غاندي والساتياغراها

غاندي والساتياغراها

رغداء زيدان/سوريا

[email protected]

هل تطبيق سياسة اللاعنف في حياتنا مهمة مستحيلة؟

تمهيد :

اشتهر غاندي بين الناس بأنه صاحب الدعوة إلى مبدأ الساتياغراها أواللاعنف, مبدأ المقاومة السلمية, ولكن سيرة هذا الرجل جديرة بالاهتمام لما فيها من أمور مهمة أخرى نحن بحاجة لتذكرها والعمل بها.

في هذا المقال أود الحديث عن بعض هذه الأمور, كمسألة الخدمة العامة والتطهير الذاتي, والأهميسا (الحب), ومبدأ الساتياغراها الذي أطلقه غاندي, والذي عمل طوال حياته على ترسيخه وتفعيله في مجتمعه. وأود أيضاً أن أتحدث عن بعض تجارب غاندي في هذا المجال, والأسباب التي دفعته لاتخاذه كوسيلة للمقاومة وخدمة المجتمع.

والهدف من هذا كله تذكير القراء بهذه المبادئ في وقت أصبحنا نعاني فيه من فقدان الحس بالمسؤولية والفاعلية ومن فرط العنف, وسيادة لغة القوة والبطش في كل مكان في العالم, سواء على المستوى العام بين الدول مع بعضها وبين الحكومات والمعارضة أم على مستوى العلاقات الإنسانية في نطاقها الضيق في البيت والمدرسة والشارع.

وسأعتمد في حديثي على كتاب غاندي (قصة تجاربي مع الحقيقة, سيرة المهاتما غاندي بقلمه) والذي أصدرته دار العلم للملايين في بيروت بترجمة منير البعلبكي.

غاندي وقصة تجاربي مع الحقيقة:

كتب غاندي سيرته الذاتية بهدف تقديم مثال مفيد للناس في رحلة البحث عن الحقيقة. التي هي "المبدأ السيد والذي يشمل مبادئ أخرى عديدة, وهذه الحقيقة ليست هي الصدق في الكلمة فحسب, ولكنها الصدق في الفكر أيضاً, وليست هي الحقيقة النسبية كما نتصورها فحسب, بل الحقيقة المطلقة, المبدأ الأزلي, يعني الله أيضاً" (ص 8).

لقد انطلق غاندي من مبدأ البحث عن الحقيقة ليصل إلى أننا في هذا الكون نعيش لهدف وغاية, وأننا حتى نصل إلى الحقيقة لابد لنا من أن نعرف طريقنا في هذه الحياة والغاية من وجودنا, وقد عرف غاندي أن الإنسان وُجد لكي يكون مفيداً لغيره, وليقدم ما يستطيع من أجل خير الجميع, جميع الكائنات في هذه الأرض.

ولن يستطيع هذا الإنسان أن يكون مفيداً إلا إذا أحب مجتمعه وما فيه, ولذلك فقد اعتبر غاندي أن الوسيلة الوحيدة لإدراك الحقيقة هي (الأهميسا) والتي تعني الحب, هذا الحب الذي يدفع الإنسان إلى خدمة مجتمعه والعمل على إصلاحه, "فرؤية الحقيقة الكاملة لا يمكن أن تتم إلا بعد تحقيق الأهميسا (الحب) تحقيقاً كاملاً. ولكي يرى المرء "روح الحقيقة" الكلية الشاملة في كل شيء, وجهاً لوجه, يتعين عليه أن يحب أحقر الكائنات حبه لنفسه, والرجل الذي يطمح إلى ذلك لا يستطيع أن يعتزل أي حقل من حقول الحياة, وهذا هو السبب الذي من أجله قادني تعبدي للحقيقة إلى حقل السياسة" (ص 576).

من منطلق الحب هذا, ولتحقيق هدف الخدمة الإجتماعية, انطلق غاندي في رحلته فبدأ بنفسه, محاولاً تطهير ذاته, ليهييء نفسه لخدمة مجتمعه. ويسرد لنا في كتابه هذا تجارب كثيرة وحوادث كثيرة يصف فيها طريقته في تطهير ذاته, والتحكم بشهواته, وضبط نفسه. وقد كان بالفعل صاحب إرادة قوية وعزيمة تستحق الإحترام بغض النظر عن موافقتنا أو رفضنا لما ألزم به نفسه من أنواع الأطعمة مثلاً, سواء بهدف التطهير الذاتي أم الاستشفاء من الأمراض المختلفة, فقد كان يعتبر الغذاء هو أساس الصحة (كان غاندي نباتياً, وقد امتنع عن أكل اللحم, والذي يعني عنده كل ما تنتجه الحيوانات كالحليب والبيض أيضاً, وكان امتناعه هذا لسبب ديني فأكل اللحم حرام في شريعته الهندوسية, ورغم كل الضغوط التي واجهها لم يتراجع عن امتناعه هذا, وسنجده فيما بعد قد اقتصر على أنواع محددة من الأطعمة النباتية حسب ما كان يعتقده من ضرورة للتطهير الذاتي)  أو بما حرمه على نفسه كاعتزال زوجته في آخر الأمر مبرراً ذلك أن الأمر ليس مجرد مسألة من مسائل الجسد, فالأمر يبدأ بالكبح الجسدي, ولكنه لا ينتهي هناك, بل إنه يصل في غاية كماله إلى طهارة الفكر فلا يخطر على البال خاطر الشهوة أصلاً. هذا بالإضافة إلى لجوئه إلى الصيام في حالات كثيرة, فكان يعتبره دواء وكفارة للخطايا, فكان إذا حصل معه ما يراه خطأ سارع إلى الصيام كتكفير لهذا الخطأ.

والملفت أن غاندي كان لا يعتبر امتناعه هذا نوعاً من الحرمان, بل إنه كان يدفع نفسه إلى الاستمتاع بوضعه الجديد قدر استطاعته, وكان يشجع أفراد أسرته على ضبط النفس والالتزام بما هو مفيد لصحتهم, من وجهة نظره, مهما كان صعباً (مرضت زوجته مرضاً خطيراً مرة, فتوسل إليها بعد أن أخفقت جميع أدويته, لأنه كان هو الذي يتولى علاجها بطرقه الخاصة المعتمدة على العلاجات بالماء والتراب, توسل إليها أن تجتنب الحبوب والملح, ولكنها رفضت ذلك, وقالت له إنه شخصياً لن يجتنب الملح والحبوب إذا طُلب منه ذلك, فقال لها أنت مخطئة. لو كنت مكانك لاجتنبتها, وأعلن أمامها أنه سيترك تناول الملح والحبوب عاماً كاملاً, سواء فعلت هي مثله أم لا, مما جعل زوجته تلتزم بنصيحته, ولم يتراجع غاندي عما ألزم به نفسه, وبالفعل امتنع عن أكل الحبوب والملح كما قال عاماً كاملاً, ص 379) .

ومن خلال التطهير الذاتي استطاع غاندي أن يتخلص من مظاهر استلابية كثيرة, فبعد أن كان يخجل من لباسه الهندي البسيط عندما سافر إلى بريطانية لإكمال دراسته, نجده قد اعتمد هذا اللباس في مراحل حياته التالية. ونجده أيضاً وقد عرف أن تقليد المظاهر الحضارية ليس هو التحضر المطلوب, ففي بريطانية ذلك البلد الأوروبي الذي له عاداته وتقاليده, التي تختلف كلياً عن عادات بلد فقير كالهند, حاول غاندي تقليد هذه العادات حتى لا يبدو متخلفاً ولا يصبح أضحوكة, فصرف مبلغاً ضخماً لتفصيل بدلة على الطراز الغربي, وسجل في دورة للرقص, وفي دورة لتعلم الكمان, ودروة للخطابة, كل هذا حتى يصبح رجلاً متحضراً في عيون الإنكليز الذين يتعامل معهم. ثم انتبه إلى نفسه سريعاً, وعرف أنه وقع في فخ شبيه بالفخ الذي وقع فيه ذلك الناسك الذي وجد قطة فأراد إطعامها فاشترى بقرة, ثم وجد أن هذه البقرة بحاجة إلى من يعتني بها فاستأجر رجلاً للقيام بهذه المهمة وهكذا حتى تضخمت الطلبات وعجز عن الوفاء بها. لقد عرف غاندي أن هذا الالتزام بهذه المظاهر لا يدل على التحضر الحقيقي ووجد أنه ينفق ماله ووقته على أشياء ليس بحاجة لها فقرر ترك دورات الكمان والخطابة والرقص وعمل جهده على تعلم ما يفيده ويفيد بلده فعمل على الاهتمام بدرسه وعلمه حتى أكمل تحصيله العلمي في الحقوق وعاد إلى بلده الهند.

ويذكر لنا غاندي أنه عندما عاد للهند وجد أن الاجتماعات المهمة يتم الخطابة فيها باللغة الانكليزية فمرة حضر مؤتمراً وعندما طلبوا منه أن يخطب فيه قال جملة واحدة بالهندوستانية فوجد أن الكل جاؤوا لتهنئته وقالوا إنها المرة الأولى التي يتحدث فيها رجل باللغة الهندوستانية في اجتماع كهذا. وقد قال غاندي واصفاً الألم الذي شعر فيه جراء هذه الحادثة: "كان في التهنئات الموجهة إلي, واكتشافي أني كنت أول من تكلم بالهندوستانية في اجتماع برئاسة نائب الملك, أقول كان في تلك التهنئات وذلك الاكتشاف ما جرح كبريائي الوطنية. لقد شعرت وكأني أتقلص في جلدي. فيالها من فاجعة أن تكون لغة البلاد محرمة في اجتماعات تعقد في البلاد من أجل عمل يتصل بالبلاد, وأن يكون خطاب يلقيه بالهندوستانية شخص ضال مثلي مسألة تستحق التهنئة! إن أحداثاً مثل هذه لتذكرنا بالدرك الخفيض الذي تردينا فيه" (ص511)

أصر غاندي على تعليم أولاده لغتهم الأصلية, حتى وهو في غربته في جنوب إفريقيا, في وقت كان فيه تعلم الثقافة الإنكليزية مطلب من المستحيل التخلي عنه لمن أراد الحصول على مكانة إجتماعية مرموقة. لقد أراد غاندي لأولاده أن يكونوا هنوداً حقيقيين فمن كان همه الخدمة العامة يجب أن لا يكون غريباً بفكره وروحه عن مجتمعه.

وهذا الذي تنبه إليه غاندي بفطرته يغفل عنه معظم إخواننا العرب المغتربين في البلاد الغربية, فيهملون تعليم أولادهم لغتهم العربية, ويعيشون حالة من الإزدواجية الغريبة والمؤلمة التي تجعلهم غرباء عن أوطانهم وغرباء عن البلاد التي يقيمون فيها.

لقد فهم غاندي أن ما يحتاجه التحضر ليس هذه المظاهر, ولكنه يحتاج إلى تهيئة النفس لتكون قادرة على خدمة المجتمع, وهكذا فقد انتقل من الاستلاب إلى التأصيل رغم أنه لم ينغرس في استلابه كثيراً, لأنه كان رجلاً فطرياً متمسكاً بالأخلاق وكان صاحب هدف يسعى لتحقيقه من خلال تطهير نفسه وتهيئتها لتكون قادرة على بلوغ ذلك الهدف المنشود وهو الخدمة العامة التي عاش حياته كلها في سبيلها.

هذا الضبط الذاتي, جعل بإمكان غاندي أن يتحكم بقضية المصاريف أيضاً, فكان رجلاً مقتصداً, لا ينفق المال إلا في مكانه, وقد تعلم ذلك منذ أن كان طالباً في إنكلترا, فقد كان يتلقى المال من أخيه في الهند, وكان لا يريد تحميل أخاه تكاليف إضافية فوق ما يحتمله, يكفي أنه ترك زوجته وابنه في رعايته, وأنه يعتمد في مصروفه عليه أيضاً, فصار يسجل مصاريفه ويراجعها وعندما يجد أنه أنفق ماله على أشياء غير ضرورية كان يلغي بند الإنفاق هذا, حتى قلص مصروفاته إلى الحد الأدنى.

وبقي غاندي رجلاً مقتصداً طوال حياته وهذا لا يعني أنه كان بخيلاً, بل كان ينفق أموالاً كثيرة إذا وجد ضرورة لذلك, ولكنه كان حريصاً على وضع كل قرش في مكانه الصحيح, وهذا ما جعله أهلاً لثقة الهنود فكانوا يضعون مدخراتهم عنده, ويأتمنونه على ما يملكون.

وفي حقل الخدمة العامة لم يكن غاندي منظّراً فقط, بل كان إنساناً لا يتوانى عن القيام بأي عمل مهما كان في سبيل إصلاح مجتمعه وخدمته, حتى لو اضطر إلى تنظيف المراحيض, وقد فعل ذلك. ومراحيض تلك الأيام ليست كما هي اليوم (أذكر القارئ أن غاندي من مواليد 1869 وتوفي سنة 1948م) لقد كانت أشبه بحوش وهو يحتاج إلى تنظيف دائم وإلا أصبح مرتعاً للجراثيم ومصدراً للأمراض, وهذا ما حصل بالفعل, وقد كان غاندي يقوم بما يراه ضرورياً من أعمال التنظيف تلك.

وعلى ما يبدو فإن الهنود لم يكونوا يهتمون بالنظافة العامة, وقد وجد غاندي أن الناس في القطارات مثلاً, يوسخون, ويبصقون, ويرمون قاذوراتهم في كل مكان, ويلتفظون بالكلام البذيء وغير ذلك من المظاهر المزعجة, ومسؤولو السكك الحديدية لا يفعلون شيئاً حيال ذلك, فكانت عربات القطار أشبه بحظيرة قذرة, فقرر غاندي تكثيف رحلاته في تلك القطارات , وصار يقوم بتوعية الناس, وحثهم على النظافة المادية والمعنوية, وصار يبعث بخطابات الشكوى إلى مسؤولي السكك الحديدية بسبب مظاهر الإهمال مرات ومرات حتى أوجع رؤوسهم, كل هذا حتى يستطيع إصلاح هذا الوضع المزري. صحيح هو لم يصل إلى التغيير الشامل, ولكنه بذر بذرة ذلك التغيير.

إننا نجد في سيرة غاندي صورة للرجل العامل الذي كان يندفع للتطبيق العملي ولا يقتصر على الخطابات والوعظ, بل إنه كان يقوم بأي عمل يستطيعه في سبيل المصلحة العامة, مهما كان هذا العمل حقيراً يترفع عن القيام به الآخرون, وكان يعلم أولاده ذلك, وقد أوكل إليهم مهمات كثيرة من هذا القبيل, فكانوا لا يترفعون عن القيام بأعمال التنظيف والأعمال الأخرى التي تخدم أمتهم.

ورجل كغاندي كان يهمه الخدمة العامة, كان حريصاً على التعاون مع كل رجل مهتم بهذه الخدمة العامة, مهما كان دينه أو عرقه أو طبقته. ونحن نعلم أن الهند مجتمع خليط من الأديان والأعراق والطبقات, فهناك المسلم والمسيحي والهندوسي...وهناك أهل الطبقة العليا والمنبوذون.....إلخ

غاندي لم يكن يفرق بين أحد من الناس, فقد كان يتعامل مع الجميع باحترام ومحبة, وكان يحترم الأديان ومعتقدات الناس, فكان له أصدقاء مسلمون ومسيحيون, بل إنه تعامل مع المنبوذين, وهنا أذكّر القارئ بأنه يوجد مبدأ في الديانة الهندوسية يسمى مبدأ (اللامساسية), ووفق هذا المبدأ يحرم مثلاً على المنبوذ أن يملأ دلوه من بئر يشرب منه أهل الطبقة الأعلى حتى لا تسقط قطرات من دلوه فتنجس ذلك البئر, وهؤلاء المنبوذون ليس لهم أمل في الانتقال إلى طبقة أعلى. غاندي كان من أسرة محترمة, ولم يكن من المنبوذين ولكنه مع ذلك كان لا يؤمن بمبدأ اللامساسية هذا, وكان يختلط بالمنبوذين, وقد عاش مع أسرة منهم في معبد وكان يأكل معهم ويتعامل معهم كما يتعامل مع غيرهم بكل احترام وود, بل إن الطاعون عندما حل في البلد مرة, قام غاندي وجماعة معه بالتنفتيش في مراحيض هؤلاء المنبوذين والغريب أنه وجدها كما قال أكثر نظافة من مراحيض الأغنياء, ووجد منهم كل تعاون وترحيب.

لقد كان غاندي يسعى لخدمة مجتمعه بكل ما يملك من إمكانات, وكان يسعى لإصلاح نفسه بالتوازي مع خدمة مجتمعه, فلم ينتظر أن يصير قديساً حتى يبدأ بالخدمة العامة, ولكن عمله في إصلاح نفسه وفي خدمة مجتمعه كانا يسيران معاً, وكم من مرة اعترف بخطأ ارتكبه مهما كان ذلك مكلفاً, وبأنه تسرع في أمر ما, ويذكر لنا مثلاً كيف غيّر معاملته لزوجته فبعد أن كان يراها للمتعة فقط, وكان يعاملها معاملة سيئة متسلطة عرف قيمتها, وصار يحاول إشراكها في أعماله, لقد فهم أنها شريكته وأن لها كيانها وشخصيتها.

إن مراجعة صغيرة لسيرة غاندي تعطينا صورة لرجل أخلاقي بالفطرة, رجل كان صادقاً في وعده, موفياً بما ألزم به نفسه, صاحب إرادة قوية, وصاحب رسالة سامية.

إن محبته لمجتمعه ولما حوله من الكائنات جعلته يعتمد مبدأ الساتياغراها, ذلك المبدأ الذي شرحه وحاول تطبيقه بشكل عملي من أجل تخليص بلده من الاستعمار البريطاني. فما هو هذا المبدأ؟

الساتياغراها أو اللاعنف:

يقول غاندي إن مبدأ الساتياغراها وُلد عندما كان مقيماً في جنوب إفريقيا, ذلك البلد العنصري الذي كانت تقيم فيه جالية هندية كبيرة, كانت تتعرض للتمييز العنصري البغيض بصورة بشعة, وقد ذكر لنا غاندي قصصاً كثيرة تظهر بشاعة هذا التمييز الذي كان يتعرض لـه كل من ليس أوروبياً في تلك البلاد.

أما مبدأ الساتياغراها فقد نشأ هناك, وكانت هذه الحركة كما يقول غاندي تسمى "المقاومة السلبية" وقد اكتشف غاندي في اجتماع لبعض الأوروبيين أن تعبير "المقاومة السلبية" كان يؤول تأويلاً ضيقاً, حتى لقد اُفترض أنه سلاح الضعيف, وأنه قد يتميز بالبغض, وأنه قد يتخذ آخر الأمر شكل العنف, وهنا رأى غاندي أنه يتوجب عليه شرح حقيقة هذه الحركة الهندية, وأراد اختيار اسم يعبر عن مضمون الحركة, فأعلن في مجلة "الرأي الهندي" أنه سيقدم هدية رمزية للقارئ الذي يقترح اسماً مناسباً للحركة, فتقدم أحدهم باسم (ساداغراها: ساد= الحقيقة, وآغراها= الثبات) فصار اسم الحركة بعد تصحيفه "ساتياغراها" والتي تعني "الثبات على الحقيقة". (ص371). (سرد غاندي تجاربه في جنوب إفريقيا مع الساتياغراها في كتاب, وقد تُرجم إلى العربية بعنوان (قصة اللاعنف في جنوب إفريقيا) ترجمه منيرالبعلبكي أيضاً, ونشرته دار العلم للملايين في بيروت).

ومن خلال القصص التي ذكرها غاندي في سيرته نستطيع أن نلخص خصائص الساتياغراها عدة نقاط:

1 ـ الساتياغراها لا تعني الضعف بأي حال من الأحوال, بل هي تعني القوة بأجلى صورها, إن الثبات على الحقيقة, الثبات على الموقف وعلى الحق يحتاج إلى إرادة كبيرة لا تتوفر لأي كان, لأن هذا الثبات سيتعرض لامتحانات كثيرة, قد تجبر كثيرين على التراجع والتسليم. كما أن الثبات على الحقيقة يتطلب أن يكون الإنسان مستعداً للتضحية, مستعداً للإضطهاد, وهذا كله يحتاج إلى قوة وإرادة واستعداد للبذل.

2 ـ الساتياغراها لا تكتمل إلا بالحب, فهي لا تؤدي إلى كره من نقاومه, فقد كان غاندي يحث أتباعه على كره الإثم وليس كره الآثم. إن الساتياغراها هي مبدأ الحب, حب الخير للجميع, ومن دون هذا الحب فإن العنف سيطل برأسه, وستمتلأ النفس بالرغبة بالانتقام والبغض.

3 ـ الساتياغراها إذا اُستخدمت بشكلها الصحيح فإنها لا تحتاج إلى العنف, ولكنها تحتاج إلى ضبط النفس والتحكم بالذات, والصبر وقوة الاحتمال, فمن يتعرض للأذى بسبب موقفه الثابت على الحق, ولا يرد العنف بمثله ولا يسمح للبغض أو الرغبة في الإنتقام بالتسلل إلى نفسه فهو إنسان قوي جداً, وليس ضعيفاً أبداً, بل إننا نرى أن اللجوء إلى العنف هو وسيلة سهلة بالمقارنة مع ضبط النفس وكبحها وعدم الرد على الإساءة بمثلها, وفوق ذلك أن يتمتع (الساتياغراهي) بالحب الذي يدفع إلى الإحسان إلى من أساء.

4 ـ الساتياغراهي, كما قال غاندي, "يطيع قوانين المجتمع طاعة عاقلة وبمحض إرادته, لأنه يعتبر أن ذلك واجب مقدس, ولن يكون في ميسور المرء أن يبدي رأياً في القوانين ويصف بعضها بالصلاح والعدل وبعضها الآخر بالطلاح والاجحاف إلا إذا أطاع قوانين المجتمع على هذا النحو والتزمها التزاماً دقيقاً, عندئذ فقط يصبح ذا حق في أن يعصي القوانين عصياناً مدنياً في ظروف محددة" (ص541). إن هذا الكلام يعني أن الساتياغراها ليست حركة رفض غير واعي لمجرد الرفض, بل هي حركة واعية عاقلة تعرف ما تريد, وتعرف لماذا تقاوم, ليست حركة فوضى وشغب, بل حركة بناء وتصحيح.

لقد وجد غاندي من خلال تجاربه أن مبدأ الساتياغراها بحاجة إلى نشر بصورته الصحيحة بين الناس, ووجد أن الشعب لن يفهم هذا المبدأ ما لم تقم فئة واعية باستخدامه بينهم بصورته السليمة الصحيحة, لذلك فقد توجه إلى العمل على إيجاد فئة واعية تفهم مبادئ الساتياغراها, ويكون عليها إفهامها للناس بشكل عملي واضح, وعن طريق التثقيف والتوعية العامة.

إن إصرار غاندي على نشر مبدأ الساتياغراها يدل على إيمانه العميق بها, وبأنها السبيل الأسلم للمقاومة, ولا ننسى أن غاندي استخدم الساتياغراها في جنوب إفريقيا كما قلنا, وهي بلد عنصري له ظروفه الخاصة, والهنود كانوا فيه جالية مهاجرة, وهذه الجالية ليست لوناً واحداً إنها مجتمع الهند المصغر بطوائفه وأعراقه وأديانه, وعندما عاد غاندي للهند استمر في دعوته للاعنف رغم أن الهند كانت بلداً محتلاً, عمل فيه الانكليز على تفرقة الناس وإثارة النعرات الطائفية بين الناس, وقد وجد غاندي أن العنف لن يؤدي إلا إلى الخراب والتدمير, وبينما الثبات على الحقيقة سيجمع أفراد الشعب الهندي وسيجعلهم قوة لا يستهان بها ستتحقق النصر المنشود في النهاية دون ريب.

هل تطبيق سياسة اللاعنف في حياتنا مهمة مستحيلة؟

في دين الإسلام مبادئ هامة وعظيمة, ونحن للأسف نذكرها دون أن نفعّلها في حياتنا. فمن منا لا يتذكر الآيات الكثيرة التي تدعو إلى العفو والتسامح وعدم رد السوء بمثله, من مثل قوله عز وجل: " خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ" (لأعراف:199). وقوله تعالى: "وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (آل عمران:134). وقوله تعالى: "وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً" (الفرقان: من الآية63) , وقوله: "وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ" (فصلت:35)

ومن منا لا يتذكر كيف ثبت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على تعذيب الكفار لهم في مكة, دون أن يتراجعوا عن الحق الذي يؤمنون به, ودون أن يلجؤوا إلى الانتقام بعد أن واتتهم الفرصة لذلك.

ومن منا لا يتذكر تلك القصص التي تصور رجلاً يمسك بخناق الرسول صلى الله عليه وسلم, وكيف تعامل النبي معه بصبر, وكيف منع الصحابة من الرد على هذا الرجل الجاهل بعنف؟

ومن لا يتذكر وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه في حروبه التي خاضها والتي حفظوها وبلغوها لبعضهم بعضاً بعدم قطع الأشجار وعدم قتل الحيوانات وعدم الاعتداء على ممتلكات الناس, وعدم قتال إلا من قاتلهم؟

للأسف فإن كل هذه التعاليم تُردد دون أي تفعيل عملي على أرض الواقع, وكأنها وُجدت للقراءة فقط, وكأنها غير قابلة للتطبيق أصلاً.

إن دراستنا لمبدأ الساتياغراها يهدف بالدرجة الأولى إلى تذكير القراء بنموذج (عملي معاصر), نُفّذ على أرض الواقع لسياسة اللاعنف, سياسة الثبات على الحق دون كره أو بغض. صحيح هو مثال ليس إسلامياً, ولكنه رغم ذلك يتوافق مع تعاليم الإسلام التي أُهملت وغُيّبت عن حياتنا وتعاملاتنا.

كثيرة هي مظاهر العنف في حياتنا, بدءاً من البيت وصراخ الأم على أطفالها, وضرب الأب لأولاده, ومشاجرات الأخوة مع بعضهم, إلى المدرسة وتعنيف المدرس لطلابه بالضرب والشتائم, ومشاجرات الطلاب مع بعضهم, إلى الشارع وتحفز الناس ضد بعضهم البعض بدءاً من الحافلة إلى الدائرة الحكومية, إلى المستشفيات .....إلخ, حتى نصل إلى المستوى العام ومانراه من مظاهر البطش والعنف داخل الدولة الواحدة كما في العراق مثلاً أو بين الدول.

لقد صارت مظاهر العنف والبطش وما يرافقها من بغض وكره متنشرة بصورة كبيرة بيننا, ونحن نلمس الآثار السيئة جداً من جراء ذلك وانعكاساتها على حياتنا.

فغياب التراحم والمودة في الأسرة الواحدة, وسيادة الكره والبغضاء والاحتقار بين المدرس وتلميذه, وغياب التسامح واللطافة في تعاملات الناس مع بعضهم, إلى انتشار الحروب وغياب الأمن وانتشار الفقر وصرف المال اللازم للتعليم والصحة على التسلح......إلخ, كل هذا ما هو إلا بعض الآثار السيئة لسيادة لغة العنف والبطش بين الناس.

وإذا تساءلنا عن أسباب انتشار العنف بهذا الشكل, سنجد أننا بحاجة لدراسة موسعة ليس هنا مجالها, ولكن يكفي أن نشير إلى أن التعبير العنيف أسهل بكثير من ضبط النفس, وهو مظهر ضعف, ويعبر عن فشل في التعامل مع الأوضاع والأشخاص, كما أنه يعبر قبل كل ذلك عن غياب المحبة, محبة الأوطان والأشخاص, فالإنسان الذي يلجأ للبطش والتخريب يكون على استعداد للتضحية ببيئته ووطنه, وتصرفه هذا يدل على عدم حرصه على هذا الوطن, وعدم تقديره لقيمة الحياة بمعناها الإنساني السامي.

إن الدعوة إلى اللاعنف هي دعوة إلى القوة, وإلى ضبط النفس, وإلى الثبات على الحقيقة, وللأسف فإننا لا نجد بين مثقفينا من يدعو إلى هذا المبدأ إلا نادراً (جودت سعيد وهو أكثر من دعا إلى مبدأ اللاعنف, مازالت دعوته حبيسة إطارها النظري التنظيري, البعيد عن الإطار العملي المطلوب) بل إننا نجد أن من يدعو إلى اللاعنف يُخوّن ويوصف بالضعف والتخاذل والانبطاح.....

والملفت أن هؤلاء حكموا على هذه الدعوة دون أن يحاولوا تطبيقها أو فهمها أصلاً, ولا نكاد نرى محاولة للتطبيق حتى على المستوى الضيق, في إطار البيت أو المدرسة مثلاً, فكيف سنجد لها تطبيقاً على مستوى مقاومة العدو بهدف استعادة الحقوق المسلوبة؟

إن نظرة سريعة لما يجري حولنا من أحداث تؤكد أن العنف لا يخدم إلا الأعداء أنفسهم, وأنه وسيلة تدمير ذاتية, ولنا في مثال العراق وفلسطين عبرة, إن ما يجري الآن في العراق مثلاً من تفجيرات وتقتيل وتخريب لا يصب إلا في مصلحة العدو, ويزيد من الضعف والتشرذم والبغضاء. أما في فلسطين فإن المسارعة إلى حل الخلافات الناشئة بين أهل البلد الواحد عن طريق البندقية أدى إلى تقسيم القوى وتشتيت الجهود الرامية إلى مقاومة العدو الأساسي وهو إسرائيل, وتوجهت الجهود كلها لتبرر عنف كل طرف تجاه الآخر, وفي النهاية فإن من يدفع الثمن, ثمن كل هذا العنف, هم الناس البسطاء الذين صاروا الآن في حبس داخل حبس, ويعانون من عنف مركب قلب حياتهم جحيماً.

لن أخوض في أمثلة أخرى قد يفسرها بعض القراء على أنها دعوة إلى التخاذل أو المهادنة, ولكنني أدعو القراء الكرام لمراجعة لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم, وكيف كان تعامله مع أعدائه, إن الحروب التي خاضها الرسول صلى الله عليه وسلم كانت تتبع المصلحة العامة, تلك المصلحة التي تعني الحفاظ على الحياة, والحفاظ على البيئة والأرواح, وعدم التضحية بما لا داعي للتضحية به, عدم تخريب ما لا حاجة لتخريبه, بل إن كل حروبه صلى الله عليه وسلم تعطينا مثلاً واضحاً على الحب, الذي كان الدافع إلى العمل على تقليل الخسائر إلى حدها الأدنى سواءاً في صفوف المسلمين أم في صفوف أعدائهم, ولا بد من أن نتذكر قوله تعالى:" وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الانبياء:107).

أما إذا حاولنا أن نجيب على السؤال الذي عنونا به هذه الفقرة, فإننا نقول إن تطبيق سياسة اللاعنف في حياتنا ليست مهمة مستحيلة, ولكنها مهمة ملحة في وقتنا الحالي, إنها مهمة ضرورية ولازمة في زمن نعاني منه من فرط العنف في كل مكان. ويمكن الوصول إليها وتطبيقها بشرط أن نتعرف على خصائص هذه السياسة وفوائدها ونربي أنفسنا وأولادنا عليها, فالتربية هي الوسيلة التي ستوجد فئة واعية تستطيع نشر هذه السياسة بين الناس عن طريق تطبيقها العملي الصحيح.

وقبل كل ذلك أن نحب أوطاننا وأهلنا, ونحب الحياة والكائنات, وهنا أكرر أن الدعوة إلى اللاعنف لا تعني الضعف والتخاذل والتنازل عن الحقوق, ولكنها تعني الثبات والإرادة والقوة, ومعرفة ما نريد وكيفية الوصول إليه وتحقيقه.