دوثان

عبد السلام العطاري

صدر حديثاً عن بيت الشعر الفلسطيني

هزيز المكان .. ورعوية باذخة

عبد السلام العطاري

 العلاقات الدولية / اتحاد كتّاب الانترنت العرب

رام الله - صدر حديثاً عن بيت الشعر الديوان الأول بكر، الشاعر عبد السلام العطاري والذي حمل اسم "دوثان" وقد جاء الديوان في (100) صفحة من القطع الكبير، وجاء غلاف الديوان هدية من الفنان السعودي أحمد ماطر.

وديوان العطاري يمثِّل تجربة مختلفة في سياق تجربة الشعراء الشباب في فلسطين .. حيث جدّة المفردة والأسلوبية الكتابية التي جاء بها الديوان .. والديوان برعويته الباذخة .. يقدم اقتراحاً جمالياً يتخذ من المكان بطلاً ومن الوعر سياقاً شعرياً .. يضج الديوان بالتفاصيل البرية : عرّاب الريح، هل تسمع يا مرجنا !، حداء الشمس، لُجْف، دوثان، حرز أزرق، هذه حفنة من قصائد الديوان .. بالإضافة لقصائد (البيت) .. الوطن الصغير .. الواقع بفجائعيته .. الحزن اليومي .. رغيف تعبنا .. الموت .. غوائل الاحتلال .. هذا وغيره نجده لاذعاً كاوياً في صفحات الديوان .. ودوثان .. اسم الديوان .. تلّ كنعان الشاهد على جذر الفلسطيني الذاهب في سماء "دوثان" و"دوثان" الاسم الأول واسمنا الأخير ..وشمٌ في الذاكرة .. الاسم الذي تدخل فيه الأسماء وتخلق منه الأسماء .. ما زال ينادينا بأسماء جدّاتنا وآبائنا كي لا ننسى أو لا ننسى "دوثان" .. كما جاء على لسان العطاري ..

ديوان .. هو غمزة البكر .. وهو بلادنا وهي منخلّة بالأنياب السوداء .. وهو بلادنا الذاهبة نحو حرينا الأكيدة .. وبرّنا اللافح الجسور. وقدّم للديوان الشاعر مراد السوداني .

خارج النص

هل يقدّمني النصُّ، أم أتقدّم به محموماً بسياحات مرّة وتوغُّلات ناغِرَة في أُتون راجفةٍ ندّاهة !! ثمّة إشكالوية تطلُّ بقرنين دقيقين، دقّة الوجع ومداره في آنٍ .. إنه رهان، إذاً، والتقدّم وشاح الجَسْور وفكرته النافذة كرمح إغريقي طاعنٍ في القدامة واشتقاقاتها السيّالة دفئاً ودفَقْاً محيطاً.. مغامرة هو النصّ، هنا في اقترابه من حميمية البيت وحديقة الروح. بأزاهيره وفوح الندى الحالم .. يمسكنا العطاري من قلوبنا إلى مجمرة النص لنُصَابَ باللذعة المائية في القصيدة، ولثغة المفردات التي تكرجُ على بياض الورق جافلة بتفاصيل (المكان) .. مسقط الرأس، استدراج الطفولة إلى عتباتها الأولى .. البرّية الطالعة من درغلة نايات الرعيان ونهنهاتِ اليرغول الراشح رجفاً حانياً .. هذا الشاعر الريفي منخلٌّ بالوعر ورغاءِ عناصره الفائرة .. الريف يرفع النص ويترافع بالنص في وجه سلالات القبح وزناخة الإدعاءات .. والتهارش النابح على أصالة بلائنا .. ولغو الحداثة الكالح .. ياللبلاد وهي تبذخ عطاءً وتجرش صوّانها بناب الصبر فتفيض البركة لغة وإبداعاً ونزفاً ناسغاً تِقطفّ في عيون أيائل الجبل وخضرة مرج ابن عامر الدفوق حياةً وحصاداً بمواويله الجافلات ..

ياللبلاد على شفة الشاعر ترفع قولة حقّها وحقيقتها .. وهي تشلح الزيف الزاحف عليها .. ناخراً، ناحراً .. يا للبلاد على شفة الشاعر الرانخ مواريث غناء ورباباتٍ مجروحة بهزيز الفواجع ..

ياللشاعر نعّاف تراب القصيدة مثل ذئب ذاهلٍ .. وبلوطة تتلمَّظُ صباحات الوديان .. النصّ مرافعة ناجزة ضدَّ النمل الأسود النقيض الذي يقضم وثيقة الوطن / النص .. ويهرئ الحروف لاستبدال الحكاية بنقائضها وبدائلها، فيبدّل الأسماء ويحذف الأمكنة ويمدُّ ألسنة موته وزهومته .. يرفع "دوثان" فتى كنعان الجموح ليطلق من كنانة الأسطورة ورماد التذكرّ سهاماً خضراء مُسنَبْلة بخير الأرض وفعال أجدادنا فيها كَدْحُ محاريث .. ورَشْقُ بذار يتعرَّم ذهبياً كجدائل العذراوات .. "دوثان" وشمٌ بالأخضر مدروزٌ على جباه ورّادات العين، ربّات الجرار، بلغة العطاري.

و"دوثان" تشكيلٌ معانِد لتحلّلاُت العناصر في ذاكرة (المكان) .. "دوثان"، أيضاًً، مكانية نَسْغُها التجربة الإنسانية المرفوعة للمقدّس .. ورهبة الفعل وجبروته، كذلك .. ينحلٌّ الاسم إلى هيولى البدء فتفيض البلاد حنينها وحنّاءها القاني .. فيدمع ناي، ويعلو الكلام بإرنانه الجهور على كتف عمتّنا التلّة .. وسؤالنا البكر عن جدوى التذكرُّ .. في زماننا الأعرج الكليم ..

و"دوثان" طاقة الاسم .. اشتداد العلاقة بين المسمّى وبلاغة المعنى .. بلاغة تشمّها وتتحسس وقدْها من شميم التراب ورماد مَنْ صاغوا أسطورة المكان وَعَمَرُوه بِعرْقهم اللافح وعَرَقِهِمُ المالح الكظيم .. يا لعوج بن عناق يحدّق في مجمرة هذا الـ"دوثان" فتتقادح لغة مُطَلْسَمَةٌ قادرة على الحياة والفرح والغناء .. فتسيل شقائق النعمان نزفاً من غير سوء .. النصّ مرافعة عالية باقتدار تليقُ بجيلٍ ينحاز لقوّة حقّه في الوجود .. وحقّه في الحرية .. وحقّه في نداء غدٍ أكثر أمناً .. وأقلْ نَهْباًَ .. النص وشم، إذاً، خَدَرٌ ناعسٌ مثل عشبٍ طالعٍ من شقوق "دوثان" .. وشمٌ نضّاح برهبوت "البئر" ورغبوت "الحكاية" الحكاية .. الطافحة اشتعالات وَجْد .. وغرغرة روح لاهثة في براح تفّاحها الغويْ ..

* * *

تقلّب كلام النصّ فتتراءى نتحت حجارته اكتظاظات تسعى .. فيَنفرُ الحجلُ البريٌّ، والسُمَّنُ، وتجفلُ قطاة، وتحمحم خيول اللغة بكامل حشودها واحتشادها الأروسي .. مبللّةٌ أعرافها بندى صباحات راغية بمواويل الرعاة، تصفرِّهم الريح .. تدهمك - عزيزي القارئ – دكُنّة عُلِّيق مشاغبٍ، ونارنجٌ متثائبُ أو يكاد .. النصّ مؤانسة والوحشي، مصعلكة النشيد على شفة المنشِد القروي .. النصُ احتمالاتٌ للوجع والفقر والتأمل والسياحة في برّية القول وفحواه .. البحث عن لُجفِ المعاني .. وغُفْل التراويد منعوفة على عتبات البلاد .. وعْدٌ بجماليات تليقُ بالشاعر ويليقُ بها .. ذاتَ ربيع نهبط من كفر راعي - جنين، الزاجل العنيد نجيب صبري، حسين العطاري .. حكّاء المكان وسادنه، والعطاري، وأنا .. إلى "نبع الحفيرة" كفُّ "دوثان" .. مرجٌ من الزعتر الجبلي يقطفّ أحزاننا .. ونلثغ بحرقة اللون الناهب الحريِّفْ .. نصل "الجبَّ" فتنهض الحكاية حيّة .. المكان بطلّته اليوسفية ونقع سنابك الخيل والطِرَاد المُرِّ في بطن المرج الدفوق خضرة وسرسبات رؤى .. هنا "الجبّ" .. مازال صوت النبي معلّقاً في فضاء "البئر" يرنُّ .. وها هو القميص العفيْ .. قميص الحكاية المُدَمْدِمُ بصيرة ونفاذاً وإحالات لبلاغة النبي، اليوسفي طلعة وطلّةً جارفة عارمة ..

نتحلَّق حول رقبة "البئر" .. مأخوذاً، أبدو .. مسحوباً لأعماقٍ موغلةٍ في الغربة والنأي.

حالة من الارتباك الممضِّ .. واندهاش طاغٍ، تلبَّسني فجأة .. "لا بُدّ من نثر إذاً، لا بُدّ من نثرٍ إلهي لينتصر الرسولُ" .. قال درويش البلاد.

فيما يشبه الهذيان بحتُ فخفتُ من سطوة "البئر ورهبة نداءات العمق .. وفي هذه اللحظات ارتجل زاجلنا، نجيب :

مِـنْ  يومِنْ سِبْنا iiالسِلاحْ
اطْلِعْنا من روضْ الأفراحْ
*          *          ii*
عَ  يـوسفْ يبكي يعقوبْ
لـكـنْ  لـمّا شمِّ iiالثوبْ
*          *          ii*
يـا  يوسف مرّت iiلِسْنينْ
وكُـثُـرْ ماحْنَا تحذّ iiابينْ
زُلَـيْـخَـةْ  ستْ iiالبدُورْ
خـرج  من جِبُّو منصورْ









مَـفْـهِمْنا معنى iiالأوطانْ
نِـزْلْنا  في جُبِّ iiالأحزانْ
*          *          ii*
وأصْـبَحْ عَ أمرو مَغْلوبْ
رِجْعْ  البَصَرْ من الرحمنْ
*          *          ii*
وعِـشْـنَا ما بَعْدِ iiالألفينْ
نـكَـذِّبْ  آيـاتْ القرآنْ
كـانـتْ عَ يوسفْ iiبِدوْرْ
وجبِّ زليخة من iiالوجدانْ

ثمة "البئر" الحكاية .. وحكاية البئر .. والحادي والعنَّات .. والشاعر يلتقط بباصريته وعين القلب خيط الأرجوان على تلَّة من أرض كنعان لينازل "دوثنان" بشموخه العاتي وحقيقته الأكيدة .. مستوطنة "مابو دوتان" التي فشلت أرضتها الغُولِيَّة السوداء من أن تغيِّب خارطة "دوثان" وشمسها المهيمنة .