من هو كوكو سودان كباشي؟
من هو كوكو سودان كباشي؟
د. شيرين أبو النجا
«كوكو سودان كباشي» هكذا يطالعنا عنوان أحدث رواية للكاتبة المصرية سلوى بكر.
إلا أننا لا نفهم من العنوان سوى الكلمة التي تحتل المركز تماما «سودان»، لتفيض علينا دلالات المكان واللغة واللون. وهنا بالطبع لا بد أن يتوق القارئ لمعرفة القصة التي يمكن تكثيفها في جملة واحدة: امرأة تقع في حوزتها أوراق تغير مجرى حياتها تماما.
خالدة البطلة هي الراوية التي تنقل الأحداث والأفكار من دون وسيط، فتكاد المسافة بين القارئ والعمل تكون ملغاة، وهو ما يلقي بالقارئ مباشرة في عمل يموج بمصرية خالصة، ناتجة عن التفاصيل التي اعتنت بها سلوى بكر بالإضافة الى اللغة التي تشوبها اللمسات المصرية. تهيم خالدة بحب والدها الذي فقد ساقه في حرب 1967 ثم كرس حياته بأكملها لابنته (وهو ما لم يمنعه من الهيمان بامرأة بين الحين والآخر). كان هذا الأب هو من قدم خالدة للحياة وقدم لها الحياة. تستفيض خالدة في الحكي عن والدها ومآثره وهو ما يكون مبررا دراميا في ما بعد. بعد رحيل الأب ينحصر كل الرجال بالنسبة لخالدة في صورة الأب، بل تضيق حياتها لتصبح بحثا يائسا عن صورة طبق الأصل منه. لآ تعوض العمة غياب الأب، وهي امرأة كبيرة في السن تحاول ملء فراغ حياتها بشتى الطرق وتؤمن أن الهدف الأسمى هو إقناع ابنة أخيها بالزواج. يأتي كل هذا الجزء مشحونا بالعواطف والتوتر السردي والإيقاع السريع والجمل المتلاحقة، وهو ما يترك يقينا لدى القارئ أن الأب قد احتل مركز الشعور تماما وأن الرواية ستتمحور حول هذا الحدث الأوديبي البحت. وهنا يخيب ظن القارئ لبراعة الكاتبة في إيهامه بمقصدها.
تستخدم سلوى بكر ما يسمى في الكتابة بالمنشط catalyst حيث تقابل خالدة على متن الطائرة التي تقلها من هولندا إلى مصر «رودولفو فرديناندو» وهو مكسيكي (شارك في ثورة الهنود ضد حكومة المكسيك) ويعيش الآن في ألمانيا. أما جده لأبيه فهو مصري من أصل نوبي اسمه الشيخ عثمان، وكان من ضمن الذين أرسلهم الخديوي سعيد إلى الحرب في المكسيك في الربع الأخير من القرن التاسع عشر. وهناك كتب الشيخ عثمان ما يشبه يوميات، قامت زوجته الهندية بعد مماته بحرق أوراق كثيرة منها لاعتقادها أنها أوراق سحرية. وكان أن جاء رودولفو إلى مصر بما تبقى من هذه الأوراق ليبحث عن أصوله المصرية. ولما لم يصل إلى شيء ترك هذه الأوراق بحوزة خالدة إذ ربما تتمكن من مساعدته في التوصل إلى أي أثر.
تسرد أوراق الشيخ عثمان تاريخ الأورطة المصرية السودانية التي أرسلها الخديوي توفيق لتحارب في المكسيك بناء على طلب الفرنسيين الذين لم تتمكن قواتهم من الصمود هناك لسوء الطقس وانتشار الأوبئة وقسوة البيئة، المنظومة الاستعمارية الشهيرة. وهذه الأوراق ـ بالإضافة إلى المتعة السردية التي تقدمها ـ فإنها تحمل الكثير من الدلالات الأخرى التي تشكل العصب الرئيسي لرؤية الكاتبة. أي أن الأوراق هنا هي ما يشبه صندوق بندورا أو الأرشيف الذي يكشف المسكوت عنه تاريخيا. وهذا التاريخي يتواشج بدوره مع النفسي والفكري والاجتماعي، مما يسمح للقارئ بتتبع تطور شخصية خالدة. هذا هو المحك الرئيسي الذي ترتكز عليه الرواية إذن، فالتغير مرهون فيها بقراءة وإعادة قراءة ومساءلة التاريخ، بل إعادة النظر في تاريخ كتابة التاريخ.
تقدم سلوى بكر هذه الأوراق منقوصة، بمعنى الصفحة رقم 7 ثم 10 ثم 11 ثم 18 ثم 35...الخ. وهذا في حد ذاته ـ وإن كان مبررا باعتبار ان الجدة الهندية قامت بحرق بعض الأوراق ـ إلا أنه يدل على البتر التاريخي الذي تقوم به المؤسسة عموما وهو ما يطرح إشكالية أساسية «من الذي يقوم بكتابة التاريخ؟». عبر قراءة الأوراق تستغرق خالدة في محاولة الإجابة عن عدة أسئلة هامة تتعلق مثلا بغياب الإشارة في المناهج التاريخية إلى الحرب المكسيكية التي شاركت فيها الأورطة المصرية السودانية. ثم تظهر دهشتها من موقف
مصر في ذلك الوقت إزاء تجارة الرق، وما يثير الدهشة أكثر هو موقف الشيخ عثمان من هذه التجارة، فهو لم يمانع مطلقا في اتخاذ جارية من سوق العبيد في المكسيك، إلا أنه لم يجد غايته «المطابقة للمواصفات» مما جعله يبدأ في سرد محاسن سوق العبيد في مصر المحروسة. تتوقف خالدة طويلا عند هذا الجزء وتتساءل عن جعل أميركا هي نقطة البداية التاريخية لتجارة العبيد. أما على المستوى الفكري فهي لا تستطيع أن تستوعب التوافق بين فكر الشيخ وبين موافقته على تجارة العبيد، وهو ما يسمى بلغة الشيوخ «هذه نقرة وتلك نقرة».أما السؤال الأهم فهو ذاك المتعلق بعلاقة الأورطة المصرية السودانية بالحرب في المكسيك. فقد مات الكثير منهم أثناء الاشتباك القتالي أو بسبب الأوبئة أو بسبب الهلع الشديد من البحر الذي كان يسمى «بحر الظلمات». كما كانت الأورطة تضم العديد من السودانيين الذين اختطفوا من بيئتهم المحلية ليتم بيعهم كعبيد مشاركين في هذه الأورطة ومنهم كوكو سودان كباشي الذي وردت قصته في أوراق الشيخ عثمان وتعاطفت معه خالدة بشدة إذ تم «اصطياده» من الغابة.لا تكتفي سلوى بكر بتوظيف الأوراق تاريخيا للكشف عن جزء من تاريخ مصر في فترة الخديوي سعيد، بل إنها توظف أيضا مهنة خالدة وهي المحاماة لتجعل من التفاعل بين الماضي (أوراق الشيخ عثمان) والحاضر (وضع العديد من السودانيين في مصر) أحد المحاور الرئيسية للعمل. فعبر العديد من قضايا السودانيين في مصر تكتشف خالدة عبثية التاريخ. فهؤلاء السودانيون الذين حاربوا في المكسيك باسم مصر في نهاية القرن التاسع عشر يتم إنكار حقوقهم في القرنين العشرين والحادي والعشرين.. بل هم مطالبون بإثبات مصريتهم في معظم الأحوال، ومنهم، على سبيل المثال، عبد النبي إدريس الذي كان جده قد شارك في حرب المكسيك، وعبد النبي نفسه شارك في حرب 1948 ثم تم توظيفه بالحكومة المصرية حيث خدم بها أربعة عقود. وعندما أراد عبد النبي أن يذهب إلى الحج طلبت منه الحكومة المصرية أن يحصل على جواز سفر من الخرطوم.
ولكثرة القضايا المتشابهة التي تتعامل معها خالدة يتواشج الماضي مع الحاضر في تفاعل أو تنافر أو تناقض أو قطيعة وهو ما تقابله خالدة غالبا بابتسامة ذات مغزى ليقوم القارئ بتفسير الماضي على خلفية الحاضر.
بقراءة أوراق الشيخ عثمان تتمكن خالدة من العبور ـ فهناك العبور من الخاص الذي كان محدودا ومحددا بالصورة الملهمة للأب الى العام الأرحب والأوسع الذي يكشف عن الكثير من التاريخي والاجتماعي المسكوت عنه بفعل سلطة انتقائية تطوع التاريخ لمصالحها. وينعكس كل ذلك على خالدة التي تتحول نبرتها إلى نبرة متسائلة متأملة واعية بعد أن كانت في البداية لاهثة ومتلاحقة ومستنفرة. حتى أن ذلك التحول ينعكس على علاقتها بعمتها فتصبح أكثر صبرا وأوسع أفقا. تعبر خالدة الحدود التعسفية بين الخاص والعام لتؤسس وعيها في منطقة وسطى تجمع بين المجالين وتعيد إنتاجهما من رؤية جديدة مغايرة، رافضة للقديم وغير منغمسة في الجديد.
بهذا العبور بين الخطوط الفاصلة خاضت خالدة رحلة من البراءة الى المعرفة والتساؤل، كما خاض كوكو سودان كباشي ـ وإن كان مرغما ـ رحلته من البراءة إلى عالم وحشي يموج بالحروب والقتل والدمار. وهو ما يرسي الكثير من أوجه التشابه بين خالدة وكوكو، فقد خاض الاثنان نفس الرحلة، الفرق الوحيد أن خالدة خاضت الرحلة في القرن الحادي والعشرين، وخاضها كوكو في القرن التاسع عشر. وبذلك يؤكد هذا التشابه التواصل التاريخي الإنساني الذي يقاوم ويناهض القطيعة التاريخية المعرفية التي تمارسها المؤسسة السلطوية. ربما يرمز كوكو سودان كباشي إلى الضمير الإنساني في كل مكان الذي يتورط في علاقات قوى لا تمت له بصلة مطلقا ويعاني من حروب لم تشن من أجله قط.