مصطفى السباعي رائد أمة... وقائد دعوة 2

د. محمد عادل الهاشمي

مع موعد صدور كتاب:

مصطفى السباعي

رائد أمة وقائد دعوة (2)

مصطفى السباعي

د. محمد عادل الهاشمي

إننا حين نعرض لحياة السباعي، ونتتبع مراحل هذه الحياة، نجد أنفسنا أمام فلك إنساني دوَّار،ملأ حياته كلها عملاً، لم يستثنِ من ذلك فتوة أو كهولة، صحة أو مرضاً.

كان وقود الإيمان في نفسه دائم التذخير، لا ينضب، مهما بذل من جهود أو قدم من تضحيات. وهو في تجدد مستمر، يُمدّه بطاقات لا تحملها إلا العصبة من الرجال.

وكان السباعي متعددَ ميادين النشاط في حياته، لا يكاد يقتصر على ميدان دون آخر، وإنما كان دائم الإنجاز من موقع في النشاط إلى موقع آخر، يسعى لتغطية كل ميدان، مهما كلفه ذلك، دون أن يهمل واحداً منها. وأبرز ميدانين شغلا حياته هما الدعوة الإسلامية والجهاد...

1 ـ الدعوة الإسلامية

عاش السباعي ـ رحمه الله تعالى ـ للدعوة الإسلامية، وبذل في سبيلها عمره وجهده وصحته، ولقد كانت الدعوةُ حياته كلها، وليست جزءاً منها، فلا غرو أن تكثر إنجازاته الكبيرة في سبيلها وأن تعظم مواقفه الجليلة لتوطيد كيانها.

من هذه المواقف الدعوية التي شهدت إنجازاته الواسعة في فترة قصيرة:

1 ـ بث الوعي الإسلامي في نفوس الجماهير

كان السباعي يدرك رسالته نحو الجماهير المسلمة التي عانت من مؤامرات الاستعمار والصهيونية والغزو الفكري، لذا كان دائم الاتصال بها ليطهر أذهان الشعب مما أراد الاستعمار أن يبثه من سموم، عن طريق وسائله المختلفة التي ترمي إلى توهين الدين في النفوس، وإضعاف العقيدة الإسلامية في القلوب ليسهل عليه تطويع جماهيرنا لمخططاته الهدامة.

2 ـ العمل الدعوي المنظم

كان يرى الانطلاق في العمل الإسلامي من قاعدة ترسم الطريق وتعد العدة، وتوجه الجماهير إلى الطريق الأصيل الذي يحفظ لها عقيدتها ودينها، فاتخذ لذلك الخطوات الآتية:

الخطوة الأولى: ريادته لشباب محمد ^

وهي مجموعات شبابية إسلامية في محافظات سورية عمل على تطوير نشاطها وتوسيع أهدافها لتلي مهامها في ريادة الأمة إلى طريق الإسلام فهماً وتطبيقاً، حتى كانت الخطوة التالية الجريئة:

الخطوة الثانية: تأسيس جماعة الإخوان المسلمين:

اتصل السباعي بالمرشد العام للإخوان المسلمين في مصر الإمام حسن البنا، ونقل بذلك الدعوة الإسلامية من المجال الإقليمي إلى مجال العمل الإسلامي العالمي، وأخذت بذلك جماعة الإخوان في سورية موقفاً رائداً في البلاد وأثبتت وجودها الإسلامي بخدمتها للإسلام وأهله فضلاً عن خدمة القطر السوري، مما تجد تفصيله الوافي في الكتاب.

2 ـ الجهاد للتحرير

ونلفي السباعي مع آفاق الدعوة الإسلامية التي عرضنا لها، ما يحقق بها ذاته المجاهدة، ويضرب المثل لأقواله بكدِّه،وتضحياته وجهاده. نعم ظلَّ السباعي مجاهداً منذ نعومة أظفاره. لم تهدأ سورة جهاده حتى لاقى وجه ربه.

وقد كان في جهاده الدعوي ذا طبيعة فريدة، لم يكن جهاده يحتمل التأويل أو التأجيل.

إنه اشتعال دائم في سبيل الإسلام، يكاد يكون على غير نظير من الدعاة ـ يقول زميله: « لقد كان السباعي يتناول قضايا الإسلام، وكان غيرُه يتناولها، ولكن الفرق بين السباعي وغير السباعي أنه كان يتناول قضايا الإسلام من حشاشة قلبه وسويداء فؤاده، كان يتفتت قلبُه على الإسلام. وإذا خطب كان كاللهب، وإذا كتب كالبركان. كان الكثيرون يكتبون عن الإسلام بالقلم، والكثيرون يتكلمون عن الإسلام ولكن باللسان، أما السباعي فما كان يتكلم باللسان فقط وما كان يكتب بقلمه فقط، وإنما كان يتكلم ويكتب بقلبه، وكان قلمه ترجماناً للبراكين التي تتأجج في هذا القلب»([1]).

أما مواقع جهاده وميادينها فهي أكبر من أن ترصَد، حتى لتكاد تكون حياته كلها قد انطبعت بطابع الجهاد.

وحين أعلنت هيئة الأمم المتحدة، عن قرارها بتقسيم فلسطين المسلمة، إلى دولتين عربية ويهودية، وكان السباعي قد حذَّر طويلا ً من هذا المصير في توعيته لقضية فلسطين، لم نلق من القادة السياسيين أذناً صاغية، عندئذ انتقل السباعي من دور التوعية إلى دور الجهاد بالنفس والمال...

يقول أحد رفقائه في الدعوة والجهاد: « عندما حمي وطيس الحرب في فلسطين لم يبق خطيباً من وراء المنابر يوجه الناس ويلهب قلوبهم ويستثير عزماتهم، ولكنه وهو المؤمن بقضية فلسطين إيماناً صميماً صحيحاً أن فلسطين لن تعود إلا برجال الإسلام وإلا بشباب عاهدوا الله على الجهاد في سبيله، فنزل من على منبره وترك قلمه ثم قاد الشباب المسلم، قادهم كأنه قائد عسكري وهو يقتدي بسيد الأنبياء والمرسلين يوم كان إمام محراب، وكان قائد حرب في نفس الوقت، نعم قاد شباب الإسلام في حرب ضروس([2]).

ولقد عبَّر السباعي عن سروره الغامر بأداء هذا الواجب المقدس بقوله:«كان فرحنا عظيماً إذ أتيح لنا أن ندافع عن المسجد الأقصى، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين» ونذكر طرفاً من هذه الوقائع:

كان احتلال السباعي وإخوانه المجاهدين الحي اليهودي في القدس من أبرز المعارك الجهادية فقد أخمدوا مركزاً عدوانياً خطيراً، احتلوه بيتا بيتاً، وما فيه من أنفاق تفاجئ المجاهدين بزرع ألوان الموت، وحاق الدمار بأكثر الحي، وأحرق اليهود ما تبقى منه عند رحيلهم عنه!

وخاض السباعي وإخوانه معركة القدس الكبرى صحبة أبنائها عام 1947 بذخيرة متواضعة، ورغم ذلك فقد أمدّهم الله بالعون والتأييد، فانتهت حينذاك، بعون الله وبطولة المجاهدين بالنصر المؤزر، وتفصيلاتها في الكتاب.

ويتحدث من قلب المعركة فيزيح الستار عن المناورات التي كان يحوكها الأعداء وأتباعهم حول فلسطين ـ ولا تزال ـ وقد كانت سبباً في ضياعها. وكيف كان الإخوان يتسللون في خفية من الحكومات إلى فلسطين لاستنقاذها وفي ذلك تفصيل.

لم يكن السباعي في حملة فلسطين قائداً استعراضياً، وإنما كان يخوض لجج المعارك واحدة واحدة، حتى وقعت الكارثة عام 1948، وحينها كاشف الشعب بجملة من الأخطار المحدقة بفلسطين وكشف له ستور المستقبل الرهيب الذي أصبح بعد ذلك حاضراً معاشاً تتجرعه الأمة الآن..

وظل السباعي طيلة حياته يحض على تحرير فلسطين قبل أن تستكمل إسرائيل قوتها، وجعل لها في مجلة حضارة الإسلام باباً دائماً سماه «الدرة المغتصبة» لإيقاد روح المقاومة.

ولم يفتر جهاد السباعي ضد الديكتاتورية والاستبداد على اختلاف صورهما، وله في جهادهما مواقف حاسمة، يفصلها الكتاب، ودخل بسبب نضالهما السجون الطويلة، وعانى الاغتراب والمشاق.

ولم يوقف السباعي جهاده على تحرير سورية من الاستعمار والاستبداد، وإنما كان مجاهداً للإسلام في أية بقعة، جاهد الاستعمار البريطاني لتحرير مصر، وسُجن لأجله طويلاً، وجاهد الاستعمار الفرنسي لتحرير المغرب، كما جاهد لتحرير البلاد العمانية،ولكلٍّ تفصيله الوافي في الكتاب.

وننتقل من جهاد السباعي للتحرير إلى ممارسته السياسة: ثقافته السياسية ونظريته السياسية:

إن ثقافة السباعي ثقافة موسوعية ـ كما سبق أن ذكرنا ـ يستغرقها الاهتمام بعلوم الشريعة الإسلامية، وتحليل خصائصها، وتتوقف بخاصة أمام العلوم السياسية، يعزز ذلك ممارساته السياسية الواسعة منذ نعومة أظفاره، وآراؤه السياسية التي تنبثق عن مخزون سياسي ناضج ورؤية مستقبلية، كان سيضمنه ـ كما علمت ـ كتاباً ضخماً حول العمل السياسي قدم له بكتابه:«هكذا علمتني الحياة» القسم السياسي، بوصفه باكورة العمل الذي ينتوي إنشاءه،لولا أن عاجله الأجل قبل أن يتمه.

إنه يفضي من نجاح السياسة إلى فضيلة السياسة، فنجاح السياسة وحده عند السباعي لا يكفي، إن لم تفضِ السياسة على الشعب خيراً وبِراً، ومن هنا تخرج السياسة النفعية التي ترفع صاحبها على حساب أمان الشعب ورفاه عيشه وفضائله، فالحكم عند السباعي، ويقصد به السياسة: «هو الذي تصان فيه فضائل الأمة من الذوبان، وتحفظ أخلاقها من التدهور والانحطاط، وتُمنع عقيدتها من التحلل والتلوث بالخرافات، وتُنمى عقولها بالعلوم والآداب والثقافات. حتى لتكون الأمة إيماناً يبعث على السمو، وكمالاً يدعو إلى الاحترام، ورقياً وحركة متقدمة بروية واتزان، وشخصية متميزة بين الأمم بحبها للخير، ومحاربتها للفساد».

«وهو الذي يدخل السعادة إلى كل بيت ! والطمأنينة إلى كل قلب، والكساء إلى كل جسم، والغذاء إلى كل بطن، فلا تعرى أمة ليكتسي أفراد، ولا تجوع آلاف ليشبع رجال، ولا تفتقر جماهير لتغنى فئات».

«هو الحكم الذي يقول فيه التاريخ لرجاله: عففتم فعفّ ولاتكم ولو سرقتم لسرقوا»([3]).

إنه يلخص بذلك مبادئ الإسلام في ممارسته السياسية والحكم بعيداً عن فلسفات السياسة المعاصرة وغائياتها التائهة.

وفي نظرة مبكرة إلى الأحداث يُهيب السباعي ـ قبل ضياع فلسطين وأقطار عربية ـ بأبناء الأمة أن يعودوا إلى أصالتهم، وأن يستعينوا بإيمانهم وجهادهم وإلا فالعواقب وخيمة والهزيمة قادمة... ويبادر أصحاب الأهواء من الساسة الذين يحاربون المستعمر بالكلام أن يحرروا أنفسهم أولاً، ليكونوا مؤهلين لعملية التحرير..

ويضع السباعي يده على الداء حين يضرب بضياع فلسطين مثلاً لفساد الأداء السياسي في البلاد بفعل المطامع الشخصية التي تحكم مآرب وأهداف السياسة لعهده...

ثم يُتبع ذلك بسبب خطير كان وراء ضياع فلسطين إنه تضليل الساسة الجماهير والسير وراء مؤامرات الدول الكبرى...«لقد كانوا في معركة فلسطين ـ يعطوننا النصر في بيان، ويلحقون بنا الهزيمة في ميدان! وكان كل شيء يسير وفق ما تبنت الدول الكبرى»([4]).

            

([1] )من مقابلة مع المجاهد الفلسطيني الشيخ محمد نمر الخطيب.

([2] )حضارة الإسلام العدد الممتاز: الأستاذ فتحي يكن.

([3] )هكذا علمتني الحياة د. مصطفى السباعي 2/54ـ55.

([4] )من كلمة للسباعي في احتفال الهيئة الوطنية في لبنان عام 1953م.