يوميات مديرة

 تأليف: السيدة صباح نوري الضامن

إصدار دارحضارة للنشر عمان / الأردن

ويبدو أن هذا الكتاب هو الجزء الأول من كتاب قد يحتوي على أكثر من جزء .

الكتاب  يحتوي على يوميات المؤلفة التي كانت تعمل مديرة لإحدى المدارس وقد ركزت فيه على الجانب النفسي في العملية التربوية باسلوب قصصي شيق.

وهذه بعض من اليوميات:

يوميات مديرة ( 1)

في كل يوم كانت تطلع علي شمس كنت أدعو الله أن يعطيني خير هذا اليوم ويجنبني شره .
اليوم : هو أصعب يوم في حياة كل من دخل فناء هذه المدرسة الواسعة ,من أصغر تلميذ عندي إلى أكبر فرد سنا ووظيفة... إنه أول يوم في المدرسة .
الساعة السادسة والنصف صباحا : دخلت مكتبي وجلست على كرسيي الضخم وأحسست أنه يبتلعني ولولا دخول فنجان القهوة العزيز على نفسي لغادرته إلى غير رجعة .كان بخار فنجان قهوتي يتمايل أمامي يكتب في الهواء حروفا ساخنة ضبابية لم أكد أحل شفرتها حتى خرق تأملي صوت الجرس , فتبدد الضباب واتضحت الرؤيا فلا مفر علي أن أخرج للساحة حيث المئات من التلاميذ والتلميذات بانتظاري .
ومن بين الأكوام التي تزدحم على سطح مكتبي , ومن بين الجداول والأوراق الرسمية انتزعت نفسي وحاولت القيام ! ولكن ! ماذا يحدث إن رجلاي لا تكادان تقوى على حمل همتي وجعلني أغادر هذا المكتب إلى الخارج ... مستحيل ماذا يحدث ؟ الكل بانتظاري لأرحب بالصغار المستجدين وأضع بعض التعليمات.وو... وللأسف لم أستطع وتجمدت مكاني مثل أية قطعة في مكتبي وسمعت دقات قلبي وصوت جسدي الذي عاد إلى ذلك المقعد الضخم مرتميا عليه, نظرت إليه ورجوته الآن أن يبتلعني ولكنه لم يفعل ..أبدا لم يحرك ساكنا.. ودفنت رأسي بين يدي وصرت أحاور ذلك القابع في أعماق نفسي منذ الصغر ,أما زال أول يوم في المدرسة يخيفك أيتها المديرة ؟ ؟ وكادت السنون أن تنقلني في نفقها الطويل لولا أن شعرت بهزة صغيرة تحرك كرسي الهزاز , التفت وإذا بطفل أسمر ضئيل الحجم يلبس ملابس المدرسة يقف أمامي ,عيناه كأنهما الربيع في أحلى أيامه ,شعره قد أعطى للحرير إجازة لينال هو التسمية و لم يكن ربيع عينيه خاليا من الندى ,وكأن قطرات الدموع كانت تبث حديثا بلا حروف .
أأأريد ماما... قالها أو لم يقلها ربما ظننت أنه قالها فأنا لم أسمع شيئا... تلخصت سنيني كلها في هذا التلميذ الصغير. أحتضنته....أخرجت له بعض الحلوى من حقيبتي ..هز رأسه رافضا ,وضعت يدي على شعره .. توقفت الدموع وقال لي :
أنت المديرة ؟ ابتسمت لم ينتظر الإجابة , أمسك بيدي وأشار برأسه أن هيا ..فقلت له إذهب إلى الساحة سآتي الآن .هز رأسه بعنف رافضا وشد على يدي ..أحسست بألمه يسري في قلبي.. في كياني وانهارت الدموع مرة أخرى ,لم أستطع تحمل رؤيتها وهو يستجديني للخروج معه . نهضت ونظرت إلى ذلك المقعد الضخم كم أصبح صغيرا . وأمسكت بيد التلميذ الصغير وإذا بسعادة غامرة تعتريني لما أشرقت الدنيا بابتسامته .
و خرجت إلى الجميع فاحتضنتهم بعيوني وأسكنتهم قلبي فكم كنت بحاجة إليهم ... وكم كانوا بحاجة إلي .

يوميات مديرة( 9 ) رســــــالة حب

في نفسي عالم أحلام كبير يتسع لكل الرؤى , وفي عقلي عالم أسرار كبير من تصنيع يدي , وعندما أفكر كثيرا تتداعى الأفكار من مخيلتي وتتسابق لتلتقي مع الرؤى فأحس بنشوة اللقاء , وأحاول أن أخفيه عن أعين الناس ولكن هذا التوقد يأبى إلا أن يرتسم كما هو على الورق فأخضع له وأحاول أن أرتفع به بعيدا عن نفسي إلى نفوس من حولي حتى يضفي عليهم من نور احتواني .
وكل التجارب الشخصية التي تحدث لي تتمنع نفسي عن بثها , ولكني أعود فأرى في بعض ساعات خروجا سعيدا أو مفيدا فأخجل من أن أضنه على أحد .
في هذا اليوم الخريفي الجميل والشمس لم تتكرم علينا بأشعتها الوضاءة بعد , وصوت الريح الخفيف يوحي بوشوشة رقيقة إلى ورق الشجر كي يغطي الأرض ,فتسمع تلك مصغية فلا حول لها ولا قوة , فتدلي برأسها حتى تطيع ,وماأن تتناثر تلك الوريقات القديمة حمراء وصفراء على صفحة الفناء حتى يهلل الريح فرحا فيجمعها بين ذراعيه ليودعها مستقرها فأحزن لفراقها الأصل ويرتعش قلبي لمرأى الفراق .
في هذا اليوم .. تلطف الريح وحمل لي ورقة ولكنها لم تكن حمراء ولا صفراء بل كانت وردية من يد طفلة صغيرة لم تتعد الرابعة من عمرها .
وقفت بباب المكتب .. نظرت إلى ازدهاء الحمرة في خدودها الممتلئة وإلى ذلك الشعر الكستنائي المنسدل بعشوائية على الكتفين وفيه شوق للإنطلاق مع كل هبة نسمة . أشرت لها بالإقتراب ,اقتربت ثم توقفت ثم تشجعت عندما ابتسمت لها فأخرجت من جيبها الصغير ورقة وردية وبنعومة ودلال دنت من مكتبي ووضعتها هناك ثم انطلقت كالبرق ولم ألحقها فتلك الورقة القابعة هناك كانت تنتظرني .
تناولت الورقة وفضضتها فإذا بها صورة صغيرة مرسومة بألوان زاهية لما يشبه امرأة ووضع تحتها ملصق قلب وتحته كتب (((( ماما))
كل شيء في الورقة الوردية كان له معنى وعندما تأتي من طفلة في الرابعة فالمعنى أعمق مما يتخيل الإنسان.
وهرعت إلى قسم الروضة لأرى هذا القلب الرقيق وما وراءه وكأنها بتوقع المحبة كانت تنتظرني على الباب وبداية قبلتها وقلت لها :
_ لماذا أعطيتني هذه الورقة ؟
_ لأني أحبك فأنت تشبهين ماما.
وأشارت إلي أن أجلس بجانبها ففعلت فجلست على رجلي وطوقتني بذراعيها الصغيرتين وأسندت برأسها على صدري ... ونامت
وأيقنت أن وراءها قصة , والحمد لله أن معلمتها أخبرتني, قبل أن يدفعني الفضول لسؤال الصغيرة, أن أمها مطلقة ومسافرة إلى بلد آخر مع زوجها الجديد !!!!
وبينما هي في هذا الوضع..كانت الشمس قد بدأت رحلتها من بين الغيوم تارة تظهر فتعطي الصغيرة قليلا من الدفء وتارة تختفي فأضمها إلى صدري أشيع ولو قليلا من حنان ليستقر في قلبها فيعيد الإزدهاء إلى وجنتيها .
وعندما استفاقت قبلتني وأخذت تجري جذلى في الباحة تلعب مع الأطفال .
ونظرت إلى الشجيرات اليابسة الخالية من الورق فما هن إلا بعض من صور لحياتنا المتقلبة . وحاولت في طريق رجوعي إلى قسمي أن لا أدوس على أية ورقة فقد تجد حضنا دافئا في الأرض يعوضها عن حرمانها .

يوميات مديرة 12 (( إبن الشهيد))
امتشقت أشيائي الخاصة , ووضعتها تحت إبطي وانطلقت ميممة المدرسة . فتحت مذياع السيارة ليرسل نهاية آية جميلة من سورة طه .... (( وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني .... )) . فسحت في كلمة ولتصنع , وأخذت أقلبها يمنة ويسرة في عقلي : تصنع من صناعة وتصنيع أي تشكيل ومن ثم تهيئة , والتهيئة ..تربية أي المقصود تربى على عيني .. أرقبك , أدلك , أعينك وبالنهاية أخرجك للدنيا وقد صنعت كما أردت ..
واستوقفتني ((أردت )) ..
الله أراد لموسى أن يربى ويهيأ على عينه ليخرجه للناس نبيا ومجاهدا للكفر والطغيان فكان كما أراد صادقا قويا تقيا مجاهدا .
وكأنني مع هذه السياحة تركت العنان لسيارتي أن تقودني إلى باب المدرسة ولكنني لم أدخل ..!! وأنا أفكر بالصناعة ومصنعي الصغير أمامي بمئات القاطنين فيه كل ينتظر أن يصنع .
ولمحت ما امتشقت صباحا .. تلك الجداول والملفات .. تلك الكراسات والكتيبات ..هل هذه هي موادي الأولية ؟؟ هل هذه هي أسلحتي التي امتشقتها صباحا لأصنع منها توليفة آخذ بها براءة اختراع !!
وتجمدت أوصالي وجبنت عن الدخول
وتصاعدت تلك الدقات التي لم تغطها أبواق السيارات المارة , وكاد ذلك الوعي الذي أكسبتنيه السنون أن يخذ لني ورغم سماعي لجرس المدرسة والأصوات المتلاحقة إلا أن الإرتباك كان قائد معركةالتوازن هنا .
ونقر على شباك سيارتي أنقذني , وابتدأ الشعور يعود لمستقره بنظرة إلى الطارق وشعره الأسود الناعم يحيط برأسه وعيناه الواسعتان الباكيتان تناشداني فتح النافذة
وفتحت له قلبي أيضا
جواد .. كان يبكي
جواد في العاشرة من عمره , عاش معي في مدرستي مذ كان في الرابعة وحتى هذه اللحظة
_أذكى طالب و أقدرهم على حل المسائل الرياضية بلمح البصر
_ أقدرهم على حفظ آيات القرآن الكريم ومن المرة الأولى
_ أكثرهم قدرة على المناقشة في أمر صغر أو كبر
_ أنشطهم
_ أكثرهم ترتيبا
_ أجملهم خطا
..... يبكي وبدموع حارقة .. ولماذا؟؟
____ أبي ... أبي لقد استشهد أمس !!!!
واكتمل إغماء التفكير عندي وتبعه إغماء القلب وانخلع ذاك الذي يسكن بين الجوانح
... آه يا أوراق الشجر الخريفية اسقطي الآن فهذا أوانك
....آه يا دموع الديم اسكبي الآن وابلك فهذا أوانك
.... آه يا قلوبا حزينة حبيسة اخرجي الآن من اعتقالك وابكي هذا الأب العظيم
بحرية وبدون قيود انطلقي الآن.. ابكيـــــه فقد افتدى روحــــه لتظل أرواح هؤلاء الصغار شامخة في وطنها حرة أبيـــة.
.. ولم تكن دموعي السيالة لتقف إلا عندما ابتدأ جواد يمسحها بكلمات بقيت على المدى أعظم من كل ما قيل :
__ أنا لا أبكي لأنه استشهد وإنما لأن ابن الجيران يقول لي إن أباك مات , وأنا مصر أنه حي يرزق !
ألم تعلمونا أن الشهيد حي وهو الآن معنا ينظر إلينا ولكنه في مرتبة أعلى منا لذلك فنحن لا نستطيع رؤيته ..
.. أليست الآية الكريمة التي نرددها دائما تقول:
..............(( ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون )) ............
وساعتها خجلت من هذه الدموع التي لم تنقطع إلى الآن وأجلست ابن الشهيد الحي وثبت قلبه بالآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة فأضاء وجهه وقال لي :
___ سأخططها على لوحة كبيرة وأهديها لصديقي حتى يعلم منزلة أبي عند الله وعند الناس
حتى يعلم منزلـــة الشهيــــــد ..
واختفى بين الجموع الصغيرة
وأردت أن أخفي وجهي في كفي وأنخرط في البكاء ولكني نظرت إلى تلك الأوراق والملفات
إلى تلك الأسلحة التي امتشقتها صباحا ..لأرى أنها على جهدها المقل
....صنعت نفسية بعون الله
نفسيـــة مثل نفسية جواد
ابــــن الشهيـــــــــــــــــد.