فقه اللغة وخصائص العربية
تأليف: محمد المبارك عرض: غرناطة الطنطاوي
من أجمل ما كتبه الأستاذ المبارك كتابه هذا، مما يدل على سعة إطلاعه، وحبه الشديد للعروبة والإسلام واللغة العربية السامقة، التي لا تجاريها لغة في العالم.
وقد تحدث عن طريقة التأليف التي انتهجها في كتابه هذا قائلاً:
"لم نحاول أن تكون دراستنا تقليداً لدراسة اللغات الأخرى، لأن للعربية عبقريتها وخصائصها، كما أننا لم نعمد إلى حشد الشواهد الكثيرة من المصادر العربية القديمة، وكان أكثر اعتمادنا في الاستشهاد على ابن جني، وعلى السيوطي، وحاولنا أن نقدم أساساً لنظرية شاملة في فقه اللغة العربية، في جميع عصورها، وسرنا في بحثنا على طريقة المقارنة بين العربية واللغات الحديثة."
فتحدث بداية عن اللغة أنها الجسر الذي يصل بين الحياة والفكر، تسبق وجود الأشياء أحياناً وتلحقها أحياناً أخرى، فساعدت على نمو الفكر ورقي الحياة.
واللغة أيضاً تحتفظ ببقايا ورواسب من الماضي، ولو زالت تلك الصور، فكلمة (صفقة البيع) تصور لنا وضعاً ماضياً كان يحدث بين المتبايعين، ومعناها ضرب اليد على اليد.
وعلم اللغة: هو هذه الدراسة الشاملة للغة لاستخراج قوانينها الخاصة بها، ومعرفة تطورها، لأن للغة جانب اجتماعي وآخر نفسي وتاريخي وجغرافي.
ثم انتقل إلى عناصر اللغة فبحث في اشتقاقها وبنائها ومعاني الألفاظ وغيرها. ثم تكلم عن علم اللغة عند العرب، حيث بدأ بتدوين مفردات اللغة وجمعها، وكانت الغاية الأولى من ذلك فهم القرآن، ولم تتأخر كثيراً عن هذه المرحلة الأولى مرحلة التعليل واستنتاج القواعد اللغوية.
ويعتبر فقه اللغة من العلوم الحديثة في هذا العصر، وقد كان العرب في هذا العلم أسبق من غيرهم للسير به خطوات كبيرة، وبلوغ المرحلة التي أصبح فيها علماً قائماً بذاته، واضح المعالم، علمي الأسس والطريقة.
تقوم طريقة البحث في علم اللغة في هذا العصر على الأسس التالية، كما يراها الأستاذ المبارك:
الاستقراء، والمقارنة، واعتبار التطور في اللغة، واستنتاج القوانين العامة، وقد أبدى بعض الملاحظات المتعلقة بفكرة تطور اللغة وهي:
1-لا يكون التطور واحداً في جميع اللغات من ناحية شموله. فاللغة العربية لم تتغير مثلاً أصواتها منذ مدة تزيد على خمسة عشر قرناً، وكذلك صيغها وأصول موادها، على حين أننا نرى اللغة الفرنسية مثلاً قد تبدل منذ خمسة قرون الكثير من عناصرها.
2-لا يمكن التنبؤ سلفاً عن الطرق التي سيسير التطور فيها. لأن للعوامل الدينية والقومية أثراً في توجيه هذا التطور.
3-التطور في اللغة لا يتجه دوماً نحو الأحسن. ولا يكون دائماً بمعنى التقدم والارتقاء.
4-يجب ألا نحكم دوماً بالحسن على الطور المتأخر في الزمن، وبالقبح على المتقدم.
5-قد يكون التطور طريق اتصال بالماضي.
وأن علم اللغة بهذا المفهوم، يرى الأستاذ المبارك أن يطلق عليه أحد الاسمين (علم اللغة) أو (فقه اللغة)، أما اسم (الفلسفة اللغوية) فإنه لا يقابل المفهوم العلمي الحديث، لإدخاله في باب العلم مباحث هي إلى الفلسفة أقرب، في حين أن سائر مباحث اللغة دخلت في طور البحث العلمي.
ثم يتحدث الأستاذ المبارك عن فوائد علم اللغة أنه:
1-يكشف عن عقلية الأمة التي تتكلم تلك اللغة.
2-ويكشف عن تاريخها ومدنيتها.
3-إن معرفة خصائص اللغة وقوانينها وسنن تطورها، يمكننا من إصلاحها ومراقبة تطورها، والسير به في اتجاه صحيح يناسب خصائصها الأصلية، ولا يعرضها للذوبان.
ثم يتحدث الأستاذ المبارك عن الجهاز الصوتي، ومخارج الحروف وصفات الحروف وأقسامها.
وأما التبدلات الصوتية وأسبابها فيحدثنا عنها الأستاذ المبارك:
1-منها انتقال اللغة من جيل إلى جيل عن طريق التلقين، وقد كان القرآن الكريم سبباً في بقاء الأصوات العربية في اللغة الفصحى ثابتة، في حين أنها نفسها قد تبدلت في لغة الكلام.
2-التأثر بأصوات لغة أخرى.
3-أسباب اجتماعية من دينية وقومية.
4-ومن الأسباب ما هو صوتي، لا دخل للعلل الخارجية فيه.
ولا عبرة بالتبدل إذا حدث في حادثة فردية خاصة، وإنما العبرة للتبدل الذي يكون عاماً في مجموعة من الناس كسكان بلد ما.
أما قوانين التبدل الصوتي فهي ليست في عمومها واطرادها كالقوانين الطبيعية التي تنطبق على المادة. ذلك أنها ليست متولدة عن طبيعة الأشياء بالضرورة، وإنما هي في أكثر أحوالها نتيجة اتفاقات ومصادفات ليس من الممكن التنبّؤ عن وقوعها. فهجرة قبيلة من بلد إلى بلد، ودخول لغة على أخرى في حوادث هجرة اقتصادية، أو حرب، تسبب تبدلاً في أصوات اللغة.
وإن ما يحدث من تبدل صوتي يكون بطيئاً فتمضي القرون الطويلة حتى يحدث مثل هذا التبدل، وقد يكون سريعاً فلا يمضي قرن أو أقل فيحدث هذا التبدل.
وإن من العسير حالياً الوصول إلى قوانين في التبدلات الصوتية، تعم جميع اللغات، وإن كان ذلك ليس مستحيلاً.
أما التطور الصوتي فلم يحدث منذ أمد طويل، وإنما طرأ على لغة المحادثة التي تفرعت لهجات عديدة عن اللغة الفصحى.
ثم يبدي الأستاذ المبارك رأيه في الاشتقاق قائلاً:
1-الاشتقاق هو توليد الألفاظ بعضها من بعض.
2-هذه الطريقة حيوية توليدية أشبه بطريقة توالد الأحياء، وليست آلية جامدة، أما طريقة اللغات الأخرى فهي طريقة آلية أكثر منها توليدية، تعتمد طريقة النحت وإلصاق الكلمات بعضها ببعض.
3-وبذلك لم ينقطع سيل الألفاظ الجديدة في اللغة العربية. وكان الاشتقاق كذلك طريقاً للتجديد والتنويع الفني.
4-الاشتقاق صدى ما في العقلية العربية من خصائص التفكير المنطقي والعلمي.
5-ويدلنا على أصول الألفاظ، وهو الطريق إلى حسن فهم اللغة والتفقه فيها، ومعرفة الأصيل من الدخيل. ويكشف الصلة بين المعاني المتباعدة لألفاظ من مادة واحدة، ويكشف عن عادات وأحوال ماضية.
وبهذا يكون الاشتقاق هو الجسر الموصل بين اللغة والحياة الفكرية والاجتماعية.
ثم يقدم الأستاذ المبارك عدد من الاحتمالات والآراء:
1-يمكن أن نقول أن الأصل في اللغة هو المجموعات الثلاثية، ولكن لا يمكن أن نقيم من هذا التعليل نظرية عامة في أصول الألفاظ العربية.
2-يرى عدد من فقهاء اللغة قديماً وحديثاً أن الألفاظ العربية ترجع في منشئها التاريخي القديم إلى أصول ثنائية زيدت حرفاً ثالثاً في مراحل تطورها التاريخي، وقد جاء هذا الحرف الثالث منوعاً للمعنى العام الذي تدل عليه تلك الأصول الثنائية.
ثم يحدثنا الأستاذ المبارك عن أنواع الاشتقاق، مستشهداً بآراء من سبقه من العلماء، أمثال ابن جني وجرجي زيدان وفولتير وبركسون الفرنسيين وغيرهم، فيقول:
"نوافق الأستاذ العلايلي في رأيه السديد الذي يتلخص باستقرار العربية على الأساس الثلاثي واعتبار الأصل الثنائي مرحلة تاريخية، لم يعد البحث فيها مجدياً، إلا ضمن هذا الاعتبار التاريخي، وكني أرى مع ذلك أن النظرية الثنائية عدا صفتها التاريخية لا تزال في بداية البحث".
وبعد أن يقدم الأستاذ بعض الأمثلة يستنتج أن للحرف الواحد في تركيب الكلمة العربية قيمة تعبيرية، وأن الكلمة الثلاثية تعبر عن معنى هو ملتقى معاني حروفها الثلاثة ونتيجة تمازجها وتداخلها.
ثم يقرر الأستاذ المبارك أن:
"لا شك أن في اللغة العربية خصيصة تبهر الناظرين وتلفت نظر الباحثين، وهي تقابل الأصوات والمعاني في تركيب الألفاظ، وأثر الحروف في تقوية المعنى أو إضعافه، والانسجام بين أصوات الحروف التي تتركب منها الألفاظ ودلالاتها، وهذا ما يدعونا إلى استقراء هذا البحث ، ولكننا نرى أن الأمثلة التي قدمها الباحثون في هذا الباب لا تكفي لاستنتاج قانون عام، يشمل ألفاظ العربية كلها، ولا ريب عندي أن متابعة التحري في هذا الاتجاه سيؤدي إلى نتائج عظيمة في تاريخ الكلم العربي".
وعندما يتحدث عن الاشتقاق الكبير فيقول:
"إن محاولة فقهاء اللغة قديماً تفكيك الكلمة إلى حروف، نظرة عميقة ثاقبة تدل على تفكير لغوي عميق، بقدر ما تدل على ما في اللغة العربية من استعداد عظيم لهذه العمليات المخبرية، وخصائص كامنة عريقة، ولذلك فإني وإن كنت أرى أن الاشتقاق الكبير في اللغة العربية في عهدها الأخير الذي يمتد إلى ما قبل بضعة عشر قرناً، هو أضعف أنواع الاشتقاق، فإني مع هذا أرى ضرورة ولوج هذا الباب، ولكن الطريق وعرة".
"وأول من فكر فيما نعلم في حل الكلمة إلى حروفها الأصلية الثلاثة، ثم تقليب مواقع هذه الحروف هو الخليل بن أحمد الفراهيدي، وعلى هذا الأساس رتب المعجم المنسوب إليه المشهور بكتاب العين في اللغة، ولكن مبعث الفكرة عنده في رأينا ليس أنه يرى أن المقاليب الستة للكلمة الواحدة تدخل في باب اشتقاق واحد، وترجع إلى أصل واحد يجمعها بسبب اشتراكها في الحروف الثلاثة مهما يكن موقعها وترتيبها، وإنما الباعث له على هذا الترتيب فكرة إحصائية رياضية، وهي فكرة مسيطرة في رأينا على تفكير الخليل غالبة عليه."
ثم يتحدث الأستاذ المبارك عن أوزان الكلمة العربية، ودلالاتها، ولولا ذلك لالتبست معاني الألفاظ المشتقة من مادة واحدة، وأيضاً وفرت على المتكلم والمتعلم كثيراً من الجهد، وهي تدل على ما في العقلية العربية من نظرة منطقية تحليلية إلى الأشياء. وتجعل الكلام شعراً أم نثراً قطعة فنية موسيقية تسابق المعنى إلى القلب عن طريق الحس والسمع، وبلغت هذه الموسيقى ذروة الكمال في الكتاب العربي المبين، وهذه الخصيصة لا نظير لها في اللغات الأخرى المشهورة.
أضف إلى هذا أن كثيراً من القوالب المعنوية في اللغة العربية لا يقابلها شيء مطلقاً في تلك اللغات كأفعل التفضيل وأسماء الزمان والمكان والآلة، فإنهم يتوصلون إلى الإبانة عنها بجمل أو تعابير تتألف من أكثر من كلمة واحدة.
وطريقة اللغة العربية في تركيب الألفاظ واشتقاقها من موادها الأصلية وتصريفها في أشكال متنوعة تختلف عن طريقة التركيب الإلحاقي المعروفة في لغات أخرى كثيرة، والتي تقوم على زيادة أحرف مخصوصة في أول الكلمة أو في آخرها للدلالة على معنى خاص يحصل بهذه الإضافة، أو بطريقة النحت من كلمتين.
وقد تتأصل الإضافات في الكلمة في هذه اللغات، حتى تتوهم أصالتها، ثم يشتق من الكلمة كلمة أخرى بإضافة زوائد جديدة حتى يضيع أصل الكلمة وتغرق الزوائد أصل المادة، ولا يحدث مثل هذا في العربية فالمادة الأصلية تبقى هي الغالبة والأوزان بأطرادها تظهر الأصل من الزائد، ولا يقع الالتباس، لأن طريقة التوليد بالصياغة والوزن على أوزان معهودة معروفة غير طريقة التوليد بالإضافات والزوائد التي لا حد تقف عنده.
وللعربية في توزيع حروفها ومدودها وحركاتها وسكونها، في تأليف مفرداتها نظم خفية جديرة بالبحث والاهتمام.
وهناك أبنية كثيرة الاستعمال نقول عنها صيغ حية.
وأبنية قليلة الاستعمال، وهذه تحتمل وجهين أحدهما أن هذه الأبنية كانت حية ثم جمدت، أو أنها صيغ جديدة حديثة المولد، ولكنها لم تر النور حتى هاجمها النحاة واللغويون، ووقفوا دون نموها.
وأبنية نادر الاستعمال، كالصيغ التي جاء على وزنها كلمة أو بضع كلمات.
وقد قسم اللغويون الأبنية إلى قسمين أحدهما للأسماء، والآخر للأفعال، ولا شك أن أبنية الأفعال محدودة تبلغ بضعاً وعشرين بناء. أما أبنية الأسماء فعددها كبير جداً.
ثم يؤكد الأستاذ المبارك مرة أخرى على أن تخصيص كل من الأسماء والأفعال بأوزان خاصة دليل على ارتقاء اللغة ودقتها في التعبير، فاللغة التي لا تميز بين الأسماء –ومنها الصفات- والأفعال تقع في التباسات كثيرة ولا سيما إذا خلت من الإعراب.
ثم يتحدث الأستاذ المبارك عن حياة الأبنية، ونشوئها، فيقدم عدة ملاحظات:
1-إن في اللغة العربية عدداً كبيراً من الأوزان المتنوعة في أشكالها ودلالاتها.
2-تعدد معاني الأبنية.
3-تعدد الصيغ للمعنى الواحد.
4-تفاوت الصيغ في حيويتها.
5-تولد صيغ جديدة.
6-كان بحثنا في الاشتقاق دائراً على الثلاثي، دون التعرض للرباعي والخماسي المجردين، وذلك لأن عددهما في العربية بالنسبة إلى الثلاثي ضئيل جداً.
7-إن النحت طريقة من طرائق توليد الألفاظ، وهو قليل الاستعمال في اللغة العربية، شائع في غيرها من اللغات، على عكس الاشتقاق، الذي هو القاعدة الأساسية في توليد الألفاظ في اللغة العربية.
8-إن من المشتقات الاشتقاق المركب، وهو الاشتقاق من المشتق.
9-إن المادة الاشتقاقية والبناء تشتركان معاً في توليد معنى الكلمة وتحديده.
10-بين الاشتقاق والتصريف تشابك وتلازم وترابط.
أما عن تطور الأبنية فيتحدث الأستاذ المبارك أن هذه الأبنية نقلت في قوالبها الرائعة الأفكار والمعاني، من جيل إلى جيل خلال عصور طويلة، وذلك ما عجزت عنه كثير من اللغات، إن لم نقل اللغات كلها، ولكنها لا تمنع أن يكون ثمة تطور بطيء جداً نكاد لا نشعر به، فتطور بناء الأوزان هو الأقل وقوعاً والأبطأ حدوثاً، أما تطور معاني الأوزان فهو أظهر وأوضح، وأكثر وقوعاً وأسرع حدوثاً.
ثم يطرح الأستاذ المبارك عدة تساؤلات تعرض اليوم للباحثين وهي:
1-هل لنا أن نأتي بصيغ جديدة، ونبتدع أوزاناً مستحدثة، لأداء حاجاتنا الفكرية الجديدة.
2-هل لنا أن نحيي صيغاً حكم المتقدمون بجمودها أو موتها.
3-هل لنا أن نتوسع في معاني الصيغ والأوزان المعروفة.
وقد تحدث الأستاذ المبارك عن معاني الألفاظ مؤكداً أن علماء اللغة قديماً في كل الأمم، عنوا أكثر ما عنوا بمباني الألفاظ وتركيبها، ولم يولوا معانيها ما تستحق من العناية، على أن علماء العربية من أسلافنا عالجوا كثيراً من المسائل المتعلقة بمعاني الألفاظ. فنجد في كتب علمائنا الأقدمين مباحث متفرقة هي في الصميم، من مباحث دلالة الألفاظ ومعانيها.
أما في العصر الحديث، فقد ارتقت مباحث معاني الألفاظ، ذلك أن علوماً عديدة تظاهرت على هذا الارتقاء، فعلم الأصوات اللغوية كشف عن وظيفة الأصوات التعبيرية، وعلم النفس أوضح الصلة الواقعة بين التفكير والشعور من جهة، واللغة من جهة أخرى، واتسع البحث في المجاز والحقيقة، وانتهى ذلك كله إلى نشوء علم خاص باسم علم دلالة الألفاظ في أواخر القرن التاسع عشر.
حيث أن قيمة البحث في دلالة الألفاظ ومعانيها، تتوقف كثير من قضايا الحياة على فهم النصوص فهماً صحيحاً دقيقاً، ويعين هذا البحث على تذوق النصوص تذوقاً سليماً، ومعرفة مواقع الألفاظ، ومعرفة مواطن الجمال ومواضع الدقة، إضافة إلى هذه الفوائد العملية والثمرات الأدبية، نتائج علمية وقيمة نظرية، ذلك أنه طريق لكشف بعض الحقائق المتعلقة باللغة وصلتها بأهلها، بعقليتهم وبيئتهم وعاداتهم.
ثم يبدي الأستاذ المبارك ملاحظات حول دراسة معاني الألفاظ وهي:
1-دراسة الألفاظ حية في نصوصها.
2-دراسة الألفاظ دراسة تاريخية تطورية، على تعاقب العصور، وفي مختلف الأطوار.
3-دراسة الألفاظ بجملتها ومجموعها.
ثم يوضح الأستاذ المبارك الفرق بين اللفظ والكلمة، أن اللفظ يشير بوجه خاص إلى الناحية الصوتية من الكلمة ، وأن الكلمة تشير إليها وإلى المفهوم المعنوي للفظ معاً.
ففي الاتصال اللغوي رمز دال هو اللفظ، ومدلول هو المعنى، ودلالة وهي الارتباط بينهما، والعلم الباحث في صلات الألفاظ بعضها ببعض هو النحو، والباحث في ما بين المعاني من صلات هو الفلسفة، والعلم الباحث في ما بين الألفاظ والمعاني من صلات هو مبحث الدلالة من علم اللغة.
وقد وصف علماء اللغة في هذا العصر ألفاظ المعاني بأنها ملأى، وألفاظ الارتباط بأنها فارغة؛ذلك أنها فرغت من محتواها الأصلي الذي هو معناها الأصلي، وبذلك أصبحت تدل على نوع علاقة بين لفظين أي بين معنييهما.
ثم يتحدث الأستاذ المبارك بإسهاب عن عناصر اللغة، ويؤكد أن اللغة العربية هي أبرز اللغات من جهة احتفاظ ألفاظها بالصلة بأصولها الاشتقاقية، وليس الأمر كذلك في غيرها من اللغات الحية.
وتختص اللغة العربية أن أكثر ألفاظها تتكون في أصولها الاشتقاقية من ثلاثة حروف صوتية، دون حساب الحركات، وأن هذه الحروف الثلاثة ثابتة لا تتغير، وأن للحرف قيمة دلالية ووظيفة في تكوين المعنى.
أما حروف المد في اللغة العربية فهي عنصر مرن متحول، ليس من الأجزاء الأساسية في تكوين الأصول الاشتقاقية، ولا يستوجب الاتفاق فيه اتفاقاً في المعنى، ولا الخلاف فيه كذلك اختلافاً فيه؛ وذلك بخلاف الفرنسية والإنكليزية، وأما في العربية فكأن حروف المد جُعلت لتنويع المعنى الأصلي الثابت بثبات الحروف الصائتة في المادة الواحدة.
أما الحركات فهي حروف مد قصيرة، يؤدي إلى اختلاف جزئي في المعنى.
وللكلمة في اللغة حياة خاصة بها، وقد شبهها علماء اللغة المحدثون بالأحياء، فقالوا إن الكلمة يعتريها ما يعتري الأحياء من أحوال: فهي تولد في بادئ الأمر، ويعتريها الضعف والهزال فيقل استعمالها، وتهاجر وتسافر، وقد تعود من مهاجرها في زي جديد، وقد تموت الكلمة فلا تستعمل أبداً وتبقى مدفونة في النصوص القديمة، وقد تبعث من جديد بعد موتها.
ثم تحدث عن وضع الألفاظ ونشأة اللغة. وفي هذا الموضوع مسألتان إحداهما وضع الألفاظ ابتداء في كل لغة، والثانية وضع الألفاظ بعد ظهور اللغة واستقرارها وطريقتها في التسمية وإطلاق الألفاظ على المعاني.
ثم ينتقل إلى طريقة توليد الألفاظ، ويؤكد أن التسمية اللغوية ليست إلا تصويراً لبعض جوانب المسمى أو بعض صفاته أو أجزائه أو أبرز أعماله ووظائفه، وينبني على ذلك نتائج عديدة.
ويعرّف الكلمة بأنها رمز وسمة وليست تعريفاً للشيء، فقد يكون اللفظ في أصل معناه أوسع من المسمى وهو الغالب، وإنما يأتي التخصيص من الاصطلاح والتواضع.
والكلمة قد تستعمل للدلالة على مسميات مختلفة تشترك في تلك الصفة أو ذلك المعنى العام، وقد يقع أن تطلق الكلمة الواحدة على معنيين متضادين لوجود صفة مشتركة بينهما. وهذا التعدد في معاني اللفظ ظاهرة لغوية نجدها في جميع اللغات الشائعة. وقد يتعدد اللفظ للمعنى الواحد وهو الترادف.
ونرى بين اللغات شيء من الاختلاف بين الألفاظ، فلا يقابل كل لفظ نظيره من اللغة الأخرى مقابلة تامة دائماً لاختلاف مفهوم الشعوب للوجود واختلافها في تصنيفه، فقد تجمع لغة من اللغات في نوع واحد وتحت اسم واحد ما تفرقه لغة أخرى في نوعين أو أكثر، وتسميه بأكثر من اسم واحد.
ثم ينتقل إلى الحديث عن حياة الألفاظ، مؤكداً أنه لتحديد معنى الكلمة، معرفة العصر والبيئة التي تنتمي إليها. فالمعاني التي تتوالى على الكلمة الواحدة قد ينسخ الثاني منها الأول، والتالي السابق.
ويبين الأستاذ المبارك أسباب تطور معاني الألفاظ، فمنها أسباب من داخل اللغة نفسها، ومنها أسباب خارجة عن اللغة، كالأسباب الاجتماعية والنفسية والدينية وتأثير اللغات الأجنبية. وهذه الأسباب نفسها أسباب تبديل الألفاظ أيضاً.
ثم يقدم قوانين تبدل معاني الألفاظ وهي مطردة في جميع اللغات وليست خاصة بواحدة منها، وهي: التعميم، والتخصيص،والانتقال بسبب المشابهة أو المجاورة.
والاتجاه الظاهر في تطور معاني الألفاظ يكون من المعاني المحسوسة إلى المعاني المجردة، أو من الحسي إلى الحسي.
ثم ينتقل الأستاذ المبارك إلى بحث خاص وهو خصائص العربية، فيقول:
"أثناء تأليفي لهذا الكتاب اتضحت لي آفاق ومعالم، ووجدت تلك الصلة المتينة بين خصائص العرب العقلية والنفسية وتكوينهم وتركيب مجتمعهم واتصال تاريخهم من جهة، وخصائص اللغة العربية في تكوينها وتركيب ألفاظها ومعانيها من جهة أخرى. كما أنني وجدت تقابلاً عجيباً بين اللغة والطبيعة، ولم يكن سبيلي في كل ذلك رأياً أرتأيه فألزمت به اللغة، وإنما انكشف لي ذلك انكشافاً تدريجياً في أثناء سيري في البحث اللغوي خلال سنين طويلة."
ثم تحدث عن الوعي اللغوي بين الجمود والانحراف والأصالة والحياة، مؤكداً أن النزعات المنحرفة في اللغة قد عاشت حقبة من الزمن وكان لها مظاهر متعددة ودوافع مختلفة، كالشعوبية وحب الظهور بمظهر التقدمية، ولكنها عارضة مؤقتة. ومن هذه النزعات الدعوة إلى العامية وهي بطبيعة الحال الدعوة إلى الإقليمية، أي استبعاد الوحدة العربية.
وقد ظهر صراع بين الصيحات الداعية إلى العامية تارة، وإلى الإكثار من الألفاظ الأجنبية، وبين الدعوة إلى الفصحى، وهذا الصراع بين الفريقين هو الذي ولد النزعة المعتدلة التي سادت فيما بعد، فأخذت من أحدهما ضرورة الحفاظ على الأصالة في لغتنا، ومن الفريق الثاني ضرورة الاستجابة لمطالب الحياة والمرونة في معالجة المشكلة اللغوية، وأدى بها ذلك إلى إعادة الحيوية إلى كيان اللغة عن طريق الاشتقاق والتوليد تبعاً لسنن العربية نفسها.
ثم يتحدث الأستاذ المبارك عن الخصائص الصوتية بإعجاب، موضحاً أن من صفات الحروف العربية توزعها في أوسع مدرج صوتي عرفته اللغات، مما يؤدي إلى التوازن والانسجام بين الأصوات، والعرب يراعون في اجتماع الحروف في الكلمة الواحدة حدوث الانسجام الصوتي والتآلف الموسيقي.
ومن هذه الخصائص ثبات أصوات الحروف، وخاصة الصائتة منها، ولها الأثر الكبير في تثبيتها أصول المعاني، وفي تثبيت الألفاظ وموادها، أما حروف المد فهي أضعف وأقل ثباتاً واستقراراً، حيث أن وظيفتها التبديل والتغيير، للتنويع والتجديد.
ويقول الأستاذ المبارك:
"نستطيع أن نقول في غير تردد أن للحرف في اللغة العربية إيحاءً خاصاً، فهو إن لم يكن يدل دلالة قاطعة على المعنى، يدل دلالة اتجاه وإيحاء، ويثير في النفس جواً يهيئ لقبول المعنى ويوجه إليه ويوحي به. فالعربية بنت الفطرة والطبيعة".
"ولو نظرنا إلى بعض اللغات الأخرى كاللغات اللاتينية، لوجدنا أن الفردية غالبة عليها، وأن الأصول المشتركة قد ضاعت، والروابط الاشتقاقية قد تفككت كما تفككت في المدنية الحديثة روابط الأسرة".
وأما عن خصائص الكلمة العربية، فلها وظيفة منطقية عقلية، ووظيفة فنية حيث لها أوزان موسيقية، وأثر هذه الأوزان في جمال الكتابة العربية.
ويستخلص الأستاذ المبارك أبرز خصائص اللغة العربية من خلال مقارنتها باللغات الأخرى، وهي:
1-استمرار معالم اللغة العربية استمراراً يقابل استمرار الشخصية العربية خلال العصور.
2-إن اشتراك الألفاظ المنتمية إلى أصل واحد في أصل المعنى وفي قدر عام منه يسري في جميع مشتقات الأصل الواحد مهما اختلف العصر، يقابله توارث العرب لمكارم الأخلاق.
3-أن العنصر الثابت المتوارث من اللغة، يقابل ما يرثه العربي مادياً من المال الموروث، ومعنوياً من الشرف ومكارم الأخلاق.
4-لهذه الخاصة في اللغة العربية قيمة تربوية تعليمية عظيمة، فالروابط الاشتقاقية تعلم المنطق والتفكير المنطقي. لأن للأبنية والقوالب عند العرب وظيفة فكرية منطقية. كما لها وظيفة فنية.
5-إن الروابط الاشتقاقية بين الألفاظ توحي بفكرة الجماعة وتعاونها وتضامنها في النفوس عن طريق اللغة.
6-إن الخاصة الاشتقاقية في اللغة العربية تهدينا إلى معرفة كثير من مفاهيم العرب ونظراتهم إلى الوجود وعاداتهم القديمة.
7-والخاصة الاشتقاقية بثباتها على الزمن ووضوح علامتها، تمكن من تمييز الدخيل الغريب من الأصيل.
وقد بين الأستاذ المبارك تشابهاً جميلاً وقوياً بين اللغة العربية والطبيعة، في تركيبها ومادتها وفي بنائها وهيئتها، وفي نمطيتها وتكرارها، وفي تسلسلها وتوارثها، وفي محافظتها وتجديدها.
أما التعريب فهو ظاهرة من ظواهر التقاء اللغات وتأثير بعضها في بعض، وقد كان أثر اللغات الأجنبية في اللغة العربية قد اقتصر على دخول بعض المفردات الغريبة وهو ما سماه علماء اللغة تعريباً لأنه صيغ في قالب عربي، وقد كان عدد الألفاظ الأجنبية قليل جداً، وهذه الألفاظ تتعلق بالحسيات لا بالمعنويات، ولم تتغير أصوات الحروف العربية، ولا تأثرت أبنية العربية وأوزانها. ويعرف الدخيل في اللغة العربية من فقدان الصلة بينه وبين إحدى مواد الألفاظ العربية. ويعرف أيضاً إذا اجتمع في الكلمة من الحروف ما لا يجتمع في الكلمة العربية كالجيم والقاف في جوسق وغيرها.
وقد كان الإكثار من الغريب وفسح المجال له من غير قيد، مظهراً من مظاهر النزعة الشعوبية في الميدان اللغوي قديماً وحديثاً.
وأما عن تأثير اللغات الأجنبية في هذا العصر فقد كان في لهجات البلاد العربية العامية، ولكن الفصحى بقيت في منجاة من هذا التأثير إلا في الحدود الضيقة.
أما أثر العربية في اللغات الأخرى قبل الإسلام كان محدوداً، وبعد الإسلام كان الأثر أوسع أفقاً وأكثر تداخلاً، فكانت النتيجة انقراض بعض اللغات وحلول العربية محلها في البلاد التي تم استعرابها، حتى أن العربية قد غزت اللغات الأخرى خلال العصور التي تلت الإسلام، ابتداء من الفارسية التي دخلها عدد كبير جداً من الألفاظ العربية.
ثم يتحدث الأستاذ المبارك عن خصائص معاني الألفاظ العربية، ويقرر أنها في الجملة معللة، وتعتمد حين التسمية أخص صفات المسمى، أكثر من اعتمادهم شكله الخارجي، وأن العرب جمعوا في لغتهم بين الواقعية الحسية والمثالية المعنوية، وهذه المثالية ليست خيالية مجردة من الحياة، بل هي امتداد للواقعية، وصنفوا الوجود تصنيفاً شاملاً منطقياً، يدعو إلى الدهشة والتعجب، ويدل على مستوى فكري قلما وصلت إليه الأمم. لذا لا ينطبق عليها وصف الابتدائية.
وتمتاز اللغة العربية بدقة تعبيرها والقدرة على تمييز الأنواع المتباينة سواء في ذلك الأمور الحسية والمعنوية.
ولقد أصاب العربية في عصور الانحطاط المنصرمة مرض العموم والغموض والإبهام، كما أصابت هذه الآفات التفكير نفسه، فضاعت الفروق الدقيقة بين الألفاظ المتقاربة فغدت مترادفة. وفي ذلك قتل لخصائص الأدب ومزايا الفن، إذ الفن يقوم على إبراز الدقائق الخفية، والمشاعر الذاتية، واللحظات العابرة، والمشاهد غير المتكررة.
ومن ثم لا ينسى الأستاذ المبارك أن يتحدث عن الأخطاء الشائعة بشيء من التفصيل. على أنها مظهر من المظاهر الباقية من آثار عصر الانحطاط أو من مظاهر التأثير الأجنبي في عصر الاستعمار.
ويبين أنواعها: فمنها مالا يصح استعماله لأنه لا أصل له في اللغة، ومنها الخطأ في ضبط الألفاظ، ومنها الخطأ في صيغ بعض الألفاظ، ومنها الخطأ في معاني الألفاظ، ومنها الخطأ في التعابير والتراكيب.