"النهضة والأطراف" مسألة تثير النقاش
"النهضة والأطراف" مسألة تثير النقاش
المهندس: شاهر أحمد نصر
يثير الدكتور إياس حسن في كتابه: "النهضة والأطراف ـ يتوبيا المثقفين في الساحل السوري خلال الثلاثينات والعشرينات من القرن العشرين " النقاش حول مسائل مهمة بدءاً من الصفحات الأولى للكتاب عندما يورد نصاً لـ لورد بايرون من "أسفار تشيلد هارلود"؛ جاء فيه..."لقد كان متطرفاً، بل وطرفاً في كل شيء. آه لو أنك اتخذت الوسط، إذن لبقي عرشك قائماً..." ممهداً للمقدمة التي يتفاعل فيها الخاص بالعام، والتي جاءت تحت عنوان: "سيرة مختصرة لشاهد "لم يكن متطرفاً ولا طرفاً""... مثيراً تساؤلات مشروعة لدى القارئ، من بينها إنّ كان أحد ليس طرفاً في مختلف جوانب الحياة التي عاش ويعيش، فما بالك بمن يساهمون في صياغة الوعي الاجتماعي والحياة.
يمهد الكاتب دراسته بـ"التفكير في التسميات"، باحثاً عن هواجس النخبة المثقفة في النصف الأول من القرن العشرين في الساحل السوري، من خلال الأسماء التي أطلقها هؤلاء على ما أصدروه من دوريات، وراصداً الألقاب والتسميات التي تبنوها فيما يخصهم، أو يخص أبنائهم... مشيراً إلى النظام الموروث من العثمانيين بتعبير "الباراديغم التقليدي أو القديم" ومستخدماً تعبير "الباراديغم التجديدي أو القادم" للإشارة إلى مرحلة تأسيس النظام الجديد، وإلى الأفكار والشعارات والمطالب والمواقف والأحزاب الجديدة بالـ "يوتوبيا"، ومعتمداً على ما يسمى بنظرية "الميمات me`mes" التي أطلقها رتشارد داوكتر، وهي تخص عملية انتقال الثقافة بين الأجيال. "فالميمة فكرة تغدو مشتركة على الشيوع نتيجة النقل الاجتماعي"ص15 لتفسير كيفية انتقال تلك الأفكار بين الأجيال الثلاثة المتعاقبة موضوع الدراسة، محاولاً رصد مدى تعبيرية العناوين والتسميات، عن المشروع الذي يصفه بالـ"يوتوبي" "الذي رافق بداية القرن بدءاً من الساحل السوري على يد المثقفين، ومدى علاقتها بالأحزاب الأيديولوجية التي ظهرت بعدها بسنوات على يد السياسيين، ثم الانقلابات العسكرية التي توجت هذه اليوتوبيا، والفرضية التي تقول بأنّ هؤلاء الثلاثة ينتمون إلى بيئة واحدة هي "الأطراف" البعيدة عن دمشق وعن المدن بشكل عام، ففي هذه الأطراف كانت تتشكل في تلك المرحلة نخبة جديدة، أو طبقة وسطى جديدة (كيف تتشكل الطبقة الوسطى في الريف المعدم) غير راضية عن أداء النخب السياسية الموروثة من العثمانيين، ومن هذه الأطراف كانت "الأرياف" هي المركز المهم لتخريج هذه النخبة، ومن هذه الأرياف كانت "الأقليات" الإثنية أو الدينية التي تقطنها هي الرائدة".ص17 حسب رأي الكاتب.
يبين الكاتب أن الريف السوري في بداية القرن العشرين كان شبه غائب عن الحياة السياسية لصالح المدن الكبرى... ولم تكن النقمة على الوضع الراهن هم هؤلاء "القادة المخضرمين"، الأمر الذي ربما يفسر ـ حسب رأيه ـ لماذا أتت أهم حركات المقاومة للفرنسيين وأبكرها من الأرياف.ص20 فضلاً عن امتياز الساحل السوري من الأطراف الريفية بخصائص، أهمها: إطلاعه المبكر على أفكار الثورة الفرنسية ، والتعدد الإثني والديني، وتمركز أغلبية المسلمين السنة في المدن، وغلبة المسلمين العلويين في الأرياف، إلى جانب الإسماعيليين، والمسيحيين، والجوار والتداخل بين المكونات الطائفية والإثنية.ص22 وتأثر الساحل السوري بتغيرات مع نهاية الحرب العالمية الأولى، أبرزها: انهيار الدولة العثمانية، والاستعمار الفرنسي، وظهور اهتمام بالأقليات، والهجرات من الريف إلى الغرب.
يقدم الكاتب مخططاً لمشروع دراسته من ثلاثة أركان يعرفها باليوتوبية ، تعكس ثلاث مراحل: يوتوبيا المثقفين، ويوتوبيا التنظيمات، ويوتوبيا العسكر. وهو يرى في أسماء وعناوين الصحافة والدوريات التي أصدرت في عشرينيات القرن العشرين، مؤشراً على منبت أصحابها، فالصحف ذات العناوين الإجرائية مثل: اللاذقية، والنحلة، والخبر يملكها أشخاص ينتمون إلى المدينة، والصحف ذات العناوين اليوتوبية مثل النهضة الجديدة، والنور، والتجدد، والإرشاد، والتمدن، وصوت الحق، والصاعقة، يملكها في معظمها أشخاص ينتمون إلى الريف..ص29
ويحدد الكاتب ملامح يوتوبيا المثقفين من جهتي المضمون والشكل؛ فمن جهة المضمون دعا المشروع (اليوتوبي) إلى: إعادة النظر بالهيكلية السياسية ـ الاجتماعية: أي الدعوة إلى نمط جديد من الزعامة (نزع مشروعية الزعامة الموروثة)، و(التحول من المجتمع ما قبل المدني إلى المجتمع المدني)، ولم يبق للزعيم من كرامة إلا بمقدار ما يفيد أتباعه وينفعهم (العمل السياسي المطلبي أو البرامجي)، وظهور أفكار (الانقلاب والثورة) و(مبدأ المواطنة والتمثيل) و(فكرة العقيدة والدفاع عنها)، و(مبدأ تداول الزعامة أو السلطة)... ومن الطبيعي أن يترافق ذلك مع التعريض بالزعامة التقليدية القائمة، مع الحاجة إلى زعامة بديلة، فنجد احتفاء وتكريساً للرموز الثقافية، كبديل لتلك الزعامات...ص32 و"يظهر هم المثقفين، وتحديداً العلويين، في البحث عن هوية الجماعة... ضمن فكرة الانتماء إلى الوطن الواحد"، فـ"حدد المثقفون خطوطاً عامة لمشروعهم الذي يتجسد برفض الواقع الطائفي والمتخلف، والطوح إلى مستقبل أفضل.." و"إيلاء العلم والثقافة العلمية والعالمية أهمية كبيرة.." و"استلهام تجارب سياسية قديمة ومعاصرة"، و"الاهتمام بفئات مجتمعية محددة أولها المرأة"... أما من ناحية الشكل فيلاحظ وجود "مساحة واسعة للسجالات والحوار والمرجعة النقدية" في تلك الدوريات، و"الاهتمام بالترجمة، والإعلان عن استقلالية هذه الدوريات، وغلبة المواضيع الأدبية فيها، مع غياب صدى المعارك الفكرية"ص31-51
بعد تعرية "مدينة المثقفين الفاضلة"، ينتقل الكاتب إلى الحديث عن الأحزاب التي ستتبنى أفكار هؤلاء المثقفين وتنشط في تلك الفترة، معرفاً إياها بـ "يوتوبيا التنظيمات" ويلاحظ هنا أن الكاتب ينتقل إلى مرحلة الأربعينيات من تاريخ سوريا، مرحلة ظهور الأحزاب (اليوتوبية) ـ من وجهة نظره ـ التي تجمع صفات مشتركة، أهمها: أن قادتها من الأطراف، أو من الأقليات، وهي أحزاب أيديولوجية، والسهولة في تبادل الأعضاء والأفكار فيما بينها. و"الأطراف التي قدمت العناوين اليوتوبية الأولى، قدمت أيضاً الأحزاب اليوتوبية، والقاعدة الشعبية لهذه الأحزاب."ص53-63
ويدعو الكاتب يوتوبيا العسكر المضادة بـ"مأسسة الباراديغم التجديدي من خلال ظاهرة الانقلابات العسكرية بدءاً من الخمسينات" مبيناً أن تلك الانقلابات تتميز بصفات مشتركة: "قادة الانقلابات من الأطراف، ومن الأقليات، وهم على صلة مع الأحزاب اليوتوبية، والإبقاء على الحياة البرلمانية شكلياً، والترويج للإجماع، الحصول على 99% من أصوات الناخبين، وبدء الإعدامات دون محاكمات، وسيادة قوانين الطوارئ والأحكام العرفية، والتأسيس لفكرة الجيش العقائدي": "يروي العقيد توفيق بشور أنّه أقام حفلاً في معسكر التدريب في قطنا، حين قرر حسني الزعيم ترشيح نفسه لانتخابات الرئاسة، بعد انقلابه، وأهداه سيفاً نقش عليه البيت التالي:
إذا ما الحاكم استعصى وعابا جعلنا السيف يفهمه الصوابا
ومن المهم في هذا البيت التوقف عند كلمتي "السيف والصواب"، أي "القوة والحق"، وهذان هما سلاحا الأيدولوجيا: العنف وامتلاك الحقيقة. لا نعرف فيما إذا كان المثقفون قد روجوا لفكرة "المستبد العادل"، لكن مع مؤسسة الدولة الأيديولوجية نعرف أنّ هذه المقولة تجسد بشعار الجيش (القوة = الاستبداد) العقائدي (الحق = العدل)".ص74
ويصل الكاتب إلى استنتاج عند بحثه في "مآل (تلك) اليوتوبيا" مفاده أن اليوتوبيا بدأت "مع المثقفين، وكان الخطاب جامعاً يشمل الأطياف كافة، ومع الأحزاب صار الخطاب انتقائياً يعتمد على طيف واحد، ومع العسكر أصبح الخطاب إقصائياً تجاه البقية، فالسمة الملحوظة هي استبعاد متواصل. ترى هل يمكن القول إنّ كل يوتوبيا لحظة تحققها، بدءاً من الثورة الفرنسية، مروراً بثورة أكتوبر الاشتراكية، وحتى عبد الناصر والبعث، تحمل بذرة فسادها في داخلها، وهذه البذرة الفاسدة هي فكرة إلغاء الآخر؟ وإلغاء الآخر ألا يعني جعله عدواً؟"ص81
يبين هذا الاستعراض السريع للأفكار الهامة في كتاب "النهضة والأطراف"ـ والذي يتضمن، فضلاً عن ذلك، بحثاً ممتعاً في التسميات والتاريخ، ومجموعة من الملاحق ـ ضرورة دراسة تاريخ أية منطقة من بلاد الشام في الإطار التاريخي لبقية المناطق الأخرى، ولقد كان مفيداً في البداية رسم صورة شاملة عن الأوضاع في المنطقة ككل، وأثر ظهور المفكرين والجمعيات الأدبية والثقافية والسياسية في بلاد الشام على تطور الأحداث في جميع المناطق بما فيها الساحل، وعدم دراسة تاريخ هذه المنطقة بمعزل عن المناطق الأخرى... ويثبت الكاتب نفسه صحة هذا الرأي عندما ينتقل لا شعورياً من الحديث عن الساحل السوري، في الصفحات الأربعين الأولى من الكتاب، إلى الحديث عن تاريخ التنظيمات وتطور الأحداث في سوريا ككل في باقي صفحات الكتاب عدا الملاحق... ويلاحظ في الكتاب غياب لدور بيروت، وطرابلس وأثرهما على تطور الوعي في الساحل السوري الذي كان على علاقة مباشرة معهما، وغياب تأثير هبوب نسيم الفكر الاشتراكي على المنطقة بعد ثورة أكتوبر عام 1917 في روسيا، وتشكيل أولى التنظيمات العلمانية والنقابية والشيوعية في طرابلس في العشرينات، وامتداداته، وسجن الشيوعيين الأوائل في سجن القدموس... مع وجود بعض التواريخ التي تحتاج إلى تدقيق، مثل تاريخ تأسيس الحزب الشيوعي في سوريا ولبنان..
لغة الباحث سلسة تجذب القارئ الذي قلما يتعثر بتلك المصطلحات النظرية مثل "الباراديغم، والميمة، والميمات" التي كنت أفضل استبدالها بمفردات أكثر سلاسة: كاستبدال مفردة "الميمة، والميمات" بتعبير آخر.. يبحث في منطلقات الفكر وأسس تراكمه وانتقاله... واستبدال مصطلح باراديغم بكلمة نظام، أو بنية..
علماً بأنّ: "كلمة ( Même,s) الفرنسية, تعني: نفس, أو عين, أو ذات التوكيدية. وهي تقابل , إلى حد ما ( Self; itself; myself ...) الإنكليزية. فيغدو المعنى: التكرار، أو النسخ، أو الاستنساخ. (وهذا واضح في طريقة عرض المؤلف). وكثيراً ما "يستخدم مقابلاً لكلمة باراديغم, كلمة "مثال " أو "نموذج". وهذا يرد في المجالات اللغوية وعلوم النحو". كما يقول الأستاذ عبود كاسوحة...
ومما لا شك فيه أن هذا الإشكال قائم وسيبقى موجوداً بين التعريب والترجمة، ولكل طرف أسبابه المقنعة.
"النهضة والأطراف" بحث ودراسة أكاديمية جادة، تناقش مسائل تاريخية هامة وتجعل القارئ يطرح العديد من التساؤلات... من بين هذه التساؤلات استفسار حول دور المثقفين القادمين من الريف، وحول أساس وعيهم ومعارفهم، هل جرى تراكمها في الريف حقاً أم هبطت عليهم من الفراغ، أم كان للمركز دور أساسي في صياغتها، ووصولها إلى أبناء الريف، الذين لا يمكن نكران دورهم بعد تبنيها، وتفانيهم في سبيلها... ألم يحصل تضخيم لدور الأطراف، ودور المثقفين القادمين من الريف؟ ويبقى عنوان وموضوع الكتاب: "يوتوبيا المثقفين" بحد ذاته يحتاج إلى نقاش معمق... فهل المثقفون والتنظيمات والثورات: يوتوبيا، أم هي جزء مكون أساسي من الواقع الحقيقي الموضوعي... هل الثورة الفرنسية، وثورة أكتوبر، وثورة يوليو يوتوبيا؟ أم أن الثورة قاطرة حقيقية موضوعية من قاطرات التاريخ البشري؟
أسئلة جادة هامة، وممتعة، ومفيدة وضرورية يفتتح الدكتور إياس حسن مسألة مناقشتها في 118 صفحة من القطع المتوسط في كتابه "النهضة والأطراف" من منشورات 0021 ـ مطبعة اليازجي ـ دمشق 2007