سوريا ...لا خبز ...ولا حرية -3
سوريا ...لا خبز ...ولا حرية -3
د.خالد الأحمد *
نشر الصحفي البريطاني ( آلن جورج ) هذا الكتاب بالانجليزية عام (2003) وترجم إلى العربية من قبل الدكتور حصيف عبد الغني عام (2006) وهذه مقتطفات من الكتاب كالخلاصة ، ومابين المعقوفتين للباحث الحالي .
الفصل الثالث
شتاء دمشق:
المجتمع المدني هو " تعبير أميركي " أعْطِيَ معنى إضافياً من قِبَل ِ مجموعات تحاول أن تُصبح َ أحزاباً (سياسية) , هذا ما صَرّح َ به وزير الإعلام السوري عدنان عمران , عندما تحدّث للصحفيين في 29 كانون الثاني /2001/ , ارتأى أن مجموعات المجتمع المدني في البلاد النامية مدعومة من قِبَل ِ السفارات الأجنبية التي توَفر الفوائد المالية والامتيازات لِلنُشطاء الداعين للديمقراطية.
وكان تصريحه بداية لحملة مُنَسّقة قامت بها الحكومة لمواجهة مباشرة مع المنشقين - المعارضين- والتي بلغت ذروتها في أواخر تلك السنة باعْتقال عُضْوين مستقلين في البرلمان مأمون الحمصي ورياض سيف , واعتقال (إعادة اعتقال) رياض الترك زعيم الحزب الشيوعي - المكتب السياسي , الممنوع قانوناً واعتقال الاقتصاديّ عارف دليله وعدد آخر من زعماء حركة المجتمع المدني. وعَنَى تغيير الوجه هذا... أن بشّار الأسد بدأ يتراجع أمام المتشدّدين في النظام .
وهذا الخوف الحقيقي كان التحدّي لسلطاتهم ومصالحهم من قِِبَل حركة المجتمع المَدني , إلا أنهم ألبسوه , ويا للسخرية , ثوب الاحتجاجات التي تنادي بالحاجة للوحدة الوطنية والاستقرار لمواجهة إسرائيل العدوانية دائماً والتي أصبحت أكثر خطراً بعد انتخابات شباط /2001/ التي جاءت بحكومة ليكودية يمينية يرأسها المتطرف أرييل شارون.
وبعد أقل من أربع وعشرين ساعة هوجم الكاتب -القصاص- نبيل سليمان وضرب بشدة من قبل شخصين كانا ينتظرانه خارج منزله في اللاذقية. وكان سليمان قد افتتح منتدى ثقافياً في مدينة اللاذقية في 15 كانون ثاني .
فيما خرِّبتْ سيارته الخاصة من قبل مجهولين بعد سرقة محتوياتها في 25 كانون ثاني وكان هناك اعتقاد واسع بأن وراء العملية هذهِ أياد ٍ -رسمية-
ولم يُرَوّع الناشطون من مواقف السلطة. ففي آخر شهر كانون ثاني أصدر سبعون محامياً بياناً يطالبون فيه بإصلاحات سياسية واسعة وبإلغاء حالة الطوارئ ، والأحكام العرفية - وبإصدار قانون للأحزاب يضمن التعددية ويؤمن حيادية مؤسسات الدولة خلال الانتخابات. وألح المحامون على أن حكم القانون يعني تطبيقه على كل الرسميين في الدولة بغض النظر عن رتبهم.
إغلاق منتديات المجتمع المدني
أكبر الضربات التي وجهت لحركة المجتمع المدني كانت في منتصف شهر شباط إذ صدر الأمر بألا يعقد أي منتدى إلا بعد الحصول على إذن رسمي من وزارة الشؤون الاجتماعية. وطلب من منظمي المنتديات تقديم طلب قبل خمسة عشر يوماً على الأقل في تفصيلات عن مكان الاجتماع وزمان الاجتماع والمواضيع التي ستبحث فيه وأسماء المتكلمين فيه وأسماء من سيحضر المنتدى. وكان هذا الأمر يهدف عملياً إلى إيقاف المنتديات إذ كيف يمكن للمنظمين أن يعرفوا مقدماً من سيحضر المنتدى ؟
وخلال أسابيع قليلة أغلقت كل منتديات المجتمع المدني في سورية أبوابها.
"وكانوا على حق في ذلك" هكذا قال صبحي حديدي، "لم يستطيعوا تخمين متى سيعيد النظام الحاكم سيرته الأولى ويُطبق أسلوبه القديم في القمع".
أما منتدى جمال الأتاسي في دمشق فقد تعاملت السلطات معه بانتباه أكثر لأنه يمثل التجمع الوطني الديموقراطي الذي تشكل في كانون ثاني عام /1980/ في أوج التمرّد الذي قاده الإسلاميون ضد النظام، والذي تابع نشاطاته منذ ذلك الحين بطريقة (نصف شرعية). والتجمع يربط الأحزاب اليسارية التي لم تدخل الجبهة الوطنية التقدمية بما في ذلك أحد أجنحة الاتحاد الاشتراكي العربي والمكتب السياسي للحزب الشيوعي السوري لرياض الترك.
وكان يرأس الاتحاد العربي الاشتراكي في التجمع جمال الأتاسي العضو المؤسس ثم بعد ذلك، أحد كبار المسؤولين الرسمين في حزب البعث. وفكّر بشّار الأسد إن هذا المنتدى قد يمثل كل التجمع الوطني الديموقراطي ويجب أن يسمح له بالنقاش، كما ذكر صبحي حديدي. "ولكن حتَّى هذا الهامش لم يتحمّله المتشددون".
وحتى منتدى جمال الأتاسى ، الذي كان أحد منتديات سَبَقَتْ (ربيع دمشق) رُفض طلبه في الحصول على إذن بالعمل رغم إنه تحدّى السلطات وتابع لقاءاته العامّة. وفي الثاني من كانون أول عام/2001/ حَضَرْت أحد لقاءاته وكان المتحدث فيه الصحافي والمنتج السينمائي السوري محمد علي الأتاسي. كان اللقاء حدثاً استثنائيا يُبرز المسافة التي قطعتها سورية منذ القمع العنيف في الثمانيات عندما لم يكن يتجرّأ أحد على الحضور، وكل من يحضر يُقبض عليه ويُزجّ في السجن. كان هناك أربعمائة شخص، كثير منهم من الشباب بما في ذلك الفتيات المحجبات بغطاء الرأس، وحضروا اللقاء في الصالة المكتظة بهم حتى سُلّم الدار أمام مدخل البناء وكان على الرصيف المقابل للدار ضباط المخابرات بثيابهم المدنية يراقبون الجمع بصورة علنية دامت المحاضرة ساعة واحدة وتبعها نقاش حيوي وأحياناً،ساخن دام ساعتين دافع خلاله أكاديميون بعثيون عن سياسات النظام، وكانوا يتعمدون حضور كل لقاءات المنتدى. وذكر لي بعض الحضور أن البوليس السري كان سابقاً يقف على مدخل الدار ويُسجل أسماء الداخلين.
ومنذ ذلك التاريخ-كانون أول/2001/ تابع المنتدى لقاءاته الشهرية حتى نيسان عام 2002.
العقد الوطني الاجتماعي
أصدر ميشيل كيلو وزملاؤه في لجان إحياء المجتمع المدني، بدون خوف أو رعب، وثيقة مهمة بعنوان: نحو عقد اجتماعي وطني في سورية ، أعلنوا أن الوثيقة تمثل إرشادات عامّة كأساس لحوار وطني شامل ،لذا تؤكد الوثيقة على:
· وجوب معاملة المواطنين كأشخاص أحرار، المواطنون الأحرار، يجب أن يكونوا الدعامات الأساسية في نظامنا الاجتماعي والسياسي.
· ويجب معاملة الناس فقط كمجموعة موحّدة من المواطنين الأحرار وليس كجسم مشكلٍ من فئات متعددة دينية وطائفية واقتصادية.
· إن الاستقلال والحرية والكرامة والقوة والوحدة في بلدنا هي أهداف عامة لنضال مستمر في معركة ضد الجشع والطمع محلياً-داخلياً-، وضد العدّو الصهيوني وقوى النهب والسيطرة خارجياً والديموقراطية هي أمضى أسلحتنا لكسب المعركة.
· يجب على الدولة أن تقوم على أساس العدل وحُكم القانون.
· النظام الاقتصادي في سورية يحتاج إصلاحاً عميقاً وديموقراطية تلازمها شفافية وتعدّدية سياسية وإعلامية ومجتمع مدني وحكم القانون، فصل السلطات وانتخابات حرّة تُجرى تحْت رقابة مستقلة كلها شروط ضرورية لنجاح الإصلاح الاقتصادي.
اختار بشار الخبز قبل الحرية
ركزّ بشار الأسد دائماً على أهمية الإصلاح الاقتصادي واتخذت سلسة من التدابير المالية والاقتصادية في الأشهر التي تلت تسلمه السلطة في الثاني من كانون أول عام /2000/، مثلاً أعلنت القيادة القطرية موافقتها على خُطط لتأسيس أوّل مصرف خاص وبورصة (لسوق الأسهم)، مع تعويم العملة المحلية معلنة بذلك نهاية لأربعين سنة من احتكار الدولة للعمل المصرفي ومكاتب تبديل القطع الأجنبي. ومع حملة تحطيم حركة المجتمع المدني جاء التواء هام جديد يعلن إن الإصلاح الاقتصادي أولوية على الإصلاح السياسي-موقف بشّر به الرئيس في مقابلته مع جريدة الشرق الأوسط في الثامن من شباط.
اعتقالات :
أول اعتقال في 9 آب/2001/ كان عضو مجلس الشعب مأمون الحمصي الذي بدأ إضراباً عن الطعام لدعم المانفستو من(10) نقاط الذي أصدره مطالباً بالإصلاح، وهذا ما أغضب المتشدّدين سابقاً لأنه أسس لجنة برلمانية لحقوق الإنسان. ولقد اتهمت السلطات الحمصي بالتهرّب من الضرائب وهي تهمه استعملها النظام مراراً ضد خصومه. وفي 20 آب أصدر ثلاثون من المثقفين، بما فيهم ميشيل كيلو والفيلسوف أنطوان المقدسي بياناً يطالب بإطلاق سراح (الحمصي) ومحاكمة الذين خرقوا قوانين البلاد وخرقوا الدستور مهما كانت مناصبهم ورتبهم الرسمية.
وبرغم هذا الفتور السياسي المتنامي، أعاد البرلماني رياض سيف لقاءات منتداه في 5 أيلول حيث تجمّع(400) شخص وسمعوا محاضرة الدكتور برهان غليون عالم الاجتماع في جامعة السوريون وعنوانها الحاجة لنظام سياسي تعددّي ونهاية للأحكام العرفية... وكان سيف قد أوقف لقاءات منتداه في شباط عام/2001/، ولكنه حَضّرَ لهذا اللقاء رغم فشله في الحصول على الإذن الرسمي اللازم.
وفي اليوم التالي اُسْتدُعي إلى وزارة الداخلية واعتقله ضباط المخابرات وسُجن مع زميله (الحمصي) ومع رياض الترك في سجن عدرا شمال شرق دمشق. وقبل خمس ساعات من اعتقاله صرح (سيف) لجريدة (فايننشَالْ تايْمْزْ) عن عزمه الأكيد على متابعة عمله السياسي رغم اعتقال (الحمصي) و(الترك) لأن السلطات تريد إرعاب الناس وتريدهم أن يعرفوا إنها لا تسمح بأي شكل من الديموقراطية".
وفي الثامن من أيلول اعتقل "كمال لبواني ووليد البنّي والاثنان من الأطباء وكانا يَحضران ندوة سيف. وفي اليوم التالي اعتقل الاقتصادي عارف دليله وهو شخصية قيادية في حركة المجتمع المدني، كذلك اعتقل رجل الأعمال حبيب صالح، والأستاذ المتقاعد حسّان سعدون. وفي 12 أيلول أعتقل محامي رياض سيف حبيب عيسى، وهو صحافي سابق والمتحدّث باسم منتدى جمال الأتاسي، بعدما دافع عن موكله خلال مقابلة مع فضائية تلفزيون الجزيرة. وفي نفس اليوم اعتقل فواز تلِلّو الذين كان، مع عيسى، عضواً مؤسّسِاً في جمعية حقوق الإنسان السورية
صاحَبَ الاعتقالات السالفة الذكر-حمله سامّة في أجهزة إعلام الدولة لتشويه سُمعة النشطاء بخاصّة (الترك) و(الحمصي) و(سيف). والشيء الذي لا يمكن تصديقه هو أن يومية (الثورة) كان لديها الوقاحة للإدّعاء بان المعتقلين كانوا "يُعرْقلون الحوار الوطني وأجواء الحرية المنتشرة في سائر أنحاء سورية".
وقُدّر عدد المؤيدين لحمصي بثلاثة آلاف اجتمعوا خارج قصر العدل يوم الجلسة الثانية لمحاكمته في 13 تشرين ثاني مما أوقف السير في قلب العاصمة دمشق.
ودخل الحمصي قاعدة المحكمة يرتدي بذّة سوداء أنيقة وعلى كتفيه العلم السوري. وعندما حاول الكلام أسكته رئيس الجلسة فردّ عضو البرلمان مأمون الحمصي: "لقد قضيت أربعة أشهر في السجن وأعتقد إنني استحق أربعة دقائق من الحديث. هذه ليست عدالة متوجهاً بكلامه لكل من في قاعة المحكمة: "يتهموننا بخرق الدستور وهم أنفسهم الذين يخرقونه." وفيما كان يقاد لخارج القاعة صرخ عالياً: نحن نُضحي بكل شيء من أجل سورية. عاشت سورية وعاشت الحرية وعاش العدل".
في اليوم التالي اقتيد رياض سيف من زنزانته في سجن عدرا للجلسة الثانية للمحاكمة. وامتلأت المحكمة بالأصدقاء وأعضاء العائلة والدبلوماسيين من الولايات المتحدة والنرويج وهولندا وسويسرا وبلجيكا والمانيا. ولما دخل القاعة بعد تأخر خمس ساعات حَظِيَ باستقبال حافل بوقوف كل الحاضرين. وبعد ذلك بقليل أعلنت زوجته (ريم) إنها "فخورة به" وقالت لي إن رياض يشعر بالتفاؤل ولا يهمه ماذا سيحدث"
وبعد تأخير طويل حُكم مأمون الحمصي في 19 آذار عام 2002 بالسجن خمس سنوات لأنه "حاول تغيير الدستور بوسائل غير مشروعة"، وفي الرابع من نيسان 2002 حُكم على رياض سيف أيضاً بالسجن لخمس سنوات لمحاولته تغيير الدستور بطرق غير مشروعة ولتشكيله جمعية سرية. ورد سيف بأعصاب فولاذية مُعلناً إن الحكم عليه هو وسام وشرف له، وصاح: يحيا الشعب الحرية... الحرية. وحضر الدبلوماسيون الغربيون إعلان الحكم عليه.
لم تفشل حركة المجتمع المدني بل على العكس لقد شجعت خلق تحالف واسع من الاتجاهات المعارضة-بما في ذلك الإخوان المسلمون ذي الأهمية القصوى .
وقام التحالف على أساس الديموقراطية "الآن لدينا اتجاه إسلامي ديموقراطي، واتجاه علماني-أي-التجمع الوطني الديموقراطي، والمثقفون الديموقراطيون وحركة المجتمع المدني". هذا ما قاله (كيلو). "لقد تشكلت كتله أساسها لأول مرة في سورية، الديموقراطية وأعضاؤها لهم اتجاهات إسلامية ووطنية –قومية-وشيوعية وليبرالية". "في سورية كتلتان الكتلة المؤسسة على الديموقراطية، والكتلة التي تمثل النظام والتي تعلم إنها فشلت وليس لها برنامج حقيقي للإصلاح."
* كاتب سوري في المنفى باحث في التربية السياسية