ضياع الهوية في الفضائيات العربية

ضياع الهوية في الفضائيات العربية

يحيى بشير حاج يحيى

عضو رابطة أدباء الشام

[email protected]

تأليف: عايض الردادي

يتحدث هذا الكتاب على صغر حجمه عن قضية من أخطر القضايا التي نعاني منها اليوم، وهي البث الذي تجاوز الحدود، ودخل إلى البيوت، وأمسى يشكل قناعات ومواقف للمشاهدين على مختلف أعمارهم وثقافاتهم؟! وقد بلغ عدد القنوات الفضائية التي تمتلكها حكومات ومؤسسات وشركات خاصة في قارات العالم الخمس (525) قناة! ويمتلك العرب الذين يُعدون من أكثر الشعوب مشاهدة للتلفاز (51) قناة تبث برامجها عبر أقمار صناعية متعددة.

إن أثر ما تبثه هذه الفضائيات على مختلف توجهاتها لم يعد مجالاً للنقاش إذ ذكرت دراسة علمية تطبيقية أن نسبة كبيرة من الشباب في سن المراهقة يترجمون ما يُقدم في القنوات من أعمال تمثيلية إباحية وإجرامية إلى وقائع حية في حياتهم، وينعكس أثر ذلك في أنفسهم وأهليهم، كما أشارت الدراسة إلى أن نسبة (50%) يفكرون فور مشاهدتهم لبرنامج إجرامي أو إباحيبشكل جدي-  في تطبيق ما شاهدوه بشكل فعلي؟!! كما وصفت دراسة في صحيفة الأهرام ما تقدمه هذه الفضائيات بأنه هزيل، ليس له أهداف واضحة، فهو يعتمد على الأنوثة الصارخة شكلاً ولباساً وأداء، وهو منفلت من القيم والضوابط وأخلاقيات الاتصال الجماهيري، ووصفه بعض التربويين بأنه إعلام بلا مسؤولية؟ وقد صنف الدكتور الردادي مسارات الفضائيات العربية في ثلاثة أنواع:

1 – فضائيات الفن الهابط.

2 – فضائيات الحوار الهادم.

3 – فضائيات البرامج الهادفة، أو القريبة منها.

فمظاهر الفن الهابط تتضح في فقدان الدور التربوي في بعض الفضائيات بل يصل بعضها إلى المواجهة مع التربية بسبب ما فيها من انفلات تجاوز كل حد ممكن؟! وذلك – على سبيل المثال- في مناقشة عدد من الموضوعات الشاذة المحرمة، والحوار في ممارسات يخجل الإنسان من ذكرها، بل ويشمئز من مجرد الإشارة إليها، فإذا هي تعرض على الشاشات بدعوى الصراحة والشفافية، فتعددت أشكال الفحش، ووسائل إيصاله؟! كما أنها تعمل على هدم القيم الدينية والخلقية من خلال الدعوة إلى الانحدار الأخلاقي، وإبراز بعض التافهات والمتفلتين على أنهم وجه المجتمع، كما صورت المرأة العربية المسلمة على أنها وكر للرذيلة، تعيش حياتها من أجلها؟!! ويُحمل الباحث اللاهثين وراء الإعلانات، والذين يوظفون أموالهم في هذا الطريق المسؤولية في نزيف صورة المجتمع العربي، وحرصهم على إبراز السلبيات المشينة، وتغييب الفضائل والإيجابيات، وأن هذه الفضائيات تتميز في إنتاجها بالهجنة منذ البداية، لأن العبرة بالمحتوى البرامجي لا بالمظهر الخارجي، وأن (70%) من برامجها إنتاج أجنبي، سواء في ذلك الأفلام والحلقات المدبلجة أو أفلام الكرتون أو الوثائقية، وأنه سخر المرأة في هدم القيم، وأن القاسم المشترك بين هذه الفضائيات بعد أن دخلت في نفق الفن المظلم، هو الرقص والعري والعفن الفني، ويدعو الباحث إلى إسناد إدارة هذه القنوات إلى العقول المفكرة لا السطحية الساعية للمال فحسب؟!

كما يكشف د. الردادي أن مشروع هدم اللغة العربية الذي بدأ منذ سنوات بعيدة في الدعوة إلى استعمال الحرف اللاتيني والكتابة باللهجة العامية قد عاد لينفذ من خلال هذه الفضائيات في نشر العامية وتحجيم اللغة العربية، الأمر الذي دعا البعض ليعبر عن فرحه بتجديد هذا المشروع خلال مقابلة متلفزة؟!

وأما النوع الثاني فأسماه (فضائيات الحوار الهادم) وهو يقوم على العزف على إثارة الحزازات العربية، وتضخيم النعرات بين البلدان العربية، والعمل على إزالة الفجوة بين العرب وبين العدو المتربص بهم شراً وهو اليهود وذلك بتكرار إجراء المقابلات مع مشاهير اليهود في محاولة لإزالة الحاجز النفسي، ثم التركيز على مناقشة القضايا الحساسة في العالم العربي التي تثير البلبلة والتشكيك، واستضافة الرموز الفكرية المعروفة بتوجهاتها العدائية للعرب والمسلمين، معتمدة على الإثارة دون البحث عن الحقيقة، مكتفية بالتشكيك دون الوصول إلى نتائج تنويرية يخرج بها المشاهد في نهاية الحوار، ثم يدعو المؤلف إلى الحوار الصريح من أجل التنوير والتوجيه، الحوار الهادف المسؤول..

وفي النوع الثالث يثمن المؤلف ما تقدمه هذه الفضائيات من برامج إسلامية وتربوية وتوجيهية بلغة عربية، وهي تقدم الأخبار بأفضل ما يكون إنتاج الأخبار صياغة وتحريراً وصورة وتحليلاً، كما يستعرض الأهداف التي تبنتها هذه القنوات، وتتمثل في توفير بديل تلفزيوني متميز يعالج قضايا الحياة ومشكلاتها من منظور إسلامي في ثوب عصري، مع تعزيز مكانة العربية، وترسيخ الوسطية، وتقوية الانتماء للهوية الحضارية للأمة، وإبراز الجوانب المشرقة، وإظهار سماحة الإسلام، وغرس روح التفاهم والحوار، والاهتمام بالمرأة فكراً ودوراً، والتعريف بالأقليات الإسلامية، وتقديم الترويحي والمسلي بعيداً عن الإسفاف والابتذال!!

وتبقى قضية الهوية من أهم القضايا لأنها تمس الكائن الاجتماعي في أعماقه من عصر العولمة، وتفاقم التأثيرات الخارجية سياسية كانت أو اقتصادية وتبرز العلاقة الثلاثية بين التلفزة والثقافة والهوية وهي تحتاج إلى كثير من التأمل والتفكر والتدقيق، وإذا كانت الهوية تنشئة وتكيف وتفاعل مع الواقع من أجل بناء ذات وفية لجذورها، وقادرة على المعاصرة، فإن الثقافة التلفزيونية تسهم بشكل أساسي في صياغة الهوية، وتنشئة الأجيال على توجهاتها وفق خطاب منطوق ومرئي، ولذلك فإن التخوف من ضياع الهوية الغائبة في الفضائيات العربية أمر يدعو إلى القلق، فالأصل في الإنتاج التلفزيوني – كما يرى المؤلف- أن يكون نابعاً من ذات المجتمع، معبراً عن ماضيه وحاضره، وعن آماله وتطلعاته، يقدم ثقافة مترابطة لا فصل لديها بين دين ودولة ولا ماض ولا حاضر، تحصن الذات والأمة، والمطلوب أن تكون الفضائيات عربية الوجه واليد واللسان في برامجها كافة، تؤمن برسالة، وترعى مكارم الأخلاق، وتبتعد عن كل ما يخدش الحياء، في أمة يُعدُّ فيها الحياء شعبة من شعب الإيمان.

وإذا كان هناك من إيجابيات على قلتها، فقد كشفت هذه الفضائيات أزمة الإعلام العربي في سوء التخطيط، وفتحت نوافذ للحوار، وقدم بعضها الأخبار بشكل جيد، وفتحت المجال للقطاع الخاص، وقفز البث إلى مجال أوسع.

ويختتم المؤلف بتوصيات تتدارك الموقف: بإصدار قوانين وضوابط مماثلة لقوانين المطبوعات مع وضع عقوبات لمن يسيء إلى هوية الأمة، وأن يكون هناك تفريق بين الإباحية وبين الحرية المسؤولة، وأن تقوم المنظمات المتخصصة بوضع تلك الضوابط، أن يُعد كل من يعتدي على القيم معتدياً على أمن الناس، وأن يأخذ ذوو الأصالة دورهم في إدارة الفضائيات وإنتاجها لتصبح ذات ملامح عربية أصيلة، ويكون التركيز على الإنتاج العربي لا المستورد والمقلد؟! وبذلك تبدأ الخطوة الصحيحة للحفاظ على الهوية التي يُعتدى عليها دون رقيب أو محاسب مع مالها من أهمية في حياة الفرد والمجتمع.