المسرح الإسلامي إلى أين

د. نعيم محمد عبد الغني

بعد مسرحيتي أحمد الصديق وعبد السلام البسيوني عن العلامة القرضاوي

هل هناك إمكانية لإنتاج مسرح إسلامي

ذي مضمون جاد؟

د. نعيم محمد عبد الغني

[email protected]

تنبع أهمية هذه الرؤية من أنها تأتي في ظل إشكالية العلاقة بين الدين والفن، تلك الإشكالية التي ما زالت مطروحة للبحث والدراسة، فمن الناس من يرون الدين في خصام نكد مع الفن، فهو يحرمه ويجرمه، ومنهم من يرى أن الفن ضروري للإنسان؛ ومن ثم يرى أن بين الدين والفن علاقة  حميمة، لا ينبغي أن تقطع، بل يرون الفن فريضة قد تكون غائبة عند كثير من الناس، ولست في مقام عرض رأي الفريقين والترجيح بينهما، فذلك له مكان آخر، ولكننا بصدد قراءة عجلى لنص مسرحيتين: الأولى بعنوان "مجمع القرود" لمؤلفها الشاعر أحمد صديق، وقد نشرت في ديوانه "نداء الحق" عام 1972م والثانية "اقتلوا يوسف" التي تتحدث عن شخصية الشيخ القرضاوي والتي كتبها الشاعر عبد السلام البسيوني.

واختيارنا للمسرحيتين له أسباب:

الأول: أن المسرحيتين شاهدهما الشيخ فشاهد "مجمع القرود" عام 1966 قبل حصوله على الدكتوراه كما يذكر الشاعر أحمد صديق، ورأى "اقتلوا يوسف" عام 2009م، والشيخ يدعو إلى أن استخدام الفن وسيلة ناجعة لنشر الفضيلة، لما له من تأثير قوي في نفوس الناس.

الثاني: أن المسرحيتين تتحدثان عن الشيخ القرضاوي ولكن "مجمع القرود" تتكلم بأسلوب غير مباشر، ومسرحية "اقتلوا يوسف" تتحدث بصورة مباشرة عن الشيخ

الثالث: أن المؤلفين لهما توجه ديني مشترك، فكلاهما يبحث عن مضمون جاد في قالب فني معروف.

وقراءتنا للمسرحيتين ستكون في ضوء ما كتبه شيوخ النقاد في المسرح كمحمد مندور  والدكتور رشاد رشدي ومحمد غنيمي هلال؛ لنصل إلى إجابة على سؤال يقول: هل هناك إمكانية لإنتاج مسرح إسلامي ذي مضمون جاد، وتقنيات فنية عالية، أم أن القالب المسرحي لا يمكن أن تصاغ فيه مضامين إسلامية، ومن ثم ينبغي أن يولي الإسلاميون وجههم شطر جنس آخر من الفن، كما برعوا قبل ذلك في الإنشاد الديني الذي كان الخلاف فيه أقل؟

وبداية فالمسرحيتان من قالب المسرح الشعري الذي تأتي فيه الحوارات موزونة بشعر سريع الإيقاع، سهل اللفظ، عالي الجرس، وهذا القالب هو ما نجح فيه الشاعران إلى حد كبير.

ثانيا: المسرحيتان تدوران في فكر واحد يتمثل في الداعية الذي يواجه بأعداء كثر، والفرق بينهما لا يعدو أن يكون فرقا في الأسماء وفي الأوصاف إلا أن الداعية في مسرحية "اقتلوا يوسف" مصرح به وهو الشيخ القرضاوي، ويرد على الشبهات التي تعرض عليه، أما في مسرحية "مجمع القرود" فالشبهات لا تأتي كلها أمام الداعية، بل إن كثيرا منها يشرح مذاهب كالماركسية والشيوعية وغيرها في إطار هجومه على الداعية زاعما أن مذهب الحق، وأن ما سواه باطل. ولكنا نقرأ في مسرحية أحمد صديق من طرف خفي أنه لا يتحدث عن القرضاوي فقط بل يستطيع المتتبع لسيرة سيد قطب أن يلمح حديث الشاعر عنه، ومن ثم يكون أحمد صديق نجح في أن يحول مسرحيته إلى تجربة إنسانية عامة تنطبق على سيد قطب وغيره، رغم ما صرح به أن الداعية قد كتب قبل ذلك عن المرأة ثم بعد انضمامه إلى الإخوان وعدوله عن الكتابة في الأدب كتب عن الحاكمية وغيرها من أفكار أثارت ثورة عرضها كثير من الناس. ولا ندري هل كان يقصد الشاعر الشيخ القرضاوي أم سيد قطب خصوصا أنها كتبت في مرحلة اضطهاد الإخوان وبعدها أعدم الشهيد سيد قطب، وكان الشيخ القرضاوي في قطر ولو ذهب إلى مصر لعاد إلى المعتقل مرة أخرى. ومن ثم فإنها من الممكن أن تكون قد ألفت تأثرا بما حدث لسيد قطب وبعدها تشابهت تجربة سيد قطب مع الشيخ القرضاوي في أمور فقال مسرحيته، وهذا الاحتمال يجعلنا نقول إن مسرحية "مجمع القرود" بها قدر من الاستقلال الفني ويقصد به أن يحول الأديب التجارب الشخصية إلى تجارب إنسانية عامة، وإن كان الشاعر أحمد صديق لم يتخلَّ عن الواقعية كثيرا، ووقع في التقريرية المباشرة من صوغ الأفكار والمذاهب على لسان أصحابها، وهذا غير مناسب فنيا، فاستقلالية الفن المسرحي لا يشترط فيها الصدق؛ لأن "القيم الإنسانية تقوم على أساس الإيحاء  لا التصريح" كما يقول الدكتور محمد غنيمي هلال في كتابه في النقد المسرحي.

وهذا الإيحاء لا يتطلب الصدق والواقعية وذلك ما يذكره الدكتور رشاد رشدي في كتابه فن كتابة المسرحية بقوله: "فمهما بلغ الصدق ومهما بلغ الانتقاء، ومهما كان إحساس الفنان بالأزمة أو المشكلة فهذه كلها مسائل عاجزة عن أن تخلق عملا فنيا؛ لأن الفن خلق لا نقل" ووجهة نظر الدكتور رشاد رشدي تعتمد على أن الفن خلق عالم له كيان مستقل عن صاحبه أو عن الإحساس الذي سيطر على صاحبه، بحيث يذوب ذلك الإحساس في هذا العمل الفني فيصبح من بعد عملا فنيا مستقلا، والمسرح كالشعر لا يهم فيه أن يكون الكاتب واقعيا أو غير واقعي. ومن ثم فخطورة العمل المسرحي تكمن في عدم الاستقلالية، بحيث تتعدى حدوده إلى جنس أدبي آخر يقنع بنقل الواقع كما يحدث في الرواية التي تتضمن التقرير باعتبارها فنا وتاريخا، ولا يعيب المسرحية أن تكون بعد ذلك غريبة، المهم أن تكون مستقلة بنفسها، لا أن تكون نسخا للواقع كما هو بحيث تتكون الدراما التي يقول عنها محمد مندور إنها مهمة في أي عمل مسرحي.

ومسرحية "اقتلوا يوسف" بتصريحها في شخصية القرضاوي فقدت الاستقلالية الإنسانية للداعية؛ فمع تقديرنا لشخصية القرضاوي وإيماننا بأنه شخصية نموذج للداعية إلا أن تجربة القرضاوي لها خصوصيتها عن تجارب الدعاة الآخرين. ومن ثم نرى أن عنصر الدراما في مسرحية "اقتلوا يوسف" مختلف عنصر الدراما في مسرحية "مجمع القرود"، فكما سبق أن قلنا إن العمل المسرحي لا بد أن يكون مستقلا فنيا، ولا تتحقق استقلاليته إلا من خلال توفر الدراما التي يعرفها الدكتور رشاد رشدي بأنها حدث  يصدر عن شخصية لها احتكاك بالآخرين. "أما أن تكون الشخصيات مجرد أنماط سلوكها مرسوم ومسبق عليها أو مجرد دمى تدعو إلى فكرة معينة أو تتحدث بلسان المؤلف فهذا ليس من الدراما في شيء؛ فقد تكون قادرة على تسليتنا أو نقل أفكار المؤلف إلينا، ومهما بلغت درجة نجاحها إلا أنها ستظل عاجزة عن إحداث الأثر الدرامي؛ لأنها في الحقيقة ليست عملا فنيا على الإطلاق إذ لا تعدو إلا أن تكون مجرد نقل لما هو موجود أو مألوف وليست خلقا لما لم يكن موجودا أو مألوفا، ومن ثم فشخصيات المسرحية لا تبنى على أساس طبيعتها بالحياة بل على أساس علاقتها ببعضها البعض، فتنشئ خلقا آخر لم يكن موجودا من قبل.

والدراما تعتمد في الأساس على الصراع الذي هو من وجهة نظر ساذجة صراع بين الأضداد، بين الحق والباطل، والخير والشر، والأسود والأبيض ...إلخ، ولكن الصراع الدرامي ينشأ من جهل أحد الطرفين بحقيقة الآخر، رغم اشتراكهما في العلم بقسط من الحقيقة، وتتطور الشخصيات في المسرحية بالقدر الذي نتفي جهل أحد أطراف الصراع بحقيقة الآخر، وليس تطور الشخصيات مقصود به أن تتحول الشخصية في المسرحية من الخير إلى الشر والعكس كما يرى البعض.

إن الصراع الدرامي في المسرحيتين يقوم على فكرة التضاد بين الحق والباطل، لا على فكرة تطور الشخصيات والأحداث إلا في مواضع يسيرة، ففي مسرحية اقتلوا يوسف مثلا تنتفي الجهالة عن شخصية الشاب عندما يقرأ ما كتبه الشيخ فيعدل عن بعض سلوكياته وأفكاره، ويبدأ في محاورة الشيخ ليزيل بعض الجهل الذي كان عنده من شخصية الشيخ وهذا فنيا جيد، ولكن رغم جودته لم ينشء صراعا دراميا؛ لأن العمل في مسرحية "اقتلوا يوسف" ذاتيا وليس عاما مستقلا. أما مسرحية "مجمع القرود" فإنها كانت إلى حد كبير عامة مستقلة، حيث تتطورت فيها الأحداث التي وإن كانت مألوفة ولا تعدو أن تكون نقلا لواقع الداعية المبتلى إلا أن تطور الأحداث والشخصيات حدث فيها، وإن كان التطور في مواقف الشخصيات قليل جدا مثل ما رآه أحدهم من ثبات الداعية أثناء تعذيبه على يد زبانية الشرطة، وما يجده من إعجاب لبعض من يهاجمونه، فيخشى أحدهم أن تتحول هذه الشخصية وتتطور تدريجيا لتعرف الجهالة التي بينها وبين شخصية الصراع الرئيسية فيقول: ما الذي يجنيه غير الموت من هذا التمادي؟! إنه لاشك مغرور..عريق  في الفساد...إلخ ما يكيل إليه من اتهامات تصرف الشخصية عن محاولة تعرف الجهل من الشخصية الأخرى، وبذا يموت الصراع وليدا.

وفي رأيي المتواضع أن الكاتبين فرضا رأيا على الناس، وانطلقا من فكرة - مع إيماننا بها- إلا أن التكنيك الفني فيها لم يكن متكاملا، فوظيفة المسرح كما يقول الدكتور رشاد رشدي "ليست في عرض الرأي أو فرضه على المتفرجين، بل في إثارة العواطف الإنسانية في نفوسهم من شفقة إلى خوف إلى حب إلى أمل إلى حنين فبمثل هذه العواطف يتطهر البشر ويتخلصون مما كان شخصيا بعد أن يحيله الفن إلى جسد موضوعي.

ورغم ذلك أقول إن هاتين المحاولتين بداية طريق لإنشاء مسرح إسلامي، ولكن ما زال الطريق طويلا، فلئن اكتمل القالب الشكلي للمسرح الشعري في بعص ما كتب إلا أن البناء الفني في حاجة إلى المزيد، ولا ننسى ما كتبه الأدباء الإسلاميون في هذا المجال كنجيب الكيلاني وغيره، ونحن في حاجة لجمع كل ذلك مع ما كتب من كل التوجهات وهضمه جيدا وإخراج أعمال مسرحية إسلامية تملأ فراغا على الساحة ما زال موجودا.

تلك كانت نظرة عجلى على المسرحيتين والحديث موصول عنهما في مقالات تالية إن شاء الله بتحليل أرجو أن يكون بشمولية أكثر وتحليل أعمق. 

عناوين فرعية

1- الصديق سمى مسرحيته مجمع القرود، والبسيوني أطلق عليها "اقتلوا يوسف"

2- المسرحيتان تناقشان العلاقة الجدلية بين الدين والفن

3- المسرحيتان شاهدهما الشيخ القرضاوي بالدوحة

4- المسرحيتان بداية طريق لإنشاء مسرح إسلامي