من أدب مصر والشام في العصر الفاطمي
من أدب مصر والشام في العصر الفاطمي
د. حسن الربابعة
الفصل الثالث
"موضوعات شعرية في العصر الفاطمي"
1. العقيدة الفاطمية ومفهومها.
2. العقيدة الفاطمية من خلال الشعر.
· الخليفة والحقييقة المحمدية, الخليفة حجة, ووصي, ودلالة كن, وسلامهم على جميع الأنبياء, ومقارنة بين خليفة ونبي, الوصي داعي الدعاة, تشيع ولكن...
3. المراسلات الشعرية.
4. وصف السفن
· الحربية
· الإدارية
5. موضوعات شعرية أخرى
· وصف رحلة بحرية
· احتفال بكسر الخليج.
· استهداء ورد تراسلي.
· شعر قصصي.
· هجاء أصحاب مهن.
· وصف أطعمة.
· وصف سابحة في النيل.
· غزل بمتنزهة سوداء.
· دعابة شاعر في وصف منزله.
تناول الشعراء الذين
عاصروا الدولة الفاطمية, موضوعات شعريةً متنوعة,
افتنُّوا بموضوعات متعّددة خلال
ثلاثة قرون إلا رُبْعا من عمر الدولة الفاطمية من
(296- 555هـ).
لقد بلغَ عددُ الشعراء الذين عاصروا الدولةَ الفاطمية( 38) ثمانيةً وثلاثين شاعراً مشهوراً, كان عَدَدُ الشعراء المصريين(20) عشرين شاعراً, و(18) ثمانية عشر شاعراً وافداً إلى مصر من المغرب و المشرق, ومنهم من كان معاصراً لم يصل إلى مصر, ولكنَّ حركة التشيع قد وصلت إليه فأدلى بها دلوه, استحساناً أو استقباحاً, وقد تكفَّل بدرج أسمائهم, وأنموذجات من أشعارهم, ونبذٍ من ِسَيرِ حيواتهم, الأستاذ الدكتور محمد زغلول سلام(252) بكتابه الموسوم ب " الأدب في العصر الفاطمي - الشعر والشعراء- بما لا يقل عن(500) خمسمائة صفحة من القطع الكبير.
لقد تنَّوعتْ موضوعاتُ شعِرهم,من مدح وهجاء, وغزل ونسيب, ووصفٍ لمعالم الطبيعة, ومراسلات, مما تجدُها مطروقةً فنوناً متنوعة قديمة في تراثنا من قبل.
وتجدُ بعضَ الشُّعراء يتكسَّبون بالشعر, ربما لِقَّلةِ مواردهم المالية, ولأسباب أخرى ذكرتُها,منهم من مشارق الأرض ومغاربها يمدح الخلفاء والوزراء وأعيان الدولة وقضاتها, متكسباً, وبعضُهم مال إلى الهجاء, فهجا الوزراء والقضاة والخلفاء أحياناً.
أمَّا البارزُ في موضوعات الشعر فالدعوةُ إلى تأييد الحركة الشيعية الباطنية للخلافة الفاطمية, وحثُّ الخلفاء عليها, يؤِّيدُهم في حركتهم هذه وزراء لهم وقضاة, ويدعون لنشرها, بألسنتهم وأقلامهم, ويشجّعون الشعراء لنشر المذهب الفاطمي في كُلِّ مكان.
ولعلَّ من أبرز موضوعاتهم الشعرية على كثرتها أن يبينّها المشّجر التالي:
(1) (2) (3) (4) (5)
العقيدة الفاطمية العقيدة الفاطمية المراسلات وصف السفن موضوعات
ومفهومها من خلال الشعر شعرية أخرى
(1)
أمَّا العقيدةُ الفاطميةُ فهي منسوبةٌ إلى فرقة شيعية إسماعيلية, نسبة إلى الإمام إسماعيل بن جعفر الصادق(253) قال الفاطميون بنبِّوة محمد عليه الصلاة والسّلام, ووصايةِ عليّ بن أبي طالب كرَّم الله وجهه(254), وإمامةِ ابنهِ الحسن فالحسين فزينِ العابدين, فمحمدِ الباقر, فجعفرِ الصادق, فهم يتّفقون مع الشيعة الاثني عشرية في تسلسل الإمامة هذه, وبعد وفاة جعفر الصادق سنة(148) مائة وثمان وأربعين, انقسمت الشيعة الإمامة إلى الإسماعيلية,وهي الفرقة التي قالت بإمامة إسماعيل بن جعفر فأبنه محمد إسماعيل فأئمة " دور الِسّتر" وهم عبد الله بن محمد, فأحمد بن عبد الله فالحسين بن أحمد(255) .
وللأئمة عند الفاطميين دوران هي: دورٌ مستور يمثِّلهُ الإمامُ المستور ودورُ الظهور, احتلَّ عبيدُ الله المهدي دوره مؤسساً للدولة الفاطمية, وذهبَ الفاطميون إلى أَنَّ الإمامة تنتقل من الآباء إلى الأبناء, ولا تنتقلُ من أخ إلى أخ بعد انتقالها من الحسن إلى الحسين ابني علي بن أبي طالب رضي الله عنه, والأبُ ينصُّ على ابنه في حياته, وهذه العقيدةُ أصلٌ من أصول المذهب في تسلسل الإمامة عند الفاطميين.
وقد أوَّلَ الفاطميون قول الله تعالى: (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ) (256) بأنَّ الله تعالى لا يتركُ العالم خالياً من إمام ظاهر مكشوف, أو باطن مستور, تنتقلُ الإمامةُ إليه بعد أبيه الإمام علي بن أبي طالب.
والإمامُ حُجَّةُ الله على عبادهِ, وهو هاديهم إلى الطَّريق القويم, وعندهم أن الولاية هي أَحَدُ أركان الدين القويم.
والولايةُ عند الفاطميين هي الأصلُ الذي يدورُ عليه موضوعُ الفرائض, وهذا الرأي يقول به الشيعة الإمامية جميعاً, وحجتهم قصة تُروى عن النبي الكريم أنه نزل عند "غدير خُم"(257) يوم الثامن عشر من ذي الحجة بعد أن أدى حَجَّة الوداع وهناك أنزل عليه قوله تعالى: (يَـأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَالله يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (258) فذهب الشيعة إلى أنَّ النبيَّ الكريمَ صدعَ بأمر ربِّهِ, وأمرَ بالصَّلاة, فلما فرغَ منها, أخذَ بيد الإمام علي وقال: " ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى, قال: من كُنْتُ مولاه, فعليٌّ مولاه, اللهم والِ من والاه, وعادِ من عاداه, وانصرْ من نصرَه,وأخذلُ من خذله, وأدِرِ الحقَّ معه حيث دار"(259)
وقد فصَّل القول وأسهبَ في هذه المسألة الدكتور محمد كامل حسين(260) جزاه الله خيراً.
ولعلَّ من أبرزِ قاعدة التأويل عند الإسماعيلية, هي تطبيقُ نظرية الَمَثل والممثول, فظاهرُ القرآنِ عنَدهم مَثل وباطنه ممثول, فنحوا منحى النظرية الأفلاطونية القديمةِ, وربما عرفوا ذلك من حركة الترجمة, التي حدثت في عصر المأمون العباسي وبعده.
وفي العقيدةِ الفاطمية أنَّ " وجَه الله" و " يدَ الله" و " جنبَ الله" هم الأئمة, والشمس هي محمد والقمر علي والأئمة, والأهلة هم الأئمة. بل ذهب الفاطميون كما ذهب بعض فلاسفة الإسكندرية إلى أنَّ اللهَ أبدع كلمة " اللوجوس" فقالوا هي " كن " من قوله تعالى: (* إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (261) وكلمة كن حرفان هي كاف ونون, ولكنها في التأويل الباطن مثلان للحدود الروحانية المقرَّبة إلى الله, فالكافُ رمزٌ للعقل الأول أو القلم وهو أقرب الحدود إلى الله من حديث الرسول الكريم أول ما خلق الله تعالى القلم.
وأمَّا النونُ فتعني اللوح وهي رمز للنفسِ الكلية, وأنَّ الله تعالى, لا يتَّصِفُ بأي صفة فإنه ليس أيساً وليس ليساً, وأنَّ كُلَّ ما جاء في القرآن الكريم من الصفات الإلهية, فهي صفات العقل الأول, وهذه الصفات هي من صفات الإمام, لذا يستطيع بعضهم, أنْ يفهمَ من قول ابن هانئ الأندلسي في مدح المُعِزّ لدين الله الفاطمي, بأنه لا يِّؤلهه وإنما هذا جزء من عقيدته الفاطمية, وإن كان بعضهم كفّره لقوله:(262)
ما شئَت لا ما شاءتِ الأقدارُ فأحكْم فأنتَ الواحِدُ القَّهارُ
فالظاهر لا يُقْبَلُ عندهم بمعزل عن الباطن, ولا الباطُن ينفعُ دون الظاهر, لإنهما كالرُّوح والجسد. (263)
وللفاطميين مراتبُ دعوة, قسَّموا العالمَ اثني عشر جزءاً؛ سَمُّوا كُلَّ جزء بجزيرة أو أقليم, وأجزاؤهم هي: العرب, والترك, والبربر, والزنج, والحبشة, والخزر, وفارس, والرُّوم, والهند, والصين, والسند, والصقالية. (264)
ولكل إقليم حجة, وهو كبيرُ دعاة الإقليم, والمشرفُ على الدعوة, والحجة هذا ينوب عن باب الأبواب في عقد مجالس الحكم وتلاوةِ المجالس.
ولكلِّ حُجةِ جزيرةٍ ثلاثون داعياً نقيباً, يقومون بهداية الناس,وبثِّ الدعوة في النفوس, ولكلِّ نقيب أربعة وعشرون داعياً مأذوناً مكاسراً, وهو الداعي الذي يشِّككُ المسلمين في عقائدهم المذهبية, ويوقعُ في نفوس المتدينين؛ أنَّهم على ضلال, ولا يزال بهم حتى يَدُلَّهم على الطريق المستقيم, فيصبحَ المستجيبُ في زمرة الدعوة.
وحدّدوا للداعي الفاطمي صفات هي: سعة العلم, والثقافة, وشدة التقوى والورع, والعمل بأحكام الشريعة, وأن يكونَ حَسَنَ السياسة مع من يَتَّصِلُ بهم.
ويحدثنا الداعي أحمد حميد الدين الكرماني في كتابه " راحة العقل" عن الحدود الجسمانية للذين إليهم أمر الدعوة, ورتبُهم كما يأتي:
· الناطق وله رتبة التنزيل
· الأساس وله رتبة التأويل.
· الإمام وله رتبة الأمر.
· الباب وله رتبة فصل الخطاب.
· الحجة وله رتبة الحكم فيما كان حقاً أو باطلاً.
· داعي البلاغ وله رتبة الاجتماع وتعريف المعاد.
· الداعي المطلق وله رتبة تعريف الحدود العلوية والعبادة الباطنية.
· الداعي المحدود وله رتبة تعريف الحدود السفلية والعبادة الظاهرة.
· المأذون المطلق وله رتبة أخذ العهد والميثاق.
· المأذون المحدود الذي هو الناشر وله رتبة جذب الأنفس المستجيبة. (265) ويطول البحث, لو تقصينا مصطلحات العقيدة الفاطمية إذ في دراسة الدكتور محمد كامل حسين غناء, فله الفضل الكبير في بحثه و دقةِ استقصائه(266)
أمّا ما يهمنا حقاً فهو إبراز عقيدتهم من خلال الشعر, نرسمُهُ في جدول تشجيري أولاً ثم نبدأ بالتطبيق عليه ثانياً
العقيدة الفاطمية من خلال الشعر
(1) (3) (4) (6) (7) (9) (10) (11) (12) (13) (14) (15)
الخليفة الخليفة الخليفة سلامهم على مقارنة بين الوصي هو الملائكة هم تشييع الإدعاء الطعن تفضيل مجالس
والحقيقة حجة وصي جميع الأنبياء خليفة ونبي داعي الدعاة الدعاة ولكن بعلم في نسبهم علي على الحكمة
المحمدية الغيب العباس التأويلية
(2) (5)
المثل والممثول دلالة "كن" (8)
من أل النبي
(1)
الخليفة والحقيقة المحمدية
ذهب بعضُ الشُّعراء إلى أنَّ المستنصرَ الفاطمي, يماثلُ الحقيقةَ المحّمدية من حيثُ أنَّ الرّسولَ الكريم هو أولُ الخلق ُروحاً, وآدمُ أوَّلُ الخلق جسداً, هذا مما يقوله المؤِّيد في الدين للمستنصر الفاطمي: (267)
قد خُلقِتمْ من طِينَةِ وَخُلْقِنا نحن منها لكنْ بدا ترتيبُ
(2)
المثل والممثول
ويفهم منه أنَّ الخليفة الفاطمي ممثول النبي الكريم, فلا يُقبلُ صومُ صائم, ولا صلاةُ مسلم, ما لم يعتقد بولاية الأئمة كقول تميم في أخيه: (268)
وإنك أنتَ المصطفى المَلْكُ الذي بطاعته من ربِّنا نتقَرَّبُ
عليكَ صلاةُ الله ما طلع الضُّحى وما حَنَّ للأوطانِ من يتغرَّبُ
(3)
الخليفة حجّة
إذ له رتبةُ الحُكمِ فيما كان حقاً أو باطلاً, على ما يمدحُ الأميرُ تميمُ به المُعِزّ إمامه بصفات باطنية: (269)
يا حُجّةَ الرَّحمنِ عند عباده وشهابَهُ في ُكلِّ أمرٍ مُشْكِلِ
من لم يكن في صومِهِ متقرِّباً بِكَ, فصومُه لم يُقبل
(4)
الخليفة وصّي
وهي الرتبةُ في عقيدتهم تعني دونَ النبي, وفوقَ الإمام, كما ينعتُ الشاعرُ تميمُ أخاه الخليفةَ الإمامَ العزيزَ بالله؛ فهو ابن علي, وابنُ الزهراء,وابن النبي المصطفى, وابن من أدَّى مشاعرَ السَّعي بين الصفا والمروة,’ومن طاف بالبيت العتيق فيقول: (270)
فيا ابنَ الوصيّ ويا بنَ البتول ويا ابنَ نَبِيَ الهدى المصطفى
ويا ابنَ المشاعرِ والمروتين ويا ابنَ الحَطيم ويا ابن الصفا
لقد ذكرَ مناسك الحج المتعددة, التي تأويلها باطنياً, هي محّمد صلى الله عليه وسلم, وبما أنَّ الوصي والأئمةَ يقومون مقامه بعد وفاته, لذا فهم يوصفون بصفاته كقوله أيضاً: (271)
وابنُ الصَّفا والحِجْرِ وابنُ الهدى وابنُ نبي الهدى وابنُ الكِتابِ
(5)
دلالة " كن"
وتعني الكافُ عند الباطنية " القَلم" وتعني النون " اللوحَ المحفوظ" ويسمَّى القلمُ عندهم بالسَّابق, وهو العقل الكلي عند الفلاسفة, وله صفاتُ العقل وخصائصُه, وهو أولُ ما ابتدعه الله تعالى من الحدود الرُّوحانية, وبنظرية المَثل والممثول فالنبي مثل والقلمُ ممثول, والإمام مثل والقلم ممثول, فبعدَ وفاة الرسولِ الكريم, صار الإمامُ ممثولَ النبي, فلنقرأ قصيدةً فيها تأويلات باطنية للمؤّيد داعي الدعاة يقول فيها: (272)
ما
النونُ يا صاحِ ترى والكافُ |
|
فالخلقُ دُرٌ
وهما أصدافُ |
فالنونُ والكافُ هما القلم واللوح, وقد أقسم الله تعالى بهما في غير آية من كتابه, ولا يقسم الخالقُ إلا بذي شأن, وبهما " كُنْ" قامتِ السموات والأرضين, وما فيهما من خلق, فهما ليسا حرفي هجاء فحسب, بل لهما من الأسرار العجيبة وخصائص الكُليّ عند الفلاسفة, وتجدُ مثل هذه التأويلات تستندُ في مراجعها إلى روح فلسفية ومشوبة بروح إسلامية
(6)
السلام على جميع الأنبياء
وتجدُ في شعرِ المؤيّد, داعي الدعاة قصيدةً فيها سلامهُ إلى جميع الأنبياء والوصيّ علي بن أبي طالب, والأئمة من ذريته منها قوله: (273)
سلام على العِترةِ الطاهرة وأهلاً بأنوارِها الزاهره
سلامٌ بَديِاً على آدمَ أبى الخلقِ باديهِ والحاضره
سلامٌ على مَنْ بطوفانهِ أُديرَتْ على من بغى الدائره
وتستمرُّ القصيدةُ تصِّلي على الأنبياء, تصريحاً أو تلميحاً, بأبرز معجزاتِهم نحو موسى قاهر فرعونَ بعصاه, وعيسى الذي شرُفتِ الناصرة بمولده, ومحمد المصطفى صاحب الشفاعةِ الكبرى في الآخرة.
ثم يصلّي على الإمامِ عليّ حيدرةِ الحروب, وأبنائهِ الأنجمِ الزاهرة, وإلى أنْ ينتهي بصلاته إلى صاحب القاهرة, الخليفةِ الفاطمي المعاصر, ورآه وجه الإله؛ فدور محمد, كأدوار الأنبياء السابقين له, والأدوارُ واحدةٌ وأشكالُها مختلفة, وعليه فالمستنصرُ هو آدم, وهو إبراهيم, وهو نوح آخر الأنبياء, والنورُ الذي تنَّقلَ بالأنبياء حلَّ بالإمام, فصفاتِ الخليفة, هي صفات أنبياء, إلا صفة النبوة: (274)
سلامٌ على قاهرٍ
بالعصا |
|
عُصاةَ فراعنةٍ
جائره |
(7)
مقارنة بين خليفة ونبيّ
ويقارنُ المؤّيُد بين
إمامه المستنصر, وعيسى بن مريم, عليه الصَّلاةُ
والسلام في محاورة بين المؤّيد
وعدوٍّ مداجٍ له, جاءه حائراً, وناظَرَهُ, لكنه
اقتنعَ أخيراً بدورِ إمامه وفضله,
فإذا كان عيسى عليه السلام, كَلَّم الناسَ في
المهد, فإن الخليفة حوى المُلْك
والإمامة طفلاً, وإذا كان عيسى أحيا الموتى,
فالخليفة يحيي الناس بالعلم, وإذا كان
عيسى عليه السلام أبرأ العُمي, فالخليفة يجلو
العمى, إذا تجّلى؛ في
محاورة
منها: (275)
وصديقٍ مثلِ العدوِّ مداجٍ
|
|
لا أراه إلا عدوًّا
مُضِِّلاّ |
وسواء أكانَ يحاورُه ضالٌّ مضلّ, أو عدوٌ مدلّ, أم أنَّ الداعيةَ افترضَ شخصاً يحاورُه, فإن المعاني الباطنيةَ معززةٌ بالجدلِ, هي من وسائل اقتناعِهِ بمذهبه, وهي من وسائلِ إقناع مناظريهِ, وإن كانَ فيها حِدةَّ وخشونة, كقوله لمناظره " يا ناقصَ الفهم" وفي القصيدة حوار بينه وبين مناظره, ومقارنة بين إمامه معد وعيسى عليه السلام, إذ إنَّ نورَ العلم عند الإمام, يعادل إشفاءَ العمى عند عيسى عليه السلام, فالعمى ليس بالبصر فحسب, وإنما بالباصرة أيضاً.
(8)
الخلفاء الفاطميون من آل النبي الكريم
وابرزَ الشِّعرُ الفاطميُّ عقيدةَ الفاطميين, بأنهم من آلِ الرسول الكريم,e؛ فذلك تميمُ بنُ المُعِزّ لدين الله, يخاطبُ أخاه العزيز بقصيدة منها قوله: (276)
وأنت ابُنُه من نسل مُرْسِلِهِ وأنتَ خِيَرتُهُ الغرَّاءُ من مُضَرِ
ويذكرُ أنَّ روحَ أخيه قدسية, حَّلتْ في جسم ترابي, وأنَّ نفَسهُ اللطيفَة تناسبُ العقلَ الذي سماه, " العلة الأولى" فيقول في القصيدة نفسها:
ما أنتَ دونَ ملوكِ
العالمينَ سوى |
|
روحٍ من القُدْسِ في جسِمِ البَشَرِ |
وعبد الله الشاعر المعروف بابن حصينة المعرّي, مدحَ المتنصرَ بالله وخاطبه بابنِ الرسول وإمامِ, وكنّاه: (277)
ظهرَ الهدى وتجَّملَ الإسلامُ قَصْرُ الإمامِ أبي تميمٍ كعبةٌ |
|
وابنُ الرسولِ خليفةٌ وإمامُ ويمينُهُ رُكْنٌ لها و مقامُ |
وفي التأويل الباطني فإن قصرَ الإمام كعبةٌ والرُّكْنُ المقامُ مِثْلُ علي الإمام.
(9)
الوصي هو داعي الدعاة
لأنه ينطقُ عن لسان الإمام, بالحجج الدامغة, والبراهين الساطعة, كما يراها الشاعر عُمارة اليمني في مدح الخليفة العاضد: (278)
والوحيُ ينطقُ عن لسانِك بالذي من دُوْنِه يُصْدَعُ الجُلمودُ
(10)
الملائكة هم الدعاة
وهم جنود الإمام كما قال عُمارة اليمني في القصيدة ذاتها: (279)
يومٌ جَلَتْ فيه الإمامةُ عِزَّها ولها الملائكةُ الكرامُ جُنودُ
(11)
تشيُّع لآل النبي ولكن
وبرزت أشعارُ بعضِهم, يتشيعون لآلِ المصطفى e, ولكنهم لا يرضون بِسَبِّ السلف, شأنُ ولي الدين أحمد بن علي خيران, صاحب ديوان الإنشاء في عهد الظاهر والمستنصر؟ مما يَدُلُّ على سبّهم السلف كظاهرة في العقيدة الفاطمية أولاً, وبروز شخصية بعض الشعراء في العزوف عن سبّهم ثانياً: (280)
أنا شيعيٌّ لآلِ المصطفى أقصدُ الإجماعَ في الدِّينِ وَمَنْ |
|
غيرَ أني لا أرى سَبَّ السَّلفْ قَصَدَ الإجماعَ لم يخشَ التَّلَفْ |
(12)
الإدعاء بعلم الغيب
وأبرزَ الشِّعرُ إدعاءَ الخليفةِ الحاكم بعلم الغيب, فأفحمهُ شاعرٌ, برقعة وضعت على منبره تتّحداه, إنْ كان يعلم من كتبها فيقول: (281)
بالظُّلْم والجُوْرِ قد رضينا إنْ كُنْتَ أُعْطِيتَ عِلْمَ غَيْبٍ |
|
وليس بالكُفْرِ والحَماقهْ فَقُلْ لنا كاتبَ البِطاقهْ |
(13)
الطعن في نسب الفاطميين
وأبرزَ الشعرُ طعوناً في أنسابِ الفاطميين, ومن ذلك ما كتب شاعِر مجهول قطعةً من خمسةِ أبيات, وُضِعَتْ على منبر العزيز بالله فيها: (282)
إنّا سَمِعنْا نَسَباً
مُنْكَراً |
|
يُتلى على المِنْبرِ في
الجامعِ |
(14)
تفضيل عليّ على العباس رضي الله عنهما
وأبرزَ الشعرُ تفضيلَ الفاطميين عليَّ بن أبي طالب, على عَمّهِ العباس رضي الله عنه, وإن كانا من أصلٍ هاشمي, لكنَّ علياً عندهم قمر, والعباسيون نجوم, كما هو في قول داعي الدعاة الفاطمي: (283)
يا بني هاشمٍ ولسنا
سواءٌ |
|
في صغار من العُلا
وكبارِ |
ويؤكِّد تفضيلَ عليّ على العباس الشاعرُ تميمُ بن المُعِزّ لدين الله الفاطمي, فيرى علياً رضي الله عنه, أسبقَ إسلاماً من العبّاس, وأولَ هادمٍ للأنصاب, وأنه كان سيف النبيe, وعلى هذا فسبق العَّباسَ يقول: (284)
ألا قلْ لمن ضَلَّ من
هاشمٍ |
|
ورام اللَّحاقَ
بأربابِها |
(15)
مجالس الحكم التأويلية
وبرزت مجالسُ الحكمة التأويلية, في العصر الفاطمي, يتصدَّرُها داعي الدعاة ونوابُه في الجزائر, التي ذكرنا من قبل, وهي محاضرات تُلقى على جمهور المؤمنين, يَبُثُّ فيها الداعي عقائد مذهبهم والتأويلَ الباطني للدين, وكانوا يَدَّعون أن فيها علومَ أهلِ البيت, وهي أسرارٌ مدفونة في صدور العلماء, لا يبوحون بها لأحد, ولهذه المجالس درجاتٌ, لكِلِّ طبقةٍ مجلس؛ فللعامة مجلس, وللخاصةِ مجلس, وللنساء مجلسٌ, ومجالسُهم متعدِّدة المستويات, فالمتقدِّمُ يتلقَّى ما لا يتلقَّاه المبتدي, والغريب , وكان يُطلقُ على داعي الدعاة, " باب الأبواب" و " باب حِطّة" و" الحُجّة" وكانت المحاضرات موقعةً من الخليفة, وكان الداعي, إذا أنهى محاضرته مَسَحَ على رؤوس الناس بعلامة الإمام تبرُّكاً بها.
وكانت تبدأ هذه المجالس بحمد الله والصلاة على رسول الله, والأئمة من نسل علي, ويختمها الداعي بوعظ وإرشاد, ثم يبدأ بتأويلِ آيةٍ من آيات الله أو حديث نبوي, أو أثر عن الأئمة, أو يؤوِّلُ شيئاً من فرائض الدين, ويختمُ مجلسه بالدعاء والصلاة والحمد, وكان له موعدان أُسبوعياً هما: يوم الاثنين والخميس ,وكان يوم الخميس للخاصة فيقول المؤيد فيه: (285)
يا صباحَ الخميس أهلاً
وسهلاً |
|
زادك الواحدُ المهيمنُ
فضلا |
وثمة ثلاثة كتب للحكمة التأويلية؛ الأول: كتاب المجالس المؤيدية ويحتوي على(800) ثمانمائة مجلس, من مجالس التأويل في الفلسفة, والثاني للقاضي النعمان ابن محمد, كان يختصُّ بتأويل فقه الفاطميين, أمَّا المجالس المستنصرية ثالثاً فاختصَّت بالتأويلِ الابتدائي لمجالس التأويل(286).
وللتمثيل على أحد المجالس, فإن في المجلس العاشر من الجزء السابع من تأويل دعائم الإسلام للقاضي النعمان دليلاً؛ فقليل الاستشهاد فيه, يغني عن كثير منه:
بدأ المجلس بالبسملة والحمدلة, والصلاة والسلام على النبي محمد, والأئمة من ذريته, فيقول في مقدمة مجلسه: " بسم الله الرحمن الرحيم, الحمدُ لله الذي جلَّ عن تقديرِ المتوهِّمين, وَلَطُفَ عن لطيفِ بحثِ المتوسِّمين, وصلَّى الله على محمد النبي وعلى الأئمة من ذُرِّيته الطاهرين"
وبعد هذه المقدمة يستأنفُ حديثاً تقدَّم ذكره في المجلس السابق, وموضوعه أهمية الاستباق, إلى الصَفِّ الأول على ما يرويه عن سِّيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه, وما أفضليته الصفوف الأُوَل؟ ولماذا؟ قال " ثم إنَّ الذي يتلو ما تقدّم ذكره ما جاء عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه قال: " أولُ الصفوفِ أفضلُها, وهو صفُّ الملائكة, وأفضلُ المقدَّمِ ميامِنُ الإمام" وبدأ بتأويل قول عليّ قال" تأويلُه ما تقدَّم القولُ بهِ من أمثالِ الصُّفوفِ في الصَّلاة, أمثالُ درجات المستجيبن إلى دعوة الحق, على مقادير فضلهم وسبقهم, وأنَّ أمثالَ الملائكة من الناس, أمثالُ المالكين أمورِ العباد, وهم أولياءُ الله من رسله, وأئمتة دينه"
ثم يُفَسِّرُ لهم لغة معنى الرسالة والرَّسول, ومن مادة ملك وألك يعزّز ذلك بآية من كتاب الله فيقول: " والملك والملائكة فيما ذكر أهل اللغة الرسالة,والألوك والمألكة في لغة العرب الرسالة وقد قال الله جلَّ وعلا :(* الله يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ ) (287)
وقصدُهُ أنَ يعادِلَ الملائكةَ بالرُّسل, بعدَ أن احتجَّ بقوله تعالى في رسل اللهِ من ملائكة وبشر, واستأنسِ بلغة العرب في المعنى المشترك لهما.
ثم يوجِّهُ المتلقينَ إلى أهميةِ الصفّ الأول, ومن الذي يقف خلف الإمام في الصف الأول؟ ولماذا؟ فيقول: " فالصفُّ الأولُ من صفوف ظاهر الصلاة, لا ينبغي أن يقفَ, إلا أفضلُ أهلِ المسجد من علمائهم, كما قال رسول الله e: " ليلني منكم أولو النُّهى والعلم" وينبغي أن يكونَ على يمين الإمام في الصف, من خلفه, أفضلُهم, ومن يصلحُ أن يكونَ إماماً, إن حدث به حدث؛ يوجب خروجَه من الصلاة؛ لأن انصرافَهُ إذا انصرف من الصلاة إنما يكونُ عن ذات اليمين, فيكونُ من يقدمه هناك, فيأخذُ بيده ويقدمِّه مكانَه, وعلى هذا تجري مراتبُ أهلِ الدعوة في حدودها, أنْ يكونَ الذين يلونَ القائمَ بها في الدرجة التالية, من درجات المؤمنين؛ الذين هم أهلُها, وأن يكونَ أقربُهم منه عن يمينه, وهي أفضل درجاتهم, من يصلحُ لمقامه من بعده".
إنه يبّينُ لهم أهميةَ الصُّفوفِ الأولى, في الصلاة, وَمنِ الذين يكونون عن يمين الإمام, والسبب في ذلك, بأسلوبٍ علمي تفصيلي, وشرح مكثّفٍ, لإيصال الفكرة,وليشِّجعَ على الصفوفِ الأولى, أهلَ العلم في المسجد.
ثم ينتقلُ إلى أهمية سَدّ فُرَجِ الصفوف, يعزِّزُ ذلك بأمرِ الرَّسولe, وقول جعفر بن محمد فيقول: " ويتلو ذلك (الصف الأول) ما جاء عنه عليه السلام أنه قال: " سِدّوا فُرَجَ الصفوف, ومن استطاع أن يتمِّمَ الصفَّ الأولَ أو الذي يليه فليفعل, فإن ذلك أحبُّ إلى نبيكّم, وأتموا الصفوف, فإن اللهَ وملائكته يُصلَّون على الذينُ يُتِموُّن الصفوف, وعن جعفر بن محمد صلوات الله عليه أنه قال: " أتِمُّوا الصفوف, ولا يضرَّكَ أن تتأخَر, إذا وجدت تضييقاً في الصفِّ الأول, فتتمَّ الصفَّ الذي خلفك, وإنْ رأيتَ خللاً أمامَك, فلا يضرَّك أن تمشي منحرفاً حتى تسدَّهُ يعني وهو في الصلاة".
ويعِّززُ مَجْلَسُه, وصحَّةَ قولهِ بحديث الرسول الكريم صلوات الله عليه وسلامه عن وصل الصفوف, ومحاذاة المناكب, حتى لا يتخلَّلَ الشيطانُ صفوفَ المصلّين, فيقول: " عن رسول الله e أنه قال: " ِصلوا صفوفَكم, وحاذوا بين مناكبكم, ولا تخالفوا بينها فتختلفوا, ويتخلَلكم الشيطانُ,كما يتخللَ أولادُ الحذف" فتعديلُ الصفوف, وسدُّ ما بينها من الفُرَج, وتمامُها, واعتدالُ وقوف القيام فيها من شروط الصلاة وحدودها في الظاهر".
ثم يعودُ إلى هذه الهيئة في الباطن, فيراها معادلة لها فيقول: " ومثلُهُ في الباطن اعتدالُ أهلِ الدرجات, في دعوة الحقّ, على درجاتهم وحدودهم, التي حُّدتْ لهم, لا يتجاوزُ أحدٌ منهم حدَّهُ إلى غيره".
هذه هي بعض ما وردَ في المجلسِ العاشرِ, عن صفوف الصلاة, ومن الذي ينبغي له أن يتقدَّم الصفوف وأين؟ ولماذا؟ يُعزّزُ ذلك بآيات قرآنية, أو أحاديثَ نبويةِ شريفة, وأقوالِ الصحابةِ, ليزيدَ حُجّته حجة, وبياناً إلى بيان, في مجلس متضامِّ الهدف, في سبكة لغوية قوية, معززَّةٍ بالحُجَّةِ والبرهان, لإفهام المتلقين بأسلوب مقنع,وشرحٍ مفصَّل, لما يطرأُ في مجلسهِ من مفرداتٍ لغوية, يُفسرُها, ليعزِّزَ بها حديثه في المجلس بقَّوةِ حُجّةٍ ونصاعةِ برهان.
-3-
المراسلات
وأفرزَ شعِرُ العصر الفاطمي رداً شعرياً على رسائلَ تصلُ إليه, ذلك شأنُ الشاعر ابن أبي البشائر, أبي الحسن علي بن عبد الرحمن الثابت الِّصقلي الشاعر, الذي ردَّ على رسالةٍ أُرسلت إليه, بأن أبلغَ عن وصولِ الكتابِ إليه, وفضّه ولثمه, ولثمَ حُروفَه, بعد أنْ قرأهُ وفهمه, وسُرَّبه, ونقدَه فأَعجِبَ به, وشبّهه بروض باكره المطر؛ ففتَّحتْ أزهارُه, وهو كالعقدِ, فُصِّل لؤلؤاً وزَبرجداً ودرّاً يقول: (288)
وصلَ الكِتابُ وكان آنَسَ
واصلٍ |
|
عندي وأحسنَ قادمٍ
ألقاهُ |
(4)
وصف السفن
زخرَ
الأدبُ الفاطميُّ
بوصفِ السفن وأنواعها؛ شكلاً, وقوة, فمنها الحرَّبيةُ, ومنها التجاريةُ, ومنها ما
كان للرِّحلات فحسبُ, ويُعْزَى ذلك, لوقوع مصرِ الفاطمية, على بَحْر النيل, الذي
يَمْخُرها من الجنوب إلى الشمال, بدلتاه وفروعه
المختلفة, فمصرُ هِبَةُ النّيل,
ينضافُ إلى سواحِلها البحريةِ على البحر الأحمر
(
القُلْزُم) من جهة
الشرق, بدءاً من أيلة والسويس شمالاً إلى خليج عدن جنوباً, وإلى منتصف سواحلِ
بَحْرِ( الُقْلزُم) من الجهة الغربية للبحر ذاته,وسواحلِ البحر المتوسط( بحر
الرُّوم) من ساحليه الجنوبي كاملاً والشرقي جميعها
ينضافُ إليهما بَرُّ خليج
إنطاكية, من الجهة الشمالية الشرقية,وساحلُ الأطلس
من جهة موريتانيا اليوم, وجزيرتا
صِقليةَ وسردينيةَ شاهدتانِ على بَصمات الفاطميين
فيهما(289)
أمَّا الحربيَّةُ فهي سُفُنُ الأسطول التي صُنعِت خصيصاً لغزو العدوّ, على سواحلها الطويلة, وكانت تُشْحَنُ بالأسلحةِ والآلات والمقاتلة, وكنت تَمُرُّ من ثغرِ الإسكندرية ودمياطَ وتِنّيس والفَرَما من مصر, ومن ثغرِ طرابلسَ وصيدا وصور, في الساحل الشامي, بغية أنْ تجاهدَ في سبيلِ الله وتصدَّ أساطيلَ الرُّوم, وهي عدة أنواع أهمها:
الشواني الحرائق الحربيات
أمّا الشواني الحربيةُ, فجمعُها شيني أو شونة, ومعناها في التاج للزبيَّدي(290) المركبُ المُعَدُّ للجهاد في البحر, وجمعُها شوانيً لهجة مصريةَ, والشَّواني مراكبُ طويلةٌ, متوسطُ ما يحمُله الشيني الواحد(150) مائة وخمسينَ رجلاً, ويجدَّفُ بمائة مجداف(291) كانت تسمى أغربةً, لسوادها كالغِربان, وكانت تُطلى بالقَارِ, منعاً من نفاذ الماء إليها, ولكنَّ قلوعَها ِبيضٌ, كما يقول عنها ابن الأبَّارِ في وصفه؛ بأنها تشبهُ بناتِ الماء في سبِاحتها, وتطفو على سَطح الماء, والرِّيحُ تحرِّكها, فتطيرُ فوقَ سطح الماء كالغُراب في الفضاء, ومجاديفُها بيضٌ كريش الحَمام الأبيض, مدهونةٌ من داخلها بالقَطِران, مع أنهَّا ليست جرباء, فلماذا تًُدْهُن إذن؟ تسّمى غُراباً لسرعتها ولونها, وصدرُها كصدر الشّاهين:
فيقول ابن الأبَّار: (292)
يا حَبّذا من بناتِ الماءِ سابحةً تطيرِّهُا الرِّيحُ غِرباناً بأجنحةٍ ال من كُلِّ أدهمَ لا يُلفي به جَرَبٌ يدعى غُراباً وللفتخاءِ سُرْعَتُهُ |
|
تطفو لما شبَّ أهلُ النارِ تطفُئِهُ حمائم البِيض للإشراك ترزؤهُ فما لراكبِهِ بالقار يهنئوه؟ وهو ابنُ ماءٍ وللشاهين جُؤجؤه |
وتلحظُ في النصّ أنَّ هذا الصنفَ من السفن, متخصِّصٌ لحربِ المشركين, في البحر, وكان من واجبِ الشواني أنْ تقذفَ الَّنار الإسلاميةَ, على سفنِ العدوّ فتحرَقها,ولا تنطفئُ النارُ فوق سطحِ الماءِ على ما يشهدُ ابن حْمدِيس الصِّقلي, في قصيدتهِ التي منها يخاطبُ ممدوحَه: (293)
أنشأتَ شوانيَ
طائرةً |
|
وبنيتَ على ماءُ
مُدنا |
أمَّا الحرائقُ جمع حَرّاقة, فهي مراكبُ حربية, يعّبرُ اسُمها عن وظيفتها في إحراق سفن العدّو بالنِفط(294) وكان يجدِّفُ بها مائةُ مجداف,وقد وصفَها الشاعرُ عبد الله بن حداد؛ بأن مجاديفَها حولها كأهدابِ العيونِ,تحمل ناراً وتقذفُها على العدو فتحرقُه: (295)
ذاتُ هُدْبٍ من المجاديفِ حاكٍ حُمَّ فوقَها من البيِض نارٌ |
|
هُدْبَ باكٍ لدمعهِ إسعاد ُ كلُّ من أرسِلَتْ عليه رَمادُ |
لقد عرفَ المسلمون النارَ الإسلامية, رداً على الَنَّار الإغريقية, فكانت تحرقُ سفنَ الرُّوم, ولا يُطفِئُها الماء, ذلك الذي وظّفهُ البحتري في قصيدتهِ الرائية يمدح بها أحمد بن دينار سنة 227هـ, قبل ابن حمديس بقرنين ونصف منها قوله: (296)
إذا رشَقَوا بالنَّار لم يَكُ رَشْقُهُمْ لِيُقلعَ إلا عن شِواء مقتَّرِ
أمّا الحربيات فمفردها حَربّية, وهي نوعٌ من الشواني, ولكنها أصغرُ حجماً منها, وتمتازُ بسرعةِ حركتها, وخفَّةِ وزنِها, كانت تُصْنَعُ في دارِ صناعة الروَّضة(297) وقد وصفها ابنُ حمديس الصقلي, بأنها ترمي عدَّوها بالنفط الحارق, وهي بلونين أحمرِ اللبُّود, وسود القطران الذي يطليها, والدخان المنبعث من قذائفها يُعادل بناتِ الزنج السوداء الألوان المشوبة بحمرة فيقول: (298)
يخوضونَ بحراً كلَّ حِينٍ
إليهم |
|
ببحرٍ يكونُ المُوج فيه
فوارسا |
فنلحظ من النَّصِّ السابقِ فوائدَ عدة منها؛ أنَّ هذا النوعَ من السفن حربي, مجّهز بمواقدَ للنفط كالأفران, له رائحةُ دخانِ كريهةٌ عند انطلاقه, فتغشى أنوفَ الخصوم بموت كريه, عليها لبود من داخلها, أسودُ مشوبٌ باصفرار, يعادل لون زنجيةٍ عروس, زُفَّت بلباسٍ أصفر, على جسد أسود, وواجب اللبود حمايةُ السفينة(299) أما بطن السفينة فأسودُ من قَطِران تطلى به, تشوبُه مواقدُ النار بلهيبِها المصفرِّ المنبعثِ في صورة فنية, تنفتحُ إذا رمته عن بركان كَثُرَتْ منافِسُه, وانبعثت منه مكامنُ خطر, وأنذر بانفجار قريب.
وتستوقفُ ابنَ حمديس رمايةُ حربيةٍ تقذفُ النِفطَ على سُفُنِ الأعداء, كأنَّ النِفطَ زيتٌ مغلي, ينطلقُ في أنبوب, باتجاه العُلوج, له خُوار وهدير, ينبثقُ من بركان جحيم, فيه شواظٌ ونحاس, لأرواحِ العُلوج قبل أجسامهم عذابه, فيقول(300)
رأوا حربيَّةً ترمي
بِنِفْطٍ |
|
لإخمادِ النفوسِ له
استعارُ |
ونلحظُ في النصّ موادَّ حارقةً من نفط وزيت مغلي, وشي وجوه, وانطلاق المقذوف باتجاه نحور العلوج, وأثرَه عليهم يخورون, من أثر المقذوف كالبقر, فانحرقت نفوسهم قبلَ أجسامهم.
· ومن السفن الأخرى في العصر الفاطمي يبيِّنها التشجير التالي:
(سفن أخرى)
سفن إدارية مراكب
تنزّه واستعراض الأسطول النهري سفن جلاب
أمّا
من
السفن الإدارية
فالبطس( جمع بَطْسة) كبيرة الحجم مع عدة
طوابق, كانت تزوَّدُ بعدد من القُلوع, يصل عدده
إلى(40) أربعين
قَلعاً(301)وكانت
تستخدم لنقل الأزواد والِميرة(302)
وجاء في أخبار البطس لابن شداد "
أنهَّا وصلتْ من بيروتَ مشحونةً بالالات والأسلحة والميرة, والرجالِ والأبطالِ
والمقاتلة, وكان السلطانُ قد أمرَ بتعبئتها وتسييرها, من بيروت ووضعَ فيها من
المقاتلة(650) ستمائة وخمسين رجلاً, فاعترضَ لها
الانكتارُ في عدة شوانِ؛ وقيل كان
في أربعين قلعاً, فاحتاطوا بها ) من جميع جوانبها,
واشتدوا في
قِتالها(303)ويقول
النويري " إنَّ البطسة كانت تتَّسعُ لعدد كبير من الجند
يصل إلى نحو 700 سبعمائة(304)ومن السفن الإدارية صغيرة الحجم,
يُخصَّصُ لحمل الزاد مثل
الأعزازي(305)
ومنها ما كان يخصَّصُ لنقل مياه الشرب, وكانت سعتها لا تقل عن مائة أردب
(306)
ومن السفن الإدارية الغيطاني والعجزي, وهما مركبان كبيرا الحجم, كانا يحملان عدداً كبيراً من الرُّكاب وأموالاً طائلة (307) .
ومن السفن, سفنٌ للتنزُّه في نهر النيل, أو لاستعراض الخليفة يومَ فتح الخليج, وقد كان يطلق على هذه السفن والمراكب" اللطاف" لأنها مراكب مكشوفة للسماء, خاصة للكبار والصغار, من عِلية الحكام وزوجاتهم, فقد كانت ستُّ عَشاريات, بألوان مختلفة, من ذهبي وفضي وأحمر وأصفر ولازوردي, وصقلي كانت مكَّسوة وملّونة برءوسها وأعناقها بالأهلّة, وقلائد الخرز, فتلك عَشاري لأمِّ الخليفة المستنصر بأكثر من 130 ألف درهم كما كان للخليفة نفسه(36) ست وثلاثون عَشارياً يتنزَّه بأيها حيث شاء في النيل, ويفتح بإحداها الخليج(308).
وكان نهرُ النيل يُتّخذُ طريقاً ملاحياً, وللتنزُّه والفُرجة, فكان بعض الناس يركبون العَشاريات والقوارب, لمتعة النظر إلى ماء وخضراء, ذلك ما أنشده الأمير تميم بن الخليفة المُعِزّ لدين الله الفاطمي: (309)
يوم لنا بالنيلِ
مختصرٌ |
|
ولكلِّ يومٍ لذاذة
قِصَرُ |
وفي النيل, أنشدَ ابنُ فضل الله العمري, (310) فصوَّرَ تيارَه المنصبَّ, وعليه سفائنُ كالجبال, سوداءُ اللون, حَراقة تجري على الماءِ القُراح بإذن الله فيقول :
والنِّيلُ في تياره
المن |
(م)
(م) (م) |
صبِّ مُهْتزُّ
الصِّفاحْ |
ويبدو أنّ اللهو والمجونَ على أمواج النيلِ, تفشَّيا مما حفزَ الحاكمَ بأمر الله سنة 401هـ إلى أن يمنع الناسَ من الركوب في القوارب, في الخليج إلى القاهرة وشدِّد في المنع, وأمر بِسَدِّ أبوابِ القاهرة التي يُنْطَلُقُ منها إلى الخليج(311)
وكان للنيل أسطولٌ نهري, يُستخَدمُ في حمل غّلاتِ الدولة, يسميها ابن الطوير(312) ب " الدماميس" جمع ديماس أو " ديتماس" برسم الخليفة, وبعض الموظفين الكبار, وكان من الأسطول أنواع أخرى, يسمى بعضها ب" الشذوات" جمع " شذات" ويّسمى بعضُها الآخر " السُّميريَّات" جمع " سميرية" تستعمل في نقل المؤن والعساكر في الأنهار, وثّمةَ نوع آخر للسفر, من منطقة إلى أخرى عبر نهر النيل يسمى " علابيات" و" حمائم" و" سنابك" فكانت معروفة منذ عهد احمد بن طولون, وتسير في النيل.
وتحَّدثَ ابنُ جُبير(313) الرحالة لّما زار صلاحَ الدين في مصرَ عن "جلاب" التي كانت تبنى بطريقة عجيبة, لا يُستعمل فيها مسمار قطّ, وكانت هذه المراكب تُحْمَلُ على الإبل, لخفتها وتَّسيرُ بالمجاديف أو الشراع(314)
أمَّا سُفنُ الجلاب فكانت مخصصة للتنقل في البحر الأحمر " القُلْزُم" من أيلة" العقبة" إلى " عِيذاب" مقابل جَدَّة على الشاطئ المصري المقابل, ولم يكن يُستخدَمُ فيها أي مسمار, لظنِّهم أن في البحر الأحمر مغناطيس يجذبها فتغرق, وعلى الرغم من خطأ المعلومة هذه, فقد كان لها فائدةُ اعتمادهِم على تصنيعٍ بديل عن المسمار لأنه غالي السِّعر, وبعيدُ المنال, فخيّطوا سُفَنهم, بأمراس من القنبار, وهو قشرُ شجر النارجبل؛ يدوسونه إلى أن يتخَبَّط, ويفتلون به أمراساً, يخيّطون المراكبَ ويخلّلونها بُدِسُر, من عيدان النخل, ثم يسقونها بالسمن, أوبدهن الخروع, وهو أحُسنها, ومقصدُهم بالدهان أن يليَّن العود, ويرطب, لكثرةِ الشّعاب المعترضة, في هذا البحر" الُقْلزُم" وقد علّل المسعودي عدمَ استخدامِ المركبِ المسماري في بحر القلزم( الأحمر) لأنَّ ماءَ البحر, يذيبُ الحديد فترقُّ المساميرُ, وتضعف, فاتُخذت, السفن من ألواح الساجِ المثقبة والمحنطة بليف النارجيل, بدلاً من المسماميرِ ثم طليت بالشُّحوم والنَّورة"(315) وكان لسفنِ البحر الأحمر, مواصفات خاصة, فمنها أنه لا يُسافَرُ بها ليلاً, وكان يُحْمَلُ إلى خليجِ " ايلات" الخشبُ ثم تصَّممُ السفنُ فيه, من ثم يسافَرُ؛ بها ذلك ما فعله أرناط حاكم الكرك(316) .
وقد شاهدَ ابن بطوطة, صعوبةَ السير في تلك البحار, ومنها البحر الأحمر " القلزم" فقال فيه " وهذا البحرُ لا يُسافَرُ فيه بالليل, لكثرةِ أحجاره, وإنما يسافرون من طلوع الشمسِ إلى غروبها, ويرسونَ وينزلون إلى البر, فإذا كان الصباحُ صعدوا إلى المركب, وهم يسمون رئيس المركب " الرُّبان" ولا يزال أبداً في مقدم المركب, ينبِّه صاحب السكان, على الأحجار وهم يسّمونها البنات"(317)
ويذكر ابن الأثير في أحداث سنة 578هـ, أن الِبرنس صاحب الكرك, جمع قطعَ أسطولهِ من الخشب, وسار بها براً إلى خليج أيلة" العقبة" وجمعها هناك وشحنها بالمقاتلة, وسيّرها إلى عيذاب, وأفسدوا في الساحل المصري, ثم اتجهوا إلى جدة, وذهبوا براً إلى الحجاز, لمنعِ الحجَّاج, من تأدية مناسكهم في مكة وزيارة مسجد رسول الله هذا من جهة, ومن جهة أخرى, فقد ضيّقوا على المسلمين في أيلة ومنعوهم من ورود الماء, فما كان من صلاح الدين إلا أن أمرَ حاكم عيذاب بطرد الفرنجة, فأرسل قائداً له يدعى لؤلؤة, فجهّز أسطولاً؛ أنقذ المسلمين من هجمات الفرنجة في بَرّ الحجاز, وضّحى منهم في منى عدداً وأسر آخرين فذبحهم في مصر(318)
(5)
موضوعات شعرية أخرى
وأبرزَ الشعرُ الفاطمي موضوعاتٍ متعددةً, نوجزها في المخطط التالي:
(4) (5) (6) (7)
شعر قصصي وصف أطعمة وصف سابحة في النيل غزل بمتنزهة سوداء
(1) (2)
وصف رحلة بحرية احتفال بكسر الخليج
(3) (8)
الاستهداء والرد الرسائلي دعابة
شاعر في وصف منزله
(1)
ومن موضوعاتِهم الشعريةِ وصفُهم رحلةً بحرية في نهر النيل؛ ذلك ما خلَّدته قصيدةُ تميمِ بن المُعِزّ, يوم ارتحل من حُلوان إلى نهر النيل, بمركب أدهم, يسير على جناحِ الرِّيح,أسودُ لوُنه كزنجية, لكنَّ أكاليَلهُ من الأمواج, كانت رحلته ضحاءً يتلالأ النيل فيه كسيف صقيل, ولّما هبتِ على مركبه ريحُ الصّبا, تماوجَ يَمنةًَ ويَسرةً, وبدا كدرع على مِهاد الأرض, أو مثلَ حُبُكٍ مرصَّعٍ بالجوهر, يبدو متأثراً في وصف البحتري لبركة المتوكل فيقول: (319)
يا حبَّذا حُلوانُ
فالنيلُ |
|
رَبْعٌ بحسنِ اللهوِ
مأهولُ |
(2)
والاحتفالُ بكسرِ الخليج, ظاهرة أبرز الشعرُ أهميةَ كسرِ يوم الخليج, وهيئةِ الخليفةِ بِجْلَستهِ في خيمةٍ كبيرة, غربيَّ النيل, قرب قَنطرة السكرة, فيتقدَّم إليه أحدُ رجالهِ, ويُسمىَّ النائب, ويقدَّمُ الشعراءُ حسب منازلهِم, وينقد شعرهم فتقدّم شاعرٌ يدعى ابن جبر وأنْشَدَ لهذه المناسبة فقال:(320)
فُتِحَ الخليجُ فسالَ مِنْه الماءُ وصفَتْ موارِدُهُ لنا فكأنَّهُ |
|
وَعَلتْ عليه الرَّايةُ البيضاءُ كَفُّ الإمامِ فَعَرْفُها إعطاءُ |
فانتقدَ الناسُ عليه قوله " فسالَ منه الماء" وقالوا أيُّ شيء يخرُجُ من البحر غيرُ الماء؟ فضَّيع ما قاله بعد هذا المطلع.
وتقدَّمَ شاعرٌ يقال له مسعود الدولة بن جرير وأنشدَ من قصيدة له فقال:
ما زالَ هذا الَسدُّ ينظرُ
فتَحهُ |
|
إذنُ الخليفةِ بالنَّوال
المْرسَلِ |
فانتقدوه في البيت الثاني, وقالوا: أهَلَكَ وجهَ الإمام بسطواتِ المعاول عليه, وإنْ كانَ! يقصدُ فتحَ السد بالمِعاول, لكنَّ نَظْمَهُ كان قلقاً.
وتقدَّم شاعرٌ يدعى كافي الدولة أبو العباس أحمد, فأنشدَ الخليفةَ قصيدةً ارتجلَها, بشهادة القاضي ابن الأثير, استحسنها الخليفةُ, وكافأه بخمسين ديناراً منها قولُه:
لمنِ اجتماعُ الناسِ في ذا
المشهد |
|
للنّيلِ أم لك يا ابنَ بنتِ
محمَّدِ؟ |
فتلحظ من هذه النصوص, محاكمة الشعراء ونقدهُم, بحضرة الخليفة, وأهلِ اللسانة والفصاحة, كما تلحظُ توجيهاتِِهم النقديةَ للشعراء, وتبِّينُ محاسنَ القصائد ومساوئها, فلا غروى إذا فَهُمْ أمام خلفاء ووزراء امتازوا بالبلاغة, وتحتاجُ الجائزة إلى شهادةِ أهلِ الاختصاص, كما نالها كافي الدولة, بعد أن قال على البديهية قصيدةً عن كرمِ الخليفة الذي تفوَّق على كرمِ النيل, وإنْ كان كلٌّ منهما كريماً عن قصد ودون قصدٍ.
(3)
الاستهداء والردّ الرسائلي
وابرزَ الشعرُ الفاطميُّ, علاقاتٍ اجتماعيةً طيبةً, بين الشاعر أبي عبد الله الحسين, والأمير تميم بن المُعِزّ, إذ استهدى الشَّاعرُ من الأمير غَرساً من زهرِ بستانه, فأجابه الأميرُ إلى طلبه, فكتب الشاعر إلى تميم الأمير يقول له: (322)
وصلَتْ هَدِيَّتُكَ التي
أرسلْتَها |
|
يا سيِّدَ الكبراءِ
والأمراءِ |
فأجابه الأمير تميم بقوله: (323)
أمَّا الرِّياضُ فإنهّا
مسروقةٌ |
|
للبيتِ من الفاظِكَ
الغّراءِ |
***
ففي النَّصيَّن تلحظُ استهداءَ غرسِ زهر, من حديقة الأمير, تميم بن الخليفة الرابع, المُعِزّ لدين الله, وفيها إخوانية, ترتفع الكلفة بين شاعر وأمير, وفيها مراسلة شعرية بينهما, تدل على خلق كريم من أمير البيان والسنان.
(4)
الشعر القصصي
وبرزَ من الشعراء الذين أدركوا العصر الفاطمي, من انماز شعرُهُ بالقصصّية, منهم الشاعرُ ابو القاسم الحسين بن الحسين بن واسانة بن محمد المعروف بالواساني, أعجوبةُ الزمانِ ونادرتُهُ, وفريدُ عصره, وباقعته( خالص اللون) وهو أحدُ الفضلاء المجيدين في الهجاء, وكان في زمانه كابن الرُّومي في أوانه(324) إذ هجا مِنشّأ بن إبراهيم اليهودي, بقصيدتين, أشرتُ إلى إحداهما فيما سبق من الدراسة, وهاهو يصف باسلوب قصي, ما جرى عليه في دعوة أقامها في قرية حرابا من أعمال دمشق في قصيدة مطوال, بلغت بيتاً ومائتين, يُبرِزُ فيها نَدَمَهُ على دعوة قِران دعا إليها, فخسر فيها زروعَه ودجاجَهُ وخمرَهُ, وكلَّ ما يملكه؛ لأنه دعا قوماً؛ فاستجاب لدعوته أجناسُ البشر؛ إذْ جَمَعوا لدعوته جموعَهم من رُوم وصقالب وترك وبلغار ومن هند ومن أهل " طسم" وبربر, وكيلحوج وبلقان, بل اجتمع عليه من كلِّ مسلم ونصراني, فماذا يكفيهم من طعام؟ لقد وقع في ورطة, يتندَّمُ عليها, في بداية قصيدته القصصية, التي نكتفي بمقطع ندمه أولاً في مقدمته, وحشود الضيوف عليه منها ثانياً:
فها هو يعرضُ ورطَتهُ في دعوتهِ من بداية قصيدته بمقطع يُظِهرُ ندمهَ على تلك الدعوة فيقول:
مَنْ لعينٍ تجودُ
بالهمَلان |
|
ولقلبٍ مُدَلَّهٍ
حَيرانِ |
وينتقلُ في المقطع التالي إلى حشود أمم أخرى, اجتاحته لدعوته يعدُّ منها على كثرتها ولا يعدِّدها, فأكلت ما عنده من أخضرَ ويابس, فها هو يدعو الناسَ إلى رثائه:
|
(م) |
ي ومن طُول عُطلتي
وامتحاني |
وهذه الحشودُ المتضامّةُ على تلك الدعوة, التي كأنما ضُرِبَ لها بالطبول النفيرَ إليها, لبّاها صِحاحُ الأجسام وأصحابُ العاهات:
كُلٌّ ضَرْبٍ فَمِنْ طِوالٍ
ومن حُدْ |
(م) (م) |
بٍ قصارٍ والحُوْل
والعُورانِ |
هذا النفيرُ المتضامُّ إليه تجمعُهم وحدةٌ مشتركة هي الجوع القديم, إذ هم لم يأكلوا منذ شهر,وأسنانُهم حادة:
مِعَدٌ جُوِّعَتْ ثلاثين يوماً من مرثدٍ ومن تكين وطُرْ رحلوا من بيوتِهم ليلةَ المَر |
بسلاحٍ شاكٍ من الأسنان خانٍ وكِسرى وخُرَّدٍ وطِعان فع من أجلِ أكلهٍأكلهٍأكلهٍ مَجّان |
والقصيدة قصصية طريفة, ملأى بالنقد الاجتماعي, والسياسي, تبرز معاناةَ الشاعر, و تنتهي بتعليقه مشبوحاً في سقف بيته ومدّه بالعامية" فلكة" من زمرة سكرى, جزاء وفاقاً على دعوته, مّما زاده في جرحه عمقاً وأسى منها قوله:
عَلَّقونيِ بِفَرْدِ رِجْلٍ
إلى الَّسْقفِ |
|
وَعُذِّبتُ ليلتي
بالدُّخان |
والقصيدةُ قصصية ممتعة, على مشاهد, لا يسعني جَهدي في تحليلها كاملة أو الإشارة إلى كل مقاطعها, فنترك للدَّرسَةِ الشأنَ ممن يفيدون منها إن رغبوا.
(5)
هجاء أصحاب مهن
وأفرزَ الشِّعرُ الفاطميُّ هجاءَ أصحابِ مِهَن, ونستشهدُ على ذلك بمغنٍ مهجو وقاضٍ.
أمّا المغنِّي مهجواً فتناولَهُ الشاعر الصِّقّلي(325) إذْ ذمَّ سماجةَ صوتهِ وخْلِقَتهُ, فهو يغني ما يشتهي, لا ما يشتهيه المستمعون, وكلَّما طلب من مستمعيه, أن يغنِّي لهم ما يطلبون تمَّنى عليه الشاعر لو يسكت فيقول:
ومغنٍّ لو
تغنَّى |
|
لكَ صوتين
لِمِتَّا |
ويهجو مغنّياً ذا صوتٍ قبيح, كأنّما يصيح في خابية, كلُّ من يسمُعهُ مرة لا يحبُّ أن يسمعه ثانية:
غنَّى كمَنْ صاحَ في
خابِيهْ |
|
لا وهبَ اللهُ له
العافيهْ |
أمَّا هجاءُ الحَّلاق, واسمه مسعود,فإنَّ من يحلقُ رأسهُ عنده مرة, فإليه لن يعود؛ لأنه يكونُ قد سَلَخَ رأسَه, وِمنَ أين له أن ينبتَ الشعر بعد سلخه؟ ذلك ما يقوله ظافر الحّداد. (326)
لا أسعدَ الله مسعوداً
فَصَنْعَتُهَ |
|
كوَجْهِهِ كل مُتْجٍ مِنْهُ
محتضَرُ |
وبعضُ الشُّعراء تناولَ هجاء القضاة, لظُلْمهم في أحكامهم,أو لميلهِم عن الهوى, أو لتقاضيهم الرشاوى, ذلك ما أبرزه الشاعر أبو الشرف الدجرجاوي عن قاضٍ, كان لا يفصلُ بين المتخاصمين, إذْ كُلّما انفصلَ الخصمان, ردَّهما إلى التقاضي من جديد, منافق, مظهرُهُ غيرُ مخبرِه, يبدي الزُّهد في الدنيا, ويقبلُ سرَّاً بَعْرَةَ الجمل, يُظهرُ التنَسُّكَ وكثرةَ التهليل, ولكنه لا يلتزمُ التهليل في تنفيذ الحق لأصحابه, فهو من الذين يقولون ما لا يفعلون, وضربَ عن اسمه صفحاً, إذ إنَّ سماتِهِ تغني عن ذكره: (327)
قاضٍ إذا انفصلَ الخَصمان
ردَّهما |
|
إلى الخِصام
بحكمٍ غيرِ مُنْفَصِلِ |
(6)
وصف الأطعمة
وأبرزَ الشعرُ الفاطميُّ وصفَ الأطعمةِ شأنُ الشَّاعرِ ظافرِ الحداد الذي وصف الكنافة, بعجينها المبسوط فوق النار, يتصاعدُ البخارُ منها, كأنَّه غيمٌ سحاب, وتتفتحُ الفواقع ذراتٍ من الكنافة, يسرُّ العينَ منظرُها ولا تشبعُ منها: (328)
وحاذقٍ مُحْكِمٍ
كِنافَتَهُ |
|
لا تشبعُ العينُ منهُ
بالنَّظر |
ولعلَّهُ ألمَّ بتشبيه ابن الرُّومي في صانع رقاق وزلابية(329)
(7)
وصف السابحات في النيل
ويصفُ ابنُ الحّداد السابحاتِ الحِسان في نهر النيل أصيلاً ويغازلنه بغمزة العين, أردافُهُنَّ ثقيلة تختفي حيناً, وتظهر بين الأمواج, حيناً آخر أجساد كالماء رقةً فوق الماء, يعافُ الماءَ الأجاج, ويتوق إلى الماءِ الرقراق, أجسادِ الحسان, المتمايسة القدّ الأهيف الرشيق, المتمايس بالموج, تمايسَ الغصن بهزات الرياح؛ أجساد ممشوقة تختفي حيناً في أمواج البحر وتظهر حيناً فيقول: (330)
وآصالُنا في ساحلِ البحرِ
نعتلي |
|
به الرَّملَ ما بين الكثيفِ
إلى الوهْدِ |
(8)
غزله بمتنزهة سوداء
ولأبي الفتح منصور المعروف بالبيني قصيدة غزلية بجارية سوداء لقيها تتنزه بالمقس فتبعها وفجر بها كما في قصيدته التي أدرجها المسّبحي:(331)
وغزالةٍ
غازلتُها |
|
في المقْسِ من أولاد
حَام |
(9)
دعابة شاعر في وصف منزله
وأبرزَ ابنُ مِكنسهَ؛ أبو طاهر إسماعيل بن محمد السكندري, دعابة وهو يكشف بيتَهُ من داخله, فيدخِلُ المتلقي معه, ليرى بيتاً مهلهلاً قذراً, تصول فيه بنات وردان من خنافس وزواحف وتصول, والّشاعر في بيتهِ -إن صحَّ أنْ يُطلقَ عليه بيت- كفأرة في بيت خلاء, والعنكبوتُ بيتٌ واهن, يعادل عقلَ الشاعرِ بجامع الضعف, سروالُهُ عَفِنٌ ينبثُّ منه ما لا يحمُد شَمُّهُ, إن عبثت به الرِّيح, بيتُ لا تدخلُهُ بقعةُ الشمس, إلا نادراً, فكأنما هي عن بيته في كسوف دائم.
لقد كرهَ الشاعر بَيته, إذ لو كان كعبةً لما طافَ حولها, ثم يطلبُ من ممدوحِه أن يُوّسِعَ عليه, ويُنْقِذَه من معاناته فيقول: (332)
ليَ بيتُ كأنَّهُ بيتُ
شِعْر |
|
لابنِ حجَّاجٍ من قصيدٍ
سخيفِ |
لقد تخيرَّتُ أن ْأبرزَ أنموذجات من أشعارهم, وعزفت عن أغراض أخرى متعددة من مدح ووصف وغزل ورثاء وخمرة مما لا تستوعبه هذه الدراسة, لأترك للراغبين في أن يلجوا إلى ميدان أشعارهم المتعددة الأغراض في مظانّ المتعددة إذا رغبوا.