حذام العربي

حذام العربي

سأكون بين اللوز–لحسين جميل البرغوثي

جميل السلحوت

[email protected]

 صدر هذا الكتاب عن بيت الشعر الفلسطيني عام 2004 تحت تصنيف سيرة. ولكنني قرأت فيه اكثر من سيرة، واشياء اخرى كثيرة غير السيرة الذاتية للكاتب.

فالكاتب مسكون بهاجس المرض الذي يلاحقه، يسكن جسده، ويغلق عليه منافذ الحياة. لذلك أراه يتقافز كمن يمشي على الرضف، بين سيرته وسيرة والديه واجداده. فالصدق في كتابة السيرة هنا، كما في كل سيرة، موجع، فيه المكاشفة ومصافحة الذات والغفران وغير ذلك الكثير، فما بالك اذا تزامن كل ذلك، مع هذا الشعور القاتم المضطرب بنفاذ مخزون الحياة من الزمن، من الوقت.

يمشي الكاتب في سيرته بحركة لولبية دائرية، فهو بين الفينة والاخرى يعرج على سيرة الأم والأب، ويرجع الى سيرته، ثم يعاود القفز الى سيرة الجد والعم والخال، وبإيقاع مضطرب، يعود بنا الى الواقع، الملموس. وبين هذه السيرة وتلك، يرافق سيرة المكان كذلك، بألوانه وعطوره ولمساته.

يـَجـْدِلُ الكاتب بأمراس الكتان، مجموع هذه السـِيـَر بالمكان، مخترقا حدود الزمان. ليتمم للقارئ نصا متأرجحا ً بين السيرة الذاتية، وهواجس فرح الموت. متماهيا مع التاريخ، ممتدا في الجغرافيا والتضاريس "مثل مدّ الزيتون في الزيت"، وراجعا بنا الى المستقبل، بفرح عاشق، ولوعة عاشق، وحزن عاشق. عاشق لضفيرة جدلها بيدين مرتعشتين بحمى العشق والموت.

سأكون بين اللوز، ليست قصة عادية نمطية، ولا هي سيرة ذاتية عادية.

فيها الكثير من اصطفاق الأرواح والجن والغيبيات، مرتبط وبشكل محسوس وملموس مع وقع خطوات الناس، الانسان العادي، الفلاح البسيط بمحراثه والبدوي بربابته، والمرأة بوسقات الحطب التي تجمعها من الجبال. انها سيرة فلسطينية بإمتياز، ريفية المنشأ، سافرت قاطعة البحار والمحيطات، واقامت،في غفلة من الزمان، على بعض قمم الكون، ثم عادت الى المنشأ بحركة دائرية.

يلمع من بين السطور حس عنقائي للكاتب. كأنه يرفض الموت نهاية. فأراه يتحايل على المرض والموت، يلتف على خواتيم الأمور. فهو لا يرى نهاية، ولا يرضى بختام، ولا يقنع بتمام الأشياء. يخبط ذات اليمين وذات الشمال حتى يستقر على براءة اختراع خاص به. اختزال الانسان في كل ما يشمله المشهد، من شجر وحجر، وكل ما تدركه الحواس الانسانية الست، سكون الليل ونجومه، نوار اللوز وأحواض النعناع، عطر الروائح المنبعثة من باطن الارض، يتشابك مع عفن الكهوف، زقزقة ناي رقيق، وأنين ربابة يشتبك بهدير أضواء النيون الغادرة، وبعض أغصان اللوز تعلق بمخالب القرميد القاتلة. وكل ذلك يتفاعل ويـَحدثُ في انسان يتناسخ في مشهد، يتمرغ في ترابه، يتحرق فيه، ثم يـُبعـَثُ شعبا. إنه لا يقبل إلا بالحركة الدائرية. عند كاتبنا لا وجود للخط المستقيم، أبدا ً، فهذا له بداية ونهاية. وكاتبنا لا تقنعه بداية ولا ترضيه نهاية مهما كانت من الروعة، والعبقرية.

في "سأكون بين اللوز"، يغفو الكاتب انسانا ً فردا، وحيدا ً متألقا ً في فردانيته، ثم يصحو شعبا ً مـُجـَيـَّشـا ً بكل مباهج الحياة وفرح تفاصيلها الصغيرة الدقيقة، يحاور ويقارع بساطير المستعمر، عابراً حدود الزمن، ملتصقاً بأخاديد الارض، وديانها وهضابها وسهولها. وفي القمة، فنارُ عنفوان الارادة، يضيء ثم يخبو في حركة دائرية، يتنازع الكاتب ويطوح به بين الأمل واليأس، بين الاحباط والهمة والنشاط الفعلي، المحسوس والملموس.

رصد الكاتب بحس مرهف لعبة شد الحبل بين الفرد ومجتمعه. ولكنه لم يترك هذه اللعبة لتبلغ مداها، فهو يتعب في بعض المراحل، يتكئ على هذا المجتمع وأساطيره، ثم ينتـفض احيانا ً ويذهب وحيداً على الدرب، يشقها بمفرده، وتراه احيانا أخرى يجند ما تبقى من طاقة كامنة لنبش زاوية أو فتح طاقة ليعرض على القارئ مشهدا أوسع، يأخذنا الكاتب في رحلة الى آخر الدنيا وبداية الازمنة، لنقف على شرفات المكان والزمان، لنطل على مشهد رائع ومروع. موت ودمار وقفار، وصحاري خضراء، مكلومة ونازفة.

يسكب الكاتب من روحه وفلسطينه ما استطاع، في قفار الكون وصحاريه البعيدة والقريبة، ولكنه يعجز عن مواساة الجراح، فيعود خائبا ولكن متألقا، كسير النفس يرتمي على عتبات وطن مستباح.

لم يكتف الكاتب بفلسطين وفلسطينيـَّـتـَه . ولا بصحن السلطة المحلي والتقليدي، بل عـرج على تراث الأمم، من مشارقها الى مغاربها، وقدم للقارئ باقة دافئة من عصارة التراث والأساطير.

واللافت في باقته هذه، وقوفه الدائم بباب العرافين من كل جنس ولون، يسائلهم ويـُقلب في دفاترهم، ثم يفتش في خزائنهم عن الكنوز، عيون الحكمة والمعرفة، في المنظور وغير المنظور من الزمان. كأنه يرفض السير الى الأمام، فالموت لا يقنع الكاتب، ولا يهدىء من روعه، ولا يدخل السكينة الى قلبه.  فيرتحل للتنقيب عن سر الحياة، تماما كما فعل انكيدو في ملحمة جلجامش. ولكنه يعود كسير الفؤاد، يتهاوى على أقرب مقعد، ليتماثل في النهاية مع المعري في قوله:

خفف الوطء ما أظن أديم الارض إلا من هذه الأجساد.

في نهاية سيـرته يختار الكاتب، منصاعا ً، ولكن بكثير من المصالحة الذاتية، ان يتماهى مع أديم الارض، مع اللوز والنعناع والثوم والبصل، مع مـَدِّ الزيتون في الزيت، مع الأفعى الزعراء  وطـريق النمل، مع الناي والربابة، مع الجبل ومواسمه ومع جنائن الخريف، وضباب الوديان. وهل يملك غير ذلك ؟! فالتماهي مع المشهد يضمن للكاتب تناسخه في الأشياء، وبقاء روحه ترفرف على هضاب المكان والزمان،  انها الطريق المثلى لاصطفاق جناحي العنقاء، وهي مقدمة للبعث من جديد.

ملاحظة" قدمت هذه الورقة لندوة اليوم السابع في المسرح الوطني الفلسطيني في القدس".