باكثير يعاصرنا.. وسوف يعاصر الأجيال القادمة
باكثير يعاصرنا..
وسوف يعاصر الأجيال القادمة
اسم الكتاب: فلسطين واليهود في مسرح علي أحمد باكثير
المؤلف: عبد الله محمود الطنطاوي
الناشر: دار القلم/ دمشق + الدار الشامية/ بيروت 1998
راجعه: يوسف يوسف
يشير المؤلف في المقدمة، إلى أن هذا الكتاب جزء من مشروع كبير يعمل على إنجازه وبالاستناد إلـى مـا يحمله الكتاب من إلمام موسوعي بإنجازات باكثير، وكذلك لما فيه من آراء موضوعية، يمكن القول أننا أمام كتـاب مهم وجدير بأن يكون بالفعل جزءاً من المشروع الذي يتوخاه المؤلف، والذي تلوح أهميته ورصانته ليس من خلال هذا الكتاب فقط، وإنما من خلال كتابه الآخر (منهج الإصلاح والتغيير عند بديع الزمان النورسي) الذي يأتي ضمن المشروع إياه، ويجدر بداية الإشارة إلى أن أهمية مشروع كهذا متأتية مما سيحمله من موضوعات وكيفية معالجتها.
وأحسب أن المؤلف الطنطاوي يحرص على تقديم ما لم يسبقه إليه أحد في مجاله، كما أنه من جهة أخرى يطل علينا برصانة الباحث الموسوعي، ونزاهته، بعيداً عن هوى النفس.
وفي كتابه الذي نحن بصدده لا يترك صغيرة أو كبيرة لها شأن بإغناء الموضوع إلا ويتوقف أمامها، بعين الباحث المتفحص تارة. وبعين الناقد الموضوعي تارة أخرى، وهو مما يمنح الجهد والنزاهة والتميّز بعيداً عن الإسفاف الذي يغلب على كتب من هذا النوع.
وبحسب تصنيف المؤلف، فإن مسرح باكثير يندرج ضمن أربعة أنواع هي: التاريخي (بنوعيه الشعري والنثري) والأسطوري (القائم على أساطير) والاجتماعي وأخيراً السياسي. فمن الشعري يتوقف الكاتب أمام مسرحيات (همام أو في عاصمة الأحقاف) و(أخناتون ونفرتيتي) و(قصر الهودج) و(إبراهيم باشا) و(الشيماء). ثم يتوقف أمام إحدى عشرة مسرحية من النوع النثري ومنها: (سر الحاكم بأمر الله) و(هاروت وماروت) و( الفرعون الموعود). وفي حين يتوقف أمام ثلاث مسرحيات من النوع الأسطوري، فإنه أيضاً يتناول ست مسرحيات من المسرح الاجتماعي، وأربعاً من المسرح السياسي، وبرغم أن هذا الجزء من الكتاب قد يبدو بعيداً فمن هدف الدراسة الأساسي -فلسطين واليهود في مسرح باكثير، قبل الحديث عن جانب منه، وهو الذي تهدف إليه الدراسة أساساً، لذا فإن توقف المؤلف الطنطاوي أمام أعمال باكثير الروائية، وكذلك مترجماته، وشعره. لا يبدو خارج سياق المنهج الذي اختاره، وهو منهج يهدف إلى التعريف بالمبدع قبل التعريف بإبداعه، وأحسب أن هذا سيمنح لإبداعات باكثير المسرحية في المجال الذي اختاره الطنطاوي قيمتها، وسيضعها في سياق إبداع باكثير عموماً.
إن من يقرأ مسرحيات باكثير يستطيع أن يكتشف ألمعيّته وحيازته قصب السبق في كثير من معالجاته، بما فيها تلك التي يتناولها في الجزء اللاحق من الكتاب، وهي التي تتناول مسألة الصراع في فلسطين، ونستطيع أن نضم صوتنا إلى صوت المؤلف فنقرر بأن ألمعيّة باكثير قادته إلى معالجات تمتاز بقدرتها على الإرهاص بالمستقبل. وهي معالجات برغم طابعها السياسي الفاقع، إلا أنها تمتلك شرط التأليف الفني المسرحي الرصين الذي لا يذعن لخطاب السياسة على حساب خطاب الفن المسرحي. فهي مسرحيات عميقة الجدل، على الأقل في حينها، كما أنها تمتلك شرط الاستمرارية في الحياة، بحيث يمكن القول بأن باكثير يعاصرنا، وهو سيعاصر الأجيال القادمة، وهي صفقة لا يقدر على تحقيقها إلا صاحب باع طويلة في التأليف المسرحي. ولعله من المهم أن نشير بأن المؤلف الطنطاوي في هذا الجزء من كتابه يتوقف أمام جميع ما كتبه باكثير في ميدان القضية الفلسطينية ومن ذلك مسرحيات (شيلوك الجديد) و(الحل) و(راشيل والثلاثة الكبار) و(ليلة 15 مايو) و(شعب الله المختار) و(إله إسرائيل) و(التوراة الضائعة) وسواها.
لقد امتازت وقفة المؤلف الطنطاوي في هذا الجزء بالإسهاب المفيد، ولعله بهذه الوقفة، يكون قد أعاد لباكثير اعتباره بسبب الأدخنة التي تغلف محيط القضية التي كانت دائمة الحضور في مسرحه. لقد استطاع في وقت مبكر أن يحذر من الأخطار المحدقة بنا، وهو مما يحسب لصالحه باعتباره صاحب رسالة لم يتوقف في لحظة عن التبشير بها، ولعل مسرحية (شيلوك الجديد) التي كتبها في عام 1944- أي قبل النكبة بأربع سنوات - أدلّ مثال على ذلك، وبرغم كثرة التيارات السياسية في الفترة التي عاش فيها باكثير -توفي عام 1969- إلا أنه ظل حريصاً على استقلالية آرائه، كما أنه أيضاً لم يكن من دعاة نظرية الفن للفن، وحسبه أنه كان واحداً من أبرز كتاب المسرح في هذه الأمة، وأنه دائم البحث عن اكتشافات جديدة، بما في ذلك موقعه الريادي في المسرح السياسي العربي. ولعله من بين أبرز الدعاة إلى الأصالة، التي كان يرى في هذا سداً يمنع الأديب العربي من أية تبعية فكرية أو سياسية أو أدبية، إلى شرق أو غرب، وله آراء بالإضافة إلى ما يحمله أدبه من مضامين، تؤكد ثراء فكره الفلسفي والجمالي، إن في الحياة أو الفن، وبسبب من هذا أيضاً، فإن كتاب الطنطاوي جدير بالقراءة، تماماً مثلما يجد ر بنا أن نعيد قراءة باكثير، ففي القراءات الجادة اكتشافات جديدة، لنا كقراء، وللمسرحيين كأصحاب حرفة ورسالة، وأذهب إلى ما ذهب إليه مؤلف الكتاب بالقول بأن باكثير كان صاحب إبداعات ثرية، خصبة وغنية، وأنه جمع ألواناً من الأدب المسرحي والروائي والشعري، وفي هذا شمولية المبدع الكبير.