بنية الحوار في مسرحية "أنا الملك أتيت"

بنية الحوار في مسرحية "أنا الملك أتيت"

ياسين سليماني

[email protected]

يمكن دراسة مسرحية "أنا الملك أتيت" لياسين سليماني الصادرة عن دار فيسيرا نهاية 2012 من أكثر من ناحية، من مثل أبعاد الشخصيات الرئيسية والثانوية، أو بنية الزمان والمكان، الصراع...إلخ، ولكننا سنتوقف عند نقطة نخالها –مع أهمية النقاط الأخرى-أبرز نقطة في العمل المسرحي، وهي الحوار، إذ يعتبره الدارسون العمود الفقري للنص المسرحي، وهو أوضح أركانها وأبرزها فالنص المسرحي كما يقول الكاتب المسرحي الشهير ألفريد فرج " تبيّنه المواقف وأداة التعبير فيه هي الحوار، وينطوي بالضرورة على صراع يحتدم ويصفّى".

والحوار من صنوف الخطاب في المسرح يشبه المحادثة في الحياة اليومية العادية لكنه يختلف عنها جوهريا، إذ أنه "مركّز منتقى مهذّب، وله غاية محددة"، مهمته الحقيقة إبلاغية إذ يوصل المعلومات إلى المتلقي عن طريق الشخصيات، ويجري على نسق محكم من التنظيم، ينمو ويتوالد بسرعة دون العودة إلى النقاط التي تمّ الكلام فيها، إلاّ لمّا يتعلّق الأمر ببناء الحبكة، إلى أن يستوفي الكاتب كل عناصر التأليف المسرحي خاصة المدة الزمنية القصيرة المتاحة له.

ومما لا شكّ فيه عند المسرحيين، فإنّ المسرحية تمثّل في حيّز زمني ضيّق، وفي مناظر محددة متّخذة قالب الحوار الذي يجب على الكاتب فيه الدرس والتأمل الطويل، حتى يتمكن مما يتطلبه من تركيز وكلمات موجزة دقيقة لا تفصح عن المعنى كليّاً، بل توحي به إيحاء يكون مساعدا على تحقيق الانفعال وإثارة العواطف في المتلقي، ويلتزم الكاتب في كتابة الحوار بمجموعة من الخصائص ليحقق جميع وظائفه أهمها: التركيز والإيجاز، حيوية الحوار، مناسبة اللغة لموضوع المسرحية، مناسبة الحوار للشخصية، ويمكن إضافة شرط آخر وهو أن يكون الحوار مساعدا للممثل على الإلقاء.

1.    التركيز والإيجاز في أنا الملك أتيت:

يحدّد العمل المسرحي بمكان وزمان معيّنين، فهو عمل مقيّد تحكمه الضرورة الفنية لارتباطه المباشر بالمتلقّي، ولارتباطه بالأداء والإشارات التي تفصح عن الطبائع، وبذلك كان الحوار في المسرح موجزا مركّزا، "وليس معنى ذلك أن يكون الحوار قصيرا دائما، فقد يطول الحوار فيبلغ على لسان إحدى الشخصيات صحيفة بأكملها، وقد يقصر فيكون كلمة أو كلمتين، والذي يحدّد طول الحوار وقصره مواقف القصة نفسها" وكمثال عن ذلك، الحوار الذي دار بين الأميرة والأمير ص 17:

الأميرة (كالساخرة): صحيح يا سيدي الأمير...لا يجب أن أغضب...ولمَ                  أغضب؟ هل اختفى زوجي ورحل بنفسه إلى مكان لا أعرفه؟ هل غاب              عن لحظة ميلاد ابنه ولم يره؟ لا يا سيدي... زوجي كان معي... شاركني          ألم الولادة....لم يتركني أعاني وجع الوحدة القاتلة (بجدية) ما سمعته              منك أيام ارتباطنا (تضحك ساخرة) الذي ظننته مقدّسا، ذهب كله أدراج            الرياح.              

الأمير: يا سيدتي الأميرة، إذ يرى الإنسان الراحة الأبدية في المحبة والتغلب على الأنانية فإنه يجد في الغضب رذيلة ، وأمرا يؤدي إلى التعاسة ، وهكذا عليه أن يكبح غضبه وألا يتنازل عن هدوئه.         

هذا النموذج يمثل الحوار المطوّل، وهو لا يسير على كلّ مشاهد المسرحية، إذ نجد حوارا موجزا أشدّ الإيجاز مثلما نقرأ في الصفحة 32:

شانا : سيدي الحاكم... استيقظتم باكرا هذا الصباح.

الحاكم: هل تحدثتَ إليه من جديد؟

شانا : أجل يا سيدي. (يطأطئ رأسه)

الحاكم (كاليائس): ولكن كما أرى... لم يُصغِ لأحد.

شانا (متأسفا): إنه مُصرٌّ يا سيدي.

2.    حيوية الحوار:

لابدّ للحوار أن يتّسم بالحيوية، وذلك من خلال قدرته على إيضاح ما يدور في نفس الشخصية وفكرها، وأن يتنوّع بما يتناسب مع طبيعة الموقف والشخصية، مما يخلق تحريكا لجو المسرحية."فالحيوية في الحوار تتحقق بما يصاحب الأداء من حركة عضوية أو القراءة من حركة ذهنية، وكذلك حين يرتبط الحوار بالشخصيات فيدلّ عليها من حيث وضعها الاجتماعي ومستواها الفكري والخلقي، فالحوار قبل كلّ شيء، لغة الأشخاص أنفسهم، أو هو لغة المؤلّف التي كان من الممكن أن تتحدّث بها شخصيات بذاتها" فالحركة على خشبة المسرح حركة عضوية وذهنية في نفس الوقت، بينما نجدها في المسرحية المقروءة حركة ذهنية فقط، ما يجعل القارئ يفتقد حيوية الحركة العضوية التي يقوم بها الممثلون، ويعوّضها بحركة ذهنية تتجسّد له من خلال الحوار المكتوب، وهذا يتطلّب حيوية ذلك الحوار، وقراءتنا لأنا الملك أتيت توضّح لنا أشكال هذه الحيوية.

ومثال ذلك ما نقرؤه بين البطل وخادمه عندما يقرر التخلّي عن كلّ أملاكه ومكانته والرحيل دون عودة:

شانا: فلتهدأ يا سيدي...إن الذي رأيته يمرُّ عليه الناس في صباحاتهم وأماسيهم، فلا يلقون له بالا... فلتكن واثقا أنك لست أول من رأى هذا ولن تكون الأخير، ولا يجب أن تتلقى ما رأيتَ إلا بمثل ما يتلقاه جميع الناس.

الأمير: ستكتحل عيناي بإثمد اللوعة فلن تذوقا طعم النوم...سيصير فراشي أشواكا تقض مضجعي ... وستستحيل حياتي جحيما لن أستطيع معها صبرا.

شانا: يا سيدي الأمير... أراك تعطي لما رأيتَ خارج القصر أكثر مما يستحق... لماذا تهتم كل هذا الاهتمام بأناس يجيئون ويذهبون ... ولا تربطك بهم أية علاقة؟

الأمير: يا شانا... بل أنت الذي تبسط ما رأينا اليوم تبسيطا مخلاًّ... إني كنت غائبا عن كل ما حولي ... لقد وقعت في خيانة من الذين أحببتُهم و عشتُ بينهم.

شانا: ليس هذا ما كنت أظنك ستفكّر فيه، أنت يا سيدي ثائر على غير عادتك...ألست أنت الذي ظللت تقول لي "دع عنك الغضب فما أتعس الرجل الغاضب" فلماذا تثور و لماذا تغضب ؟

الأمير: يا صديقي شانا...إني ما عرفتُ الحياة إلا حين خرجتُ من هذا القصر... ما أقسى  أن تعرف في يوم ما أن كل الذي تحسبه حياة هو سراب ينطفئ  قبل أن يرتد إليك طرفك...وما أتعس القلب الذي يفيق على حقيقة أن الذين كانوا يظهرون له الحب... كل الحب...كلهم مخادعون.

3.    مناسبة اللغة لموضوع المسرحية:

تختلف لغة المسرحية حسب الموضوع الذي تعالجه، فالمواضيع التاريخية يختلف أسلوب لغتها عن نظيرتها الواقعية، ولغة المأساة ليست نفسها في الكوميديا، وكذلك إذا اختلف زمنها، بمعنى أنّ حوار المسرحية التي تدور أحداثها في عصر مضى كالجاهلي مثلا، يختلف عنه في مسرحية تدور أحداثها في العصر الحديث، وما دام النص المسرحي ما هو في البداية كما يقول ألفريد فرج إلاّ نص أدبي، وما هو في النهاية إلاّ كلمات يخاطب بها الممثل مشاعر الجمهور فوق المنصّة. وهناك من المؤلّفين والدارسين من يرى بأن تتم كتابة المسرحيات ذات الطابع التاريخي باللغة العربية الفصحى، وأن يتم كتابة المسرحيات ذات المواضيع المعاصرة بالعامية. مع التفريق بين مستويات الفصحى ومستويات العامية، فكما يرى ألفريد فرج يجب "التمييز التام اليقظ بين عامية بيرم التونسي الخالدة وعامية السوق، وبين فصحى توفيق الحكيم والمازني وطه حسين وفصحى بال الحوادث في أية صحيفة خبرية" وما دام موضوع المسرحية التي بين أيدينا ذا طابع تاريخي (تعود الأحداث إلى 500 ق.م) فكان الأنسب لها وكما فعل الكاتب ، اختيار اللغة العربية التي تقترب من الصرامة، وتحاكي كتب الأدب القديم، في بناء متكامل بين المعنى والمبنى، ونماذج هذا موجودة في العمل الذي بين أيدينا.

الأميرة (بنبرة غضب): لماذا أنت باقية ها هنا واقفة كشجرة السنديان الهرمة، ألم يخلد راهولا إلى النوم بعد؟               

المربية (بعطف): معذرة يا سيدتي، فلقد كان يبكي بدموع سخية كسخاء أبيه   الأمير زيْن الشباب...                       

الأميرة (ضاحكة بسخرية): زين الشباب؟ ما أشد انصرافك عن الحقيقة أيتها العجوز، لو كان زينهم لسأل عن ابنه.          

المربية (وهي تمسح على رأس الطفل بحنان): سيأتي يا سيدتي، فلا تدعي القلق يأخذ طريقه إلى قلبك سربا... 

الأميرة (كالغاضبة): أعطني ولدي وانصرفي.

4.    مناسبة الحوار للمسرحية:

يجب أن يتلاءم الحوار مع الشخصية، فلغة المثقف غير لغة الأمي، ولغة الطبيب غير لغة الفلاح، وكذلك كان الشأن بين المرأة الثكلى وبوذا صفحة 49 :

المرأة (فرحة): عندك الدواء؟ صحيح؟ صحيح يا سيّدي؟ أين هو؟ امنحني إياه رجاء...هيّا يا سيّدي...أريد أن يعود ابني كما كان.

بوذا: اذهبي واحضري لي حبّة خردل من بيت لم يمت فيه أحد.

المرأة (متعجّبة): حبّة خردل؟ تعيد لابني الوحيد الحياة؟

بوذا: أجل... لكن من بيت لم يمت فيه أحد.

المرأة (تفكّر): من بيت لم يمت فيه أحد؟

بوذا (مشجعا): أجل... اذهبي...وإذا وجدتها فسيعود ابنك حيّا كما كان.

المرأة (متحمّسة): نعم...سأبحث عنها... سأفتش في كل البيوت ، وعند جميع الناس... المهم أن يكون ولدي معي... حيّاً كما كان... رائعا كما كان... (لاهثة وهي تبتعد من هناك) شكرا أيها المعلم ... شكرا أيها العظيم... شكرا.

ومع ذلك فعلينا أن نشير إلى أنّ مستويات اللغة لم تظهر بشكل جلي في هذا النص، ومن الممكن أن يكون الكاتب قد قصده بالفعل، وذلك ما نلمسه في التقديم الذي كتبه الكاتب محمد بدارنه للمسرحية، إذ نراه يقول في الصفحة 06 " كان كاتبنا عادلا، فتراه قد وزّع الحكمة على النسّاك والأمراء والخدم والملوك وعامة الناس بالقسط والميزان، ولم يحتكر أحد الحكمة دون غيره" مع أنّ هذه العبارة قد انتهت بعلامة تعجّب واضحة، يمكن فهم أبعاد مختلفة من ورائها.

5.    على سبيل خاتمة:

تلك هي النقاط الأبرز والأهم في الحوار المسرحي في مسرحية أنا الملك أتيت. وقد وقفنا عندها في محاولةٍ لتكثيفها لأن الحوار هو الركن الوحيد الذي ليس فيه اجتهادٌ بالتغيير والتعديل. كما يقول الأستاذ فرحان بلبل في كتابه "النص المسرحي...الكلمة والفعل" ، إذ يرى أنّ  عنصر الحوار بصفاته وخصائصه التي أوردناها لا يمكن التلاعب بها أو تغييرها لأنها نابعة من  خصوصية المسرح بين الفنون. فهو أدب وفن. وهو واقعي التصوير للحياة دون أن يكون واقعياً بشكل مباشر حتى لا يقع في الفهم الساذج للواقعية. وليس على الكاتب إلا أن يحاول تجويد أدواته لأداء خصائص الحوار كما هي.

وإذا كان الحوار كما رأينا في هذا التحليل قد تنوّع واختلف في مستويات التركيز والإيجاز، فوجدناه طويلا يأخذ مساحة كبيرة نسبيا، وقصيرا في مواضع أخرى يأخذ سطرا أو نصف سطر، بل وأحيانا كلمة أو كلمتين، وكان حيويّا فلم يقف عند نقطة واحدة لا يتحرّك دونها كما أعطينا أمثلة، وكانت لغته مناسبة للشخصيات عدا بعض الملاحظات الطفيفة التي يمكن أن نجد لها أكثر من مسوّغ فنّي، زيادة على مناسبة الحوار للعمل المسرحي، فإننا نتوصّل إلى أنّ هذا النص المسرحي قد جرى تشييده كما العمارة الجميلة الشاهقة المبنية على قواعد محكمة، فهي تفتن الناظر، وتقنع المختصّ، وهو ما يحسب للكاتب الذي قارب في نصه أن يكون بارعا، مجيدا. ونحسب أنه سيجيد أكثر في مسرحياته المقبلة.