أشعار المبدع الراحل محمد المهدي المجذوب
أشعار المبدع الراحل محمد المهدي المجذوب
مبدع من الزمن الجميل
توثيقي للفن السوداني
سليمان عبد الله حمد
لا شك أن هناك على ساحة الشعر والشعراء السودانيين من لهم صولات وجولات قديماً وحديثاً فهذا نهر من الإبداع المتدفق على ضفاف النيل الخالد ، فكل جيل من الأجيال لهم ضرب من ضروب الشعر الذي لا ينفذ معينه فنجد أجيال الابداع الشعري السوداني ورموزه الكبار، هي دواوين: «من التراب «لمحيي الدين الصابر،» أم القرى «لعثمان محمد اونسة، «شيء من التقوى» للجيلي صلاح الدين، «على شاطي السراب» لابي القاسم عثمان، «في مرايا الحقول» لمحمد عثمان كجراي، «المغاني» لمصطفى طيب الاسماء، «شبابتي» لحسين حمدنا الله، «من وادي عبقر» لسعد الدين فوزي، «غارة وغروب» لمحمد المهدي المجذوب، «في ميزان قيم الرجال" لمحمد عثمان عبد الرحيم، «والوحي الثائر» لفضل الحاج علي، والمجموعة الشعرية الكاملة للشاعر محمد محمد علي. الى جانب الترجمة الانجليزية لرواية مهر الصياح للروائي السوداني المقيم في قطر أمير تاج السر.
تقدم هذه الدواوين ملمحا مهما من ملامح التجربة الشعرية السودانية ممثلة في رموزها الكبار وفي مختلف فنون القول الشعري، وتكشف جانبا من انحيازاتهم الجمالية الى القصيدة التقليدية الموزونة والمقفاة أو قصيدة التفعيلة أو الشعر الحر.
والميزة الاهم التي تطرحها بعض هذه الأشعار انها تضيء بدايات لرموز كبار اسهموا في صياغة المسار الابداعي للنص الشعري في السودان مثل محمد المهدي المجذوب ومحمد عثمان كجراي.
ولد محمد المهدي المجذوب عام 1919 م بمدينة الدامر شمال السودان، وتوفي عام 1982م.
يعد من المجددين في الشعر العربي والسوداني، ومن جيل ما بعد رواد النهضة الشعرية السودانية والعربية مباشرة. التحق بكلية غردون التذكارية وتخرج في قسم المكتبة.
حرر وكتب في عدة مجلات وصحف سودانية وعربية، وقدم لعدد من الكتب والدواوين، منها ديوان الشاعر محمد محمد علي وديوان الشاعر الناصر قريب الله وغيرهما. من دواوينه: نار المجاذيب (1969م). الشرافة والهجرة (1973م). منابر (1982م).
تلك الأشياء (1982م). «شحاذ في الخرطوم» صدر بعد وفاته (1984م)، كما صدر له بعد وفاته ديوانان هما: القسوة في الحليب (2005م)، أصوات ودخان (2005م). لم يؤسس محمد المهدي المجذوب اختلافه في سياق الشعر السوداني بالطاقة الإبداعية الهائلة لشعره فقط، بل لكونه علامة فارقة في خطاب شعري يتفجر منقطعاً عن تقاليد الكتابة الشعرية السائدة ومنفلتا من أسر العادة والتقليد، التي جعلت من الشعر السوداني «المكتوب بالعربية» مجرّد وكيل محيطي لشعر المركز العربي، يعيد تسويق نفس المنتج، وفق شروط خطاب المركز وآلياته بل وازماته. وأولى علامات خطاب اختلاف المجذوب هي افراغ عمود الشعر العربي من محمولات المركز الدلالية وشحنه بجماليات المكان «طبوغرافيا وجودنا الحميم» بتعبير باشلاء، فشعر المجذوب في أهم ملامحه هو تجلي لمحمولات المكان الثقافية ولعلاماته وهي تخرج من سياقها في السوسيولوجي إلى سياقها الجمالي في النص الشعري، فمحتوى العلامة ومادتها الاساسية ذات علاقة عضوية بالمكان، والاصوات المتحدثة في النصوص ذات إنتماء عضوي وحميم إليه، ولها امتدادات حيوية داخل تربة وشروط الثقافة السودانية - نمط الحياة وتاريخ الشخصية واتجاهاتها المرتبطة بالمكون الساسي في الوعي واللاوعي .
هذا الخروج عمّا اسميته افراغ عمود الشعر العربي من محمولات المركز الدلالية وشحنه بجماليات المكان، تصاعد ليعقبه خروج آخر على مستوى العمود نسه والبنى الإيقاعية المرتبطة به، حيث قام المجذوب بتشظيه وحداته الايقاعية واعادة ترتيبها من جديد في نصه، وفق شروط تنسجم مع مشروعه الشعري الذي يسعى لتحقيق إنفلاته من رق عادات الكتابة السائدة على مستوى الفحوى والشكل. هذا الخروج بلغ ذروته في نصي «البشارة الخروج، القربان» و «شحاذ في الخرطوم»، جاءت هذه التحولات الحاسمة في ظل خطاب شعري استفاد من منجزات الثورة التي أحدثها الخيار الرورمانسي في الشعر خاصة فيما يتعلق بالاحتفال بالعادي واليومي، التي أصبح بعدها كل الكون موضوعا للشعر ومادة له في اول خروج مؤزر على معازل الشعر وتقاليده الموروثة، فكانت نصوص المجذوب مسرحا ابطاله القرى وبائعات الكسرة وماسحي الاحذية والدراويش والتفاصيل الصغيرة، والعلامات التي افلتها المجذوب من عقال المسكوت عنه ومعازل اللا مفكر فيه لتتسنم ذروة المشهد الجمالي في النص وتؤكد حضورها في مرموزيته عبر جماليات الاحالة وجماليات المكان.
لم يكن المجذوب يصدر عن طاقة وقدرات مرتبطة بشروط آنية وعارضة، يستنفدها الزمن وقوته المدمرة ،فعلاماته ورموزه الشعرية تستمد قدرتها على الصمود من صدورها عن خطاب شعري، وليس من موقف اجتماعي آني وعابر، بل إن الموقف الاجتماعي هو أحد العلامات الدالة على رسوخ هذا الشعر في المشهد الإنساني في اعمق حلقاته أسى وفقرا وألم، لذا فإن شعر المجذوب يستمد كونيته وإنسانيته الخلاقة من إنتمائه العميق لأحلام وأزمات وطموحات فئات واسعة، ظلت تصنع الحياة لفئات أخرى محدودة وتزوى في معازل النسيان. لقد أعاد المجذوب كنوز الشعر إلى الإنسان بعد ان ظلت لعود طويلة ملكا لشروط خارجه واعاد الاعتبار إلى أشياء كانت تحجل خارج دائرة الشعر.
ديوان " غارة وغروب " :
اشتمل ديوان «غارة وغروب» الصادر عن وزارة الثقافة والفنون والتراث، على إحدى وخمسين قصيدة تتراوح تواريخ تأليفها بين مطلع الاربعينيات، والخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وتلتزم كل القصائد النموذج التقليدي الملتزم باوزان الخليل وبحوره، وتعبر عن مكنة ودربة عالية في توظيف جماليات القصيدة التقليدية لأداء رسائل ذات طبيعة وهموم معاصرة، وتلك من ميزات المجذوب الذي حذق الكتابة بالشكل التقليدي، وعبر من التقليد الى الحداثة والتمرد على الاشكال السائدة الموروثة بمعرفة وحذق ورؤية.
كما تعكس النصوص الحس الفلسفي العميق في معالجته للأفكار والتفاصيل من مشارف التجربة، وهو ملمح لازمها حتى رحيله، وتشف النصوص عن انتماء المجذوب الذي لا يقبل المساومة للفقراء والمعدمين والمهمشين في المجتمع والاقتصاد والسياسة، فتجد في قصائده انتصارا دائما لهؤلاء وانحيازا دائما اليهم.
هذا مبدع من ذاك الزمن الجميل ... ليت حواء السودانية تعيد سيره هؤلاء من خلال التشبه بهم ولو التقليد لهم ولكن برؤية فيها كثير من ملامح أهل السودان الطيبين ...
هذه وقفات مع مبدع من ذاك الزمن الجميل ، في زمن قل فيه الإبداع والمبدعين ،، مع تحياتي حين يحين اللقاء مع مبدع وزمن من ذلك الزمن الجميل ...