مسلسل ضيعة ضايعة
قراءة في المضمون
مدى النوري
* أولاً: البُعد العقدي:
يمثل المسلسل الساخر الكوميدي الذي انتهى عرضه مؤخراً تحت عنوان (ضيعة ضايعة) جزءًا من البيئة الساحلية في سوريا، أي: اللاذقية وما جاورها من جبال ومدن وقرى وجُزر، وهم يتحدثون بلهجات مختلفة. والممثلون في هذا المسلسل غالباً من تلك البيئة.
وأُلفِت هنا إلى أمر عقَدي هام، وهو المقدمة التي تكررت في قرابة 60 حلقة من هذا المسلسل، بعد أن تنتهي الشارة، وهي تتلخص في أن الإنسان الآن يعيش في زمن العبودية للعولمة، وهذه مقولة خطيرة تختفي وراءها آلهة (التكنوقراط) التي يزعم المؤمنون بها أنها هي من له القوة والقدرة على التحكم في الأرض من خلال الدول الكبرى!
* ثانياً: البعد الفني:
إذا كان العمل الأدبي تشويهاً للواقع.. فإن الكوميديا السوداء، العبثية، تعدُّ بذلك تحسيناً للواقع، وطريقاً للاقتناع به من خلال الإضحاك المؤقت!
وأعتبر المسلسل من الكوميديا السوداء لما بينهما من نقاط الالتقاء. ويكفينا عن الشرح عنوان المسلسل، والذي يعبر عن صميم التراجيكوميديا، وهو (الضياع).
ولست هنا أتناول العمل من وجهة نظر فنية، ولكن من وجهة أخلاقية، وقد أحببت الإشارة من خلال العنوان إلى أن هذا العمل عبثي، غائم الهدف، لا نجد منه سوى الإضحاك المنتهي بما يشبه البكاء، وهكذا الكوميديا السوداء، تنتهي بأحداث غير سعيدة، ولا تعود بفائدة على المتلقي.
وبعد متابعاتي لبعض الأعمال الكوميدية التي يغلب عليها الطابع السياسي، في الإعلام والأدب المكتوب والكاريكاتير، أجد أن هذه الأعمال تكاد تخلو من الفائدة، ولا أجد أن لها تأثيراً على الفكر، ولهذا لست في صف أدب الهزل.. فماذا سيستفيد المشاهد من تناول مشكلة ما والضحك عليها فقط، بدون محاولة السعي لحلها؟!
ومن المهم أن أذكر في هذا البُعد أن المسلسل اعتمد في غالبه على التكرار اليومي للأحداث، فالضرب والمخفر والسرقة والتجسس ومشاهد الخيانة وغيرها؛ كلها تتكرر في كل حلقة لتشكل أحياناً نصف الحلقة!
* ثالثاً: البعد الإعلامي السياسي: ترييف المدينة:
اتجهت بعض الدول مؤخراً إلى تنفيذ ما يسمى بـ (ترييف المدينة)، من خلال إحاطة المدن بالتجمعات الريفية المختلطة والتي تكون غالباً غير مراقبة أخلاقيًّا ويغلب عليها الجهل والفقر، ويكون ترييف المدن أيضاً ببث الأغاني الريفية داخل مجتمع المدينة بعد أن كانت غائبة عنه عشرات السنين، ويكون كذلك باستيلاء بعض الريفيين بطرق غير شرعية على ممتلكات وتجارة أهل بعض المدن بعلم من الأجهزة الحكومية، وبترك مئات الآلاف من الريفيين في المدينة بدون تحضيرهم ودمجهم في مجتمع المدينة بشكل إيجابي، وكذلك يكون بتحبيب أهل الريف – من المغايرين في الفكر والعقيدة – إلى أهل المدن من خلال الإعلام؛ وهذا رأيناه جليًّا في (ضيعة ضايعة) التي يزعم من يقوم عليها بأنها تهدف إلى البساطة والتعايش مع الطبيعة.. مع أن الأمر غير ذلك تماماً. ولهذا كله أبعاد سياسية يطول شرحها في هذا المقال المقتضب.
* رابعاً: البعد الاجتماعي:
إذا تعمقنا في مجتمع قرية أم الطنافس في هذا المسلسل، فسنجد أنه – على صغره - مجتمع موبوء بالمشكلات الاجتماعية، وأذكر على سبيل المثال: العلاقات الزوجية، حيث لا توجد في هذه القرية علاقة زوجية متكافئة، حيث نجد أن جودة دائم الضرب لزوجته، والمختار دائم السب لزوجته، وصاحب الدكان كثيراً ما يحتقرها، وزوجة أسعد تشتكي من ضعفه وسذاجته. ولعل الفقرة التالية توضح هذه الفقرة أكثر:
* خامساً: البعد الأخلاقي:
من المعروف أن إدخال الأخلاق السيئة على المجتمع المحافظ يأخذ وقتاً طويلاً من أهل الفساد، ولكن إذا جاء ذلك بقالب مشوق طريف فإنه يوفر عليهم الكثير من الجهود ويقلّصها ويزيد من مفعولها، وهنا نرى مجموعة من مساوئ الأخلاق تجري يوميًّا بدون أن يتم وضع حل لها، ومنها:
1- خيانة الأهل بين سليم وعفاف: وهذا المشهد اليومي يؤدي إلى التساهل بين الآباء وبناتهم من حيث خروجهن في علاقات محرمة مع الأصدقاء، وتكرر قولهم إن هذا (حب عذري)! وليت شعري أين العفاف؟ وأين العذرية بين فتاة وشاب لا عمل لهم سوى العناق ومقدماته؟!
2- تكرار ألفاظ يظهر منها الاستهانة بالرموز الإسلامية: كقولهم: "إيدي على راسك والنبي كبّاسك"، و: "يبريني عن ديني"، والقسَم: "والحشا"، "بحضّي"، والاعتراض على القدَر، وما إلى ذلك.
3- التكرار اليومي لتصرفات محرّمة مثل المشارطة على مبلغ ما، وهي الرهن المحرّم بالمال بين طرفين.
4- السب والشتم واللعن وبذاءة اللسان والبصق، وهي أمور متعارف عليها في هذه البيئة – حقيقةً خارج المسلسل - وربما تعدّ أحياناً من أساسيات التعامل هناك! بل ويضاف إليها الألفاظ الكُفرية الشائعة. وقد رأينا في الجزء الثاني من المسلسل تكرار الحذف اليومي لألفاظ فاحشة تذكر فيها العورة والنجاسات، وهذه الألفاظ تقال مع وجود الممثلات اللواتي لا يعبرن عن انزعاجهن.
5- ظهور الفسّاد الذي يسمى (عادل!) والذي ينافق بين الناس ويتجسس عليهم في كل شيء شخصي وغير شخصي، وبشكل طريف يؤدي إلى تعامل الناس مع الجواسيس بشكل أقل حذراً، وهو يسمي هذا التجسس خدمة للوطن!
6- السرقة: نجدها تتكرر عند جودة بشكل يومي، وتقابَل بتساهل شديد من الشرطة، مما يؤدي إلى "عاديّة" السرقة.
7- المشاهِد الخاصة: أو ربما يصح أن نقول: إنها مقدمات لمشاهد إباحية، وهنا لن أسهب في الحديث عن تلك المشاهد التي يكون فيها الاثنان على سرير، أو مشاهد المعانقة... ولكني أتساءل ويملؤني العجب: كيف لا تخجل امرأة تربت في بيئة شرقية – مهما كان دينها وفكرها – أن تظهر بهذا المظهر أمام ملايين المشاهدين؟! وهل هذه المشاهد ضرورية لهذا المسلسل؟! إني أجدها تنغص على المشاهد متابعة مسلسل تظهر فيه النساء بشكل يميل للاحتشام وليس فيه تبذل في اللباس.
8- التهريب: فهناك الكثير من المهربين في الضيعة الضايعة والقرى المجاورة، يهربون الأسلحة الفتاكة والدخان الضار وغير ذلك.. والمسلسل يهون كثيراً من أمر التهريب والمغامرة فيه، مع أن تعاون بعض العاملين في أجهزة الدولة مع المهربين حقيقة قائمة لا تُنكر. وهم يعتبرون التهريب يضرّ الاقتصاد الوطني؛ وذلك صحيح، ولكن هل إنشاء مصانع الدخان والخمور داخل الوطن ستنعش اقتصاده وتفيد شعبه؟!
9- عدم الاحترام: فلا يوجد احترام متبادل بين أهل القرية إلا في بعض المواقف، ولا نرى ذلك الحب المعهود بين أهالي القرى، فالمختار يقدّر الشرطي في حضوره ويشتمه بعد انصرافه، والجيران كذلك بين بعضهم البعض.
10- الدور السلبي للشرطة والأمن الجنائي: فلا نجد أنهم يحلون أيّ مشكلة، بل يزيدونها تعقيداً!
11- تشويه صورة الشيخ: فشيخ (تخريمة الفوقا) يعمل في التهريب، ولا يعرف أمور دينه، ويعقد على عفاف وسليم بدون حضور ولي أمرها!
12- الجهل المطبِق: فالجهل لديهم عامّ، وهو جهل بجميع نواحي الحياة، ولدى الأهالي والمسؤولين.
* الأثر التربوي:
أمام هذا الكم من الألفاظ البذيئة والمظاهر السلبية يجلس الآباء مع أطفالهم الذين هم في أمسّ الحاجة إلى التربية على الأخلاق الحسنة، ويقوم الصغار والكبار بترديد كلماتهم الشائعة اللاأخلاقية بدون وعي، لتبقى على ألسنتهم وفي وعيهم مدة طويلة. كما تتعلم الفتيات من بعض نساء المسلسل التمرد على البيت والأزواج، وتنطبع في ذاكرتهم سوداوية معتمة.
* الموقف الأخلاقي للممثلين:
نحن وإن كنا نحترم بعض ما يظهر في هذه المسلسلات من مواقف أخلاقية طيبة (كحوار أبو شملة مع سليم وعفاف حول خطورة خروج الفتاة معه في خلوة، وهو حوار إيجابي صريح واضح، ومشاهد الدفاع عن الأهالي، وقول (أبو نادر) عن تطبيق القانون على الكبير والصغير وأن هناك من يدعم المهربين من المسؤولين)؛ إلاّ أننا ندعوهم إلى زيادة هذه الجرعة الأخلاقية أضعافاً كثيرة.. لماذا تزيدون مظاهر الفساد – الذي ذكرتُ جزءًا منها أعلاه - ولا تزيدون مظاهر الأخلاق الحسنة؟ هل تعلمون مدى تأثير هذه اللقطات الإيجابية على المشاهدين؟
ما الذي يمنع المؤلف والممثل إذا تناول – مثلاً – موضوع الرشوة أن يقول: الرشوة حرام؟ هل ستُحذف رقابيًّا؟ وهل كان هناك ما يمنع من أن تتكرر مشاهد الرجولة - التي شاهدناها في الحلقة الأخيرة – في كل حلقة؟ ولكن مع ذلك علينا ألاّ ننسىى العبثية والسوداوية والجوانب غير الأخلاقية التي غطت العمل من بدايته.
ثم أقول: كيف تعالج بعض المسلسلات السورية الأخطاءَ بأخطاء أكبر؟ كيف تعالج مشكلة الفساد والعهر بإظهار بيئتها على حقيقتها بالنساء العاريات والشباب المنحلّين والوسط المتورط بالرذيلة؟! هل يظنون أنهم يعالجون بذلك مشكلة الانحطاط الأخلاقي؟ بل هم بذلك يعلّمون المشاهدين ويرغّبونهم في هذا الانحطاط ويمهدون لهم الانحراف!
ما زالت تتردد على ذاكرتي حلقة من مسلسل ظهر فيها التمثيل بدون نساء، وكانت الحلقة من أنجح حلقات المسلسل بلا منازع.. وهذا دليل على إمكانية بث الفكر الهادف بدون مظاهر الفساد والانحلال الخُلقي.
* أخيراً:
مَن يصنع إعلامنا؟ ومن يكتب مسلسلاتنا؟ وأين إعلامنا الهادف؟ ومن يقف وراء التمويل لهذه المسلسلات؟ ومن يوافق على عرضها في القنوات السورية؟ وما هو الفكر الذي تنطلق منه شرات الإنتاج؟ ولماذا لا يقدِّم لنا الإعلام والشركات الإعلامية مسلسلات هادفة خالية من مظاهر الإفساد بأي شكل كانت؟
أعلم أنكم ستقولون: هذه أسئلة سلبية، فلماذا لا تجيب عليها؟!
أقول: الإجابات واضحة، وربما كان استفهامي لتحريك العقول، ولأن الإجابة عليها تطول!.