عقول هادئة.. وقلوب دافئة

د. بشير شكيب الجابري

من أبجديات الحب والسعادة الزوجية

د. بشير شكيب الجابري

أب ومسؤولية

(3)

إشراقة

"أسعد الزوجات من تعتقد أن زوجها ممتاز"

                                     توفيق الحكيم

أخي والد العروس..

نموذج متوازن للإنسان المسلم، استحوذ على رضا والديه ومودة زوجته، ولقد تجرأت في سؤال والدته رحمها الله في آخر حج لها عن رضاها على ابنها.

ولا أنسى نظرة العتاب والإشفاق التي قابلت بها سؤالي وصمتها المعبر حتى قالت تسألني عن رضاي على ولدي، كل ذرة في كياني تترضى عليه.

وهو مثال للأبوة المتوازنة، ولعل الأمرين متلازمان، وهذا مكمن اهتمامي.

هذا الأب..

لم يكن من الدارسين في جامعات الغرب ولا تحت إشراف مربيهم ومناهجهم ولكنه تربى في بيت يحب الله ورسوله، على أيدي علماء كان جل همهم أن يغرسوا في قلبه التواضع وخشية الله ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي عرس ابنته يسرني أن أقف عند بعض وسائله التربوية التي ألزمت الأولاد بالطاعة حباً لا قهراً، وربطتهم بالإسلام تطوعاً لا تزلفاً، وألقت في قلوبهم حبه، حتى إذا كنت معه في سفر ومد يده في جيبه فأخرجها وجدتها تحمل رسالة حب من ابنته، وإذا فتح حقيبته ضاعت منها رائحة عطر ضمخت رسالة أخرى.

علمت أنه يربط الزوجة والأولاد بالتطلع إلى الآخرة في درس الجمعة الأسري الذي تتلى فيه سورة الكهف، وفي طريقه إلى المدرسة ومنها، وأنه مع مظاهر الحب الشديد وقف معهم عند مبادئ الشرع فلا استهانة فيها..

وأنه عودهم على الإيثار بسلوكه الخاص معهم ومع أهله وإخوانه كما وضع أولاده في المدارس العامة وقدم أجور التعليم الخاص لمن لا يستطيع أن يدخل أولاده التعليم العام، فإذا حصلت شكوى ذكر المشتكي بالأجر يوم القيامة.

وتطوع في السير بحاجات المسلمين مع أن الزمان ليس بزمان المروءة ولا يشجع عليها وبين لهم ما في هذا الأمر من خير.

وهناك عنصر يخفى على الكثيرين، ألا وهو فراسة الأطفال.. ومعرفتهم للصادق من المنافق.. ولقد فتح الأولاد عيونهم على الحياة وأمامهم أب جاد تنقطع أنفاس من يريد أن يجاريه، جاد في أخذه بدينه، جاد في عمله لدنياه، وكان آخر أفعاله وقد شارف على الخمسين متابعة المناهج العالمية في زراعة الأسنان في جامعة Lilles وفيها أكبر كلية طب في العالم، فأنهى السنة الثالثة بنجاح ويعده أستاذه هناك لموقع في الجامعة هو زاهد فيه..

وهو بعد هذا كله أعلم الناس بتطلعات أبنائه واستعداداتهم النفسية فيعينهم على اختبار الأزواج الأكثر ملاءمة ويكرم هؤلاء الأزواج أيما إكرام فكيف لا يكرمون فلذات كبده؟

حياة جادة، متوازنة، دؤوب، عامرة بالحب والإخلاص والإيثار وتطلع إلى الآخرة وجدية في التعامل مع الحياة والآخرة، ألا ترون معي أنه المدرسة المثالية للأسرة المسلمة.

إن المجتمع الغربي أصبح في ديمقراطيته متوحشاً، يزوى فيه الوالد ويعامل كالمجرم، ويهان فيه الوالدان بعد ذلك، ويتمرد الأطفال، وكلما ازداد المجتمع دعوة إلى إعطاء الأولاد حقوقهم تذوي حقوق الوالدين وتذبل حتى لا يبقى لهم دور سوى طاعة الأولاد، ومتابعتهم بالأنظار وهم يتحولون إلى قتلة أو مدمنين، أو سارقين أو عاقين لوالديهم قاطعين لأرحامهم.

فيا عروسينا

لكما بهذا الوالد تلميذ محمد صلى الله عليه وسلم مثال حي لما تفعل هذه المدرسة بروادها.

فيا عروسينا

تعاهدا اليوم على أن تكون الآخرة نبراسكم وهاديكم فإن في هذا خروجاًَ عن ضغائن أهل الدنيا وتفاهاتهم.

والتقيا على طاعة الله ورسوله، ومن هذه الطاعة الاعتراف للزوج بقوامته واستحقاق الزوجة للإكرام..

يا عروسينا

إن بيوتاً كثيرة تتهدم حولنا إما لعدم توافق في الطباع والمزاج وهذا لا حيلة معه وإما لاضطراب الميزان، وأنتما قد أهلكما الأهل لحياة هنيئة فافتحا قلببيكما للرحمن فإن الله لا يخذل عباده.

اقرأ بتمعن سيرة الحبيب المصطفى مع زوجاته واستخلصا العبر لكما ولأولادكما.

وتعلما أحكام الزواج فإن فيها غنى وأدباً..

وابدآ في استقبال أحباب الغد بما يستحقونه من حب وجد..

يا رب هب العروسين أمناً وأماناً

يا رب هب العروسين براً وثواباً

يا رب اجعل قلبيهما لك خاشعين

يا رب اجعل هواهما في رضاك

"وتذكر أن تقدم الصبر الجميل لا يحميك من الحب لكن الحب يحميك إلى حد ما من تقدم العمر."  

جين مورو

*      *      *

من أبجديات الحياة السعيدة

(4)

إشراقة

"أسعد الأزواج من يطلع زوجته على كل شيء ويلقى منها تقبلاً وتفهماً.."

ستاندال

المنافسة اليوم بين أهل الإيمان وحزب الشيطان قائمة قاعدة على كل صعيد.. ومن أهم مجالاتها وأخطرها على مستقبل الأسرة وأبنائها وبناتها: الأسرة المطمئنة.

الأسرة المطمئنة أخطر سلاح نملكه في مقابل السامرية التي قلبت الموازين والمفاهيم واستحلت المحرمات بدعوى التقدم وقضت على الأسرة بدعوى الحرية الفردية.

وحق علينا أن نحيط هذه الأسرة الناشئة وكل أسرة ناشئة بعوامل الحياة، وبعناصر النماء وبأمصال المناعة.

أما عوامل الحياة:

فأولها: - الهدف الواحد الذي يؤمن به العروسان اليانعان النضران:

]قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ(.

ثانياً: - الأفكار الإيجابية عن الزواج ودور كل من العروسين فيها فإن أي أفكار يحملها أحد الطرفين، الرجل أو المرأة، فيها انتقاص من الآخر أو إغضاض له لا تعين على الحياة الزوجية بل تفسدها.

]وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ(.

وثالث عوامل الحياة: التكافؤ بين الرجل والمرأة، ليس فقط في النسب والحالة الاجتماعية وإنما في مستوى الثقافة الذي يقرب فهمهما للأمور.

ورابعها: -معرفة كل من الزوج والزوجة لطبائع الآخر، وقبولها، والتعاون على إصلاحها، بما يرضي الله ورسوله.

]وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[.

وأما عناصر النماء: فالمقصود بها هو نمو العلاقات الأسرية بشكل مطرد ومتكامل: فإذا فهم الزوج أن القوامة إيثار وإكرام، وتشجيع، ثم تقويم وتوجيه وتعليم، إضافة إلى تحمل أعباء الأمور المالية، وإذا فهمت الزوجة أن دورها حنان ونصح وإيثار، وحرص على مال زوجها بدأت العلاقة متوازنة متجانسة مع سنن الخلق.

]الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ(.

فإذا تعهد الزوج زوجته بكل ما تحتاجه لتنمو، فشجعها على التعلم والتعليم في كل ما يخص مسؤوليتها، وأمن لها مواضع النمو الروحي، من حضور الجماعات والمشاركة في المؤتمرات والنشاطات الدعوية، وأيد تخصصها في علم يمكن أن يكون فيه خير للمسلمين والمسلمات مثل التربية أو العلوم الإسلامية أو الخدمات الاجتماعية أو الطب.

وساعدت المرأة زوجها على تأمين جو هانئ في المنزل تحترم فيه أوقات راحته وحاجته إلى الطمأنينة فكانت تعرف كيف تملأ أوقاتها بالخير بدل أن تكون متطلبة لمن هو أصلاًَ مستنفد في عمله:

]وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(.

وإذا أكرم كل منهما أهل الآخر ووضعهما في عينيه وعاملهما بما يعامل به أهله.

واحتفى بالضيف وتعهد كل من أمر الشرع بتعهده، فقد بنيا معاً سلم النماء.

فإذا اقتنعا بالشورى مبدأ من مبادئ حياتهما المشتركة فتقاسما المسؤوليات وحملاها ثم لم يقض أحدهما أمراً فيه مصلحة للطرفين إلا بالتشاور، فقد أمنا أقوى وسيلة لنمو العلاقة بينهما وازدهارها ولنمو شخصيتهما الزوجية وارتص صفهما حتى لا يهزه إعصار ولا تهده عوادي الزمان.

]فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ، وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ(.

فإذا أكرم الله الأمة بهذه الأسرة الناشئة فكيف نحصنها بأمصال المناعة؟ وإن أقوى هذه الأمصال إبقاء جذوة الإيمان متقدة بتعهدها الدائم وعدم الاعتماد على ما كان من حماس الشباب، فإنه يزول كلما ازداد العقل نضجاً، إلا أن للروح جوعة متجددة وكل من مارس الدعوة أو الذكر ثم توقف يحس بها ويكتوي بها فعلى الأسرة المسلمة أن لا تتوقف عن ذلك.

والمصل الآخر الحب بين الزوجين، وتكون رعايته بالمودة والرحمة من جهة وبتذكر فضائل كل منهما وذكرها وبعمل مناسبات لتجديدها بعيداً عن هموم الحياة.

والمصل الثالث منع المؤثرات الخارجية من تفتيت العلاقة، والابتعاد عن كل نفاث في العقد ونفاثة، ومساعدة الأسر الأخرى على الثبات فيبارك الله في أسرتهما ويحميها.

والمصل الرابع الدعاء الدائم بالحفظ:

]وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا(.

فإذا قدم الوليد وقد حصلت الأسرة على تسعة أشهر على الأقل للتجانس والتوازن وجد الرضيع محضناً هنيئاً، وأول ما يطلب منهما هو أن يعرفا أن هذا الطفل له شخصيته التي قد لا تشبه أحدهما ويحتاج إلى أسلوب في التربية خاص به، فليتعرفا عليه وليوائما بين أسلوب كل منهما وحاجته، فإذا كان عنيفاً احتاج إلى من يمتص غضبه ثم يوجهه، وإذا كان خجولاً شجعناه على التأقلم مع ما حوله شيئاً فشيئاً.... وليتولى كل منهما جزءاً من تربيته و ليتشاورا في ذلك حتى يتكامل عملهما، وليستعملا أساليب تقويم النتائج، وأخذ القرار السليم، وحل المشكلات والصراعات، بحيث يطوران أساليبهما حسب الحاجة.

إن من سموم الحياة الزوجية اقتناع كل من الزوجين أنه وحده على حق، وأنه هكذا خلق فهو لا يستطيع أن يطور أساليبه، ولا أن يحسن من أخلاقه، فإذا كان الأمر كذلك فما الحاجة إلى الدين إذن؟:

]إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ(.

إن ما تقدم ملخص برنامج تأهيلي ومنهاج أبجدي للدخول إلى الحياة السعيدة يحتاج إلى أيام، ويا حبذا لو تدرس هذه الأمور في معاهدنا ويدرب عليها أبناؤنا وهم في مقتبل عمرهم ولا يتركوا للأيام تعلمهم فإن هذا ثمنه غال جداً.

وتذكر: "المبتسم أشد قوة من الغضوب."

مثل ياباني