عمر أميرالاي ومايكل مور
عمر أميرالاي ومايكل مور
الكاميرا التسجيلية ورحلة البحث عن الحقيقة
طريف يوسف آغا
لم يعاد النظام الأسدي منذ وصل إلى الحكم مخرجاً سينمائياً سورياً كما عادى الراحل عمر أميرالاي(1944-2011)، ولم يكره اليمين الأمريكي المتمثل خاصة في الجمهوريين من المحافظين الجدد مخرجاً من بلادههم كما كره مايكل مور (1954). وما المعادة للأول والكراهية للثاني سوى وسام شرف على صدر كل منهما يجمعهما في عامل مشترك واحد هو رحلتهما للبحث عن الحقيقة. أما العامل الآخر الذي يجمع هذين المبدعين فهو كاميرة الأفلام التسجيلية.
كما أن الشعب السوري ابتلي بالنظام الأسدي المتغول منذ عام 1970، فيمكن القول أيضاً أن هذا النظام قد ابتلي بدوره بمعارضين صلبين وشجعان، ولاشك أن عمر أميرالاي كان واحداً ممن تصدر قائمتهم. وقد اختار الرجل أن يكون معارضاً خلف كاميرته التسجيلية ليصور عيوب هذا النظام ويكشف أكاذيبه للمجتمع السوري والعالم العربي وماورائهما. وقد اختار هذا الطريق السلمي بالذات لاعتقاده بأنه سيمكنه من الاستمرار بمهمته لفترة أطول بكثير مما لو أنه اختار طريق السلاح كطليعة الاخوان المسلمين، أو طريق المعارضة العلنية كبعض التيارات الشيوعية والقومية وغيرها. فقد انتهى جميع هؤلاء في القبور أو السجون، ومن المسلم به أن الميت أو السجين غير قادر على المعارضة من موقعه. أما من كان أوفر حظاً من هذين كان من تمكن من عبور الحدود إلى خارج البلاد حيث المنفى القصري وحيث وسائل المعارضة محدودة.
وهنا بالتحديد تتجلى عبقرية عمر أميرالاي، حيث كان عليه أن يفضح ويعري واحداً من أكثر الأنظمة الديكتاتورية الطائفية ودموية في التاريخ الحديث، وهو في نفس الوقت جالس في حضن هذا النظام وتحت بصره وسمعه دون أن يمكنه من إدانته. حتى أن أحد أعمدة النظام الأمنية وصفه غاضباً في جلسة خاصة بالمثل الشائع الذي يقول (جالس في حضننا وينتف بذقننا). أي كان عليه طوال مسيرته الفنية أن يقول من خلال كاميرته مايريد وهو في نفس الوقت يمشي على الخط الرفيع الموازي للخطوط الحمراء لنظام ديكتاتوري وحشي. فكان بذلك أشبه بمن يتنقل بكاميرته بين آلاف الثعابين والأفاعي السامة، حركة واحدة في الاتجاه الخاطئ ويحصل على لقب (الفقيد).
لم ينكر عمر يوماً تبنيه لأفكار اليسار الفرنسي، وهو الذي تخرج من معهد السينما في باريس عام 1968، إلا أنه لم يحرض في أي عمل من أعماله على العنف الثوري أوحمل السلاح. كان واثقاً أن حالة (النظام الأسدي) في سورية هي حالة استثنائية ولابد أن تزول عاجلاً أم آجلاً. ورأى أنه وإلى أن يحصل ذلك، فان مهمة السينما التسجيلية هي تذكير الناس من خلال أفلامها بأن الفقر والحياة المزرية التي يعيشونها، وخاصة في الريف، هي ليست قدرهم ولانصيبهم. بل هي نتيجة لسياسة نظام شمولي لايعبأ بهم ولابمعاناتهم، بل بنهب البلد وتثبيت ركائز حكمه لقمع كل معارضة تهدد وجوده. وقد نجح عمر أي نجاح في إيصال هذه الرسالة في الكثير من أفلامه التي بلغت حوالي العشرين، وأخص بالذكر منها واحداً من أجملها وهو (الحياة اليومية في قرية سورية) عام 1974 حيث يخيل للمرء وهو يتابعه أنه يشاهد فيلماً عن الحياة في قرية من العصور الحجرية وليس من القرن العشرين.
ولكن لاشك أن قمة أفلامه على الاطلاق كان آخرها (طوفان في بلاد البعث) عام 2003 وإن كان يبدو أنه فقد خلاله ولأول مرة أثر ذلك الخط الرفيع الذي طالما مشى عليه في بقية أفلامه، فتجاوز فيه بشكل ما خطوط النظام الحمراء. وقد أدى ذلك إلى اعتقاله مباشرة من قبل المخابرات بعد عرض الفيلم على احدى الأقنية الفضائية العربية واتهم بمحاولة الاساءة لصورة الدولة وخاصة من عنوان الفيلم، مع أن هذا العنوان كان من وضع القناة التلفزيونية الفرنسية الأولى التي أنتجته في حين أن العنوان الأصلي الذي وضعه هو كان (الطوفان) فقط. ولولا تدخل وساطات داخلية وخارجية أدت إلى الافراج عنه في نفس اليوم لأمضى الرجل بقية حياته في السجون الأسدية. وبالرغم من أن الفيلم رائع في كافة مقاطعه، إلا أن المشهد الأقوى فيه برأي هو حواره مع شيخ عشيرة قرية (الماشي) الفراتية حيث قام عمر باستدراجه في الحوار ليجعله يعترف بأنه أيضاً يعمل نائباً عن بلدته في مجلس الشعب. وأن ابن أخيه هو مدير مدرسة القرية ومسؤول الحزب فيها، ومهمته غسيل عقول الأطفال وتحويلهم إلى (ببغاوات) تردد شعارات تمجيد القائد، في حين أنهم بالكاد يجدون مايأكلونه. قرية (الماشي) كما صورها عمر في فيلمه أراد تقديمها كمثال مصغر لكل سورية، حيث الحكم والنفوذ بيد عائلة واحدة وتوزيع المناصب يتم بحسب القرابة والولاء حيث ينعم هؤلاء بامتيازات استثنائية بينما يعيش باقي الشعب تحت خط الفقر وعلى فضلة المسؤولين.
أما بالنسبة لمايكل مور، فلم تكن مهمته سهلة أيضاً في اتباع الخط الاشتراكي الذي اختاره لنفسه في السينما التسجيلية في بلد يتربع على عرش الرأسمالية. أتى الرجل من عائلة من الطبقة الوسطى من ولاية ميشيغان الشمالية حيث كان العديد من أفراد أسرته يعملون في شركة جنرال موتورز لصناعة السيارات. وسرعان مابدأ يشهد أسرته والآلاف من أمثالها يسقطون أمام عينيه باتجاه الطبقة الفقيرة في نهاية الثمانينات بعد أن قررت الشركة نقل معاملها الموجودة في بلدته (فلينت) إلى المكسيك للاستفادة من اليد العاملة الرخيصة هناك ولتوفير الضرائب ومصاريف التأمين الصحي وتعويضات إصابات العمل المفروضة في أمريكا. هذا الحدث ترك أثراً عميقاً في مايكل وجعله يأخذه كأمر شخصي عليه أن يقاومه باصراره وبكاميرته معاً ليفضح نتائجة الاجتماعية المدمرة على أسرته وبلدته الصغيرة وكذلك على ولايته التي يحمل هويتها.
وهنا أتى باكورة أعماله الأربعة عشر (أنا وروجر) عام 1989 حيث نشاهده طوال الفيلم وهو ينتقل من مكان إلى مكان ومن مدينة إلى مدينة مطارداً المدير التنفيذي لشركة جنرال موتورز (روجر سميث) ليسأله فيما إذا كان يعرف حجم الكارثة الاجتماعية التي سببها قراره نقل المعامل من (فلينت). وخاصة كارثة فقدان حوالي الأربعين الف عامل لوظائفهم وبالتالي هدم أربعين ألف أسرة. ولم ينجح مايكل في لقاء (روجر) طوال الفيلم، كما لو أنه كان يتهرب منه، إلا أنه تمكن من ذلك في النهاية، وحين طرح عليه سؤاله، ابتسم (روجر) وقال أنه فعل ذلك من أجل مصلحة أمريكا، وأن المصلحة العامة تستحق التضحيات الفردية. وهنا نجد عاملاً مشتركاً يجمع بين النظام الديكتاتوري كما صوره عمر في أفلامه والنظام الرأسمالي كما صوره مايكل، كل واحد من النظامين يدعي أنه يعمل من أجل مصلحة الوطن والشعب، في حين أنه يعمل لمصلحته ومصلحته فقط. أما الفرق الجوهري بينهما فهو أن الأول يقتل الشعب ويفقره معاً، في حين أن الثاني يفقره فقط.
إذاً تبنى مايكل الأفكار الاشتراكية بسبب معاناة أسرته وبلدته وولايته من قرار يبدو وكأن رجل واحد ثري تفرد باتخاذه. وهو حتماً رجل لايعيش في الأحلام، ويعرف أن الحكومات المنتخبة في الدول الرأسمالية مثل أمريكا إنما تصل إلى سدة الحكم بدعم من الشركات العملاقة كشركات النفظ والأسلحة والتأمين وغيرها، وبالتالي سيكون عليها أن ترعى مصالح من أوصلها وساعدها على الفوز. وهو لاينكر ذلك ولكنه يراه من غير زاوية، فيحث الادارة الحاكمة أن ترعى مصالح الأثرياء بحماية الطبقة الوسطى من جهة وتخفيف الضغط والمعاناة عن الطبقة الفقيرة، فهذا هو مايحمي طبقة الأثرياء على المدى البعيد. الطبقة الوسطى كانت دائما عبر التاريخ ومازالت في كل دول العالم صمام الأمان للمجتمع أو خط الدفاع الأول الذي يحمي الطبقة الغنية من ثورة وغضب الفقراء. فاذا ماانتقلت الطبقة المتوسطة إلى الفقيرة وراح خط الدفاع هذا، فتوقع في أي وقت قيام ثورة قد تأخذ في طريقها الأخضر واليابس والصالح والطالح.
ولهذا أيضاً انحاز مايكل للحزب الديمقراطي في بلده لأنه رأى في سياساته أكثر واقعية وقرباً من أفكاره ورؤيته الشخصية للحفاظ على تلاحم المجتمع الامريكي وقبول طبقاته لبعضها البعض. كما أنه لايخفي إعجابه بالتجربة الاشتراكية الأوربية وكذلك الكندية ويرى فيهما حلاً للكثير من المشاكل الاجتماعية التي تواجه بلده. في حين أنه يرى العكس في الحزب الجمهوري، وخاصة في شريحة اليمين المتطرف من المحافظين الجدد التي تسللت إلى البيت الأبيض في عهد (ريغان) ثم قوت نفوذها في عهد (بوش الأب) واحتلته بالكامل في عهد (بوش الابن)، وأعادت انتاج نفسها بخطاب أكثر يمينية اليوم باسم (حزب الشاي). يرى مايكل في كل هؤلاء تناقضاً كاملاً مع نظريته للعدالة الاجتماعية، فالحزب الجمهوري برأيه يحصر اهتمامه في زيادة ثراء الأثرياء مهملاً الآخرين ومطبقاً المثل الشعبي القائل (أنا ومن بعدي الطوفان).
لاشك أن أقوى هجوم لمايكل على الجمهوريين وحلفائهم كان فيلم (سيبتمبر 9/11) عام 2004 والذي فضح فيه غاياتهم الحقيقية من غزو العراق قبل ذلك بسنة. فبين أن تلك الحرب ماكانت إلا خدمة تجارية لشركات النفط والسلاح والبناء في آن واحد وكذلك خدمة سياسية لحليفتها إسرائيل في المنطقة. والمضحك في الأمر أن إيران، وهي العدو اللدود المفترض لاسرائيل ولتلك الادارة الأمريكية، كانت هي في النهاية المستفيد الأكبر من هذه الحرب كونها وضعت العراق تحت نفوذها. طبعاً لا أعتقد أن مايكل أو غيره ضد أن تدخل بلده حرباً دفاعاً عن مواطنيها إذا تعرضت لعدوان، كما جرى مع أمريكا ودول الحلفاء في الحرب العالمية الثانية. ولكن أن تعلن الحرب لمصالح تجارية أو سياسية، فهذا مارفضه مور في فيلمه واتهم فيه إدارة (بوش الابن) علانية بأنها زجت بالفقراء ممن يشكلون غالبية أفراد الجيش الامريكي، لتحقيق مصالح الأثرياء منهم، ووصف الحرب بانها كانت حرب شراء (الدماء مقابل النفط). وهنا نراه يتفق مرة ثانية مع رؤية أميرالاي بأن القوة في النهاية موجودة في يد من لديهم المال، وإذا لم يحسنوا توظيفه، فالنتيجة ستكون حتماً أنهم سيشنون به الحروب والتي هي بالنسبة لهم تجارة مربحة ولامشكلة عندهم أن وقودها الدماء طالما أنها ليست دمائهم.
لاشك أن هناك الكثير مما يمكن قوله في فن عمر أميرالاي ومايكل مور ومقارنة تجربتهما في حقل السينما التسجيلية. ولكن ماأريد أن أختم به هذا المقال الذي كتبته في الذكرى السنوية الثانية لرحيل عمر التي تأتي بعد عشرة أيام (الخامس من شباط، فيبراير) أن مهمته كانت أصعب وأعقد بكثير من مهمة مايكل. ذلك أن أي معارض في سورية، مهما كانت طبيعة معارضته، يعمل تحت ظروف في غاية الخطورة. فالقانون والدستور في هذا البلد غير موجودين على أرض الواقع، وبالتالي فأي حركة غير محسوبة قد تؤدي بصاحبها إلى الاختفاء من الوجود، في حال أن نفس العمل في الدول الديمقراطية ليس له تلك المخاطر. ولهذا نرى أن تقنية استعمال عمر للكاميرا تختلف جذرياً عن تلك الخاصة بمايكل. فكون الأول لايستطيع قول مايريد بحرية، كان عليه أن يطور مهارة استثنائية في استعمال الكاميرا لتقوم بتلك المهمة، مما جعل من كاميرته النجم الحقيقي في كافة أفلامه وجعل تلك الأفلام أقرب ماتكون إلى الصامتة. وهذا يشبه إلى حد كبير (لغاة الاشارة) التي تم استبداعها ليعبر (البكم) الذين لايستطيعون الكلام عما يريدونه دون أن يتفوهوا بحرف. أما مايكل الذي بامكانه دائماً أن يقول مايشاء وأين يشاء، فنرى أن كاميرته لم يكن مطلوباً منها أي مهام استثنائية، بل مجرد التصوير فحسب. وقد اخترت صورة المقال بعناية لرمزيتها، فانظر كيف كان على عمر أن يعمل دائماً وهو في وضعية من يتجنب خطراً ما، في حين يبدو مايكل وكأنه ذاهب إلى رحلة صيد، لا إلى التصوير.