حاصل.

قال الدكتور العظم:  "قد يكون أبوك شخصية هامة في مكان ما يقدم لك معروفاً أو فضلاً وتتأثر سمعتك سواء رغْبت أو لم ترغب في ذلك" وإذا طلب قيادي كبير في الحزب أو ضابط أمن معروفاً قد يكون من الصعب ألا تستجيب، وكانت هناك حوادث شهيرة حيث طلب محاضرون معروفاً جنسياً من طلابهم وعندما رفضوا رسبوا في مادتهم. الغش في الامتحانات هو صداع كبير آخر لسلطات الجامعة. وقد وصف لي البروفسور شكري طريقة مفصلة محكمة يستعملها وبخاصة الطلاب الذين لهم علاقات قوية مع المسؤولين – في الغالب من أبناء وبنات كبار وجوه النظام. ما أن توزع أوراق الامتحان يرسل أحد جماعة الداخل في قاعة الامتحان نسخة إلى مجموعة من المحامين أو حتى القضاة في الخارج. وهؤلاء يسارعون في كتابة الأجوبة الصحيحة، كل واحد منهم يجيب على جزء من الأسئلة.

وتدخل أجوبتهم للطالب الذي ينسخها تماماً (26) قد تظهر بعض التهديدات الفظة والتخويف والإرهاب.

باتريك سيل أحد أفضل العارفين المراقبين لسورية يروي كيف أن بنت أحد رؤساء أجهزة الأمن حضر امتحاناتها مع مجموعة من حراسه وألح أن يكتب الأستاذ الأجوبة على أوراقها (27).

وفي إحدى الحوادث الغريبة البشعة – في أوائل التسعينات أوقف أحد طلاب الحقوق وهو يغش في الامتحان فرد الطالب بإبراز قنبلة يدوية وسحب (إبرتها) ثم هرب من قاعة الامتحان إلى الخارج. ولحق به حراس الجامعة الذين لم يتجاسروا على اطلاق النار عليه خوفاًَ من حدوث قتلى نتيجة تفجير قنبلة. وظهران رقم لوحة سيارته هي من القصر الرئاسي. الذي آدّعى بصورة غير معقولة، مع وجود الأمن الرئاسي الهائل، أن السيارة (سرقت) من القصر!

لا شك أن العديد من أبناء ذوي الامتيازات في سورية، حصلوا على شهاداتهم الجامعية بالتزوير والاحتيال. وفي بعض الحالات (دون أن يفتحوا كتاباً) حسب مصدر سري حسن الاطلاع وعلى معرفة تامة بهذه الظاهرة.

في سيرة حافظ الأسد، يسجل باتريك سيل أن الغيظ من جور الحياة، وهو وليد الوعي الطبقي، كان من المحتمل، أول مشاعره السياسية. ومن السخرية أن الغش الفاضح في المدرسة لأولاد النخب البرجوازية حينذاك كانت على ما يبدو من العوامل الرئيسة التي حولت حافظ الأسد إلى حزب البعث. ولقد نقل عن الرئيس الراحل قوله:  "أولاد الأغنياء لا يهتمون بالدراسة، فبكل بساطة أعطوا أنفسهم العلامات التي أرادوها في آخر العام الدراسي وقليلون هم المدرسون الذين وقفوا في وجههم" (28).

وبأساليب عدة، لم تتغَيّرْ إلا أسماء وخلفيات النخب السورية فقط بينما بقي جور الحياة، رغم أنف الشعارات البلاغية الاشتراكية لثورة البعث.

البطالة بين الخرِّيجين

رغم التقدير الكبير للشهادة الجامعية فهي ليست على الإطلاق جواز سفر نحو العمل. فالأجور في القطاع العام المنتفخ بالعاملين، ليست جذابة مجزية – فالدخْل الشهري لجراح القلب هو فقط 8000 ليرة سورية أي (160 دولار أميركي).

والقطاع الخاص يتطلب مهارات بخاصة إتقان اللغة الانكليزية – ولا يمتلكها غالبية المتخرجين. نتيجة لذلك كثير من الخريجين لا يعملون في الميدان الذي تخصصوا فيه، وفي مسح رسمي لسوق العمل عام 1998. يسجل نسبة 35% الذين لا يعملون في اختصاصهم(29) وبمراجعة المشكلات التي تواجه الخريجين السوريين علقت جريدة (الحياة) على ذلك بالقول:  "قصص الخريجين متشابهة ليسوا أكفاء في العمل و برامجهم التربوية عفا عليها الزمن" (30).

ونفس النقطة علق عليها بأسلوب قاس أحد المثقفين الذي آثر عدم ذكر اسمه (هناك نسبة عالية من البطالة بين المهندسين ولكن إذا قدمت شركة غربية إلى العمل في مجال البناء في سورية لن تستطيع تشغيل هؤلاء المهندسين لأن معلوماتهم الهندسية قديمة جداً ونظرية جداً و بعيدة عن كل خبرة عملية.

لن تستطيع تشغيلهم حتى ولو مكان العمال المهرة، ودعك من المهندسين والمشكة الكبرى في سورية ليست فقط في النظام التربوي، ولكن في إعادة تأهيل القوى العاملة والتي هي خارج العصر تماماًَ (31) لذلك كثير من خيرة الخريسجين مجبرون على الهجرة وهروب الأدمغة هذا يحرم البلد من أفضل شبابه الموهوبين. ألاف الأطباء و المهندسين والمدرسين السوريين يعملون في الخارج، بخاصة في دول الخليج وفي الولايات المتحدة.

البروفسور هاني مرتضى رئيس الجامعة السورية لا يشعر أن النظام التربوي – التعليمي –  السوري في أزمة مع أنه وافق بسرعة أن أخطاء ارتكبت وتحتاج لتصحيح.

"الأناس العاملون الذين لا يعملون في السياسة يقولون أن الكثير من الأعمال الجيدة قد أنجزت خلال حكم البعث". هكذا قال ثم أضاف "هناك أخطاء يمكن النظر فيها وتصحيحها. هذا لمصلحة الوطن. ولكن أن تغير الموضوع من إصلاح أو تصليح بعض الأشياء القليلة إلى تغيير كامل "كما يطالب بذلك ناشطو المجتمع المدني هذا على ما أظن. حركة خاطئة بالنسبة للجميع في هذا البلد".

ورأيه هذا يعكس نظرة النظام وفي خطابه (32) الافتتاحي في 17 تموز 2000 في البرلمان اعترف بشار الأسد بأهمية " الإصلاح والتحديث" للمؤسسات التعليمية ولو أنه ركز على أن ذلك يجب أن يجري بطريقة تخدم المصلحة الوطنية والقومية لسورية والتي تعالج المشكلات الاجتماعية التي تؤثر سلباً على وحدة وأمن المجتمع. وحتى خريف عام 2000 لم يحصل إلا قبضة من الإصلاحات التربوية ليس بينها أي إصلاح في مواضيع جوهرية. اتخذ قرار لانهاء التمييز بين المرحلة الابتدائية والمرحلة المتوسطة في المدارس. وفي أواسط عام 2001 توقف تدريس اللغة العربية كمادة في الدراسة الجامعية وحدد التدريب العسكري بشهر واحد في الصيف. سابقاً كان الطلاب مجبرين على حضور مخيمات التدريب أسبوعيا طيلة السنة. وصدر مرسوم بأن الراسبين من طلاب الجامعة في الامتحانات النهائية يسمح لهم بالتقدم للامتحان مرة ثانية. وصدر مرسوم تشريعي سمح بإقامة جامعات خاصة، مع أن ذلك لم تتبعه خطوات خاصة في هذا السبيل. ومن التطورات الأبرز هو ابتداء مشروع جامعة واقعية يعتمد على الانترنت في أيلول 2000. وهو الأول من نوعه في المنطقة إلا أنه لا بد من الانتظار لمعرفة مدى النجاح الذي سيلاقيه.

وبوضوح تام يفتش النظام في حقل التربية كما في غيره من الميادين عن التغيير المتدرج أملاً أن يتحاشى التغيير الجذري الكامل أصولاً وفروعاً. وكثير من الشخصيات البارزة في سورية تشعر بأن المشاكل هي أكبر بكثير من استعداد الحكومة للاعتراف به وأن الحاجة لتغيير جذري أمر ملح إن أرادوا للجهاز التعليمي أن يصبح جزءاً من الحل لمشكلات سورية بدل أن يبقى أحد أكبر الصداعات.

وكان المثقف الذي آثر عدم ذكر اسمه، حاسماً:  " هناك هوّة واسعة جداً جداً بين ما يدرسونه في الجامعات وواقع الحياة في المجتمع، كذلك هناك هوة بينما يدرس في الجامعات وما هو حقاً لازم للبلد ولمستقبله (33).