مصطفى السباعي رائد أمة... وقائد دعوة (1)
مع موعد صدور كتاب:
مصطفى السباعي
رائد أمة.... وقائد دعوة (1)
د. مصطفى السباعي |
د. محمد عادل الهاشمي |
لقد هدتني الأقدار للكتابة عن شخصية نادرة المثال، منحها الله بلاد الشام لتنهض بدور عظيم، فكان صاحبُها رجلَ الساعة، قام بدوره خير قيام... لتحرير وطنه من المستعمر، وابتعث الدعوة الإسلامية في بلاده، شائداً لأبرز مؤسساتها، وبانياً لدستور البلاد الإسلامي، وذائداً عن أرض فلسطين، توعيةً وتبصيراً بقضيتها، ومجاهداً على رأس كتيبة فدائية لحماية المسجد الأقصى من غزو الصهاينة. كما كان خير داعٍ لالتقاء العاملين المخلصين للإسلام في أقطار المعمورة في وحدة إسلامية عالمية..
إنه مصطفى السباعي الذي أجلو سيرته ومواقفه في كتابي الصادر بهذا العنوان عن دار البشائر الإسلامية
مصطفى السباعي رائد أمة... وقائد دعوة
لن أفيض في الحديث عن الجهود التي بذلتها في هذا الكتاب ـ على أهميتها ـ وإنما أود أن أهدي إلى القارئ في غضون صفحاته شخصية قلَّ نظيرها، جاءت حسب متطلبات عصرها، فكأنها صيغت لمهماته، وهيئت لمجموع قضاياه.
فتح مصطفى السباعي عينيه في ثلاثينيات القرن الميلادي الماضي على عصر قلق، في بلاد أوفر حساسية، فسورية بلده على تخوم تركيا حاضنة الدولة العثمانية التي انتقلت إلى حكم تركي قومي علماني، قطع بينها وبين البلاد العربية أوثق الصلات، ثم ابتليت بالاستعمار الفرنسي، فجمعت في حياتها ألواناً من تخلف الأتراك ـ حينذاك ـ والرزوح تحت الحكم الفرنسي الأجنبي الذي كان لا يرعى فيها، إلاً ولا ذمة، يتحلَّب أرزاقها ويهدر كرامة أبنائها.
كانت أوضاع البلاد تزداد سواءً، والوعي يتردى بين أبناء الأمة، حتى ليكاد الشعب يفقد انتماءه وأصوله بعد أن فقد حريته وإرادته، إذ هيمن المستعمرون الفرنسيون على مقدرات البلاد وأنظمتها وأرزاقها وجعلوا من أبناء الشعب خولاً وأتباعاً، وحُصِر الدين في دور العبادة، ومُسخت تصوراتُه في نفوس الناس، فحسبوا أن ما يصيبهم قدر من الله، وما علموا أنه تفريط من الناس في مقدراتهم وشخصية أمتهم ورضاهم بالهوان. ولكن كان من عقلاء الأمة من تمرد على هذا الواقع الذليل وفي مقدمتهم السباعي ـ رحمه الله تعالى ـ.
إن الأقدار التي ساقت الفتى السباعي وهو ابن خمس عشرة سنة يتهدر خطيباً على منبر جامع والده في مدينة حمص في وسط سورية قد رسمت له خط حياته المستقبلي في الإصلاح والتطوير والتغيير.
كان للسباعي دوره المتميز المتكامل الذي يجمع بين أطراف الحياة، فقد رزق من المواهب، ما لو حاز المرء إحداها لكان من وجوه الأمة ومصلحيها.
كان داعية مجاهداً، عالماً فقيهاً، أديباً خطيباً، سياسياً أريباً، اجتماعياً حكيماً، ولم تكن هذه المؤهلات وحدها سبب تميزه، وإنما كانت تضمها وتؤلف بينها شخصية مؤمنة، فعّالة، مجاهدة، أبية، بذل صاحبُها كلَّ طاقاته ومواهبه لأمته، لا يبتغي ذكراً أو جاهاً، أو منصباً أو رياسة، وإنما يبتغي الرضوان من الله، والنصرة لدينه غَيرةً على حرماته، وشغفاً بتقدم أمته وبلاده، لتعيد مجد أسلافها أمة رائدة في كافة ميادين الحياة.
وأوثر أن يعلم القارئ أن كثيراً مما في الكتاب قائم على المعاينة والمعايشة الحية، لم أنقل وقائعها من الكتب بل عشتُها على اختلاف ألوانها.
أما الرجل الذي أؤرخ له فماثل أمامي حتى هذه اللحظة بمهابته وجاذبيته وسعة موهبته، بنورانيته وتوهجه، بحماسه وحِلمه، تتماثل لي قامته الفارعة المهيبة، يمرق كالسهم في اتجاه هدفه الأسمى، لم تزايله بسمة الثقة، ولم تفارقه همته العالية، تسبق عزيمتُه طاقةَ جسده، لا يأبه لما يصيبه من ألم فقد كانت حلاوة الحركة والإنجاز تذيب لديه كل سقم.
لقد آثرت أن أقدم السباعي في أكثر المواقف من خلال أقواله وأسلوبه المتميز وروحه المتدفقة في كلماته الملهمة الأخاذة، بما يوحي بتمثل شخصيته، وإعادة صورته حيةً في مخيلات الأجيال وهو يتهدر حماساً ووعياً، وفي ظني أن تلخيص هذه المواقف لا يغني غناء عرضها بأسلوب صاحبها حية فوارة، حيث لا تفقد شيئاً من حرارتها وأثرها.
إن سير عظماء الرجال لا تحيط بها الأقوال، ولا يسعها الرصد التاريخي، لأنها قطعة من الحياة المتحركة المتوثبة التي لا تعرف لها قراراً ولا لحركتها هدوءاً.
إن أصحابها يعيشون عِظام المهام، ويجدون في إنجازها المعنى الإيجابيَّ الأسمى لحياتهم، تُلفي جلَّ أيامهم جهاداً وجداً، مكابدة وكدّاً. يستبقون أمتهم بالنظر، ويبتكرون لها خطط الحياة.. يتقدمونها في مواكب العمل. ليقدموا لها حلول حياتها ومفاتيح قضاياها ويجنبوها مزالق الخطر والزلل.
ومصطفى السباعي من ركب هؤلاء العظماء، كان يعيش أهدافاً كباراً، ويتقلد أعباء جِساماً، ندر أن يحملها سواه، ويتكبد آلام أمة عصفت بها مآسي القرون، وكان يحيا لهذه الأهداف يومَه وليلَه، عملَه وراحتَه، سكينته وحركتَه.. كان كالبركان دائم الاشتعال، لا يهدأ له بال حتى يحقق أهدافه الكبرى.
كان السباعي ـ رحمه الله تعالى ـ ذا شخصية فذة اكتملت فيها صفات القيادة الواعية... طبيعة ذوّاقة ترِف بإنسانية مرهفة، يعزّزها إيمان وثقة وإقدام، رشّحته لأن ينهض بدور رائد في عصرٍ كان يرقب أمثاله من الرجال...