شروخ تبوح بها شميسة غربي
كتاب إليكتروني عن مكتبة الألوكة ، صدر مؤخرا للكاتبة والجامعية د/ شميسة غربي ( جامعة سيدي بلعباس) تحت عنوان: شروخ تبوح (سرديات مختزلة) ويتضمن نصوصا سردية في مشاهد كتبها الكاتبة بلغة شعرية وإيحاءات راقية تجعل من الأدب وسيلة للنظر في مرايا سحرية نرى في الأنا والآخر في سيرورة الزمن.
في ما يلي بعض هذه المشاهد للقراءة :
المشهد الأول
دمعة استغفال .......
بِحَجْم الحُلم، تكونُ... الخيْبة ....!
وبِحجْم حُسن الظن، يكون حجْمُ.... الانكسار!
ويذهب الحلم" إلى حيْثُ ألقتْ رَحْلها أُمُّ قشعم!"
ذكَّرَها مُحَدِّثها بالإمارَة - فجأة - حين قال:
" قادِمةٌ؛ أنتِ؛ كالأميرة ....
كُنْتِ الأميرة ...
مازِلْتِ الأميرة ....
على رَأسِكِ تاجٌ من الجليد
في خطواتِكِ؛ صلابةُ الحديد
و في صوْتِكِ؛ رَنَّةُ نايٍ بَعِيد ...
ترَكَتْهُ يَقول ... ويَقول....
مُحدِّثُها طيِّبُ القلب، نَقيُّ السَّريرة،
شاعرِيُّ الكلمة....
تركته يقول ما يشاء...
و أبْحرتْ هي حيثُ.... تشاء ...
أوْ حيْثُ...... شاء لها... القدر ...
آمَنَتْ بالقدَر ... وسَلَّمتْه مَقاليد حياتها...
وكرَّرَتْ مع نفْسِها في سُخْرية:
بِحَجْم الحُلم، تكونُ الخيْبة...!
و بِقدْرِ حُسْنِ الظنّ، تتغلغلُ هُمومُ الاِنْكِسَار...
لم تشعُر يوما؛ بِمثلِ هذا التّعب الذي يغزو قلبَها... لم تشعر قط بِمثل هذا الألم الذي أصبح يَسْكن نفسها، ويُهَشِّم مَرَايا الصّفاء بيْنَ جوَانِحِها... وهي التي بحثت عن الصَّفاء، وسالمَت الزّمن، وبَغْتةً...؛ خذلها الصَّفاء ... وقدَّمَها قُرْباناً في أفجع الموَاقف ... خذلها الصّفاء وهو الذي اجْتذبَها يوْماً بِبَرِيقِ تَميُّزِهِ، حين هتف للكون: " تِلكَ السَّماءُ هيَ اخْتيارِي"!
ها هي اليوم؛ تُدْرِكُ أن الصَّفاء الذي هتف لِلْكوْن؛ لم يُعمِّرْ طويلا... لم يتعدَّ عمر الورد ... بل وربَّما كان سرابا، تكشَّف وَهْمُهُ، وبانَتْ حقيقتُهُ مع "اليوْميات" المُتناثِرة تناثرَ أوْرَاقِ الخرِيف ... .
ما كان أغناه عن هذا الاختيار ...!
و ما كان أغناها عن هذا الموقف ...!
هي لا تلومُ أحداً ... فاللَّومُ صورة من صُور الضَّعف البشريّ ... وهي لا تركب قطار المُساءلة لأنَّ المُساءلة هدْرٌ لكلّ عذْبٍ مُمْكن ...
مُساءلة المشاعر - بالذات- توريط لها في عتْمة الاسْتِصغار.. وهي التي لم ترْض يوْما بأن تُسْتَصْغر أوْ أن تُرْخِصَ نفْسها في ضوْضاء الزّيْف وبُهْرُجِ الرّياء..!!
قَطَعَ حبْلَ تفكيرِها، صوْتٌ تعْرِفُه، أدّى تحِية السّلام ... إنّهُ أحدُ الأفاضل مِمَن تُكِنّ لهم التقدير.... سألها عنْ أحْوالها ... أجابتْ بابتسامةٍ عرِيضة:
- أحوالي؛ أحْوالُ مَنْ قال: " ظُنَّ خيْراً، ولا تسألْ عنِ الخبَر!"
ابتسم بدوره، وعلَّق في مرح:
- "عيشي حياتك!! خلِّيها على ربِّي .... كايَنْ ربيّ ... كايَنْ ربيّ "...!
و مضى يُصافحُ بقية الزّملاء، ويسْألهم وَاحِدا وَاحِدا... ضاحِكاً، مُسْتبشِراً، يتراقصُ المكانُ منْ تعليقاتِه وتَرْميزَاتِه...
وعادتْ هي إلى نفسها، وقبل أن يَتوَاصلَ حبْلُ أفكارِها، سألها مُحدّثُها:
- هل قرأتِ خبر هذا الصَّباح...؟
قالت في اسْتخفاف:
" ولِماذا تُسمّيهِ خبَرَ الصّباح....؟
هل يوجدُ خبر المساء....؟
وهل يوجد خبر الصَّيف، وخبر الشتاء...؟
مَنْ قسّمَ الأخبار هذا التّقسِيم ....!؟
الحياة كُلُّها أخبار ... وَأخبار ....والزّمنُ أَخبار...
و قبل أن تُتابِعَ فلسفتها المُتعِبة، سُمِعَ رَنينُ هاتفٍ محْمولٍ عِنْدَ أحد العُمَّال....
نظرتْ هي إلى العامل، ِمنْ قُبيل المصادفة فشدَّ انْتِبَاهَها اكْفِهْرَارُ وَجْهِ هذا الكائن البسيط.. لاحَظتْ ارْتِعاشَ يديْه .. وضَياع الكلمات بيْن شفتيْه، ثمَّ... هاهو يُهَرْوِل ... ويدور، ينظرُ إلى الأرْض، ينْظرُ إلى السّماء ...و فجأة ينهار ... ويسقط.... يتحلق من حوله نفرٌ من العمّال، ينزل المسؤول من الطابق العُلوي .... يَكْثُرُ الضجيج، يُستدعى الإسْعاف....
قال مُحدِّثها وهو شارد الذهن:
لا شك أنه تلقّى خبرا سيّئا...!! أعرفُ هذا العامِل منذ سنوات، إنه مريض بِدَاءِ القلب وإنُّه يُعاني شظفَ العيش، وضيقَ المسْكن، وانْحرافَ الأولاد.. وقبل أيام؛ انتحرَتْ الزّوْجة، بعد تعرُّضِها لِانْهِيارَاتٍ عصبية مُتتالية...
آه!! سأذهب لأعلم ...
غلب عليها الذهول ... صمتتْ ... فكّرتْ في كلِّ هذه الأخبار السّيئة ... هلْ يوجد خبر أسوأ- وَصَلَ عنْ طرِيقِ الهاتف المحْمول- ليتَحقّق القضاءُ على هذا العامل...؟!.
كم هي الحياة غريبة!. يُديرُها الأحياءُ بِقوانينَ أغرَب!!
عاد مُحدِّثها بعد لحظات ... يضرب أخماسا في أسداس، وهو يتمتم:" لا حول ولا قوة إلا بالله! لا حول ولا قوة إلا بالله...!
قوْمٌ... لا كالأقوْام...! قوْمٌ...!" وبَلعَ رِيقَهُ...
قاطعتْه: "ما بِك ؟ ما بِهِمُ القوْم؟!"
تدارك نفسه ... اعتدل في جلسته... غَيّرَ مَجْرَى الحَدِيث...
و فهمتْ هيَ ما فهمتْ.... أوْ قلْ؛ فهِمتْ الذي يجب أن تفهمه ... إنّهم القوْم... القوْم... وكفى... أدرك – بِفطنته- أن خبر الصّباح لا يهمّها، وأن أذنيْها في غِنىً عن السّماع ... إنها تسمع بقلبها... يكفيها أن تتأمل الوُجوهَ لتغطس في العقول... يكفيها أن ترْصِفَ الكلمات... أن تجمع فلتات اللسان ... يكفيها أن ترْصدَ الحركات ... لِتخْرُج بنتيجةٍ؛ قد تكون حقيقتُها نِسْبية؛ إلا أنها تمْتلك مشروع تبريرٍ لِمَا هوَ واقعٌ، في غفلةٍ عن الواقع...!
إنها تقرأ الناس ... وتقرأ الكتب ... وتقرأ الرسومات... فهل قرأها الناس؟! في حركة سريعة، امتدتْ يدُ مُحدّثها إلى ورقةٍ وقلم، وراحتْ أصابعُهُ ترْسمُ خطوطا وانكساراتٍ وظلالا، أسفرتْ في النهاية عن شكلِ: "ريشة"! ريشة جميلة... تأملتْها، واستخلصتْ منْها ما اسْتقامَ لها مِن المَعاني...!
شعرت أنها مثل هذه الريشة...وأنه يجب عليها أن تقاوم...وأن تحلق عاليا... عاليا... بعيدا عن وَاقعٍ مُشوَّه، وزُهْداً مِنْها في مَوازينَ مُختلة... سرْعان ما تتبدل وتتغير، وتضرب حالا بحال... ومنْ أجل ماذا؟! ومن أجْل مَن؟! وراحت بذاكرتها بعيدا... بعيدا... حفرتْ ذاتها وتقصَّتْ جرَاحاتها، تململتْ في كرْسيها، وفهِمَ مُحدثها رغبتها في الابتعاد، في الوحدة... في الصمت، عافت نفسُها الكلام، كما تعافُ النفسُ العليلة الطعام... قال مُحدثها في لباقة:
"العقول مثل الأبدان... تتعب... والقومُ بحاجة إلى عقل الأميرة... فاطلبي الراحة ترْتاحين...!"
فهِمتْ قصْده، وبِتوْؤدةٍ غادرتِ المكان... وحلمتْ بالرّاحة المُنتظرَة...
وصلت إلى البيت، دون أن تعرف كيف وصلت...؛ استقبلها أهل الدار بالترحاب، وبالأسئلة المعهودة، والتي حفظتها منذ سنوات...
- كيف كان اليوم في الشركة؟
- هل أنت متعبة؟
- هل...؟ وهل ... وهلْ....
- أَ تسْهرين الليلة لِاسْتكمال الملفات؟
أسئلة متلاحقة في جلسة شاي المساء... أكثر الإجابة عنها يكون بحركة من الرأس تكتفي بها "منية" أو الأميرة كما نعتها مُحدّثها...
ارتشفت شايها... وأحست بالرغبة في الاستلقاء... قامت متثاقلة إلى الأريكة الصنوبرية، حيث اعتادت نُشدان الرّاحة... وحيثُ رَائحة والدِها...
اِسْتلقت ...عيناها شاخصتان ... تُتابعانِ خطوط السّقف المزرْكش... تُتابعان الخطوط الهندسية، وكأنهما تتابعان خطوط حياتها.... لفَتَ انتباهها – على غير العادة- شكل هندسي مُتدرّجُ الانْكسار، يخْترق عرْض السقف إلى أن يُحادي أعلى مدخل باب البهو، تأملته... وانتابتها حيرة بادية، ... تساءلت:
" كيف لمْ أرَ هذا الِانكسار من قبل؟
هل يُعْقل أنني لم ألحظه خلال انشغالاتي اليومية بمشاكل الشركة؟"
هي تعرف بيتها، تعرف سقفها كما تعرف نفسها...! تحفظ مَأوَاهَا؛ كما كانت تحفظ –في صِغرها- السوابق: عنترة وطرفة والخنساء...
واللواحق: أبو العلاء، وبشار والمتنبي...
كيف غاب عن عينيها هذا الانكسار؟ كيف؟ لاشك أنه جديد... نعم! إنه جديد بالتأكيد... ستسأل مَنْ في البيت... هل يَروْنَ ما ترى؟
وفي خِضَمّ حيْرَتِها، سمِعتْ "مُنية: رنين الهاتِف المُثبت ... وَتأفّفتْ: يا إلهي كم هو مُزْعِج هذا الهاتف...!! إنّه من الطراز القديم...رَنينُهُ يثقبُ الأذن...!
أجابتِ الأمُّ ... وطالتِ المُكالمَة...
وفهمت "منية" أن أخاها المُغترب هو المتكلم ... نادتها أمّها لتتكلم –كما هي العادة- حيث يتناوب أهل الدار على إمْساك السماعة لِساعاتٍ مع هذا المغترب... ساعات قد تطول، وقد تقصر... يحكي فيها المُغترِب أخباره... أشواقه... مشاكله... وربّما ...أحلامه! ويحكي أهل الدار أخْبار الإمارة...!
سلّمتْ "مُنية" السماعة إلى "فدْوى" أخْتها الكبرى؛ لِتتحدث مع المُغترب، فالدورُ دورُها... وذهبتْ مرّة أخرى إلى حيث الأرِيكة الصنوبرية، وانتهزت فرصة وجود أمِّها أمام النافذة، وقررت أن تسألها عن شأن الانكسار في السقف، فتنبهتْ إلى أن الأمّ كانت غارقة في دموعها... إنّها تبكي ولدها المُغترب، وتلك عادتها بعد كل مُكالمة...
أحسّت الأمّ بوجود "منية"، واستدارت لِترْتمي في أحضانها، وكأنها تخجل من أن تُرَى باكية وهي الصلبة القوية، كما يشهد بذلك أخوال "منية" وأعمامها على السواء قالت "منية":
سيعود إن شاء الله ... كنت القوية دائما. منذ وفاة والدي وأنت تكافحين لِأجْلِنا... فلا تضعفي... نحتاجُكِ كِبارا، أكثر ممّا احْتجناكِ صِغارا...!
تمتمت الأم بكلمات لمْ تفهمْها "مُنية" وقبل أن تختط العتبة، استوقفتْها "مُنية" سائلة:
- أمّي.. ألمْ تلاحظي هذا الانكسار في السقف؛ هل كان موجودا من قبل؟
أجابت الأمّ ببرودة:
"حدث هذا الانكسار عندما كنتِ خاضعة للعلاج في المستشفى... فُوجِئنا بِتسرّبِ قطراتٍ من الماء بفِعْل غزارة الأمطار... فحاوَلنا ترْميمَه....
ثم إعادة طلائه؛ وتغيير هنْدسته؛ لِإخفاء تصدُّعاتِه!!"
وخرجت الأمُّ إلى المطبخ؛ دون أن تنظر إلى ابْنتها المذهولة ...!
صَمتتْ "مُنية" في دهشات اللحظة المُسْتعْصية، وفكّرتْ:
"- هل كان السقف بمثل هذه الهشاشة؟!
وأنا التي كنت إذا تعِبت؛ لجأتُ إليه أحتمي بقوته، وأطمئن بظله...!
تبدُلٌ مُريع في هذا السقف...! يا إلهي ...
- هل هي الأمطار فعلا؟!
- هل هو الغش في البناء؟!
- هل هي المناورة في التعبئة؟!
- هل هي اللعبة الإنسانية المفضلة؟!!!
تحول ذهولها إلى قناعة معينة... سخِرت من نفسها، سخرت من سذاجتها.....لماذا كل هذا الاهتمام بالسّقف؟
إنه مُجرد سقف، ظللني اليوْم، ويُظللُ غيْري غداً... إنه مُجرّد سقف من حجارة ومن إسمنت...
مُجرد سقف...! يا لَلإدْراك البليد المُتأخر"!!
سخرت من نفسها مرة ثانية، وترَاقص من خلال نافذتها الصّغيرة شعاع بعيد، حمّل النسيمَ بَرْقية خاصّة، كُتبَ عليها بخط مغربي جميل:
"لا تندمي، فالندم هو الخطأ الثاني الذي نرْتكبه!"
ابتسمت كأن شيئا لم يكن... وانسحبت إلى الهواء ... إلى حيث لا سقف، لا غش... لا تلوّن... لا زيْف... وسمعت هاتفا يقول: " إنك القوية دائما... إن الحياة تسْحق النّدم، وتُبَعْثرُ الخيْبة على الخلق، سيأخذ كلُّ واحدٍ قسطه.. ستتفاوت درَجات التحمّل... يكفي المرء " الخيبة" وحدها...
لماذا يُضاف إليها الندم؟!
ومَن يدري...قد تصنع الخيبة ما لا يصنعه الحلم، مادامت تلك الخيبة حقيقة ملموسة ومادام ذلك الحلم مُجرّد صناعة من خيال...
أرادت أن تدخل البهو ...لكنها تراجعت إلى الوراء... تذكرت السقف المغشوش، وفضلت أن تجتذب لِحافا باليا، كان مرْمياً على الحائط الخلفي من الحوش... وَضعتْه على الأرض بِرِقة غريبة، وكأنها تخشى عليه من الأرْض... فرُبما تكون الأرْض هي الأخرى مغشوشة، فتبتلعَ اللحاف..!
أثقل الكرى جفنيها... وقبل أن تستسلم لسلطان النوم، حدقت في سماء الحوش... فإذا هي صافية... رائعة... بهيجة... وسعدت "منية" بهذه السماء ... وكأنها تكتشف لأول مرة إكسير الحياة...
نامت... وفي قلبها صفح جميل، واطمئنان عجيب وإيمانٌ شديد بالمعنى الحكيم:" وتلك الأيام نُداوِلُها بيْن الناس..."
المشهد الثاني
عودة إلى الدشرة
ها قد عدتُ إليك يا أبي، بعد مرور عاميْن فقط من زواجي، بمَن اخترْتَه لي...!
لم أعد لوحدي.. عدت ومعي طفل بريء، حُرم من أبسط حقوقه...
ها قد عدتُ يا أبي... وأنت جثّة هامدة أمامي... الناس تبكي... وأنا لا أبكي ... جفّ دمعي، يوم بِعتني...!
لطالما رجوتك أن تتركني أتابع تعليمي، لطالما بكيت وقبّلتُ يدك، علك تسمح لي بما سمح به جيراننا لبناتهم... ماذا كنت ستخسر لو أنّك منحتني ثقتك، وتركتني أدخل المدينة وأدرس كبقية البنات...
ولكنك فضلت بيْعي بثمن زهيد... زوَّجْتني لِشيْخ غنيّ ... أغرَاك ماُله وعقاراته، وعندما تزوجته، كشف لي عن حقيقته... إنني سابع امرأة في حياته، وله من الأولاد والبنات ما لا يتذكر عدده...!
متّ يا أبي وباعتقادك أنني سأرِث الشيء الكثير... كنتَ على غير حق... فورَثته كثيرون... كثيرون... وأنا مُطلقة منه اليوم... عدتُ إلى بيتك... سأنتظر منه "صدقة" كل شهر، يُسميها القانون:" نفقة"
قامت "حورية" منكسرة من أمام جثة والدها، حين سمعت صوت الرجال: هيّا، هيّا، جاء وقت الدفن...!
المشهد الثالث
خيمة ...وحريق
دخل "احْميدا" الخيمة المتآكلة وهو يلعن الزمن والناس:
- أين أنت يا امرأة ؟ أين أنت؟
- ها أنا أُرضع الوليد... ماذا بك؟ لِمَ تصرخ؟ أزْعجْتَ وَليدنا...!
- أين الأكل يا.... امرأة؟
- هل نظفتِ...... العباءة؟
- هل حلبتِ....... الماعزة؟
- هل غزلتِ الصوف...... لِأبيعها؟
- الأكلُ جاهز... والعباءة نظيفة... ولكنني لم أحلب الماعزة، ولم أغزل الصوف... فأنا معتنية بالوليد الذي يبدو شاحبا هذا اليوم...إنه مريض...
أشاح احميدا بوجهه وصرخ:
- لستُ طبيبا! هاتِ الأكل، واحْلبي الماعزة، لأشرب كأسا... ولا تضيفي كلمة واحدة...
- اسمع يا احْميدا... لستُ جارية عندك!
- اسمعي أنتِ... كلمة أخرى منك، وأرْمي بكِ خارج الخيمة؛ كالكلبة...!
سكتت المرأة على مضض، نكّستْ رأسها، و.. قرّرتْ أمْراً...!
المشهد الرابع
ملف الصغرى مفتوح...
- جِئناكُم...لِخطبة البنْت الصُّغرى، لِابْنِنا المُهندس... ونحن على استعداد لتنفيذ كل طلباتكم... حتى السكن متوفر... وسيعيش الزوجان، إن شاء الله، في بيتهما المستقل بمدينة "عنابة"... ولن يُزعجهما أحد... فماذا تقولون؟
- سنخبركم بعد أسبوع... فاستشارة البنت ضرورية...!! يخرج الخُطابُ، ويصيح الأبُ بأعلى صوته:
- فاطمة! فاطمة! تعالي! متى وأيْن رآك هذا الرجل؟!
- أبي! إنه ابن عم صديقتي "زهرة" أُقسم إنه لمْ يُكلمني البتة... رُبّما لمَحني مع صديقتي عند خروجنا من الثانوية؛ وهي التي دَلته على عنوان بيْتنا...
- اسمعي جيدا! أخبري صديقتك هذه أن تبلغه، أنّك لن تتزوجي، مادامت أختك صاحبة الأرْبعين سنة؛ لم تتزوج بعد...! وإلاّ فماذا سيقول الناس عنّي؟
تمتمت فاطمة قائلة: وما ذنبي أنا؟!
سالت دموع الأخت الكبرى وقالت بانكسار:
- ذنبي أنا... أنا يا أختي... لا أنت...
المشهد الخامس
حُزمة ...البنات...!
أوْصل "سليمان" زوْجته إلى المستشفى، وكان قلقا، شاحب اللون، عصبيّ الخطوات...
قدّم البَيانات اللازمة إلى إدارة المستشفى، ونظر إلى زوْجته بعينٍ يتطاير شررها:
- أريدُ صبيا...صبيا...يحمل اسم العائلة... إذا جئتِني هذه المرّة؛ بِوَلد نذرا عليّ أطعم كل مساكين الحيّ...وأكسو كلّ الأيتام... وأقيم الأفراح...
فلا تُخيّبي ظنيّ ... أرِيد ولداً... لا بِنْتا..".
ازدرد "سليمان" ريقه، وانصرف يضرب الأرض برجليه، ومفاتيح السيارة تتراقص بين أصابعه...
وراحت المسكينة –زليخا- تئِنّ من ألمِ المخاض... وفي حلقها غصّة البنات...
آه! آه يا ربّ خذني إليك إذا لم تعطني ولدا...!!
المشهد السادس
عيون في الميزان ..ترشق السهام
" بالأمس فقط، خرجتِ لعِلاج أسنانك...
واليوم ... إلى أيْنَ أنتِ ذاهبة؟
هل نسيتِ وضْعك؟"
"إنّكَ تُذكرُني مائة مرة؛ في اليوم، بِوَضْعي!! ما بِه وَضْعي يا أبي؟! ما ِبه وَضْعي ؟!
لسْتُ مسؤولة عن قدري!!
إذا كان وَضْعي لا يُعجب الناس... فمَنِ الذي دفعني إلى هذا الوَضْع؟ مَنْ ؟ أليس الناس؟! والرجل الذي كنتُ عنده... أليْس مِن الناس؟ وأنتَ يا أبي – يا مَن وافقتَ عليْه- ألستَ من الناس؟! والقاضي الذي عقد زواجي، وشهد بطلاقي... أليس من الناس؟ لماذا هذه الأسطوانة دائما: أعين الناس...! أعين الناس...!
ليتك يا أبي ترحم نفسك، وترْحمني معك، إنْسَ وَضْعي ودعْني أنساه...! لا؛ لا تُذكرني يا أبي بأسوإ مشوار في حياتي... اِمْنحْني ثقتك، ودعْني أعيشُ بسلام فيما تبقى من العمر...! لستُ مُذنبة في شيء... وضميري مُرتاح... إنْسَ وضعي، ودعْك من النّاس، وعلى رأي جُحا " رضا الناس غاية لا تُدرك!"
لقد ظُلم "جُحا" أيضا عندما اعتبره الناسُ أغْبى الناس!! في حين؛ كان الرجل مِن أذكى الناس!! ولله في خلقه شؤون...
نكّس "الحاج" رأسه، رَبَتَ على كتف " حورية" وأشار إلى الباب: اذهبي يا بِنْتي، لا عليكِ...تعالَ يا عمر... رافقْ أخْتك... رَافِقْها.... فالطرِيقُ غير آمِنة!!
تهلل وجْهُ "حورية" وكتمتْ تعليقا: " أبي... أذْكى... مِنْ... جُحا!"
المشهد السابع
إنجابُ ..تسوّل..
- "لقد كنتَ كسولًا؛ هذا اليوم ؛ يا ولد....! لم تجمع سِوى ستِّ مائةِ دينار...!
ألم تعد تحسن حرفة التسول؟!
علّمْتُك أصُولها وقواعدَها بكلّ إخلاص وتفان...!
علمتك ذلك، لِتنفق بنفسك؛ على نفسك؛ فمَا هذا التلاعب؟
ستتناول طعام الغذاء معي..
أما العشاء ... فلا!!
حاول يا بُنيّ.... يا فلذة كبدي....! أن تضاعف المبلغ في المرة القادمة...
فالتسوّلُ تِجارَة مُرْبحة..."
المشهد الثامن
صندوق .. يشنق الحرف...!
- "عُمر ...! هيّا.... قُمْ... أسْرِعْ!
- لماذا يا أبي! دعني أنام.... قليلا.. من فضلك...
- قلتُ: قمْ! ولا تُكثرِ الكلام...!
بعد هذا الحوار..
راح الأب، يعدّ صندوق السجائر، ويُرتب العُلب، بينما جرّ عمر الغطاء على عينيْه، وراح يحلم...
يحلم بفضاء آخر: مدرسة كبيرة، ساحة فسيحة، جدران ملوّنة؛ عليها رسومات طفولية.... حُجرات مُزينة... مُعلم حنون، يرْبت على كتف عمر، ويدعوه إلى استلام الجائزة مع المُتفوقين...!
بحركة عنيفة، ينزع الأب الغطاءَ عن الإبن، ويصرخ:
هيّا... العمل! العمل! فالصندوق جاهز، ولا تعُدِ اليوم إلا بعد أن تبيع كلّ العلب! علينا دفع ديوننا!
المشهد التاسع
اليومَ...كَسرَ يَدي.. غداً يفقأ عيني..! هزُلت!
- تغضبين للمرة الثالثة... وتتركين بيْت الزوجية...؟
لا أوافقك على هذا، يا رشيدة..ماذا سيقول الناس عنّا؟!
اِصبري يا بنيتي... اِصْبري... فأنا أيضا كم ظلمني والدك....! إنه لم يكن يكتفي بشتمي وضرْبي، بل كان يطردني من البيت؛ فأذهبُ إلى بيت جدك –رحمه الله- أشكو وأنوح... وعندما يهدأ روعي، تُعيدني جدتك إلى بيتي... مُحَمَّلة بِالهدايا..!
وكأن شيئا لم يحدث...! وها أنتِ اليوم؛ تلاحظين طِيبة والدِك... لقد تغيّر تماما...
اِصْبري، يا رشيدة، فلا شك أنّ مُعاملته لكِ ستتحسن خاصة عندما تنجبين له من يحمل اسم العائلة...!
تجهّم وجهُ رشيدة، وبدت أكثر تصميما وقالت:
- أأظل تحت التعذيب حتى أنْجب له؟ أيّ شرع هذا؟ جسمي أكلته السياط...! لن أعود يا أمي، لقد أذاقني من الويْل الشيء الكثير... أرجوكِ أنتِ أن تفهميني هذا الزوج وَحْش... وَحش.. أقْنِعي وَالدِي حتى يُخلصَني منه...! مِنْ حقّي أن اطلب الانفصال عنه... هاهو قد كسر يدي اليوم، لا لشيء إلا لأنني غضبت من عودته كل ليلة مخمورا، مُفلسا، يجترّ رذائل الأرْض كلها في خطواته...إنه مقرف يا أمي، لن أقضي بقية حياتي مع وحش، دمرني، أطلبُ الانفصال عنه... سألجأ إلى المحكمة يا أمّي... سألجأ إلى القانون يا أمي... تعبت... تعبت...
طأطأت الأمّ رأسَها وهي في شبه غيبوبة، كان لسان حالها يقول:...يا لَكِ مِن مسكينة..! المحكمة؟ القانون؟ إن العصمة بيد الرجل... وسينتقم بِترْكِك معلقة!!
المَحكمة؟ القانون؟ آه يا ربّي... رحمتك...!
المشهد العاشر
تبّــــــــا..!
- إني... أريد أن أفاخر بك الجيران...
يجب أن تختار مهنة المحاماة!!
إنها مهنة...أرباحها كثيرة...
يجب أن تصبح محاميا يا بني!
وإلا...
لن أنفق عليك خلال ما تبقى لك من مشوار دراسي!
لن أنفق عليك. لقد أفنيتُ عمري كله في تعليمك وتلبية طلباتك، فلا تحِدْ عنِ... عن الطريق الذي رسمته لك....
أتفهم؟ لن تجْنيَ فائدة من مهْنة "التدريس"... ستكون كالسّلّم...! يصعد عليه الصاعدون... وينزل عليه النازلون... أما أنتَ... فتبْقى أنتَ أنتَ، لا تصعد ولا تنزل!
هل يعجبك هذا؟!
المشهد الحادي عشر
رأي "رقّوش" في درجة الصفر...
قال "عليّ":
- نريد إنجاز هذا المشروع في أقرب فرصة ممكنة... ردّ مصطفى:
- حسنا، وما المانع؟ كل شيء جاهز... متى نبدأ؟
تدخلت "رقوش" زوجة "علي" في النقاش، وقد تهلل وجهها فرحا وقالت:
- لابد وأنه مشروع كبير... فيم يتمثل هذه المرة يا ترى؟!
عبس"مصطفى" –حماها- وقرّب حاجبا من آخر، وانتهرها "علي" بقوله:
- اذهبي... فاجتماع الرجال لا تشارك فيه النساء... هذا ما كان ينقصنا..!
تعثرت "رقوش" وهي خارجة لا تلوي على شيء؛ ولسان حالها يقول:
- لا بارك الله لكما في هذا المشروع، سأنام وأترككما دون شاي... أحتفظ برأيي لمن يفهمني..!
وسوم: العدد 738