الخلافات السياسية بين الصحابة

الخلافات السياسية بين الصحابة

كتاب جدير أن يقرأ وتعاد قراءته

                   بقلم: الشيخ راشد الغنوشي 

على قلة ما يصدر من كتب في بلاد العرب (ما يصدر في جميعها لا يتجاوز ما ينشر في بلد أوروبي صغير) فإن ما يقرأ منها قليل، وما هو جدير بالقراءة أقل، ولست أرتاب في أن كتاب "الخلافات السياسية بين الصحابة" لمؤلفه الأستاذ محمد بن المختار الشنقيطي هو في الخط الأمامي منها. لقد كان من بين الكتابات القليلة التي وجدت في قراءتها متعة ظلت تشدني إلى استئناف ومتابعة القراءة، كلما قطعتني مشاغل الحياة عنها.

بدأتُ القراءة قياماً بواجب الأخوة، استجابة لطلب كريم من الأستاذ المؤلف، إذ اختصّني بشرف تقديم مؤلّفه إلى القراء، ولكني ما إن مضيت في القراءة بضع صفحات –مستصحباً نية القيام بالواجب- حتى تحولت القراءة مقصداً بذاتها، أو أقل لما تسكبه في النفس من لذة روحية مع كل صفحة، بل مع كل فقرة ترتشفها من هذا المعين المعرفي الصافي، وأنت تتابع نظمه الدقيق العميق للقواعد الاثنتين والعشرين التي استخلصها منهاجاً في التعامل مع مرحلة التأسيس لحضارة الإسلام منذ يوم السقيفة، يوم انتقلت مهمة هداية البشرية من طور النبوة المعصومة إلى طور خلافة البشر الخطائين، وقد أزف زمن تجسيم وصية القائد عليه السلام وهو يودع أمته عن: "فليبلغ الشاهد منكم الغائب" (متفق عليه).

إنه كما وفق الشيخ البنا في صياغة الإسلام ومنهج الوصول إلى حقائقه في عشرين مسألة غاية في الوضوح والدقة، فقد وفق سليل العائلة الشنقيطية ذات الأيدي البيضاء في خدمة هذا الدين –علومه وآدابه وجهاده- إلى تناول مرحلة التأسيس لحضارة الإسلام في كل أبعادها، تلك المرحلة التي تَشطّر فيها الضمير الإسلامي والاجتماع الإسلامي، ولا يزال الجرح مفتوحاً، ولا يزيده كرّ الزمان إلا عمقاً، لاسيما مع ما تحمله - هذه الأيام - ضروب الإحياء الديني من بشائر، لا تخلو من نذر الغلو والتشدد، تأجيجاً لما خمد من نيران الفتن والهرج، حتى تحول –أو كاد- خير القرون والأدنى إلى مثاليات الإسلام إلى حقل منازعات من دون نهاية، ومصدر هدر غير محدود لطاقات الإسلام، وأساساً لتمزيق أبديّ للاجتماع الإسلامي.. بدل أن يمثّل قاعدة للإجماع، وقبلة تهدي الحائرين، وما ذاك إلا بسبب المناهج الخاطئة التي تناولت خلافات الأصحاب بالتأريخ والسرد ثم بالتأويل، خدمة لأغراض، أو انسياقاً مع جهالات، وذلك بعيداً عما أوجبه الإسلام على المسلم من التزام بنهج العلم والعدل معاً.

ولقد تبدو الإثارة المتجددة لما حدث من منازعات بين الأصحاب رضوان الله عنهم –مهما كان المنهج والقصد- نوعاً من تلك الجراح، أو بحثاً متجدداً عن نصرة مذهب أو حزب، أو الإساءة إلى آخر، وهو ما يحمل النفوس الطيبة على العزوف عن الخوض مطلقاً في هذه المخاضة، لما يشغلها من هموم مواجهة التحديات الراهنة ما يكفيها ويغنيها، وقد ترى فيها نوعاً من الملهيات والصوارف عن مواجهة الراهن، والتورط في لجج فتن لم نخرج منها بطائل غير نكء الجراح ومزيد من التمزقات.. بما يبدو معه الموقف الأسلم هو طيّ صفحة تلك المرحلة من تاريخنا بخيرها وشرها، مكتفين بشمل الجميع بالترضي أو الترحّم:

)تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عمّا كانوا يعملون( (البقرة 134).

ومع أن الكف مطلقاً عن الخوض أو التفكير فيما حصل هو من قبيل الافتراض النظري المتعذر، إذ كيف تُصرف أمة عن تناول مرحلة التأسيس فيها، وعصرها الذهبي، فإنه حتى ولو كان ذلك ممكناً –وما هو بالممكن- فليس هو بحال نافعاً، لما يورثه من عُقد وأخلال فادحة في بنية الشخصية الحضارية للأمة، بل هو غير جائز أصلاً، فنحن مأمورون بالتأسي:

"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي" (أخرجه الترمذي وصححه وابن حبان والحاكم، وضعّفه ابن القطان الفاسي).

إن التناول لوقائع التأسيس لا مناص منه، بل نحن مأمورون به لما يحمله لنا في كل حين من قربات ومنافع، إذا ما توفّقنا إلى المنهجية العلمية القويمة التي تجمع بين قاعدتي العلم والعدل، والإحاطة التامة بموضوع البحث، وخلوص القلب عن الأغراض غير غرض درك الحق والتمسك به، وهو ما تحقق فيه للأستاذ الشنقيطي شأو بعيد من التوفيق في هذا الكتاب الصغير حجماً العظيم فائدة ومؤونة.

لقد قدم الأستاذ الشنقيطي خدمة مهمة جداً لأجيال الحركة الإسلامية المعاصرة من خلال إعادة قراءة وقائع الاختلاف بين الأصحاب، الذي لوّن تاريخنا ولا يزال بصيغته الخاصة، حسب نوع القراءة الأيديولوجية له. وإذا كانت القراءات الخداج بسبب ما خانها من علم أو عدل أو منهما معاً قد أسهمت إلى حد بعيد في النيل من قوة تماسك الأمة وعزتها، حتى في زمن لم يكن أعداؤها قد مالت موازين القوة لجانبهم، فكيف وقد مالت كفتهم ميلاناً عظيماً، فاستطالوا علينا، وضربوا في القلب من دار الإسلام، وذرّت قرون التهديد والوعيد لكل متعلقات الأمة العقدية والفكرية والثقافية والاقتصادية والسياسية، وبلغت استطالتهم حد تكثيف الضغط على مؤسسات طباعة المصحف، وعلى مؤسسات التعليم الديني، والإعلان عن ميزانيات لفرض مناهج العلمنة، كل ذلك وسيف الاحتلال فوق الرؤوس.. وبدل أن تفشو في مثل هذه المناخات ثقافة الإجماع ورص الصفوف، لمواجهة خطر وجودي يتهدد الأمة بكل مكوناتها وفرقها، تنبعث وتستطير في أوساط من صحوة الإسلام –المعول عليها بعد الله في التصدي لتلك الأخطار- دعوات ومناهج الغلو والتكفير، تأسيساً لاستباحة الدماء والأموال المعصومة، وإفشاء للرعب والتقاتل بين المسلمين، واستعداءً للأمم عليهم.. في ذهول عن أراض محتلة يستغيث أهلها إخوانهم لدعم جهادهم التحريري، وذهول كذلك عن حقوق مضيعة في الأمة وشرائع معطلة، ما يوجب بذل الوسع في وحدة وتراص صفوف المقاتلين، مما جاء الوحي بالثناء والتحريض عليه:

)إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص( (الصف 4).

وليس إلى ذلك من سبيل غير إعادة بناء ثقافة الإجماع، وبديهي أن الغلو أبعد ما يكون عن النهوض بهذه المهمة، بل هو النقيض لها من كل وجه، بما يشيعه من ثقافة التكفير والإقصاء، واحتكار النطق باسم السماء، بعيداً عن المنهج الوسطي القادر وحده على صناعة الإجماع، من أجل مواجهة فعالة لما يتهدد الأمة من جسيم الأخطار والتحديات الخارجية والداخلية.

لقد توفق الأستاذ الشنقيطي في تناوله بالبحث والتحليل لما نجم من خلافات بين الأصحاب إلى الالتزام بقواعد منهجية واضحة ودقيقة ومؤصلة، مثل "الفصل بين الشخص والمبدأ وبين الوحي والتاريخ ترجيحاً لمكانة الأشخاص مع الاعتراف بفضل السابقين في حدود ما تسمح به المبادئ بما يرفع الحرج عن المؤمنين من تناول وقائع تلك المرحلة تأثماً، كما يمنع التوظيف السياسي انتصاراً لحزب غلاة التشيع، في مقابل "التسنن الشيعي" الذي انتهجه قوم من السنة بدافع رد الفعل على غلو التشيع، فلجّوا في الخصام، وركبوا مركباً صعباً في الدفاع عن الظلم والاستبداد والردة السياسية، وترسيخ التفسير التآمري للتاريخ، على أنقاض الحقيقة التاريخية الموثقة، ومقاصد الإسلام في العدل والشورى.

توفق الأستاذ الشنقيطي أيما توفيق في تصحيح تصورات الأجيال الإسلامية الجديدة عن مرحلة التأسيس، بما يقدم خدمة كبيرة للنظرية السياسية الإسلامية، تأكيداً لسلطان الأمة على حكامها، باعتبارها المستخلفة عن الله ورسوله في إقامة الدين.

والجديد الأهم في ذلك هو اعتماده منهج المحدثين في التعامل مع الروايات الواردة حول وقائع الاختلاف، بما أتاح له الفرز بين الصحيح والسقيم، وتتمثل أهمية ذلك في أنه كثيراً ما تسلح الغلو والتشدد في عصرنا بالاعتزاء إلى علماء السلف، حتى احتكروا هذا الوصف، مستظهرين على مخالفيهم بشيخ الإسلام وتلاميذه من العلماء والمحدثين، لا يترددون في رمي المخالف بكل نقيصة مثل التغرب أو التقليد أو أن بضاعته في علوم الحديث مزجاة، بما يهز الثقة في كل مقالته ولو صحت، منتصرين لمقالتهم وإن جانبت الصواب، أكان ذلك من جهة سندها أم من جهة صحة الاستنتاج.

هذا الكتيب الصغير في حجمه، الكبير في مدلولاته، يسد هذه الثغرة بحرصه على صرامة التحقيق الروائي، كحرصه على الاعتماد شبه الكامل على تناول مسائل الاختلاف بين الأصحاب من خلال تراث شيخ الإسلام ابن تيمية وبالخصوص في موسوعته القيمة "منهاج السنة".

ورغم أن شيح الإسلام - رحمه الله وجزاه الله كل خير عن الإسلام وأهله - أهلٌ للتنويه والتقدير في أبواب كثيرة تفرد في الإبداع فيها، ومنها مسائل الاختلاف بين الأصحاب والأئمة، إلا أنه أخذ يداخلني بعض الحرج من شدة تكثيف التمركز حول تراثه، وكأنه في كفة وبقية علماء الإسلام أولهم وآخرهم في كفة، وقد يرجحهم..!! وهي مبالغة قد تكون مفيدة للغرض الذي ابتغاه الأستاذ الشنقيطي في تجريد الغلو والتشدد من أهم أسلحته التي يستطيل بها على الأمة، سلاح علة الرواية وتراث شيخ الإسلام ابن تيمية، فأن يُجرّد التشدد والتكفير والتفسير التآمري للتاريخ وشرعنة الاستبداد من هذين السلاحين، خدمةً للإجماع والاعتدال والوسطية والشورى والديمقراطية، فذلك فضل يُحسب للأستاذ الشنقيطي إذ هُدي إليه:

)يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذّكر إلا أولوا الألباب(.