سورية... لا خبز... ولا حرية 7
سورية... لا خبز... ولا حرية
تأليف: آلن جورج-2003
تعريب: د.حصيف عبد الغني
الفصل السابع
أجهزة الإعلام: متوازنة، موضوعية وأخلاقية
"قانون الإعلام الجديد يشرّع حالة الطوارئ وهذا كل ما يفعله". هذا ما قاله الصحافي والناشط في حقوق الإنسان نزار نيوف بعد قليل من إطلاق سراحه" (1).ربما تسمح السلطات الآن بنشر مقالات حرة نسبياً أكثر من قبل إلا أن أي صحافي يتعرض للقمع إذا تجاوز الخطوط الحمراء" وأضاف: (فالقانون صيغ بأسلوب فضفاض بحيث يخوّل السلطات أن تفعل ما تريد).
وكان (نيوف) يشير إلى المرسوم رقم (50) الذي صدر عن الرئيس بشار الأسد في 22 أيلول 2001 في نفس الوقت الذي كانت فيه المخابرات تعتقل أبرز نشطاء حركة المجتمع المدني.
وقانون الصحافة الجديد الذي رحبت به السلطات معلنة أنه خطوة ليبرالية، يسمح بصحف خاصة ولكنه يعرّض كل ما ينشر إلى نظام قاس بحيث يعطي السلطات التحكم الكامل فيها، تحت التهديد بعقوبات تتراوح ما بين الغرامة والسجن لثلاث سنوات، ويمنع القانون نشر مقالات أو كتباً أو إصدار تقارير تبحث في الأمن الوطني، الوحدة الوطنية، تفصيلات عن الأمن وسلامة الجيش وتنقلاته وتسلحه وقيادته وذخيرته وآلياته ومعسكراته"."تفصيلات عن التجارب السرية، الكتب والمراسلات والمقالات والتقارير والصور والأخبار التي تؤثر على حقوق الحرمات خاصة وتفاصيل قضايا الطعن والتشهير والافتراء وتشويه السمعة".
والقانون (المرسوم) يشمل الناشرين والطابعين والموزعين وأصحاب المكاتب التي تبيع كل ما ينشر. ويمنع نشر الأكاذيب والتقارير (المفبركة)، ويقرر أن العقوبات القصوى يحب أن تطبق "إذا كانت هذه الأعمال (الأخطاء) قد (اقترفت) نتيجة سوء نية أو سببت اضطرابا عاماً أو أذى لعلاقات دولية أو إساءة لكرامة الدولة والوحدة الوطنية – القومية – أو معنويات الجيش والقوات المسلحة أو أذى للاقتصاد الوطني والنقد".
ويمنع المرسوم نشر دعايات ممولة مباشرة أو غير مباشرة من دول أجنبية أو شركات أجنبية أو مؤسسات أجنبية. وعلى كل الدوريات – بما في ذلك دوريات الأحزاب المشروعة - أن تحصل على رخصة لإصدارها من رئيس الوزراء، الذي قد يرفض طلب الرخصة لأسباب يقدرها هو نفسه أنها تضر بالصالح العام. والمطبوعات التي تدعو لتغيير الدستور بطرق غير دستورية ستغلق.
ويعرف (نيوف) جيداً، كيف يعمل النظام عندما يشعر أن أكاذيب قد نشرت. فهو صحافي من مدينة اللاذقية الساحلية الذي كان يراسل دوريات أردنية ولبنانية وفلسطينية. لقد أطلق سراحه في 6 أيار عام 2001 بعد تسع سنوات من السجن لأنه (نشر معلومات خاطئة، وكان عضواً في منظمة محظورة واستلم مالاً من الخارج). أما جرائمه الحقيقية فكانت في مساعدته على تأسيس لجنة للدفاع عن الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان وكان يحرر رسالة الأخبار الشهرية (صوت الديمقراطية). والذي أغضب السلطات بخاصة منشور من لجنة الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وُزّع في كانون الأول عام 1991 والذي انتقد بعض الأعمال الشاذة خلال إعادة انتخاب الرئيس حافظ الأسد (لسبع سنوات جديدة) للمرة الرابعة في أوائل ذلك الشهر. وكالمعتاد نال الرئيس 99% من أصوات الناخبين الذين كانت نسبتهم 99% ممن يحق له التصويت. ولقد اعتقل (نيوف) في كانون الثاني 1992 كجزء من حملة واسعة على لجنة الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الانسان، ومعه سبعة عشر آخرين من الناشطين في اللجنة وحوكموا أمام محكمة أمن الدولة العليا في شباط وآذار 1992 وحكم على (نيوف) بعشر سنوات سجن مع الأشغال الشاقة.
محنة نزار نيّوف
تعذّيب نزار نيوف كان فظيعاً خلال سجنه – ثم رفضوا المداواة الطبية لإصاباته. وكان تعذيبه بخاصة فيما يدعونه (الكرسي الألماني) وهو كرسي معدني تتحرك أجزاؤه بحيث يتمدد جسم المعذّب إلى أقصى حد بحيث يسبب ضغطاً هائلا على عموده الفقري وعنقه وأطرافه. وعندما أطلق سراحه لم يستطع السير إلا على عكازات. وبعد بضعة أسابيع في اجتماع لجنة الأمم المتحدة للحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية صرّح المندوب السوري "إن هناك عيادات ومستشفيات موجودة في السجون توفر لكل سجين العناية الصحية... مجاناً"
وان باستطاعة أي سجين زيارة الأخصائي إذا لزم الأمر وحتى يمكنه أن يعالج بعمليات جراحية مجاناً (2).
وخلال سجنه ربح نزار نيوف جائزة اليونيسكو لحرية الصحافة العالمية وجوائز أخرى محترمة. وجاء إطلاق سراحه بعد العديد من الاحتجاجات من لجان حقوق الإنسان والمنظمات الإعلامية في سائر أنحاء العالم والتي بلغت أوجها بتدخل البابا حنا بولس الثاني. فخلال زيارته التي رافقتها حملة "دعائية كبرى، إلى دمشق في أوائل أيار عام 2001 قدم للرئيس بشار الأسد طلباً بإطلاق سراح (نيوف) حمله من المنظمة الفرنسية مراسلون بلا حدود. وحسب قول (نيوف) في يوم 20 حزيران – اليوم السابق لمؤتمر صحفي كان سيعلن فيه فظاعات المخابرات الوحشية، أوقفه رجال أمن بثياب مدنية في دمشق وهو في طريقة للمعالجة الطبية.
"لقد حاولوا إغرائي وقاموا بتهديدي" هذا ما قاله (نيوف) لتلفزيون الجزيرة الفضائية "بدأوا أولا بإغرائي بعروض مالية هائلة إذا سكتّ عن كل ما أعرف. وعندما فشلوا توسلوا بالتهديدات". لقد أنذروه: "سنقطع لسانك ونقدمه للكلاب" (3).
وأصرت (سانا) – وكالة الأنباء السورية الرسمية – أن (نيوف) زيّف اعتقاله "ليبقى في محرق الانتباه وتحت الأضواء (4) وبدعوة من منظمة مراسلون بلا حدود، وصل نيوف لباريس في 15 تموز للعلاج في مستشفى (بتيه سلبتريير) وعقد، غير هيّاب، مؤتمراً صحفياً في اليوم التالي وأجرى سلسلة من المقابلات مفصلاً ما جرى له من تجارب. وللانتقام منه أصدرت السلطات السورية أوائل أيلول أمراً بالقبض عليه متهمةً إياه "بالسعي لتغيير الدستور بطرق غير مشروعه"، إصدار تقارير كاذبة من بلد أجنبي إثارة النعرات الطائفية". وقال لي (نيوف): أردت العودة إلى سورية" ولكن أصدقائي أوقفوني حتى أنهم أخفوا جواز سفري لمنعي من العودة"(5).
ومثل الكثير من قوانين – ومراسيم سورية، دُعم قانون الصحافة الجديد بتشريعات أخرى. فقانون الطوارئ عام 1963 جدول لائحة شاملة للإساءات "ضد أمن الدولة والنظام العام"، و"ضد السلطات العامة"، "وتعكير الثقة العامة"، "وكل ما يشكل خطراً عاماً" كل هذه يمكن تقديمها لتبرير قمع الكتاب والاصدارات. فالمرسوم رقم (6) لعام 1965 يحرم "الأعمال المعتبرة معاكسة لتطبيق النظام الاشتراكي في الدولة سواء جاءت بالأعمال أو بالأقوال أو بالكتابة أو بأي طريقة أخرى من التعبير والنشر". ونفس المرسوم يحرم كل "معارضة أو تعويق لأي من أهداف الثورة... بنشر معلومات غير صحيحة بنية إثارة الفوضى وهزّ ثقة (الجماهير) بأهداف الثورة".
ويبدو أن كل هذه (الممنوعات) غير معروفة لدى مندوبي سورية إلى لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة بجنيف، والتي كانت تدرس استجابة سورية – أو عدمها – للميثاق العالمي للحقوق المدنية والسياسية، والذي وقعت عليه سورية عام 1969 وأصبح شرعة مطبقة عالمياً – منذ عام 1976- ولقد طلب من دمشق أن تقدم تقريراً عن تطبيقه فيها عام 1984 ولكنها لم تفعل إلا عام 2000 بعد سبعة عشر عاماً من التأخير. وفي إجابته على أسئلة في التقرير أجاب عبود السراج عميد كلية الحقوق في جامعة دمشق و أكد أن: "الضمير هو القيد الوحيد على حرية التعبير في سورية، ولم توضع قيود على الصحفيين حتى خلال حالة الطوارئ (والتي هي مستمرة منذ العام 1963). هذا ما قاله للجنة حقوق الانسان في الامم المتحدة، بجنيف، وأضاف عن حسن التدبير إن للاذاعة والتلفزيون كامل الحرية في التعبير" (6).
وفي مقدمة دستور عام 1973 كُتب: "الحرية هي حق مقدس، بينما دستور حزب البعث نفسه، وتاريخه عام 1947 يؤكد " إن حرية القول والاجتماع والمعتقد والعلم هي مقدسة ولا يمكن لأي حكومة أن تحد منها". ولكن في مكان آخر وبأمانة أكثر – ولو أن فيها تهديداً – يؤكد بند آخر من دستور حزب البعث "الدولة مسؤولة عن حماية حرية التعبير والنشر والاجتماع والاحتجاج والصحافة "ضمن حدود المصلحة العليا للشعب العربي". ومن وجهة نظر النظام الحاكم – كل هذا فيه بعض المعنى. إذا كان حزب البعث في الحكم وهو يمثل كل الشعب وهو تجسيد للعروبة وللمصلحة العليا للأمة فمن البيّن إذن أنه يجب أن يكون فوق أي نقد، ولا يمكن أن يصدر هذا النقد – تحديداً إلا عن خونة لا يستحقون الحريات العادية.
أجهزة الإعلام خلال حكم البعث
منذ الاستقلال عام 1946 وحتى الانقلاب البعثي في آذار عام 1963 تمتعت سورية بأجهزة إعلام حيوية رغم أنها مرت تحت رقابة بعض الانقلابات العسكرية وخلال فترة الوحدة مع مصر /1958-1961/. والعنوان الوحيد الذي عاش حتى اليوم هو (البعث) الجريدة اليومية الرسمية لحزب البعث التي تأسست /1946/. وبعد استيلائهم على السلطة عام 1963 أغلق الحزب كل الصحف المستقلة. وبجانب (البعث) اليومية الوطنية الوحيدة في السنوات الأولى لحكم البعث، ظهرت يومية (الثورة) التي صدرت عن دار الوحدة التي تملكها الدولة. ولقد ظهرت الجريدة للمرة الأولى عام 1958 تحت اسم (الوحدة). وفي منتصف عام 1963 تحولت دار الوحدة إلى وزارة الإعلام وعادت جريدة الثورة لتحل محل (الوحدة). وكان من أهدافها نشر وتعزيز الوعي القومي الاشتراكي بين الجماهير في كل البلاد العربية.
واليوم لمؤسسة الوحدة مكتب في بناية كالحة على مفرق عريض في (كفرسوسة) في قضاء دمشق قريب من مديرية المخابرات العامة المخيفة، وتصدر أيضا جريدة (الجماهير العربية) لمدينة حلب وجريدة (الوحدة) لمدينة اللاذقية وجريدة (العروبة) لمدينة حمص وجريدة (الفداء) لمدينة حماه.
بالإضافة لذلك تصدر مؤسسة الوحدة ملحقاً ثقافياً لجريدة (الثورة) كل أسبوع وتصدر الدورية الأسبوعية الرياضية (الموقف الرياضي). ويعمل في مؤسسة الوحدة (1200) شخص أربعمئة منهم صحفيون ومن بينهم 250 إلى 300 يعملون في جريدة الثورة وعام 1975 أضيفت إلى جريدة (البعث)و (الثورة) جريدة (تشرين) – بعد حرب تشرين عام 1973، وهي تصدر عن منظمة تشرين الرسمية للصحافة والنشر التي أنشئت بمرسوم رئاسي عام 1975 للحاجة الملحة العاجلة للنضال ضد الأمبريالية والصهيونية.
وفي أواسط عام 2000 كانت تطبع 60 ألف نسخة(7). وصدر عن منظمة تشرين للصحافة والنشر اليومية الوحيدة باللغة الأجنبية Syria times وتطبع يومياً خمسة آلاف نسخة (8).
وهذه المطبوعات تغطي نفس الحكايات التي تتركز حول كلمات ونشاطات الرئيس وبعض القياديين في النظام الحاكم.
وأهم المواضيع الأجنبية، ولسنوات طويلة، كان الصراع العربي الاسرائيلي، والاتساق والتماثل يعكس الاعتماد الشديد لكل هذه الصحف والمجلات الرسمية على وكالة الأنباء السورية – سانا – وتأسست هذه الوكالة عام 1965 في حزيران وبها الآن 370 موظفا منهم مئتان من الصحفيين ولها مكاتب في الخارج في سِتّ عشرة (16) مدينة. ول (سانا) موقع على الانترنت ويجزم أن الوكالة "تغطي بدقة الأخبار المحلية والعربية والدولية من مصادرها المختلفة بطريقة متوازنه، موضوعية وأخلاقية". وهذا ادعاء شائن عما هو في الواقع منظمة دعائية مكلفة بالتغني بمدح النظام. والإذاعة السورية التي تضبطها الدولة وتراقبها المديرية العامة للإذاعة والتلفزيون ليست أقل دعاية للنظام وينظر إليها المواطنون السوريون العاديون بازدراء. وهم يعتمدون على الإذاعات والتلفزيونات الخارجية. (راجع لاحقاً).
رغم شبكة الممنوعات التي تتبادل الدعم ورغم الجهود الحثيثة للمخابرات، لدى سورية تقليد تاريخي طويل في المنشورات السرية. فالمنشورات التحريضية مستمرة في سريانها بسريةٍ من يد إلى أخرى كصدى للمنشورات في الكتلة السوفيتية القديمة (سامزدات) وأحسن مثل على ذلك (الرأي) هي جريدة الحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي الفرع الذي يرأسه رياض الترك الذي انفصل عن الحزب الشيوعي السوري عام 1972 عندما قرر الأخير الانضمام إلى حافظ الأسد في الجبهة الوطنية التقدمية. ورغم أن الأكراد يمثلون 9% من سكان سورية كل إصدار أو إذاعة باللغة الكردية ممنوع _ قانونا_، ولكن ذلك لم يمنع من توزيع منشورات كردية.
وكل أجهزة الإعلام في سورية هي تحت رقابة وزارة الإعلام، فالوزير مثلا هو رئيس مؤسسة تشرين ووكالة سانا. وفي ميدان الإنتاج المسرحي من أفلام وكتب فلدى وزارة الثقافة والتوجيه القومي نفس الدور كناشرة وكمراقبة مثل وزارة الإعلام في الميدان الإعلامي. والوزارتان وبخاصة وزارة الإعلام، مراقبتان من قبل الرئاسة (لأن سياسات الإعلام هي جزء من اهتمامات الرئيس الأساسية"(9).
الرقابة الذاتية لدى الصحفيين
في سورية الصحفيون على شاكلة نزار نيوف هم الاستثناء فالغالبية العظمى منهم ينتبهون فلا يتعدون "الخطوط الحمراء". وأجهزة الإعلام كلها تقريباً ملك للدولة وصحفيّوها بالتالي هم موظفون لدى الدولة. ويكرهون المجازفة بخسارة وظيفتهم أو الضرر بمهنتهم، فيفضلون هكذا القيام بالرقابة الذاتية لأنفسهم وبالتالي لكل نشاطاتهم الإعلامية. وفي المنظمة المحترمة ضد الرقابة يذكر البند (19): "حتى الصحفيون العاملون في الدولة يزنون كل كلمة بعناية قبل أن يقدموا مقالاتهم، وحتى بعد ذلك يتخذون احتياطاً إضافياً باستشارة الأصدقاء المقربين أو أحد أفراد العائلة أيضاً"(10). ولاحظت لجنة مراقبة حقوق الانسان أنه "ليس من المتوقع من الصحفي السوري ببساطة، أن يكون له رأي شخصي" (11)
ولقد أوضح هذه النقطة بدقة فؤاد مردود رئيس تحرير (سيريا تايمز) ولو عن غير قصد حين سألته هل حدث أبداً أن قام أي من كتّاب – في الجريدة – بمهاجمة النظام، "لا أتصور أن يكون في سورية أي شخص يريد مهاجمة سياستنا" هذا ما أجابني، وأضاف "يمكنك أن تجد أناساً لهم أسباب شخصية قد يهاجمون النظام ولكن فقط من أجل الوصول إلى أهدافهم الشخصية" (12). وأكد لي محمد خير الوادي، رئيس تحرير جريدة (تشرين) آنذاك أن جريدته تدعم النظام بقوة".نحن لا ندعو إلى تغيير النظام" (13). وأضاف أن من أهداف (تشرين): "تفسير السياسة السورية، وإيجاد وحدة داخل سورية... ومع الدول العربية ومواجهة سياسة إسرائيل العدوانية وتشجيع عملية السلام، وألح مع ذلك أن واجب جريدته أيضاً مراقبة المؤسسات الحكومية في سورية وانتقاد أي أمر خاطئ فيها".
وفي كانون الثاني عام 2000 تمكن عضو البرلمان المستقيل رياض سيف، والذي سجن فيما بعد لنشاطه في حركة المجتمع المدني، من نشر رسالة في جريدة تشرين واصفاً القطاع الخاص بأنه "خائف ومرتبك ومقيد وغير قادر على إنجاز دوره في عملية التنمية". بسبب عدم ملاءمة النظام القضائي وغياب إطار الاستثمار الصحيح.
وذكر أن نظام البنوك – المصارف المملوكة للدولة غير قادر على دعم التجارة، وتحولت البنوك إلى"قناة لتوفير القروض لمن لا يستحقها" (14). ومثل هذه الانتقادات في ميدان الاقتصاد والمال سمح بها فقط أواخر الثمانينات – من القرن الماضي– عندما بدأت سورية حملة الانفتاح الاقتصادي الأخير. قبل ذلك التاريخ لاحظ (فولكر برتيس) أن كلمة رجل الأعمال لم تكن مستعملة في أجهزة الإعلام ولم يكن من النادر الحديث عن البورجوازية الطفيلية".وقليلا ما كانت تذكر كلمة البرجوازية بمعنى إيجابي. ولكن عام 1988 بدأت صحف سورية باستعمال كلمة (رجل الأعمال) في إطار إيجابي. وفي عام 1990 بدأت مقابلات رجال الأعمال وأحياناًَ طباعة صورهم" (15).
وفي بداية عام 2000 عندما بدأ الجو السياسي بالتحسن (راجع الفصل الثاني)، توسعت حدود النقد ووصلت ميدان السياسة رغم قصر الطريق، حتى كان من الممكن ذكر إساءات المخابرات كما قال (الوادي) وهو يشير إلى صفحة كاملة نشرها في ربيع عام 2000 عن حادثة في مدينة حلب حيث أوقف ضباط الأمن رجلا وظلوا يضربونه حتى مات".لقد انتقدنا هذا فاستجابت الحكومة" كما قال (الوادي)".وأوقف كل المسؤولين عنها".
وفي أول تموز 2000 بعد أقل من شهر من موت حافظ الأسد وقبل أن يستلم بشار رسمياً مكتبة الرئاسي نشرت (تشرين) كلمة (مشفرة) بعناية داعية لمزيد من الديمقراطية. ففي الزاوية العليا من الصفحة الأخيرة ذلك اليوم ظهر رأي في كلمة قصيرة عن الديمقراطية ل (وليد معماري)، ذكر فيها مثلاً –نظرياً- افتراضياً- عن مدير مدرسة تسلم كل المسؤوليات فيها "بينما من الأفضل أن يشرك معه محاسباً إدارياً ويأخذ قراراته بالأغلبية". وذكر الكاتب قبلاً أنه يمكن تطبيق الديمقراطية من "أدنى وحدة في المجتمع – العائلة – إلى أعلاها". وأن مثل مدير المدرسة "يمكن تطبيقه في أي شركة أو مؤسسة".
يعرف المحررون في سورية حدودهم، وإذا حدث أي نقد معين لسوء إدارة أو لفساد فلأن المسؤولين عن النظام الحاكم سمحوا به. أما نقد الرئاسة أو أسس النظام فممنوع (تابو) ويعلم الشعب في سورية أن الفساد وسوء الإدارة أمران مستوطنان في النظام – الحاكم – ولا يحمل الشعب على محمل الجد عرض أجهزة الإعلام لسوء سلوك بعض صغار الموظفين. وكما ذكر البند (19) في منظمة ضد الرقابة: " إن توبيخ موظفين حكوميين بسطاء في أعمدة الصحف من أجل إهمال أو ضياع ما هم إلا (كبش محرقة) لأنهم لا يتصرفون من عندهم بل يتبعون بكل بساطة أوامر يصدرها رؤساء من قوى الأمن وحزب البعث (16).
وهذا الموضوع بالذات وضّحه جيداً (هانز غونتر لوبماير): كل من يجرأ أن ينسب مسؤولية قضايا الفساد الكبرى في نظام الأسد أو حتى يوحي باشتراك مسؤولين كبار فيها يتوقع أن تستدعيه المخابرات. والأمر نفسه بالنسبة لنقد سياسات داخلية أو خارجية، أو ذكر أجهزة الأمن أو سيطرة العلويين على مراكز القوى، أو الخرق الدائم لحقوق الانسان، ناهيك عن وجود الأسد في السلطة، كل هذه المواضيع ممنوعة بشدة من التداول في المناقشات العامة(17).
وكما هو متوقع في مثل هذا السياق، ما يطبع في الصحف والمجلات هو دائما من النوع الخفيف اللطيف".دعم الشعب لترشيح الأسد للرئاسة لا حدود له". هذا عنوان مواضيع الصفحة الأولى في جريدة Syria Times في العاشر من شباط 1999. ولقد تبين أن وزير الإدارة المحلية آنذاك (يحي أبو عسلي) أكد أن ترشيح الرئيس الأسد لفترة رئاسية دستورية جديدة يؤكد دعم الشعب السوري لقيادة الأسد الشجاعة والحكيمة واستعداده الدائم للتضحية من أجل تعزيز صمود سورية".
وفي 26 تشرين الثاني سنة 2001 كان المقال الرئيسي لنفس الجريدة "العرفان، برقيات التقدير للرئيس" وكشفت هذه أن بشار الأسد "تسلم برقية تحية وتقدير أرسلها سكرتير الحزب الشيوعي السوري بمناسبة عقده للمؤتمر التاسع للحزب". وأضافت الجريدة أن البرقية "قدمت التحيات الخالصة والتقدير للدور الكبير الذي يلعبه في رفع مكانة سورية في المحيطين العربي والعالمي. وعبرت عن عزم الشيوعيين السوريين الاستمرار في بذل الجهود للوصول لتحقيق مصالح الشعب في سورية والشعب العربي والسلام العالمي". أما جريدة تشرين في أول تموز 2000 فأتْحفتْ قراءها بعنوان على الصفحة الثالثة أن "الجنرال بشار الأسد هو المستقبل اللامع وانتخابه هو استمرار لسيرة الزعيم الراحل". وفي نفس اليوم، تسعة أيام قبل الاستفتاء الذي يثبت فيه بشار الأسد كرئيس للبلاد حملت جريدة الثورة في صفحتها الثالثة رواية عنوانها: " نعم لنادي الأسود. وذرية عائلة النضال والكرامة والعروبة".
بعض الأحيان يرتكب رؤساء تحرير الصحف أخطاء من النوع التراجيدي – الكوميدي رغم جهودهم الطيبة. للتناغم مع طلبات النظام. حُقق مع أحد رؤساء التحرير بعدما نشر صورة لحافظ الأسد يبدو فيها قصيراً منتفخ البطن، مع أن الصورة جاءت من المكتب الصحفي للرئيس (18). شيء آخر أكثر سخفاً، استهدفت رئيس تحرير آخر بسبب خطأ مطبعي. كان يريد وصف حافظ الأسد (بطل) ولكن تبدل حرفين من الكلمة عن موضعهما جعل القائد السوري يحمل لقب (طبل) أي (أبله) أو (كيس هواء بالاستعمال العامي). وكان أن استجوبت مخابرات سلاح الطيران رئيس التحرير المسكين لمدة اسبوع كامل (19).
بشار والصحافة
في الشهور القليلة التي سبقت وفاة حافظ الأسد في حزيران سنة 2000 توسعت بصورة واضحة مساحة مناقشة السياسة الاقتصادية في أجهزة الإعلام له وشجعت النقاشات الحذرة في المواضيع السياسية. وبعد خلافة بشار للرئاسة في تموز 2000 توسع النقاش أكثر ليشمل حركة المجتمع المدني والمواضيع المتعلقة بها كالديمقراطية وحقوق الإنسان. وفي خطابه الافتتاحي للبرلمان في 17 تموز 2000 أكد بشار أنه يجب إصلاح وتحديث المؤسسات: التعليم، والتربية – والثقافة والإعلام مع الاشتراط الشديد أن العمل هذا "يجب أن يكون لخدمة مواضيعنا الوطنية والوحدة العربية ويقوي تراثنا الأصيل ويستبعد ذهنية الإنطواء والسلبية ويعالج المشاكل الاجتماعية التي تؤثر سلباً على وحدة وأمن المجتمع".
وبعد استلامه الرئاسة بقليل ركز على رغبته في التغيير وبدّل مدراء الإذاعة والتلفزيون ومدراء تحرير الصحف اليومية الحكومية الثلاث: الثورة والبعث وتشرين. وعين رئيس تحرير (تشرين) السابق محمد خير الوادي سفيراً في الصين أما رئيس تحرير (البعث) السابق تركي صقر فعين سفيرا في إيران. وتقاعد عميد خوري رئيس التحرير الأسبق لتشرين.
وفي ذات الوقت اتخذت الخطوات الأولية لتوسيع الإعلام الصحفي وظهرت أول أسبوعية مستقلة: (الدومري) وكذلك المجلة الاقتصادية الأولى في شباط والثانية في حزيران من عام 2001. وفي أوائل كانون الأول من ذلك العام كان هناك أربعة عشر طلباً لإصدار مجلات مستقلة ومن ضمنها نشرتان سياسيتان، (القبس) و(الشام) كذلك قدم طلب رخصة لإنشاء محطة تلفزيونية فضائية للإرسال عبر القمر الاصطناعي (20).
وفي كانون الثاني وافقت الحكومة على قيام محطات إذاعة مستقلة بشرط ألا يسمح لها بإذاعة الأخبار أو المواضيع السياسية.
وفي تشرين الثاني عام 2000 قرر حزب البعث السماح لستة أحزاب أعضاء في الجبهة الوطنية التقدمية بإصدار صحفها الخاصة بها وتوزيعها. وفي السابق لم يسمح لها بتوزيع صحفها في المكاتب العامة بل على أعضاء الحزب والقريبين منهم – بصورة محدودة – وكانت أولى المجلات الحزبية التي ظهرت في الأسواق في كانون الثاني عام 2001 صوت الشعب وهي لسان حال الحزب الشيوعي السوري الذي ترأسه (وصال فرحة بكداش) وكانت دورية نصف شهرية. وفي شباط ظهرت أسبوعية (الوحدوي) لصفوان قدسي رئيس تنظيم الاتحاد العربي الاشتراكي. في أيار بدأ جناح يوسف فيصل للحزب الشيوعي السوري بإصدار مجلة (النور) ثم تبعها (العربي الاشتراكي) شهرية مجموعة مصطفى حمدون.
وكانت طبعة مجلة النور نموذجا للمجلات الجديدة. فمع تقارير عن الانتفاضة الفلسطينية كان هناك استعراض للفقر في بعض نواحي دمشق، ومقال ثالث يناقش أوضاع الاقتصاد الوطني معلناً: "إن علينا الاعتراف بأن السياسة الحالية لاقتصاد الدولة مسؤولة عما – حل – بالاقتصاد". وقياساً على الماضي كان الموضوع جريئاً حقاً.
الدومري
في 28 شباط 2001 ظهرت مجلة (الدومري) وهي أول صحيفة مستقلة منذ انقلاب البعث عام 1963 فكانت معلماً هاماً. وكان يملكها على فرزات أحد أبرز رسامي الكاريكاتور في العالم العربي. وكانت المجلة الساخرة ابتداءً ناجحة جداً رغم سعرها العالي25- ليرة سورية أي أكثر بخمسة أضعاف من سعر الصحف اليومية الأربع. وصدر منها طبعتان في عددها الأول (75000 نسخة كل طبعة)، هذا ما قاله فرزات في نيسان 2001. وأضاف ولكننا لم نوزع إلا (75000) نسخة بسبب الطباعة والأخطاء الأخرى لذا حددنا العدد ب- (75000) نسخة فقط.
والمجلة مشكّلة من أكثر من عشرين صفحة من الورق العريض مملوءة بالصور الكاريكاتورية ولها مكتب في شقة متواضعة خلف عيادة طبيب في شارع باكستان في ناحية (السبع بحرات). قرب الجدار القديم للمدينة في الشمال الشرقي لدمشق. وبقي عدنان فرزات أخو علي رئيساً لتحريرها إلى أن عاد إلى عمله في الخليج، وكان يرأس فريقا من عشرين صحافيا بالإضافة إلى عشرة موظفين مساعدين وإداريين".أتتني فكرة إصدار مجلة قبل عشر سنوات والآن التغيرات الجديدة ساعدت في تحقيق الفكرة". هذا ما قاله لي على فرزات. شخصية لطيفة ملتحية من مدينة حماه في وسط سورية، يعبق حماسه. وفسر لي أنه يعني ب (التغيرات) إمكانية أكبر للتعبير.
وتلاحق الدومري سوء الادارة وعدم الكفاءة والضياع. والمثل على ذلك حكاية في 30 نيسان 2001 عن الأوضاع في سجن عدرا السجن المدني في دوما بضاحية دمشق".لقد جعلوه سجناً بخمسة نجوم لأنهم علموا بزيارتنا له. وكان عنوان (المانشيت) المدوى: "وجدنا في الداخل سجناً واحداً للفقراء وآخر للأغنياء"، هذا ما قاله لي علي "وكلما دفعت أكثر تزداد إقامتك فيه راحة" وفي نفس العدد قصة عن الانحراف الجنسي بالتحرش بالأطفال في سورية – والموضوع ممنوع ومحرم في الصحافة العادية "الأطفال في أشداق الذئاب البشرية" كان عنوان المقال: وناقش المقال الموضوع وأشار إلى أن المنحرفين من البالغين الذين يلاحقون الأطفال جنسياً هم مرضى ويحتاجون العلاج وأكد أن المؤسسات الأكاديمية تعرقل دراسة المشكلة.
ومن المؤكد أنه كان لمجلة (الدومري) تأثير، وكان بعض الوزراء والنواب يزورون بصورة دورية مكتب المجلة للشكوى "هذا أمر يسرني ولكن المكتب مع الأسف ليس واسعاً بما يكفي ليستوعبهم جميعاً. قال هذا فرزات مبتسماً. ولكن (الدومري) مع ذلك، كانت حريصة ألا تتعدى الخطوط الحمراء للصحافة السورية. ولقد انتقد نشطاء حركة المجتمع المدني المجلة لتركيزها على الأعراض وتجاهلها للمرض المسبب لهذه الأعراض وادعوا أن ذلك هو سبب التراجع المستمر في مبيعاتها وتوزيعها. من هذه الوجهة لا يتحمس فرزات كثيراً لنشطاء المجتمع المدني ويثير حججاً معروفة في غاية الكآبة بعيدة جداً عن روح البلد وروح الشعب". هذا ما قاله لي فرزات عنهم. إنهم يذهبون بعيداً جداً بسرعة كبيرة جداً وأضاف تريدون وضع العربة قبل الحصان وليس بعده"".نحن نعتقد بتنمية وتطوير المؤسسات القائمة من أجل تنمية المجتمع المدني وليس العكس".
وتابع قائلاًَ: الناشطون يريدون التغيير السريع "لأن هدفهم ليس المجتمع المدني ولكن المراكز السياسية" وألـحّ فرزات "أنا لا أعمل في السياسة. أنا أعمل حسب أحاسيس الناس – الإحساس بالانتماء للوطن، خارج الإطار الإيديولوجي".
إذ كانت (الدومري) تريد ترك النظام السوري ولا تتحرش فيه فالنية لم تكن متبادلة. ابتداءً كانت المجلة تباع وتوزع بطرقها الخاصة. ولكن بعد العدد العاشر ألحت السلطات على أن تصدر المجلة عن طريق مؤسسة الدولة للطباعة والنشر والتوزيع وأن الإعلانات فيها يجب أن ترتب عن طريق شركة الدعاية والإعلان المؤممة والتي تأخذ 27،5% من مداخيل الإعلانات".لقد (لخبطوا) توزيعنا" هذا ما شكى منه فرزات أواخر عام 2001 "لقد سمعنا أن بعض أعداد المجلة لم تصل إلى الكثير من مراكز البيع" إنهم مهملون"(22).
ورغم حذر (فرزات) فقد شعرت (الدومري) بمقصّ الرقيب. ففي 17 حزيران عام 2001 صدرت المجلة وبها صفحتان كاملتان بدون أي كلمة باستثناء الصور الكاريكاتورية كان فيهما مقال ينتقد إنجازات الحكومة وآخر عن تعديل وزاري وشيك. وتأذى رئيس الوزراء محمد ميرو من المجلة وأمر بحذف المقالين، ودعمه في ذلك وزير الإعلام عدنان عمران. والأمر بالحذف وصل بعدما بدؤوا بطبع المجلة. ولم يستطع المسؤولون في المجلة توزيع آلآلاف النسخ التي طبعت قبل ذلك وسبّب هذا الأمر خسارة للمجلة بقيمة أربعة آلاف دولار. ومن السخرية أن المقالين اللذين لم يوقع عليهما كانا من تأليف أيمن عبد النور، أحد أقرب المستشارين للرئيس الأسد.
وفي النصف الثاني من عام 2001 أصيبت المجلة بخضة جديدة حين استقال عدد من أعضاء التحرير بما فيهم رئيس التحرير عدنان فرزات. وكان هناك تذمر من أن (الدومري) خسرت تأثيرها الفاعل في أوائل أيام ظهورها وهي الآن تكتب النقد الهاجي في سبيل الهجاء فقط. ومن المؤكد أنها خسرت طرافتها وجدتها بمرور الأيام. وفي نهاية العام انخفض التوزيع إلى حوالي 15000. وفي 22 كانون الثاني 2002 بعد أقل من عام على ظهورها أعلن على فرزات إيقافها، مدعيا أن فرض إخراجها من مؤسسة الدولة والأسلوب غير الفاعل في توزيعها عن طريق الدولة والإعلان بواسطة شركة الإعلان الرسمية أدت إلى خسائر لا يمكن تحملها. ودام إيقافها لثلاثة أسابيع فقط إلا أن ذلك عكس إلى أيّ مدى من الذبول وصلت الأحلام الأولية.
الثورة
رغم اعتمادها على أنها عماد للنظام في الدولة لا تفصل بين النظام والإعلام، كانت جريدة الثورة منبراً هاماً لحركة المجتمع المدني. من النظرة الأولى الراحل محمود سلامة الذي عين رئيسا للتحرير (الثورة) بعد أسابيع فقط من استلام بشار للرئاسة، كان الاختيار غير المتوقع لمثل هذا المنصب الحساس.
ورغم أنه ألف ثلاث روايات وأنه عضو سابق في البرلمان قضى محمود سلامة أغلب أيامه في الاتحاد العمالي، مترقيا ليصل إلى أعلى هرمه تقريباً كسكرتير للشؤون الاقتصادية في الاتحاد العام، ثم أنتقل ليصبح أميناً عاماً للجنة شكلت كمستشاريه للرئيس حافظ الأسد للإصلاح الإداري والاقتصادي. لم يكن صحفياً بل ولم يكن عضواًَ في حزب البعث".كنت عضواً في الحركة الناصرية" هكذا قال لي وأضاف "أما الآن فأنا مستقل".
وعند استلامه رئاسة التحرير اتصل بأبرز قياديي حركة المجتمع المدني التي كانت تنمو
باستمرار وعرض عليهم أن ينشر لهم المقالات. فكتب ميشيل كيلو، مثلا مقالا في صفحتين
بالثورة، ونشر عارف دليله سلسلة مقالات في الجريدة". جريدتنا هي الوحيدة التي فتحت
صفحاتها لحوار عن المجتمع المدني" قالها سلامة لي بافتخار ظاهر".وأسهم في النقاشات
الحامية عن المجتمع المدني واحتمال تنميته: سوريون ولبنانيون ومغاربة".
ومثل بقية اليوميات السورية كانت (الثورة) تشير إلى حوادث معينة من سوء الإدارة
والارتكابات".عندنا صفحة يوميا عنوانها: (رقابة الرأي العام)"، وضح لي ذلك سلامة
وأضاف "نحن نستلم شكاوى وننشرها وبالمقابل ننشر الردود الرسمية نحن لسنا قضاة ولا
مراقبين" ولكن مثل بقية رؤساء التحرير السوريين فهم سلامة أن هناك حدوداً".نحن لا
نقبل كل ما يردنا للنشر، هناك ميادين ثلاثة يجب عدم الخوض فيها: أسس النظام
السياسي، والوحدة الوطنية، والأمن الوطني وباستثناء هذه المواضيع كل شيء آخر مسموح
به".
إلى أي حد يراقب وزير الاعلام افتتاحيّات رئيس تحرير الثورة؟
"إنها علاقة تنسيق ورقابة سياسية نناقش الأمور الاستراتيجية مع الوزير ولكن عملنا اليومي مستقل". أحيانا تختلف الاراء بصورة حادة.
"التغيير لم يبدأ بعد، أو إذا بدأ فهي بداية ضعيفة بحيث لا يستطيع حماية بعض الداعمين في الحزب وفي الحكومة".
ومات محمود سلامة من أسباب طبيعية بعد وقت قليل من إزاحته عن رئاسة تحرير (الثورة). وفي ظل رئيس تحريرها الجديد خلف الجراد عادت الجريدة إلى بضاعتها القديمة والتي وصفها(جويل كمبانيا) المنسق الاعلى في الشرق الاوسط وشمال افريقيا، للجنة حماية الصحفيين المقيمة في الولايات المتحدة كالتالي: " تغطية مزيفة لنشاطات (الرئيس) _ روايات مُخدّره عن أعمال وزراء الحكومة ونقد –صوتي-صاخب لإسرائيل".
الثورة التقنية
مجيء الفضائيات التلفزيونية (والانترنت) كان كابوسا مزعجا للنظم الاستبدادية مثل نظام سورية.ولكن منع الصحون اللاقطة وضبط الدخول إلى (الانترنت) من القوانين الصعبة التطبيق إلى حد كريه. إلا أن الموضوع الحقيقي هو الضبط ذاته أكثر مما هو منع وصول الأخبار السلبية إلى الجمهور. فسورية هي بلد صغير نسبيا – وبها عائلات كبيرة العدد وليس هناك شيء هام يمكن تحاشي انتشاره والتعليق عليه. ورغم الرقيب والبوليس السري السوريون يعلمون جيداً كل ما يجري في الأمور الداخلية ويستطيعون الاعتماد على الإذاعات الأجنبية لمعرفة الشؤون العالمية. ففي أواسط عقد التسعينات كان ثلثا المستمعين كل أسبوع للإذاعة هم من مستمعي الإذاعات الأجنبية – أكثر بكثير ممن يستمعون لإذاعة الدولة المحلية.(26)
وإلحاح النظام العنيد على رقابة مصادر الأخبار الداخلية هو في الحقيقة مماثل تماماً لمتطلبات 99،9نسبة الموافقة على الاستفتاءات الرئاسية والإخراج الذي يصاحبها في مسرحية تسيير مظاهرات الشوارع (لجماهير الشعب)، لا يُخدع أحد في سورية، أو أي مكان آخر بذلك. والمهم فعلاً في هذه الأشياء المضحكة المنافية للعقل، ما هي إلاّ تعبير عن قوة النظام.
بعد هذا التوضيح، اذكر أنه خلال سنوات لم يحصل إلا محاولات متقطعة ونصف جدية للتشويش على المحطات الإذاعية الأجنبية. ولم يحصل أي منها بعد استلام بشار للسلطة. فالفضائيات العربية – وأبرزها تلفزيون الجزيرة في قطر المعروف بموضوعيته في تغطيته للأحداث الجارية – أصبح المصدر الرئيس للأخبار بالنسبة للسوريين. وبينما تجاهلت أجهزة الإعلام الرسمية إلى حد كبير حركة المجتمع المدني في فترة 2000-2001 نقلت الجزيرة تقارير وأنباء واسعة لا شك أنها أسهمت في انتشار الحركة من دمشق إلى باقي سورية. ابتداءً، فيما انتشرت المحطات الفضائية في كل أنحاء العالم حاولت السلطات إقناع الناس بعدم تركيب الصحون اللاقطة، وفي تشرين الثاني 1994 مثلا حذر رئيس الوزراء آنذاك محمود الزعبي انه "لا مستقبل" لمن يقومون بهذا العمل (27) ولم يكن هذا مفاجئاً، في دولة هاجسها ضبط المعلومات والتي أصدرت مرسوماً بمنع استيراد الآلات (الفاكس) ولم يرفع المنع إلا عام 1993، ورغم الشكوك الرسمية، على الأقل ثلث سكان سورية يستطيعون الآن متابعة المحطات الفضائية التلفزيونية رغم ان استيراد الصحون اللاقطة لم يسمح به رسمياً إلا في تموز 2000. وفي المقابلة الصحفية لبشار الأسد مع صحيفة (الشرق الأوسط) الصادرة في لندن، أكد أن وجود إعلام مفتوح (مثل الفضائيات) لا يعني أن الأمور خارجة عن ضبط وزارة الإعلام لها بل على العكس هي إثبات واضح أن الدولة تريد إعلام المواطنين". وفسر متابعاً لو لم تكن الدولة متسامحة "لمنعت كل هذه الصحون اللاقطة وهذا ليس صعبا على الدولة القيام به – إذ شاءت – "؛ والتفسير الحقيقي قد يكون أقل ابتذالا، رغم أنه ليس غريباً في نظام مُخْترقٍ كله بالفساد. والمادة (19) للجنة مقاومة الرقابة لاحظت أن السلطات قبلت بانتشار هذه الصحون اللاقطة "لأسباب يفترض الناس أنها للأرباح التي جناها أفراد على صلة قوية بالسلطات، من بيع هذه الصحون اللاقطة". (28)
وهاجس الضبط لدى النظام أبطأ تنمية (الانترنت) وخدمات المواصلات بعامة. ولقد بدأت مؤسسة اللاسلكي السورية الرسمية مشروعاً نموذجياً في أوائل عام 1997 محدود بمئة وخمسين مشتركا من الوزارات والمؤسسات الحكومية الأخرى، يتبع ذلك مشروع وسيط سمح باشتراك رجال أعمال من القطاعين العام والخاص وبعض المهنيين كالأطباء والمهندسين. ولقد بدا العمل به عام 1998 وأنجز المشروع بعد عام واحد. ومنذ أواسط عام 2000 استطاع عامة الناس الاشتراك فيه عن طريق مقاهي الانترنت فقط.
وأول هذه المقاهي افتتح في (المهاجرين) على سفوح جبل قاسيون الجبل الذي يهيمن على منطقة العاصمة السورية. وفي شارع ناصر قرب المحطة القديمة الرثة لخط حديد الحجاز، الخط الذي لم يستعد نشاطه أبداً بعد استيلاء (ت إ لورنس) عليه في الحرب العالمية الأولى وفي مكتبة الأسد الوطنية، وفي البناية التي تشبه التحصينات لوزارة الثقافة الضخمة المطلة على ساحة الأمويين وهي المسماة نسبة لأول سلالة حكمت من دمشق (الأمويين)، وفي رئاسة الادارة السورية لمؤسسة اللاسلكي، وفي قاعتي الترانزيت والوصول في مطار دمشق الدولي.
"عندنا الآن (5000) انترنت و EMAIL هذا ما صرح به (غطفان قنديل) مدير الجهاز في البرنامج النموذجي للانترنت، في أواسط عام 2000 وأضاف " الطلب قوي جداً جداً" (29). واستعمال (كلمة السر) أو (كلمة المرور) يعني أن عدد الذين يستعملون الانترنت يزيد بكثير عن عدد المشتركين. وتقديراتنا هي (20000)عشرين ألفا عام 2000(30). وافتتحت إدارة اللاسلكي السورية مقاهي للأنترنت في حلب ومدن سورية أخرى ولكن انتشار مقاهي الأنترنت غير الرسمية كان أسرع بكثير من المقاهي الرسمية.
وفي عام 2002 أعلن وزير المواصلات محمد بشير المنجد عن خطط للترخيص لكل المقاهي غير الرسمية. وبعد استلام بشار الأسد للسلطة (وكان رئيسا سابقا للجمعية السورية للحاسوب) أعلن انه سيكون هناك (200000) مشترك جديد في الانترنت في عام 2001 وتفرض مؤسسة اللاسلكي السورية اشتراكاً مبدئياً (5000) ليرة سورية (100 دولار أميركي) واشتراكا شهرياً ب (1000) ليرة سورية (20 دولار) وضريبة الوصل (ليرة سورية واحدةِ) للدقيقة (0.02$us) وهذه أكثر بكثير مما تستطيع تأمينه غالبية السوريين. وفي أواسط عام 2002 بدأ مشروع توفير الوصول إلى الانترنت في الأرياف بواسطة باصات خاصة مزودة بالمعدات الخاصة واحد لكل محافظة من المحافظات الأربع عشرة. وقد طبقت الخطة بتمويل من الصندوق للتنمية الريفية المتكاملة في سورية ترأسه زوجة بشار أسماء الاخرس. ووفر الاستشارات التقنية (أولاد الشبكة) منظمة فرنسية غير حكومية مكرسة نفسها لتوسيع استعمالات الانترنت (32).
واستعمال (الانترنت) مراقب بدقة. والصفحات غير المرغوب فيها، لا أخلاقياًَ ولا سياسياً تحجب. والمتابعون لا يستطيعون الوصول إلى الصفحات المحجوبة، إلا إذا اتصلوا بمراكز الانترنت في البلاد المجاورة: لبنان والأردن وإذا اكتشفوا يعاقبون بدفع غرامة ثم قطع خط الهاتف وهذا مطبق حتى على الدبلوماسيين. ففي العام 1999-2000 قطعت خطوط الهاتف عن عدة سفارات أوروبية وعن بيت أحد الدبلوماسيين الأميركان لأنهم على ما يبدو استعملوا قناة غير القناة المسموح بها.
أما مصير من يخرق القوانين فقد وضح في كانون الأول عام 2000 في الحادثة التالية: تسلمت زوجة أحد رجال الأعمال الحلبيين البارزين ذي العلاقات الوثيقة بالسلطات كاريكاتوراً عبر (إي ميل) يصور حماراً برأس الرئيس السوري – راكباً حماراً آخر برأس الرئيس اللبناني، اميل لحود. والسيدة التي استلمت الرسالة الكاريكاتورية (ولا نريد ذكر اسمها هنا حتى لا نحرجها) وهي معروفة لكل من تابع هذه الحادثة، ضحكت كثيرا على ما يبدو من الكاريكاتور الذي يعلق على علاقات سورية بجارتها في الغرب. وأرادت أن تشرك أصدقاءها في دمشق بهذا التعليق الماكر ومن المؤسف أن إحدى صديقاتها بلّغت السلطات. فأوقفت المخابرات بسرعة هذه السيدة التي بقيت مسجونة تسعة أشهر في أوضاع يرثى لها من الإذلال المقصود. وجاءت هذه عندما كان المتشددون في النظام يقومون بهجوم معاكس على حركة المجتمع المدني، واستغلت كما قيل من قبل هؤلاء المحافظين لتشويه سمعة السياسة الليبرالية النسبية التي أظهرها في البدء بشار الأسد. ولقد ذهب كبار رجال الأمن إلى الرئيس وقالوا له: " أنظر ماذا فعلت بسماحك رسائل – إي ميل" هذا ما رواه أحد المسؤولين في اللجنة الأوروبية في بروكسل وهو الخبير بالأمور السورية. أظن أن بشار ارتبك، ولكن أولاً: الحادثة صحيحة ثانيا: استغلها الحرس القديم في النظام.... ولا يزالون(33).
هذا الكاريكاتور المهين كان أكثر تسلية، وربما أكثر تنويراً بذاته من أكثر المواقع الرسمية السورية على الانترنت. لنأخذ مثلاً موقع وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية على الانترنت عام 2001 الصفحة الأولى (مقدمة) بقلم الوزير – محمد العمادي – آنذاك، أعلن فيها أن الوزارة "ستبقى وفية للإستراتيجية الخاصة والمميزة التي خطها زعيمنا الخالد الرئيس حافظ الأسد. لذا ستبقى الوزارة "متمسكة بالمبادئ والأسس والانجازات الاجتماعية والاقتصادية التي حصلت في ظل سيادته".
أو يمكن ان نزور موقع (www. ASSAD.OMG) وهي مهداة للزعيم الخالد". وفيها نرى الأسد مبتسماً بكرم على شاشة الحاسوب.
"وكلمة وداعاًَ.... تبدو في لقطة أخرى". شكراً لأنك تركت سورية بأيدٍ حسنة. ستبقى روحك فينا جميعا إلى الأبد وفي مكان آخر تعليق غير ضروري. يقول: "خصص هذا الموقع تقديراً لتراث الرئيس الراحل حافظ الأسد" أما الاعتزاز بهذه المواقع فربما يجب أن تختص به وزارة الإعلام والتي هي كباقي مؤسسات الدولة في سورية البعث محشوة بالموظفين غير الأكفاء.
وهذا عيب يظهر أحياناً بصورة شنيعة ففي زيارة لموقع الوزارة – على الانترنت – في 3 تشرين الثاني 2001 قدمت، مع أشياء أخرى، توقعات الأحوال الجوية ليوم 5 تشرين الأول! والزيارات المتتالية بعد ذلك في كانون الثاني 2001 لم تثمر لأن موقع الوزارة لم يعمل أبداً.
وتقع وزارة الإعلام في بناية ربما تكون أبشع بنايات دمشق. وتحْتل الطوابق العليا من دار البعث (دار النشر لحزب البعث)، كتلة من الشقق القليلة المفلطحة كأنها تجلس القرفصاء تقع على بعد عدة كيلومترات من وسط المدينة على أوتوستراد المزة وفيها أيضا مكتب جريدة البعث. والبناية مغطاة من الخارج بالآجرّ الرخيص. وجرى إصلاحها حديثا بعد سنوات من عدم القيام بأي مسعى لتغطية اثار هجوم عليها بالقنابل في الثمانينات. والآن هناك حاجز من الاسمنت أمامها يمنع تفجيرها بالسيارات المفخخة. أما ضعف نوعية البناء وغياب الصيانة فأمر ظاهر في كل أنحاء البناء. أحد المصاعد الثلاثة الرئيسية معطل باستمرار.
أما الغبار فملتصق بنوافذها على شكل طين يابس – والموظفون الناعسون يجلسون خلف مكاتبهم المملوءة بالإضبارات والأوراق والصحف القديمة وأغلب الوقت يقضونه بالترترة وشرْب الشاي لعدم وجود حوافز لديهم. أكثر من الحد الأدنى من العمل. أما الحاسوب فوجوده نادر وكل أحاديث (التقدم) و(التحديث) لا تعني هنا شيئاً.
وفي رواية جورج أرول (1984) البطل ونستون سميث يعمل في وزارة الحقيقة، بناية هرمية ضخمة يتألق فيها الصُلب الأبيض وتتعالى مصطبة فوق أخرى إلى علو ثلاثمئة متر في الهواء وفي أعلى البناية ثلاث شعارات للحزب مكتوبة.
الحرب هي السلم
الحرية هي العبودية
الجهل هو القوة
وبناية وزارة الإعلام الوضيعة في سورية ليست كبيرة. وفي الأسابيع التي تلت موت حافظ الأسد في حزيران عام 2000 كانت مزينة بالأعلام التي تندب الخسارة الوطنية وفيما يصعد الإنسان الدرجات العريضة المبلطة التي تقود للمدخل الرئيسي يمكنه أن ينظر إلى أعلى ويرى شعار حزب البعث على شكل لوحة دائرية قطرها متر واحد. وفي الوسط خارطة للشرق الأوسط وشمال أفريقيا وبها الدول العربية باللون الأخضر فوق خلفية صفراء.
وعلم البعث مصور بالأحمر والأبيض والأخضر. ساريته مغروسة في سورية. والجزء السفلي من اطار اللوحة مزين بالغار الأخضر أما القسم العلوي من اللوحة فيحمل شعار الحزب.
وحدة، حرية، اشتراكية