مملوكك لكنّي... سلطان العشاق
مملوكك لكنّي... سلطان العشاق
سليمان عبد الله حمد
أنا البحر في أحشائه الدر كامن
فهل سألوا "الغواص" عن صدفاتي
كن كما يبنغي أن يكون الفنان المبدع من القراءة النصية الصحيحة والملكة اللحنية لجمال هذا التصوير الفني والأدبي والشعري وحتى الثقافية الفنية الخلاقة ... كل هذه مفردات وأدوات فنية يجب أن يمتلكها من له الرغبة في الولوج إلى هذا المضمار الفني الجميل ...
عندما قرأت خبراً مفاده أن الفنان المبدع قد أجرى "عملية غضروف" وردت إلى ذهني تلك الضجة الإعلامية و الشعبية التي تصاحب بعض المطربين في حين نجد أن هذا الفنان المبدع صاحب المنظومة الفريدة (الشعر.. و الأدب... و الفن)، قد ارتضى لنفسه تواضعاً أو ارتضى له الجمهور تجاهلاً، أن يكون بعيداً عن الأضواء.
في بداية رحلتنا الزوجية جمعتني وزوجي.. جلسة مع هذه الفنان المبدع في منزل أحد الأخوة شاركتنا فيها مجموعة قليلة من الأسر وأذكر أن المناسبة هي وداع أحد أعزائنا للرجوع للوطن فكانت تلك الأسرة تلملم أطراف ثوبها متأهبة للرحيل وحزن لحظة الوداع يخيم على النفوس فيلقي بظلاله على جو الجلسة.
في تلك اللحظة راحت أنامل فنانا المبدع تداعب أوتار العود فتتسلل الأنغام دافئة إلى المكان.
ومع تعانق عقربي الساعة ومع إطلالة ذاك المساء الجميل ، جاءت مولد قصيده جميلة ليغرق الجميع في بحر من السرور وسط زخم من التفاؤل بعام سعيد جميل جمال المولودة.
تكررت لقاءاتنا بالفنان المبدع في الثمانينيات والتسعينيات، سواء في حفلاته العامة التي كانت تقام في قاعات الفنادق الكبيرة أو على النطاق الخاص مع مجموعات صغيرة من الأسر ...
وفي كل تلك اللقاءات كان الفن والفنان يثبت دائماً من خلال ما يقدمه من روائع القصيد وعيون الشعر العربي أنه أديب بطبعه وفنان متمكن.
وأيضاً في مقابلات أجريت معه على شاشة التلفاز فكان عالماً ضليعاً وهو "يغوص" في بحور التراث الشعبي وفولكلوره المتميز.
هذا الفنان الذي كلما استمعت إليه - وأنا أستمع إليه كثيراً - يعتصرني الأسى على إنسانٍ مبدع لا يقتصر عطاؤه على إتحافنا بكل ما هو مبهر وجميل من حديقة الشعر العربي بل يتعداه إلى قصائد من تأليفه تتميز بالطلاوة والحسّ الجميل.
فنان يبذل جهداً ذاتياً مكثفاً يفوق في ظني جهد مئاتٍ من معلمي اللغة العربية في مدارسنا - اليوم - حين يقدم لأبنائنا الشعر العربي في صورة ألحان جميلة تهدهد وجدانهم وتتسلل بتلقائية إلى عقولهم فتبث فيها ثروة لغوية هم في أمسّ الحاجة إليها.
إنه يترنم بأبيات يزيد بن معاوية وينشد اعتذار المتنبي لسيف الدولة. يغني قصائد للعقاد ولأبي فراس الحمداني وعلي محمود طه المهندس وغيرهم.
ولج تراثنا الشعبي وجاب دنياه الواسعة وعوالمه الفسيحة فكانت أغاني الحماسة والسيرة.
وفي محاضرات ألقاها في عده مناسبات عامة أو خاصة عام 1993م وتخللتها بعض الأغنيات، تناول بالشرح والتحليل قصيدة (........ ) ، ذلك الأوبريت الرائع الذي حوى مشاهد وصوراً بالغة الروعة تكاد من فرط صدقها تصرخ بالحياة وتموج بالحركة ، وقد وضع لها الفنان بدوره ألحاناً وموسيقى متعددة القوالب والإيقاعات تخدم الغرض وتضفي عليها من الواقعية الكثير. أيضاً عن دور المدرسة التجريدية وأثرها على الفنون بأشكالها المختلفة من رسم ونحت وشعر إلخ.
وفي مجال الشعر لفت النظر إلى التجريد الذي تضمنته الأبيات التالية من قصيدة:
فى حضرة من أهوى ......عبثت بي الأشواق
حدّقت بلا وجهٍ........ و رقصت بلا ساق
و زاحمت براياتي..... و طبولي العشاق
عشقي يعني عشقي....و فنائي استغراق
مملوكك لكنّي.... سلطان العشاق
ثم عرّج على أدب المناحة الذي وصفه بأنه باب متفرد لأننا لا نلمح فيه العويل والانكسار المتوقع في هذا المعنى بل نلمس الفحولة والجزالة، وضرب مثلاً لذلك بمرثية بنونة بنت المك نمر لأخيها عمارة عندما بكته في مناحة ...
وأشار إلى التعددية التي يتميز بها الشعر العربي والتي وصفها علماء الأعراق والهجرات والاجتماع بأنها قوة عقلية وقوة جسمية، ولكنه قال إنه في غياب الإحساس بالتوحد والانتماء فإنها قد تغدو شراً مستطيراً ووبالاً عظيماً..
ذكر أن الفن لعب دوراً كبيراً في هذا التوحد والانتماء عندما تمكن الرواد الأوائل في بداية ظهور وسائل الاعلام المسموعة (الاذاعة) من جعل كل قبائل بلهجاتها المختلفة تلتقي في أغنية الوسط التي تمثل النموذج الطيب للانصهار.
وهكذا نجد أن مثل هذا الفنان المجتهد يتطلع إلى أجهزة إعلام يكون القائمون على أمرها من ذوي العقلية المستنيرة والمتفتحة التي ترفض البيروقراطية الجامدة، فتمنحه تفرغاً كاملاً يتيح له حرية الحركة والغوص في بحر لغتنا الفسيح وتراثنا الشعبي، دون أن تعرقل خطاه قيود الالتزامات المادية ..
فالساحة الغنائية على وجه الخصوص ضجت بعدد من المطربين الجدد الذين ضاقت بهم الساحة الفنية على سعتها ..... هؤلاء المطربين الذين "رأيت" و"سمعت" أحدهم في أحد المناسبات الخاصة يترنم بأغنية !!! .
و رحم الله لغتنا العربية و رحم الله تراثنا الشعبي و لا عزاء لنا إلا في أن يطيل الله في عمر من يحفظ للفن والشعر والأدب أعمالا يعجز كثير من جيل اليوم من قراءاتها النصية فضلاً على مكنون ألحانها المتفردة !!!.
لما هؤلاء الفنانين من الجيل الحديث إلا النهل من هذا التثقيف الفني والأدبي وحتى الثقافي ... فالحق أن يتبع هؤلاء ظل هؤلاء العملاقة في زمن ضاع فيه كل شيء جميل ...