السينما والرواية المصرية في إذكاء روح المواجهة
السينما والرواية المصرية
في إذكاء روح المواجهة
يسري الغول
"وجه القاهرة غريب عني... أحاديث الناس تغيرت. أرى وجه المدينة مريضاً يوشك على البكاء، امرأة مذعورة تخشى اغتصابها آخر الليل". هكذا ابتدأ جمال الغيطاني روايته المعروفة "الزيني بركات" مواجهاً الدولة بحقيقة غفلت عنها، أو تناستها في خضم التعذيب والقهر الذي مارسته طوال عقود طويلة مضت. ولعل الحديث حول تأثير الأدب المصري وتحديداً الرواية المصرية على ثورة 25 يناير 2011 يكاد يكون له الدور الأبرز في إلهاب النفوس وإذكائها ضد إرهاب الدولة، واستبداد السلطة. حيث أصبح مجرد وجود (أمين الشرطة) في المكان، يمثل عنصر قلق لمجتمع بأكمله بسبب الرشاوى والإهانة التي أرهقت المواطن المصري، حسب ما يذكره الروائي خالد الخميسي في "تاكسي، حواديت المشاوير" وفيلم "هي فوضى" لخالد يوسف.
الأدب المصري بشكل عام، كان وما يزال ذو تأثير فاعل في أروقة وأزقة العشوائيات المصرية، والمقاهي الشعبية التي ضُجت بأدب البؤس والحرمان وقسوة الجوع والفقر والاضطهاد. علماً بأن ذلك لم يكن في عصر الرئيس مبارك وحده، بل سبقه بكثير، إبّان حكم عبد الناصر والسادات ومن سبقوهما من الملوك والمماليك أيضاً، وقد ظهرت إشارات واضحة حول إرهاب تلك الأنظمة في عدد من روايات يوسف القعيد ويوسف إدريس ونجيب محفوظ وغيرهما. ولعل رواية (الكرنك) لنجيب محفوظ كانت بمثابة ناقوس يُقرع، كي تلتفت الأنظمة الاستبدادية إلى الواقع المرير الذي وصلت إليه الأمة بسببها.
في تلك الفترة أيضاً كان الفن السينمائي المصري، يشارك الرواية والقصيدة المصرية الهموم، فتم ترجمة (الكرنك) على أرض الواقع من خلال إنتاجه سينمائيا عام 1975، وتم إنتاج فيلم وراء الشمس والبريء لأحمد زكي، رغم أنه لم يتم عرض الأخير إلا بعد موافقة وزير الثقافة السابق فاروق حسني على عرضه في دور العرض والسينما والمحطات بعد منعه لسنوات طوال. ولقد شعر المشاهد العربي بالمرارة حين شاهد فيلم "إحنا بتوع الأتوبيس" لعادل إمام وعبد المنعم مدبولي، ذلك الفيلم الذي نفى آدمية الإنسان وأظهر سطوة المحقق وجبروته حين يأمر السجناء بالنباح وتقليد الكلاب، وهم يُضربون بالسياط. فالسادية التي يعاني منها معظم الضباط المصريين بدت واضحة في السنوات الأخيرة، حيث ظهر تعذيب الشبان المصريين وإهانتهم في مواقع اليو تيوب والفيس بوك وغيرها. ولعل هذا ما تحدث عنه الأسواني في روايتيه عمارة يعقوبيان وشيكاغو.
المخرج المصري خالد يوسف، أراد أن يصل بالشارع المصري إلى فوهة البركان. فقد كانت أفلامه الأخيرة تعمل بشكل مباشر وواضح على إذكاء روح المواجهة مع السلطة، ففيلم (دكان شحاته)، يصف ما وصلت إليه حال البلاد من فقر يدفع بسكان القرى لسرقة الطحين والمونة أثناء مرور أحد القطارات المحملة بتلك البضائع، الأمر الذي فجر حالة من الصحوة لدى المصريين في الداخل والخارج لفهم ما يجري في المحروسة مصر. أما فيلمه (هي فوضى)، والذي جاء كختام لرحلة المخرج المصري يوسف شاهين ومشاركة تلميذه خالد يوسف، يجسد بانورما جامعة لصور الفساد والفوضى التي عايشها المجتمع المصري في العقد الأول من الألفية الثالثة. وتدور أحداث الفيلم بشكل أساسي حول شخصية واحدة وهي شخصية أمين الشرطة، فيبرز الفساد المتجسد في القمع المباشر والرشوة والمحسوبية وتزوير الانتخابات والسيطرة الغاشمة للسلطة والكبت الجنسي. كما يبرز الفيلم نوعا من المقاومة وصولا إلى ثورة جماعية في النهاية. فيلم (حين ميسرة) يتعرض للمهمشين والمسحوقين اجتماعياً واقتصادياً، وهم سكان العشوائيات ومشاكلهم المؤلمة. وليست أفلام خالد يوسف وحدها التي دقت جدران الخزان وإنما هناك العديد من الأفلام الأخرى، مثل فيلم عزبة آدم، التي تظهر الضابط (سعد) كيف يقوم بتلفيق القضية لأحد المتورطين رغم أنه ليس القاتل مقابل أن يعمل الآخر (القاتل) كمخبر لسعد في القرية، وهذا ما يجري في كثير من أقسام الشرطة وفي القرى المصرية والصعيد. وفيلم (طباخ الريس) رغم أنه يجعل الرئيس مغيباً عما يجري في مصر، إلا أنه يحاول أن يقول بأن مصر الكنانة في ورطة من حفنة الليبراليين والأرستقراطيين المتشبثين أو المتعاونين مع رجالات السلطة والحكم.
عام 1989 كتب الروائي المصري جمال الغيطاني روايته (الزيني بركات) وكانت محاولة لاستنهاض التاريخ والماضي من أجل توضيح الحاضر، حيث يقول الباحث إبراهيم السعافين حول تلك الرواية "بأنها عالجت ظاهرة القمع والخوف واتكأت على أسبابها وبينت مظاهرها المرعبة في الحياة العربية، فالغيطاني حين يحاصره الراهن بقمعه واستبداده وقهره، حين يمارس أقسى أشكال العنف والرعب والقهر في السجن المعاصر يعود بنا مستنطقاً تاريخ ابن إياس (بدائع الزهور) ليجد صورة مرعبة لكبير البصاصين الشهاب الأعظم زكريا بن راضي ووالي الحسبة الزيني بركات... يُسقط هذه الصورة على الحاضر بل يُسقط الحاضر عليها فيبني منها ما هو أقل إيلاماً من الحاضر."
لقد أرسى الغيطاني سمت القمع في تكوين شخصية مصرية مهزوزة ومهزومة من الداخل، وهذا ما جعل الدكتور محمد صلاح وهي شخصية ديناميكية متخيلة في رواية شيكاغو لأن ينتحر حين لم يستطع أن يقول أمام الرئيس المصري في أمريكا (كفى استبداداً للسلطة وكفى لإرهاب الدولة، ولا لقانون الطوارئ) لأنه خشي من اغتصاب أخواته في مصر أو أي من أقاربه هناك.
هُزمت النفوس المصرية بيد كبرائها ورؤسائها، وهذا ما دفع الغيطاني أن يتجه في روايته بغير ما تجرأ به أدباء العولمة اليوم، ليخبرنا كيف هزموا. فقد كانت الرمزية تغلب على أعماله، شأنه شأن كثير من الأدباء العرب المقموعين المضطهدين في بلادهم، وهذا ينقلنا إلى مربع الأدب العربي بشكل عام، لنرى كيف اتجه إيميل حبيبي في روايته "المتشائل" مستخدماً الرمزية المفرطة، خشية من بطش المحتل الذي مارس القهر ضد فلسطينيي الداخل، كما كتاب العراق أيضاً الذين غمرتهم الفنتازية إبان عهد الرئيس الراحل صدام حسين، فكتب محمد خضير "في درجة 45 مئوي"، و"بصرياثا" وكتب أحمد خلف "خريف البلدة" و"في ظلال المشكينو" وذلك بغير ما كتب أدباء المهجر العراقيين الذين اتسمت أعمالهم بالواقعية والسوداوية المفرطة مثل قصائد الشاعر مظفر النواب، وتلميذه أحمد مطر الذي عرّف طبيعة المرحلة بلافتاته القوية والصارخة، وأذكره حين قال: "صرخت لا من شدة الألم/ لكن صدى صوتي/ خاف من الموتِ/ فارتد لي نعم". لقد تستر كتابنا خلف أحصنة الفنتازيا والماضي من أجل صون الرأس وما حوى. فهذا الروائي والقاص السوري زكريا تامر استطاع أن يصنع لنفسه مدرسة من أهم مدارس القصة العربية، حين انطلق من الكوميديا السوداء في جميع أعماله، كإشارة حمراء توحي بما قد تؤول إليه الأمور في الوطن المضطهد. وهذا مؤنس الرزاز الذي تزخر أعماله بالفنتازيا في مذكرات ديناصور، واعترافات كاتم صوت وأحياء في البحر الميت، وسلطان النوم وزرقاء اليمامة، والكثير الكثير من الأعمال التي أعلنت عداء المثقف والمثقفين مع السلطة.
ومع انفتاح المجتمعات العربية بسبب العولمة، والتطور التكنولوجي، كانت مرحلة جديدة تدفع بالمصريين إلى مواجهة النظام الحاكم في محاولة لتحريك المصري ، فعمارة يعقوبيان التي صدرت عام 2002 لعلاء الأسواني، والتي أنتجت كفيلم ومسلسل مصريين أيضاً، تمثل ضربة قاسمة للنظام القائم حينذاك، فقد أظهر الفيلم مدى بشاعة القمع والإرهاب الذي تمارسه الأجهزة الأمنية، من خلال اغتصاب الشبان وضربهم بالسوط وقتلهم لو اقتضى الأمر. كما عرّج الأسواني على ظاهرة فساد أنظمة الحكم، وفساد الحزب الوطني أيضاً ودور كمال الفولي في تزوير الانتخابات وشراء الذمم مقابل أموال باهظة تدفع له ولغيره. ويتطرق الروائي أيضاً إلى الفقر المجتمعي الذي وصلت إليه البلاد بسبب طغمة الفساد الحاكمة، حيث باتت الفتيات عرضة للزنا مقابل لقمة العيش يدفعهن في ذلك الأمهات من أجل غريزة البقاء. وقد ظهرت أزمة (بيع الجسد) في عدد من قصص الروائي والقاص المصري سعيد الكفراوي. الأمر الذي يوضح أسباب قضايا السعار الجنسي المنتشرة اليوم في مصر بكثرة، فالفساد المالي والإداري والفقر المدقع في مصر الكنانة وتدهور أخلاق الشبان المُتغاضَى عنه من طرف النظام، هو ما يؤطر لحالة السعار تلك، حيث يعرض الآن فيلم 867 حول قضايا التحرش الجنسي، وهو ما يعتبر دليلاً بأن المثقف والأديب والفنان اليوم في مواجهة مع السلطة التي تغض الطرف عن تلك القضية الخطيرة.
إن دور الأدب مهماً جداً لإحداث الهبة الثورية، وهو ما حدث بالفعل، فتأججت النفوس بسبب الكم الهائل من الاحتقان الداخلي، فالمثقفين والأدباء والفنانين عجّلوا بحركة التغيير، وهنا يجب أن نعود إلى رواية شيكاغو التي تحدثت عن عدة مخاطر، أهمها قضايا التعذيب التي مارسها (صفوت بك) بخلاف المحققين الآخرين، فهو لا يقوم بالقتل أو التعذيب الجسدي وإنما يمارس التعذيب العصبي والنفسي، حيث يقوم بإحضار زوجة المعتقل السياسي أو أمه ليمارس معها أحد الجنود الجنس أمام نظر الابن أو الزوج وصفوت بيك يضحك ويقول (الخير في العتاقي) لتنهار شخصية المصري الفتية. ثم ينتقل الأسواني إلى مشكلة الأقليات الدينية في مصر، وأهمها مشكلة الأقباط، التي أنشأ من أجلها النظام جهازاً لإحداث الفتنة بين المصريين لضمان بقاء سلطاتهم، وهذا برز في فيلم عادل الإمام وعمر الشريف الموسوم بـ(حسن ومرقص). ولعل قضية اتهام وزير الداخلية السابق حبيب العادلي بتفجير الكنسية القدسين دليل واضح على ما كانت تقوم به الأنظمة المستبدة لبقاء سلطانها.
كتب كثيرون في قصصهم ورواياتهم حول المعاناة في أقبية السجون، والقلاع الأمنية داخل الأزقة المصرية، فبهاء طاهر، الذي أعلن بعد أحداث 25 يناير عن رفضه جائزة مبارك التي حصل عليها عام 2009. تحدث بوضوح في مجموعته الأخيرة (لم أعرف أن الطواويس تطير) 2008 عن العربدة التي يمارسها أزلام النظام في الأزقة والأحياء المصرية، في قصة سكان القصر. كما جال فؤاد قنديل في أعماله الروائية والقصصية في عالم القمع والاضطهاد والفقر والجوع والحرمان، ولعل ذلك بدا واضحاً في أعماله الكثيرة، مثل موسم العنف الجميل وقبلة الحياة وعصر واوا ولاكم الليل ورائحة الوداع. وقال بعد نجاح الثورة المصرية الأخيرة:" إن الشباب المصري قام بأهم ثورة في التاريخ المصري كله، وكان يجب القيام بها، لأن الأوضاع في عهد مبارك كانت الأسوأ، حيث هناك ترّدٍ في جميع القطاعات، والشباب يتعرضون للإهانة في أقسام الشرطة..." يؤكد ذلك الروائي المصري المعروف إبراهيم عبد المجيد، صاحب رواية "لا أحد ينام في الإسكندرية" و"الصياد واليمام" التي أُنتجت كفيلم سينمائي قبل عامين، فيقول "إن نظام مبارك فاشي ودكتاتوري وكاذب، يختلق خديعة جديدة بتلبية مطالب بسيطة وبتسليط البلطجية وقطاع الطرق واللصوص..". أما خالد الخميسي الذي صدرت له رواية "سفينة نوح" قبل أعوام والتي خاضت في معاناة المهاجرين المصريين ونزوحهم، والمعاناة التي يلاقونها من أجل الهرب إلى مصر، ثم فاجأ الجميع بحواديت المشاوير، كتابه الموسوم بـ"تاكسي" والتي رغم بساطة لغتها، إلا أنها استطاعت نقل معاناة الشارع المصري دون مواربة، فقد أصبح المجتمع شحات بسبب الفقر ويختلق القصص التي تدمى لها القلوب من أجل أن يمُن أحد الركاب على السائق ببعض القروش، وغيرها.
كل ذلك دفع بالشارع المصري لأن يجلس على فوهة البركان، وأن يؤجج مشاعر الغضب في نفوس المصرين ينتظرون ساعة الحسم التي جاءت على غفلة من الزمن، وباغتت الأنظمة الاستبدادية. أشعل فتيلها هؤلاء المثقفون، والفنانون الذين رسموا لوحة جديدة لمجتمع مصري حر، بعيداً عن قيادة الطاغوت الفاسدة والمستبدة.